آية محسب عبد الحميد مصطفى
باحثة دكتوراه/ معهد البحوث والدراسات الإفريقية ودول حوض النيل – جامعة أسوان
تمهيد:
تتسارع التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية في اتجاهات تُعيد تشكيل خريطة التمويل الدولي، وتزيد من هشاشة الاقتصادات الإفريقية التي ظلت لعقودٍ تعتمد بصورة مفرطة على المساعدات الخارجية والتمويلات المشروطة.
وفي ظل تصاعد الحروب التجارية بين القوى الكبرى، وقرار العديد من الشركاء الدوليين تقليص التزاماتهم التنموية تجاه دول الجنوب، تدخل إفريقيا مرحلة جديدة تقتضي إعادة التفكير في نموذجها التنموي من الداخل. لم تَعُد “التبعية المالية” خيارًا مستدامًا، بل أصبحت عبئًا يفاقم العجز المالي، ويرهن القرار السيادي، ويُكرّس هشاشة البنى الاقتصادية أمام الصدمات الخارجية.
في هذا السياق، يطرح تقرير آفاق الاقتصاد الإفريقي 2025م، الصادر عن بنك التنمية الإفريقي (AfDB, 2025)، مقاربةً جريئةً تُعيد توجيه البوصلة نحو تعبئة رأس المال المحلي كمدخل لتحرير السياسات الاقتصادية من قيود الاعتماد الخارجي.
ويستند التقرير إلى رؤية مفادها أن إفريقيا ليست فقيرة، بل “غنية برأس مال مهدور وغير مستغَلّ”، وأن بمقدورها –إذا ما أحسنت إدارة مواردها المالية، والطبيعية، والبشرية، والمؤسسية– أن تغلق فجوة التمويل التنموي دون الحاجة إلى الوقوع في فخّ الديون أو الانصياع لإملاءات المانحين.
هذا المقال يقدم قراءة تحليلية معمقة في مضامين تقريرAEO 2025، محاولًا تفكيك الخطاب الجديد الذي يتبنَّاه، واستكشاف ما إذا كانت تعبئة رأس المال المحلي تُمثّل تحولًا إستراتيجيًّا حقيقيًّا أم مجرد إعادة صياغة لأجندات قديمة في عباءة جديدة.
مقدمة:
ظلّ النموذج التنموي الإفريقي لعقودٍ طويلة مرتهنًا لمعادلة التمويل الخارجي، سواء في صورة مساعدات تنموية مشروطة، أو قروض سيادية مثقلة بالأعباء والفوائد، أو استثمارات أجنبية مباشرة تميل في أغلب الأحيان إلى تعزيز منطق الاستخراج والتصدير دون تطوير للقدرات الإنتاجية المحلية. ومع كلّ أزمة عالمية جديدة –من جائحة كوفيد-19، إلى حرب أوكرانيا، ثم موجات الحروب التجارية بين القوى الكبرى-؛ تزداد هشاشة الاقتصادات الإفريقية وتنكشف محدودية هذا النموذج في بناء تنمية مستدامة وشاملة.
وفي خضم هذه التحولات، يقدّم تقرير آفاق الاقتصاد الإفريقي 2025م، الصادر عن بنك التنمية الإفريقي (AfDB, 2025)، مقاربة جديدة تقوم على فك الارتباط التدريجي مع مصادر التمويل الخارجي، عبر التركيز على تعبئة رأس المال المحلي بأبعاده المختلفة: المالية، والطبيعية، والبشرية، والمؤسسية، وريادة الأعمال.
ويطرح التقرير أرقامًا لافتة تُعزّز من واقعية هذا التحول؛ إذ يُقدّر التقرير أن القارة قادرة على تعبئة ما يفوق 1.43 تريليون دولار سنويًّا من مواردها الذاتية، وهو مبلغ يتجاوز فجوة التمويل المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) المقدّرة بـ1.3 تريليون دولار سنويًّا.
في ضوء هذه الطروحات، يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية في الخطاب الجديد الذي يتبنَّاه تقريرAEO 2025، متسائلًا: هل تمثل دعوة تعبئة رأس المال المحلي تحولًا حقيقيًّا في فلسفة التنمية الإفريقية؟ وهل تملك الدول الإفريقية الإرادة السياسية والأدوات المؤسسية لتطبيق هذا النموذج البديل؟ أم أن ما يُعرَض مجرد خطاب إنشائي لن يصمد أمام تعقيدات الواقع المالي والهيكلي في القارة؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، يتتبع المقال أبرز ما ورد في التقرير من معالجات كمية ونوعية حول رأس المال المحلي، ويحلل الرهانات والتحديات التي تحيط بتفعيلها على مستوى السياسات العامة، وصولًا إلى تقديم تقييم موضوعي لمدى قدرة هذه المقاربة على إخراج القارة من دوامة التبعية المالية نحو الاستقلال التنموي الحقيقي.
ومن هذا المنطلق، يُناقش المقال عبر أربعة محاور مترابطة أسباب التحول في خطاب التنمية الإفريقي نحو الداخل، وخريطة رأس المال المحلي كما يُقدّمها التقرير، والعوائق البنيوية التي تُقوّض تعبئته، وأخيرًا السياسات المقترحة لبناء استقلالية مالية تقودها القارة بإمكاناتها الذاتية.
المحور الأول: أسباب التحول في خطاب التنمية الإفريقي نحو الداخل
شهد الخطاب التنموي الإفريقي تحولًا لافتًا خلال السنوات الأخيرة، تمثَّل في الانفكاك التدريجي عن نموذج الاعتماد غير المشروط على المساعدات الخارجية، مقابل تصاعد الدعوات الرسمية لتعبئة الموارد الذاتية وتوطين حلول التنمية.
ويُرجِع تقرير آفاق الاقتصاد الإفريقي 2025م، الصادر عن بنك التنمية الإفريقي (AfDB, 2025)، هذا التحول إلى تفاعل ضاغط بين عوامل دولية وهيكلية أعادت صياغة أولويات التمويل في القارة. فمع تصاعد الأزمات العالمية، انخفضت المساعدات الإنمائية الرسمية لإفريقيا بنحو 3% في عام 2023م وحده، وسط توقعات بمزيد من التراجع بفعل النزعة الحمائية وتقليص التعددية في التمويل الدولي (AfDB, 2025, pp. iii–4).
وقد ترافق ذلك مع انسحاب تدريجي في تدفقات الاستثمار الأجنبي، وتصاعد تقلبات الأسواق المالية، وهو ما يُبرزه التقرير بصريًّا في الشكل 1.28 (ص43)، الذي يوضح الانخفاض المطرد في تدفقات التمويل الخارجي إلى إفريقيا خلال الفترة 2018– 2023م. وفي موازاة ذلك، فاقمت التوترات التجارية المتصاعدة، ولا سيما بين الولايات المتحدة والصين، من حالة عدم اليقين التي تَطال مستقبل الأسواق الإفريقية، وهو ما انعكس سلبًا على الصادرات، وعمّق الحاجة إلى بناء قاعدة إنتاجية داخلية أكثر استقلالية (AfDB, 2025, pp. 1–2).
وفي هذا السياق، يُشير التقرير إلى أن إفريقيا تُواجه فجوة تمويلية سنوية تُقدّر بنحو 1.3 تريليون دولار لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030(p.iii)، في حين تمتلك القارة القدرة –نظريًّا– على تعبئة ما يصل إلى 1.43 تريليون دولار سنويًّا من رأسمالها المحلي، إذا ما استُثمر بفعالية.
هذا التباين الحاد بين الإمكانات المتاحة والنتائج المحققة يعكس اختلالًا في النموذج التنموي السائد، ويُبرر الحاجة إلى استثمار داخلي مُستدام قائم على إصلاحات بنيوية. ويتفاقم هذا الوضع بارتفاع متوسط نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي في إفريقيا إلى 65.5% عام 2024م، مع هيمنة الديون التجارية المُقوَّمة بالدولار، والتي تشكل نحو 70% من إجمالي الدين الخارجي، ما يؤدي إلى تقليص هوامش السياسات المالية، وتهديد الاستقلال المالي الوطني (p.4).
ويرى التقرير أن تجاوز هذه الإشكاليات يتطلب إعادة تعريف دور الدولة الإفريقية، ليس كمستقبِل سلبي للمساعدات، بل كفاعل تمويلي وتنموي محوري يقود تعبئة الموارد وتوجيهها، في إطار من الحوكمة الرشيدة وتعزيز سيادة القانون، وهي الرؤية التي يدعمها التقرير ضمن الفصل الثالث (Chapter 3)، بوصفها شرطًا أساسيًّا لبناء تنمية سيادية تنبع من الداخل ولا تُفرض من الخارج.
Source: African Development Bank (2025), African Economic Outlook 2025, Figure 1.28, p. 43
يعكس الشكل تراجعًا ملحوظًا في إجمالي التدفقات المالية الخارجية إلى إفريقيا بين عامي 2019 و2023م، حيث انخفض حجم هذه التدفقات من نحو 210 مليارات دولار عام 2019م إلى أقل من 190 مليار دولار عام 2023. ويشمل هذا الانخفاض جميع مكونات التمويل الخارجي، بما في ذلك التحويلات (Remittances)، ومساعدات التنمية الرسمية (Official Development Assistance)، والاستثمار الأجنبي المباشر (FDI)، والاستثمارات في المحافظ المالية (Portfolio Investments). ويُلاحظ أن أكثر الانخفاضات حدة وقعت في الاستثمارات في المحافظ، والتي أصبحت سالبة في عامي 2020 و2022م، ما يشير إلى انسحاب رؤوس الأموال الأجنبية من الأسواق الإفريقية في سياق عدم اليقين العالمي.
في المقابل، حافظت التحويلات على استقرار نسبيّ، بينما شهدت المساعدات الرسمية تراجعًا مستمرًّا بعد ذروتها في 2021م، رغم ما رافق تلك الفترة من أزمات كبرى كجائحة كوفيد-19. أما على مستوى الناتج المحلي الإجمالي، فقد تراجعت مساهمة هذه التدفقات مجتمعة من نحو 8.5% من الناتج في 2021م إلى قرابة 7.5% في 2023م، ما يعكس انكماشًا تدريجيًّا في الوزن النسبي للتمويل الخارجي في الاقتصاد الإفريقي. ويؤكد هذا المنحى ما ذهب إليه تقرير آفاق الاقتصاد الإفريقي 2025م من أن الاعتماد على التمويل الخارجي لم يَعُد مجديًا كرافعة وحيدة للتنمية، بل بات من الضروري التوجه نحو تعبئة رأس المال المحلي وبناء نموذج أكثر استدامة وسيادة.
المحور الثاني: خريطة رأس المال المحلي في إفريقيا كما يقدّمها التقرير
ينطلق تقرير آفاق الاقتصاد الإفريقي 2025م من فرضية مركزية، مفادها أن القارة الإفريقية ليست فقيرة بمواردها، بل تعاني من ضعف في تعبئة رأس مالها المحلي، والذي يُعرّفه التقرير بشكل مُوسّع لا يقتصر على الموارد المالية فقط، بل يشمل أيضًا رأس المال البشري، والطبيعي، والمؤسسي، والريادي (AfDB, 2025, p. 74).
ويُقدّر التقرير أن إفريقيا تقدر على تعبئة ما يقرب من 1.43 تريليون دولار سنويًّا من مواردها الذاتية، وهو مبلغ يفوق فجوة التمويل المقدّرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتي تبلغ 1.3 تريليون دولار سنويًّا(p.iii). هذا الفارق يطرح سؤالًا جوهريًّا حول أسباب عدم تحقق الاستقلال المالي رغم توافر الإمكانيات، ويُعيد توجيه النظر إلى فعالية السياسات والمؤسسات لا إلى وفرة الموارد فقط. يعرض الشكل 2.1 (ص74) خريطة مركبة لمكونات رأس المال المحلي في إفريقيا، موزعة إلى خمسة أنواع رئيسية:
- رأس المال المالي: ومصدره: الضرائب، والمدخرات، وأسواق المال.
- رأس المال الطبيعي: مثل الموارد المعدنية، والمياه، والأراضي.
- رأس المال البشري: الذي يشمل الصحة والتعليم والإنتاجية.
- رأس المال المؤسسي: المرتبط بالحكومة والحوكمة والبنى التنظيمية.
- رأس المال الريادي والاستثماري: الذي يعكس دينامية القطاع الخاص وريادة الأعمال.
Source: African Development Bank (2025), African Economic Outlook 2025, Figure 2.1, p. 74.
يُقدّم الشكل (2.1) تصورًا بصريًّا شاملًا لمصادر التمويل الذاتي الممكنة داخل القارة، موزعًا على خمس فئات رئيسية: مالية، وبشرية، وطبيعية، ومؤسسية، وريادية. ويُظهر الشكل أن رأس المال البشري والمؤسسي يشكلان الجزء الأكبر من هذه الإمكانات، ما يؤكد أن العقبة الحقيقية ليست في وفرة الموارد، بل في ضعف استثمارها. ويبرز الرسم البُعْد البنيوي للتحدي؛ حيث تتفاوت القدرة على تعبئة هذا الرأسمال باختلاف كفاءة الدولة في الإدارة، ومستوى الشفافية، والبيئة المؤسسية. وتُظهر هذه المعطيات أن الاستقلال المالي الإفريقي ليس مجرد خيار تقني، بل رؤية تنموية شاملة تتطلب إصلاحًا جذريًّا في بنية الدولة والمؤسسات.
ورغم هذا التنوع الكبير، إلا أن التقرير يُبرز اختلالات عميقة في استغلال هذه الأصول. فعلى سبيل المثال، لا تُعبِّئ معظم الدول الإفريقية سوى 60 – 70% من قدرتها الضريبية الكامنة، نتيجة التهرب الضريبي، والاقتصاد غير الرسمي، وضعف الشفافية (AfDB, 2025, p.83).
كما أن أكثر من 80% من السكان العاملين ينشطون في الاقتصاد غير الرسمي، ما يعني خروج نسبة كبيرة من النشاط الاقتصادي عن التنظيم والجباية (p.77). أما على مستوى رأس المال البشري، فيُظهر التقرير أن أكثر من 60% من سكان إفريقيا هم دون سن الـ25 عامًا، مما يُشكِّل فرصة ديمغرافية هائلة إذا ما جرى استثمارها في التعليم والتدريب والتشغيل المنتج.(p.99)
ومع ذلك، فإن مؤشر رأس المال البشري –كما يعرضه الشكل 2.34 (ص115)– يُظهر فجوات كبيرة بين الدول، وضعفًا في متوسط الإنتاجية المعرفية، ما يشير إلى تضييع محتمل لهذه الفرصة التاريخية. وفيما يخص رأس المال الطبيعي، فإن إفريقيا تمتلك نحو 30% من الموارد المعدنية في العالم، لكنها لا تستفيد سوى بجزء محدود من عوائدها بسبب العقود غير المتكافئة، وسوء الحوكمة، وغياب سلاسل التصنيع المحلي (p.110).
ويقترح التقرير في هذا السياق اعتماد آليات لتسعير الموارد بعدالة، وإدراج إيراداتها في الميزانيات العامة، وضمان الشفافية في منح الامتيازات. ويخلص التقرير إلى أن تعبئة رأس المال المحلي ليست مجرد عملية مالية، بل مشروع وطني متكامل يتطلب إصلاح المنظومات الضريبية، وتعزيز الشفافية، وتحفيز المبادرات المحلية، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع، بما يُعيد توجيه الإمكانيات الداخلية نحو تمويل مستدام وسيادي للتنمية.
المحور الثالث: التحديات البنيوية أمام تعبئة رأس المال المحلي في إفريقيا
على الرغم من الطرح الطموح الذي يتبنَّاه تقرير آفاق الاقتصاد الإفريقي 2025م بشأن إمكانات تعبئة رأس المال المحلي، إلا أن التقرير لا يُغفل الإشارة الصريحة إلى أن هذا المسار يواجه عقبات بنيوية عميقة الجذور، تتعلق بمحدودية القدرات المؤسسية، واختلالات في نُظم الحوكمة، واتساع رقعة الاقتصاد غير الرسمي، فضلًا عن ضعف كفاءة النظم الضريبية وتآكل الثقة العامة. فبحسب التقرير، لا تُعبِّئ معظم الدول الإفريقية سوى 60% إلى 70% فقط من قدرتها الضريبية الكامنة، وهي فجوة تعكس ضعف الامتثال، والتهرب، والاعتماد المفرط على الضرائب غير المباشرة، إلى جانب الامتيازات الضريبية غير المُبررة التي تُمنح لكبرى الشركات، والتي قد تُكلّف بعض الدول الإفريقية نحو 5% من ناتجها المحلي سنويًّا (AfDB, 2025, pp. 74–75).
ويُوضح الشكل 2.10 (ص83) هذه الفجوة بصريًّا؛ حيث يبيّن التفاوت الحاد بين التحصيل الضريبي الفعلي والقدرة الضريبية النظرية في عدد من البلدان الإفريقية، ما يُبرز أحد أبرز مصادر القصور في تعبئة رأس المال المحلي.
Source: African Development Bank (2025), African Economic Outlook 2025, Figure 2.10, p. 83.
يعرض الشكل (2.10) التباين بين القدرة الضريبية الكامنة والتحصيل الفعلي في عدد من الدول الإفريقية، مما يُبرز فجوة مالية خطرة في بعض الدول التي لا تُحقِّق سوى نصف ما يمكن تعبئته من إيرادات. هذا التفاوت يعكس ضعف فعالية نظم الجباية، وقصور التشريعات، وغياب التحول الرقمي، ويُعدّ من أبرز مظاهر القصور المؤسسي الذي يُقوّض مشروع التمويل الذاتي في القارة.
وفي موازاة ذلك، يُمثّل الاقتصاد غير الرسمي تحديًا مضاعفًا؛ إذ تشير التقديرات إلى أن أكثر من 80% من العاملين في القارة ينشطون في هذا القطاع، ما يعني أن جزءًا كبيرًا من النشاط الاقتصادي خارج إطار الجباية والتنظيم (p.77).
وتُظهر بيانات الشكل 2.32 (ص112) أن خسائر الإيرادات الضريبية الناجمة عن هذا الاقتصاد يمكن أن تكون ضخمة في عدة بلدان، وهو ما يتطلب سياسات دمج تدريجي واقعية، تعتمد على تبسيط الإجراءات، وتعزيز الثقة، والتحفيز بدلًا من العقاب. ويُضاف إلى ذلك أن نحو 60% من سكان إفريقيا لا يمتلكون حسابات مصرفية، مما يُضعف الشمول المالي، ويَحُدّ من إمكانية تعبئة المدخرات الوطنية لصالح مشاريع تنموية ذات طابع سيادي.
ويُبرز التقرير كذلك أن الفساد، وهدر المال العام، وضعف الشفافية من أبرز العوامل التي تُقوّض فاعلية الجهود الإصلاحية. فالمواطن أو المستثمر لن يضخ موارده في منظومة لا تُوفر الحد الأدنى من العدالة والمساءلة. ويؤكد التقرير ضرورة إعادة بناء “عقد اجتماعي مالي جديد” يُعزّز ثقة المواطنين بأن الضرائب التي يُسددونها تُترجم إلى خدمات ملموسة (p.153). لكن تحقيق هذا الهدف يظل مشروطًا بوجود كوادر مؤهلة، ونظم رقمية قادرة على إدارة الإيرادات وتتبع الإنفاق وتقييم الأداء، وهو ما لا يتوافر بعدُ في عدد من الإدارات المالية الإفريقية (p.84).
وفي خلفية هذه التحديات البنيوية، يُشير التقرير –ضمنيًّا– إلى أن بعض الحكومات الإفريقية لا تزال تُفضّل التمويل الخارجي الأقل تكلفة سياسيًّا، حتى لو كان أعلى كلفة اقتصادية، بما يعرقل إرادة الإصلاح الجادة. فبعض الإصلاحات –كإلغاء الإعفاءات، أو فرض ضرائب تصاعدية– قد تُواجَه بمعارضة من نخب اقتصادية نافذة، مما يُفضي إلى تفضيل الاستدانة الخارجية السهلة على تعبئة الموارد الذاتية الصعبة.
ويخلص التقرير إلى أن تعبئة رأس المال المحلي ليست مجرد عملية مالية أو إدارية، بل هي قضية سيادية تتطلب إصلاحًا جذريًّا في علاقة الدولة بالمجتمع، وترسيخًا لمبادئ الكفاءة، والشفافية، والمساءلة في إدارة المال العام. فدون معالجة هذه التشوهات البنيوية، ستظل الإمكانيات الهائلة للقارة غير مستغلة، وستبقى رهينة لتمويل خارجي غير مستدام.
المحور الرابع: الفرص والسياسات المقترحة لبناء استقلالية مالية إفريقية
لا يكتفي تقرير آفاق الاقتصاد الإفريقي 2025م بتشخيص التحديات والاختلالات البنيوية التي تُقوّض تعبئة رأس المال المحلي، بل يقدم خريطة سياساتية متكاملة تهدف إلى تحقيق الاستقلال المالي الإفريقي من الداخل، انطلاقًا من أدوات إصلاح واقعية وقابلة للتنفيذ.
ويقترح التقرير في هذا السياق حزمة سياسات مالية وهيكلية تبدأ من إصلاح النظام الضريبي، عبر إعادة هيكلة الحوافز، وتوسيع القاعدة الضريبية، وتوظيف التقنيات الرقمية، وبناء علاقة ثقة متبادلة بين الدولة ودافعي الضرائب. وتشير التقديرات إلى أن هذه السياسات قد ترفع نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي من 16% إلى أكثر من 20% خلال خمس سنوات (AfDB, 2025, p.78)، وهو ما يُبرزه الشكل 2.7 (ص81)؛ الذي يُظهر المكاسب المحتملة من تحسين تحصيل ضريبة القيمة المضافة (VAT) في عدد من الدول الإفريقية.
Source: African Development Bank (2025), African Economic Outlook 2025, Figure 2.7, p. 81.
يعرض الشكل (2.7) حجم الإيرادات الإضافية التي يمكن أن تحققها الدول الإفريقية في حال تحسين فعالية
تحصيل ضريبة القيمة المضافة (VAT) إلى مستويات أكثر كفاءة. وتُظهر البيانات أن بعض الدول يمكن أن تضاعف إيراداتها الضريبية فقط عبر تقليص الفاقد الضريبي، دون الحاجة إلى فرض ضرائب جديدة، وهو ما يؤكد أن الإصلاح لا يكمن بالضرورة في الزيادة، بل في الكفاءة والشفافية.
كما يُبرز التقرير ضرورة تطوير أدوات مالية مبتكرة تتجاوز القروض التقليدية، مثل السندات الخضراء والصكوك الإسلامية، والصناديق السيادية التي تجمع بين عوائد الموارد الطبيعية وتحويلات الشتات، فضلًا عن الشراكات بين القطاعين العام والخاص (PPPs)، التي يمكن أن تُشكِّل رافعة مهمة لتمويل البنية التحتية إذا ما تم تأطيرها بقوانين عادلة ومؤسسات رقابية مستقلة. وتُبرز بيانات الشكل 2.26 (ص103) تنامي استخدام التمويل الممزوج (Blended Finance) في إفريقيا خلال السنوات الأخيرة، ما يدل على قابلية التوسع في هذه الأدوات شرط ارتباطها بأولويات تنموية واضحة.
Source: African Development Bank (2025), African Economic Outlook 2025, Figure 2.26, p. 103.
يوضح الشكل (2.26) كيف تزايد اعتماد الدول الإفريقية على آليات التمويل الممزوج خلال السنوات الأخيرة، ما يُظهر تطورًا في أدوات التمويل، لكنّه يُسلّط الضوء أيضًا على التفاوت الكبير في الاستخدام بين الدول. ويُعدّ هذا النوع من التمويل فرصة لتعزيز الشراكات، لكنّه يحتاج إلى أُطُر رقابية قوية وأولويات تنموية واضحة؛ حتى لا يتحول إلى أداة لتكرار التبعية.
ولا يغفل التقرير أهمية إصلاح منظومة الحوكمة باعتبارها البنية التحتية لأيّ نجاح في تعبئة رأس المال المحلي، عبر بناء “عقد اجتماعي مالي” جديد يُعزز شرعية الدولة، ويعيد الثقة في المؤسسات المالية والرقابية، ويُمكِّن الأقاليم من إدارة مواردها بفعالية في إطار اللامركزية المالية. ويرى التقرير أن الاستفادة من الموارد الطبيعية لا يمكن أن تتحقق دون مراجعة العقود، وتحقيق التصنيع المحلي، وضمان إدراج الإيرادات في الميزانيات العامة، علمًا بأن سوء إدارة هذه الموارد يُكلِّف إفريقيا ما بين 50 إلى 80 مليار دولار سنويًّا (AfDB, 2025, p.114).
وفي هذا السياق، يُشدد على ضرورة توجيه عوائد الموارد نحو الاستثمار في التعليم، والصحة، والبنية التحتية بدلًا من تغطية العجز الاستهلاكي.
وأخيرًا، يُبرز التقرير الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) في توسيع الأسواق، وتحفيز الإنتاج الإقليمي، وتعزيز الاستثمار المحلي، من خلال إزالة الحواجز التجارية، وتسهيل حركة السلع والعمالة، وتحسين الربط اللوجستي والرقمي بين دول القارة (AfDB, 2025, p. 137).
ويخلص التقرير إلى أن هذه السياسات لا يمكن أن تُفعّل دون إرادة سياسية جادة، وشراكة مجتمعية شاملة، ومؤسسات قوية قادرة على كسر منطق الإدارة بالأزمات، واستبداله بعقلانية التخطيط والاستثمار المستدام.
الخاتمة: نحو استقلال مالي إفريقي يقوده رأس المال المحلي
تكشف قراءة تحليلية لتقرير آفاق الاقتصاد الإفريقي 2025م أن القارة الإفريقية تقف أمام مفترق طرق حاسم في مسارها التنموي، بين الاستمرار في دوامة التبعية المالية التي أرهقت اقتصاداتها لعقود، أو تبنّي نموذج بديل يقوم على تعبئة مواردها الذاتية بشكل أكثر عدالة وكفاءة واستدامة.
لقد برهن التقرير، استنادًا إلى معطيات كمية ونوعية، أن إفريقيا لا تعاني من ندرة في الموارد، بل من عجز مزمن في استثمار رأس مالها المحلي –المالي والبشري والطبيعي والمؤسسي–، ضمن رؤية شاملة تدمج الإصلاح المؤسسي بالحماية الاجتماعية، وتُحفّز الإنتاج المحلي دون الارتهان للأسواق الخارجية.
ويُمثل التقرير نقلة نوعية في الخطاب التنموي الإفريقي؛ كونه لا يكتفي بتوصيف الاختلالات، بل يطرح بدائل واقعية قابلة للتنفيذ، بدءًا من إصلاح المنظومة الضريبية، وتعزيز الحوكمة، وتطوير أدوات التمويل المبتكر، وانتهاءً بتوسيع قاعدة رأس المال المنتج داخل القارة.
ومع ذلك، تظل قدرة هذا النموذج على التحول من “رؤية” إلى “واقع” رهينة بمدى توافر الإرادة السياسية، والقدرة المؤسسية، وفعالية التفاعل المجتمعي مع قضايا المالية العامة، بما يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أُسُس من الثقة والشفافية والمساءلة.
إن اللحظة الراهنة، بما تحمله من ضغوط دولية وفرص داخلية، تُشكِّل فرصة تاريخية لإعادة بناء السيادة المالية الإفريقية من الداخل، اعتمادًا على ما تملكه القارة لا ما يُملَى عليها من الخارج. وإذا كان التقرير يفتح الباب أمام هذا المسار، فإن مسؤوليته –من وجهة نظر تحليلية– لا تقف عند حدود تقديم التوصيات، بل في استنهاض نقاش سياسي ومؤسسي حقيقي حول كيفية ترجمة هذه المقاربة إلى برامج وطنية تُحدث الأثر التنموي الملموس. وبذلك، لا تُعدّ دعوة تعبئة رأس المال المحلي مجرد خيار تقني في إدارة المالية العامة، بل هي إعلان تحرر تدريجي من نظام دولي غير عادل، وخطوة أولى نحو استقلال تنموي تقوده إفريقيا بنفسها، ويستجيب لأولويات شعوبها، ويستند إلى ثرواتها لا إلى شروط المانحين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع
African Development Bank. (2025). African Economic Outlook 2025: Empowering Africa’s resource mobilization for economic transformation. Abidjan, Côte d’Ivoire: African Development Bank Group.
https://www.afdb.org/en/documents/african-economic-outlook-2025