بقلم/ أسماء نوير
باحثة ومترجمة مصرية
مقدمة: التحرُّر الإفريقي
في كل عام، تعود ذكرى الاستقلال إلى عددٍ من الدول الإفريقية في شهر يوليو، مُحمَّلةً بثِقَل الرمزية التاريخية والأسئلة السياسية المتجددة. فمن الصومال (Somalia) إلى مالاوي (Malawi) إلى جنوب السودان (South Sudan)، يتجدَّد الاحتفاء في تواريخ تبدو متقاربة زمنيًّا، لكنَّها تكشف تباينات عميقة في سرديات ما بعد التحرُّر (Post-independence Narratives).
كان الاستقلال بالنسبة لجيل الخمسينيات والستينيات وعدًا بالسيادة الوطنية (National Sovereignty)، والانعتاق من البنى الاستعمارية (Colonial Structures)، وبداية لمسار العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة. غير أن عقود ما بعد الاستقلال حملت معها واقعًا معقدًا من التحديات البنيوية (Structural Challenges)، والحروب الأهلية، والدول الضعيفة (Fragile States)، والأنظمة السلطوية التي ورثت مؤسسات استعمارية أكثر مما أنشأت بدائل ديمقراطية (Democratic Alternatives).
وفي يوليو، حين تُرفع الأعلام وتُستعاد خطابات التحرير، يطفو السؤال المُؤجَّل: هل كان الاستقلال انتقالًا حقيقيًّا من التبعية إلى التحرُّر، أم مجرد إعادة تدوير للهياكل القديمة بأسماء وطنية؟ وهل يكفي التاريخ الرمزي لإخفاء العجز التنموي والسياسي الراهن؟
في هذا المقال، نُعيد تفكيك وعود يوليو، من خلال دول تُمثّل طيفًا واسعًا من التجارب الإفريقية، بين الأمل والانكسار.
أولًا: الاستقلال المزدوج في الصومال: وحدة بلا رسوخ، ودولة بلا استقرار
في الأول من يوليو عام 1960م، وُلدت دولة الصومال (Somalia) الحديثة من اندماج إقليمي غير مكتمل؛ فقد نالت المنطقة الجنوبية (الصومال الإيطالي Italian Somaliland) استقلالها من إيطاليا، بينما كانت المنطقة الشمالية (الصومال البريطاني British Somaliland) قد سبقتها بالتحرر في 26 يونيو من نفس العام. وهكذا تشكّلت أول دولة صومالية مُوحَّدة، مُعلنة في خطاباتها الرسمية أنها بداية جديدة لدولة إفريقية ذات سيادة، تنتمي للعصر ما بعد الكولونيالي (Post-colonial Era). لكن ما بدا لحظة تاريخية جامعة، سرعان ما انكشف عن ولادة سياسية هشَّة، تفتقر إلى الأُسُس المؤسسية الصلبة، وتعاني من التناقضات القبلية والجهوية العميقة.
لم تُصنع الدولة الصومالية على قاعدة مؤسسات وطنية، بل على أمل الهوية الثقافية المشتركة، واللغة الواحدة، والدين المُوحَّد. غير أن غياب الأحزاب السياسية الناضجة، والانقسامات بين نُخبة الجنوب والشمال، والصراعات بين العشائر (Clans) أضعفت جذور الدولة الجديدة. وقد كان أول اختبار حقيقي للوحدة في عام 1969م، حين وقع انقلاب عسكري بقيادة الجنرال محمد سياد بري (Mohamed Siad Barre)، لتدخل البلاد مرحلة من الحكم العسكري القومي الاشتراكي، غابت فيها الحريات وتكثفت فيها النزعة المركزية([1]).
ورغم الخطاب الذي تبنَّاه النظام حول بناء الأمة (Nation-building)، إلا أن الواقع كان يشهد تآكلاً تدريجيًّا في التماسك الاجتماعي، وتغولًا أمنيًّا، وتآكلًا في الثقة بين المركز والأطراف. تفاقمت هذه الانقسامات مع فشل النظام في إدارة النزاع مع إثيوبيا حول إقليم أوجادين (Ogaden) عام 1977م، لتبدأ مرحلة الانهيار الشامل([2]).
دخلت الصومال مرحلة ما يُعرَف في الأدبيات السياسية بـ”الدولة الفاشلة” (Failed State) بعد سقوط نظام سياد بري عام 1991م. ومنذ ذلك الحين، غابت السلطة المركزية بشكل كامل، وظهرت سلطات محلية متناحرة، واستقر الوضع في بعض المناطق مثل “أرض الصومال” (Somaliland)، التي أعلنت نفسها جمهورية مستقلة بحكم الأمر الواقع، دون اعتراف دولي([3]).
وفقًا لمؤشر الدول الهشَّة (Fragile States Index) الصادر عن “Fund for Peace”، تحتل الصومال سنويًّا منذ أكثر من عقد مراكز متقدمة بين أكثر الدول هشاشة في العالم. ففي تقرير عام 2024م، جاءت الصومال في المرتبة الثانية عالميًّا بعد جنوب السودان، في ترتيب الدول الهشَّة من أصل 179 دولة، بناءً على مؤشرات مثل التهديدات الأمنية، شرعية الحكم، توفّر الخدمات، الضغوط السكانية، والنزوح القسري.
كما تُعدّ الزراعة العمود الفقري للاقتصاد الصومالي؛ إذ تُمثّل أكثر من 75% من الناتج المحلي الإجمالي و93% من إجمالي الإيرادات. ووفقًا لمركز التنمية العالمية (GDC) في الصومال، إحدى أكثر دول العالم أمانًا فيما يتعلق بتغير المناخ، فإن الاعتبارات البيئية، وخاصة تغيُّر المناخ، تُعدّ القضايا الأكثر خطورة. ويبدو أن تغير المناخ بالغ الأهمية للأمن الغذائي في الصومال. وقد تفاقمت هذه المشكلة بسبب الحرب الأهلية المطولة وأشكال العنف المختلفة التي عصفت بالبلاد، مما جعل الصومال واحدة من أفقر دول العالم([4]).
تشير بيانات البنك الدولي (World Bank) إلى أن أكثر من 70% من السكان الصوماليين تحت خط الفقر، وأن البلاد تعاني من أحد أدنى معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة في إفريقيا؛ حيث لا تتجاوز نسبة التعليم الابتدائي 30%، ويُقدَّر أن أكثر من نصف السكان يعتمدون على المساعدات الخارجية للبقاء([5]).
تحليل مقارن للمؤشرات التنموية بين الاستقلال السياسي والتقدم الاجتماعي في دول يوليو الإفريقية([6]).
في ضوء هذا الواقع، يصبح الاحتفال باستقلال الصومال في يوليو طقسًا رمزيًّا أكثر منه مناسبة وطنية جامعة. إذ لا تزال الصومال تعاني من وجود بعثات أممية وقوات إفريقية لحفظ السلام، وصراعات مع تنظيمات إرهابية مثل حركة الشباب (Al-Shabaab)، في ظل غياب سيطرة الدولة على كامل الإقليم، وانعدام الثقة
في النظام السياسي. وقد فشلت محاولات إعادة الإعمار السياسي منذ مؤتمر بون في 2002م، مرورًا بالحكومات الانتقالية، وحتى الحكومة الفيدرالية الحالية التي لا تملك نفوذًا فعليًّا خارج العاصمة مقديشو (Mogadishu)([7]).
بذلك، يبدو استقلال الأول من يوليو وكأنه استقلال مُعلّق، وُلِدَ في لحظةٍ من التفاؤل القومي، لكنَّه لم يتجذر في الواقع المؤسسي. بل إن التجربة الصومالية تضعنا أمام سؤال أكثر جوهرية: هل يكفي الخروج من عباءة المستعمر كي تُبنَى الدولة؟ أم أنَّ الاستقلال السياسي يصبح هشًّا إن لم يترافق مع مشروع اجتماعي واقتصادي شامل، ومؤسسات ضامنة للشرعية والاندماج الوطني (National Cohesion)؟
ثانيًا: (مالاوي والتحدي التنموي في قلب الجنوب الإفريقي: من هيستينجز باندا إلى الدولة المعاصرة)
في السادس من يوليو 1964م، حصلت مالاوي (Malawi) على استقلالها عن بريطانيا، منهيةً بذلك مرحلة الاستعمار التي فُرضت رسميًّا منذ أواخر القرن التاسع عشر تحت اسم “نياسالاند” (Nyasaland). لم تكن مالاوي دولة غنية بالموارد كما جاراتها، لكنّها حملت طموحًا كبيرًا في التحول إلى نموذج مستقر في منطقة تكتنفها النزاعات والأنظمة العسكرية.
قاد البلاد عقب الاستقلال هيستينجز كاموزو باندا (Hastings Kamuzu Banda)، الذي سرعان ما حوّل النظام إلى حُكم الفرد المطلق، وأسَّس دولة حزب واحد استمرت أكثر من 30 عامًا. وبين وعود الاستقلال والمآلات التنموية المتعثرة، تقدم مالاوي مثالًا كلاسيكيًّا على ما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ”الدولة ما بعد الكولونيالية المُستقرة ظاهريًّا والفقيرة بنيويًّا” (Postcolonial Stability with Structural Poverty).
رغم أن نظام باندا بدأ بخطاب التحديث والتنمية، إلا أنه رسّخ حكمًا استبداديًّا (Autocratic Rule) هيمن فيه “حزب المؤتمر المالاوي” (Malawi Congress)، وتحوَّلت البلاد إلى ما يشبه “الدولة المحكومة بالتطويع لا بالمشاركة”. تم قمع المعارضة، وملاحقة الصحفيين، وتكريس عبادة الشخصية([8]).
لكنّ الانتقال الديمقراطي الذي حدث في عام 1994م، حين أُجريت أول انتخابات تعددية، شكَّل بداية تحوُّل سياسي مهمّ، جعل من مالاوي واحدة من أوائل الدول في جنوب الصحراء الكبرى التي تُجري تداولًا سلميًّا للسلطة عبر صناديق الاقتراع. غير أن هذا التحوُّل لم يترافق مع بنية اقتصادية قوية، بل استمرت التحديات الاجتماعية والتنموية التي جعلت مالاوي واحدة من أفقر دول العالم([9]).
تُصنَّف مالاوي مِن قِبَل الأمم المتحدة والبنك الدولي ضمن أقل الدول نموًّا في العالم (Least Developed Countries – LDCs)، رغم الاستقرار النسبي. ويُشير تقرير التنمية البشرية لعام 2023م الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) إلى أن مالاوي تحتل المرتبة 169 من أصل 191 دولة في مؤشر التنمية البشرية (Human Development Index).
بحسب البنك الدولي، يعيش أكثر من 70% من سكان مالاوي تحت خط الفقر، ويعتمد الاقتصاد بشكل أساسي على الزراعة، لا سيما محصول التبغ (Tobacco)، الذي يمثل نحو 60% من عائدات التصدير. ومن المتوقع أن يرتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر بحلول عام 2025م في ظل هذه البيئة الاقتصادية الصعبة وانعدام الأمن الغذائي المتزايد، مع وجود 417 ألف شخص إضافي يعيشون على أقل من 2.15 دولار في اليوم، مما يرفع إجمالي عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر إلى 15.8 مليون([10]).
وتُواجه البلاد أزمات متكررة بسبب تغيُّر المناخ، من جفاف وفيضانات، مما يجعل الأمن الغذائي (Food Security) هشًّا جدًّا. كما يعاني القطاع الصحي والتعليمي من ضعف التمويل؛ حيث لا تتجاوز نسبة الوصول إلى مياه الشرب النظيفة 67%، ويُقدَّر أن واحدًا من كل ثلاثة أطفال يعاني من التقزم (Stunting) نتيجة سوء التغذية([11]).
رغم كل تلك التحديات، تميَّزت مالاوي في السنوات الأخيرة بنُضْج سياسي نسبيّ، تُوِّج في الانتخابات الرئاسية لعام 2020م، التي شهدت إلغاء نتائج الانتخابات الأولى بسبب التزوير، ثم إعادة انتخاب رئيس المعارضة “لازاروس تشاكويرا” (Lazarus Chakwera) في واحدةٍ من أنجح عمليات الانتقال الديمقراطي في إفريقيا مؤخرًا.
أشادت العديد من المنظمات الدولية، مثل الاتحاد الإفريقي (AU) والاتحاد الأوروبي (EU)، بنزاهة العملية الانتخابية، معتبرةً إياها نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه الديمقراطية في إفريقيا جنوب الصحراء. لكن يبقى السؤال الأهم: هل يكفي الانتقال السياسي لصنع تحوُّل اقتصادي واجتماعي شامل؟
لا تزال مالاوي تعاني من اعتماد مُفرط على المساعدات الخارجية (Foreign Aid Dependence)، دون بناء قاعدة إنتاجية محلية قوية. وبذلك يصبح استقلال 6 يوليو ذكرى ليس فقط للتحرُّر من الاستعمار، بل تذكيرًا أيضًا بأن الاستقلال الحقيقي لا يُقاس بإزاحة المحتل فقط، بل بمدى قدرة الدولة على تحقيق كرامة شعبها وعدالة توزيع الموارد.
ما تُقدّمه تجربة مالاوي هو وجه آخر من وجوه التجربة الإفريقية بعد الاستقلال: ليست الحرب وحدها ما يهدد الدول، بل الفقر المستدام والبنى الضعيفة التي تُنتج الهشاشة في كل موسم انتخابي، وكل أزمة مناخية، وكل شحنة مساعدات عاجلة. إنها دولة تقف على حافة الأمل، لكنها لم تعبر بعدُ إلى ضفة التمكين الذاتي (Self-sustained Development).
ثالثًا: جنوب السودان وسؤال الانفصال لا الاستقلال
في التاسع من يوليو عام 2011م، استقل جنوب السودان (South Sudan) رسميًّا عن السودان، ليصبح أحدث دولة معترف بها في العالم. بدا المشهد آنذاك وكأنه ولادة وطن طال انتظاره، تحقق عبر استفتاء شعبي بلغت نسبة التصويت فيه لصالح الاستقلال 98.83%، في حدث تاريخي أُحيط بهالة رمزية، وصُوِّر بوصفه انتصارًا لإرادة الشعب، ومخرجًا أخيرًا من عقود التهميش والحرب الأهلية (Civil War). لكن مع مرور الوقت، تكشّفت حقيقة أكثر قسوة: لم يكن استقلال جنوب السودان نهاية للصراع، بل بداية لصراعات جديدة، أكثر تعقيدًا، وأكثر قربًا من الذات.
استندت حركة التحرر الجنوبية، المتمثلة في “الجيش الشعبي لتحرير السودان” (SPLA)، إلى سردية الكفاح ضد المركز العربي–الإسلامي في الشمال، ورفعت شعار تقرير المصير لشعوب الهامش. ومع توقيع “اتفاقية نيفاشا” (Naivasha Agreement) عام 2005م، بدأت فترة الحكم الذاتي تمهيدًا للاستقلال([12]).
لكنّ الدولة الجديدة وُلدت وهي مُحمَّلة بكل عوامل الانفجار الداخلي: هشاشة مؤسسية (Institutional Fragility)، تعددية إثنية بلا مشروع وطني مُوحَّد، ونُخَب سياسية منقسمة على نفسها منذ لحظة التحرر. وسرعان ما تفجّر الوضع في ديسمبر 2013م، حين اندلع صراع دموي بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار، أخذ طابعًا قبليًّا بين الدينكا والنوير، ما أسفر عن مقتل أكثر من 400.000 شخص وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، وتشريد الملايين داخليًّا وخارجيًّا([13]).
في تقاريرها المتعاقبة، تصف الأمم المتحدة جنوب السودان بأنه نموذج كلاسيكي لـ”الدولة المنهارة” (Collapsed State)، إذ تفتقر الحكومة إلى السيطرة الفعلية على أكثر من نصف أراضي البلاد، وتكاد تنعدم قدرتها على فرض القانون أو تقديم الخدمات الأساسية خارج العاصمة جوبا. وتعتمد الدولة الناشئة على صادرات النفط كمصدر شبه وحيد لتمويل موازنتها، في وقتٍ تمرّ فيه أنابيب التصدير عبر الأراضي السودانية، مما يُعزّز هشاشتها الاقتصادية ويُقيِّد استقلالها المالي.
تشير إحصائيات البنك الدولي لعام 2023م إلى أن أكثر من 76% من سكان جنوب السودان يعيشون تحت خط الفقر، في واحدةٍ من أعلى النِّسَب على مستوى القارة. كما تحتل البلاد المرتبة 187 من أصل 191 دولة على مؤشر التنمية البشرية (HDI) الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، ما يعكس التدهور الحاد في مجالات التعليم والصحة والدخل. هذه الأرقام لا تُعبِّر فقط عن أزمة اقتصادية، بل عن غياب تامّ لمقومات الدولة الحديثة([14]).
وفي جانب الأمن الغذائي، يُعدّ جنوب السودان من أكثر دول العالم تأثرًا بانعدام الأمن الغذائي (Food Insecurity)؛ إذ يحتاج ما يزيد على 9 ملايين شخص –أي ما يقرب من 70% من إجمالي السكان– إلى مساعدات إنسانية عاجلة وفقًا لتقديرات برنامج الأغذية العالمي (WFP). هذا الوضع لا يرتبط فقط بالعوامل المناخية أو ضعف البنية الزراعية، بل يتفاقم بفعل النزاعات المسلحة، ونزوح السكان، وغياب سياسات دعم مستدامة([15]).
أما في قطاع التعليم، فإن أكثر من 70% من الأطفال خارج المدارس، وتبلغ نسبة محو الأمية لدى النساء أقل من 30%. أما في مجال الحوكمة، فلا تزال مؤسسات الدولة ضعيفة أو شبه غائبة، ويتحكم السلاح والعلاقات القبلية في موازين القوة داخل الدولة، ما جَعَلها تُوصَف بأنها “دولة بحدود، لا دولة بمؤسسات” (A Country with Borders, not a State with Institutions).
تجربة جنوب السودان تطرح وجهًا مغايرًا لمعنى الاستقلال في السياق الإفريقي؛ إنها لا تدور حول التحرر من قوة استعمارية خارجية، بل عن انفصال عن دولة أُمّ، بدافع الظلم والهوية، لكن دون رؤية واضحة لبناء وطن جديد. لذلك، يبدو التاسع من يوليو وكأنه “تاريخ انفصال” أكثر من كونه “يوم استقلال”؛ حيث لم تتبلور حتى الآن دولة مدنية قادرة على تمثيل كافة المكوّنات الإثنية، أو تحقيق الحد الأدنى من التماسك الوطني (National Cohesion).
ورغم توقيع اتفاق سلام جديد في 2018م، وتشكيل حكومة وحدة وطنية في 2020م، لا يزال السلام هشًّا، وتستمر الاشتباكات في عدة مناطق. ومع مرور موعد الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في أواخر العام الماضي 2024م (وقد تأجّلت عدة مرات)، يبقى القلق قائمًا من أن تتحوّل العملية السياسية إلى محطة جديدة للصراع، لا الانفراج([16]).
أمام هذا المشهد القاتم، يصبح استقلال جنوب السودان مرآة لمآزق كثيرة تعاني منها إفريقيا: غياب المشروع الوطني، تغوُّل الهويات القبلية، وغياب العدالة الاجتماعية. وعلى عكس ما يتوقع من الدول الجديدة، لم يشهد جنوب السودان حالة من الأمن التي عادةً ما ترافق الاستقلال، بل وُلد في مناخ من الشك وانعدام الثقة، ولم ينجح حتى اليوم في الإجابة عن السؤال المُؤسّس: لماذا نريد أن نكون دولة؟ وكيف نعيش معًا؟ (Why a State? How to Live Together?).
الخاتمة:
حين تعود ذكرى الاستقلال في يوليو إلى دول مثل الصومال، مالاوي، وجنوب السودان؛ فإنها لا تعني مجرد احتفال تاريخي أو طقس سياسي مكرور، بل تفتح الباب واسعًا أمام تأمُّل عميق في طبيعة الدولة الإفريقية ما بعد الاستعمار (Postcolonial State)، وحدود السيادة الفعلية في ظل توترات داخلية وخارجية معقّدة.
لقد مثل الاستقلال في تلك الدول وعدًا بثلاثة أشياء: بناء الدولة، تحقيق العدالة الاجتماعية، وتمكين الشعوب من تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي. غير أن مرور الزمن كشف هشاشة البنى السياسية، وعَجْز النُّخَب عن التحوُّل من منطق “التحرُّر من المستعمر” إلى “التحرر من منطق المستعمِر” ذاته، الذي تَسرَّب إلى أنظمة الحكم، وآليات التوزيع، والهياكل الثقافية.
في ضوء ذلك، لا يبدو أن “الاستقلال” كان نهاية الاستعمار بقَدْر ما كان نقطة انتقال نحو أشكال جديدة من التبعية السياسية والاقتصادية (Neo-colonial Dependencies)، تفاوتت درجتها من دولة لأخرى، لكنها لم تَغِب عن أيٍّ منها. غير أن هذا لا يعني انعدام الأمل. فصعود الحركات الشبابية، وتجدُّد الخطابات الإصلاحية، ووَعْي الأجيال الجديدة بتاريخها المُثقل، يفتح المجال أمام تحرُّر ثانٍ، لا من المستعمر الخارجي، بل من الداخل الذي أعاد إنتاج أزماته.
يوليو في إفريقيا لم يَعُد مجرد تذكار لرفع العلم، بل فرصة لمراجعة المشروع الوطني، وإعادة تعريف الدولة من جديد؛ لا بوصفها أداة للسلطة، بل إطارًا للعدالة والمواطنة. الاستقلال الحقيقي ليس حدثًا مؤرخًا، بل هو مسار دائم يتجدد مع كل أزمة، وكل محاولة لفهم الذات الجماعية.
في الختام، إذا كان “التحرر الأول” شاقًّا لكنه ممكن، فإن “التحرر الثاني” –من الفساد، الفقر، والتبعية– سيكون أشد صعوبة، لكنه أكثر ضرورة. فالدولة الإفريقية لن تكتمل بهويتها إلا إذا تحررت من وهم الاكتفاء بالرمز، وسعت إلى تأسيس مضمون يعكس كرامة الإنسان وحقه في أن يحيا ليس فقط بوطن، بل في وطن حر وعادل ومستقل بحق.
………………………….
([1]) Leonid Issaev and Andrey Zakharov. “Clan Federalism in Somalia”, In: Federalism and Decentralization in Africa. Advances in African Economic, Social and Political Development. Springer, Cham, 2024, p.158. https://doi.org/10.1007/978-3-031-72574-6_8
([3])Israel Nyaburi Nyadera et al. The Somalia Conflict Revisited: Trends and Complexities of Spatial Governance on National and Regional Security, Palgrave Macmillan, Cham, 2024, p.35.
([4]) Bile Abdisalan Nor and Yusniliyana Yusof. Environmental degradation and food security in Somalia. Discov Sustain 6, 75 (2025). https://doi.org/10.1007/s43621-024-00771-9
([5]) Abdikafi Hassan Abdi et al. Education for sustainable development in Somalia: do economic growth, energy consumption, and population density affect ecological footprints? Discov Sustain 6, 292 (2025). https://doi.org/10.1007/s43621-025-01019-w
([6]) إعداد الباحثة: البيانات مستندة إلى تقارير البنك الدولي، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، تقارير اليونسكو واليونيسف، ومؤشر الدول الهشة لعامي 2023– 2024.
([7]) Israel Nyaburi Nyadera et al. p.40.
([8]) Martin Prowse & Paul Grassin. A Very Short Political Economy of Malawi, In: Tobacco, Transformation and Development Dilemmas from Central Africa. Palgrave Macmillan, Cham, 2020, p.65.
([9]) https://link.springer.com/rwe/10.1057/978-1-349-96112-2_114
([10]) https://www.worldbank.org/en/country/malawi/overview
([11]) Dan Banik and Michael Chasukwa. The Politics of Hunger in an SDG Era: Food Policy in Malawi. Food ethics 4, (2019), pp.189–206. https://doi.org/10.1007/s41055-019-00055-3
([12]) https://link.springer.com/rwe/10.1057/978-1-349-96112-2_172
([14]) George Kararach. South Africa: Economic Policies to Promote Equality and Achieve High-Income Status, In: Pinto Moreira, E. (eds) Avoiding the Middle-Income Trap in Africa. Palgrave Macmillan, Cham, 2024, p.125. https://doi.org/10.1007/978-3-031-69248-2_5
([15]) Moses John. Climate Change, Food Insecurity, Peace and Sustainable Development in East Africa: Case Study of South Sudan, Sudan, Ethiopia and Kenya. Springer, Cham, 2024, p.131. https://doi.org/10.1007/978-3-031-48375-2_6
([16]) Lukong Stella Shulika and Innocent Daudu. Charting African Solutions and a Decolonial Approach to Peace in South Sudan: What Are the Prospects?. Palgrave Macmillan, Singapore, 2024, p.193. https://doi.org/10.1007/978-981-99-8235-6_11