واصَل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضغوط إدارته القوية على دول القارة الإفريقية من أجل التزامها الكامل، وغير القابل للنقاش، بأجندة واشنطن الإفريقية في السنوات المقبلة.
ويتناول المقال الأول الضغوط الأمريكية “غير المُبرَّرة” ضد ليسوتو، وتداعيات فرض رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من هذه الدولة الإفريقية الصغيرة وذات الاقتصاد بالغ الضآلة، الأمر الذي اتضح في انكماش غير مسبوق في قطاع النسيج في ليسوتو وغلق الكثير من المصانع (التي تقوم بإنتاج ملابس لصالح ماركات أمريكية بشراكة مع تايوان) أبوابها في وجه العمالة هناك. وهذا ما يتناوله المقال الأول بالتفصيل.
أما المقال الثاني، الصادر عن موقع Atlantic Council الأمريكي وثيق الصلة بالإدارة الأمريكية، فإنه يتناول قمة الرئيس ترامب مع خمس دول من غرب إفريقيا، وتجاهل هذه القمة الالتفات لمسألة التهديدات الأمنية في إقليم الساحل، ويدعو الإدارة إلى اهتمام أكبر بالمسألة لتفادي مزيد من التداعيات السلبية في الإقليم. وتناول المقال الثالث والأخير مسألة العقوبات الأمريكية المحتملة ضد جنوب إفريقيا، لكن من زاوية الرؤية الزيمبابوية.
أمريكا تهزم عمال قطاع النسيج في ليسوتو([1]) :
تنتظر جموع من النساء كل صباح عند بوابات مصنع نسيج في عاصمة ليسوتو؛ أملًا في استدعاء قلة منهن للعمل لوردية واحدة. لكنْ لا يخرج أحد، وتظل بوابات المصنع –الذي يحمل اسم الشركة التايوانية التي تديره بحروف صينية حمراء-، مغلقة تمامًا. وهذا المصنع واحد من مصانع قليلة مما اعتِيدَ وصفها “بعاصمة قماش الجينز الإفريقية” Denim Capital of Africa التي لا تزال تعمل بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أبريل 2025م فرض أكبر رسوم جمركية على هذه الدولة الإفريقية مقارنةً ببقية دول العالم.
وقد أُجبرت مصانع كثيرة أخرى على غلق أبوابها مع فزع المشترين من إعلان رفع الجمارك (على واردات الولايات المتحدة من ليسوتو) بنسبة 50%، رغم عدم تطبيق ذلك حتى الآن.
ومع هلع اقتصاد ليسوتو من هذه الخطوة، أعلنت الحكومة عن تفعيل خطة وطنية “حالة الكارثة” في مطلع يوليو الجاري؛ أملًا في توفير مخصصات لخلق فرص عمل. لكنّ التحدي يُحدق بالبلاد، ويشعر كثير من المواطنين بالفعل باليأس.
وكانت ماقاجيلا لاتسين، على سبيل المثال والتي تبلغ 54 عامًا، تعمل في صناعة النسيج في العاصمة ماسيرو لعقود، وهي وظيفة أتاحت لها تربية أطفالها بنفسها. ومثل الكثيرات هنا، فإنها (أم عزباء) تم تمكينها بالانضمام لقوة العمل. والآن فإنها عاطلة وجائعة، بحسب ما تقول، وهي تشير لزجاجة تحملها باستمرار لخداع نفسها بالشعور بالشبع، وتدّخر الطعام الذي معها لأسرتها.
وتقول: “إنني هنا للبحث عن عمل”، فيما كانت واقفة في أحد شوارع حي صناعة النسيج؛ حيث تفوح في الأجواء رائحة الصرف الصحي، “لا يمكن لعائلتي أن تعيش على المياه فقط”. ومثلها، كالكثيرين ممن يبحثون عن عمل، لا تفهم لماذا فرضت الولايات المتحدة مثل هذه الرسوم الجمركية الضخمة على بلدها البائس الفقير، لكنهم جميعًا يكررون اسمًا واحدًا فقط: “ترامب، ترامب، ترامب”.
خلل الميزان التجاري:
يقول قادة الولايات المتحدة: إنهم فرضوا الرسوم الجمركية في أبريل بسبب خلل الميزان التجاري بين البلدين. وفي العام الماضي صدَّرت المملكة الصغيرة الواقعة في مرتفعات ومحاطة بأكملها مِن قِبَل جنوب إفريقيا سلعًا للولايات المتحدة بقيمة 237 مليون دولار –أغلبها منسوجات-، بينما صدَّرت الولايات المتحدة ما قيمته 3 ملايين دولار سلعًا لليسوتو.
لكنّ حكومة ليسوتو تؤكد أن ذلك علامة على أن سياسة أمريكية رئيسة سبق أن أدخلها الرئيس الأسبق جورج بوش (قد باتت) تعمل على نحو دقيق كما كان القصد منها. ويتيح قانون الفرصة والنمو الإفريقي (AGOA) لبعض الدول الإفريقية تصدير سلع دون رسوم جمركية للسوق الأمريكية. وسرعان أن انتهزت ليسوتو هذه الفرصة وبادرت الشركات التايوانية بإنشاء مصانع في ماسيرو وإنتاج قمصان وملابس رياضية وملابس أخرى لماركات أمريكية كبيرة في مجال صناعة الملابس مثل ليفي ورانجلر وولمارت.
وينتاب القادة الأفارقة غضب بسبب ترقُّب قرار الكونجرس الأمريكي بخصوص تجديد “أجوا”، -الذي تم تفعيله منذ 25 عامًا-، من عدمه في شهر سبتمبر المقبل، لكن موخيتي شيليل Mokhethi Shelile، وزير تجارة ليسوتو، يقول: إن القانون متوقف بالفعل حاليًّا. وأخبر وسائل إعلام تحدثت إليه في مكتبه في بناية قديمة في ماسيرو: أن “أجوا، بات بالفعل نوعًا من الماضي، بسبب الرسوم الجمركية (التي تم فرضها في أبريل). وأضاف الوزير قائلًا: “إنها سلسلة قيّمة جيدة، وإذا قطعتها، ستضرب حتى الولايات المتحدة نفسها، وإن خلل الميزان التجاري الذي يعترض عليه ترامب يرجع ببساطة إلى أن ليسوتو لا يمكنها بمنتهى البساطة أن تشتري الكثير من المنتجات الأمريكية.
ترامب يريد التجارة، ودول غرب إفريقيا تريد الأمن أولًا!([2])
بينما لا تزال ولاية دونالد ترامب الثانية في بداياتها فإن يوليو الجاري مثَّل شهرًا حاسمًا آخر في البيت الأبيض والكونجرس؛ ومن أسباب ذلك أن تمرير “مشروع قانون الكبير الجميل” One Big Beautiful Bill Act تزامن مع مفاوضات تجارية جارية بخصوص الرسوم الجمركية على الاتحاد الأوروبي، والتي تقرّر بداية تسويتها بحلول 9 يوليو الماضي. وتم تأجيل هذا الموعد المُحدَّد بشكل متكرر. وفي الوقت نفسه تم تسريح أكثر من 1300 دبلوماسي من وزارة الخارجية الأمريكية،
وفي الأسبوع نفسه –من 9 يوليو إلى 11 يوليو- تجمع قادة خمسة دول غرب إفريقية لحضور اجتماع خاص مع ترامب طيلة ثلاثة أيام. ووسط دفقة الأخبار كان من السهولة بمكان ملاحظة هذه القمة المصغَّرة، والتي ضمَّت قادة كلّ من الجابون وغينيا بيساو وليبيريا وموريتانيا والسنغال وصور خلالها لقاء غداء ترامب مع هؤلاء القادة وبُثّ تليفزيونيًّا. وكان الاجتماع الذي عُقِدَ لتلبية توقعات الولايات المتحدة قد أسهم في خفض مستوى القمة. وبالنسبة لقادة الدول الخمس الحاضرين في القمة فإنه يُرجّح فشلهم في معالجة ملائمة لقضيتهم الوحيدة الأكثر إلحاحًا، وهي: الأمن في الساحل.
المعادن الاستراتيجية والهجرة والسياسة التجارية:
كان تركيز إدارة ترامب الأولى في إفريقيا على ما عُرِفَ “بإستراتيجية إفريقيا الجديدة”، والتي كشف عنها وقتها جون بولتون مستشار الأمن القومي لترامب في ديسمبر 2018م. وارتكزت تلك الإستراتيجية على ثلاثة أعمدة: الرخاء، والأمن “عبر مواجهة تهديد الإرهاب الإسلامي الراديكالي والصراع العنيف”، والاستقرار. وعلى النقيض من ذلك يبدو ترامب الآن، بدعوته لقادة الدول الغرب الإفريقية الخمسة في غضون الشهور الستة الأولى من فترة رئاسته الثانية، مركزًا على مجموعة أولويات مغايرة وهي: تأمين المعادن الهامة والإستراتيجية، ومعالجة قضايا الهجرة، -بما في ذلك مقترح بقبول المُرحَّلين من الولايات المتحدة-، ووضع أولوية للسياسة التجارية. وعند النظر لها معًا يُلاحَظ أن هذه التغيرات تدفع نبرة سياسة الإدارة الأمريكية تجاه إفريقيا للأمام.
بأيّ حال، فإن ما افتقرت إليه القمة المذكورة بشكلٍ لافت هو تقديم مناقشات تفصيلية حول التحديات الأمنية المُلِحَّة التي تُواجه دول غرب إفريقيا، ولا سيما الوضع المتدهور في الساحل. لا سيما أن الإقليم بات بحسب تقديرات دولية مهمة المركز العالمي لللإرهاب والإقليم الذي يشهد النمو الأسرع للتطرف المسلح. وفي الواقع وضعت “مجموعة بياناتِ مواقعِ النزاع المسلح وأحداثه” Armed Conflict Location and Event Data Project (ACLED) إقليم الساحل وغرب إفريقيا الساحلية على قائمة متابعة الصراعات بها. ويرجع ذلك إلى تعاظم أنشطة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، و”الدولة الإسلامية بإقليم الساحل”، مع تزايد قدرات هذه الجماعات على مهاجمة القوات الحكومية والميليشيات والمدنيين.
وخلال القمة المذكورة أقر ترامب بالتحديات الأمنية الجارية في الساحل بإشارته للإرهاب في إفريقيا باعتباره “مشكلة كبيرة”، ودعا إلى جهود مستمرة لمكافحته. على أيّ حال فإن إفادات الاجتماعات المعلنة تشير إلى عدم اتخاذ إجراءات عمل محددة، ولا التوصل لاتفاقات، لمعالجة مشكات الأمن ومكافحة الإرهاب.
ويمكن أن يرجع ذلك إلى حقيقة أن إدارة ترامب لا تزال تُعيد تقييم الوضع العالمي للجيش الأمريكي، ولا سيما في إفريقيا، وتوازن بين سبل الاستجابة المثلى للتهديدات الأمنية مثل الماثلة في إقليم الساحل. وعلى أيّ حال فإنه إذا كانت الإستراتيجية الأمريكية الناشئة بخصوص إفريقيا لا تعتمد إلا على الدبلوماسية التجارية والانخراط الاقتصادي عبر الصفقات، فإن ذلك يُهدّد تداعيها. ومع تمدُّد العنف المتطرف عبر حدود دول غرب إفريقيا فإن الإدارة ستكون بحاجة إلى مقاربة أكثر حزمًا وتنسيقًا نحو الأزمة في الساحل قبل نهاية فترة هذه الإدارة الثانية.
مقاربة جديدة لغرب إفريقيا:
يجب على هذه المقاربة أن تضع خطة أكثر شمولًا تتضمَّن دعمًا قويًّا لمبادرات الأمن بقيادة إفريقية. وعلى الإدارة أن تركّز على استثمار منسَّق عبر البنية المدنية والعسكرية والتجارية، وكذلك على تعاون إقليمي أكثر قوة بين الدول الإفريقية. وبعدئذ يمكن للاعتماد المتبادل الاجتماعي والاقتصادي، الذي سينجم عن مجتمع أكثر صمودًا وترابطًا، أن يساعد في جسر الفجوات التي يسعى المتطرفون لاستغلالها. ويمكن أن تضع مثل هذه المقاربة الأساس لشراكة أمريكية-إفريقية أكثر إيجابية واستدامة.
زيمبابوي تُحذّر جنوب إفريقيا من العقوبات الأمريكية ونفوذ ترامب([3]) :
يقول الحزب الحاكم في زيمبابوي ZANU-PF: إن على جنوب إفريقيا ألَّا تخشى مشروع القانون الأمريكي الذي قد يُمكِّن الرئيس دونالد ترامب من فرض عقوبات على قادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (وهو الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا).
وقال الناطق باسم زانو-بي، “إف كريستوفر موتسفانجوا”: إن على الولايات المتحدة “ألَّا تسيء التصرف” في علاقاتها الدبلوماسية مع جنوب إفريقيا. مضيفًا أنه “يمكن حلّ هذه المشكلات دون اللجوء للعقوبات. لكن إذا قررت أمريكا المُضِي بالتصرف على النحو الذي تريده، فليكن لها ذلك. ولقد مررنا طوال عقدين بتجربة التعامل مع العقوبات”.
وقدم موتسفانجوا تعليقاته ذلك خلال قمة حركات التحرر التي عقدها حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” في 25 يوليو الجاري. وقال: إن العقوبات الأمريكية على زيمبابوي لم تُعِق تقدُّم بلاده. مؤكدًا أنها “لم تُوقِف زيمبابوي عن تحقيق التقدُّم. بل على النقيض من ذلك بات لدينا اليوم مقدرات تسمح لنا أن نكون الاقتصاد الأكثر دينامية في القارة الإفريقية. من كان يعتقد أن زيمبابوي ستقوم اليوم بتطوير صناعة حديد في العالم الثالث، وهو الأمر الذي يمكن أن تشعر أمريكا نحوه بالغيرة؟”
وفي العام الماضي فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الرئيس الزيمبابوي “إيمرسون منانجاجوا”، متهمةً إياه بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بعد فوزه المختلف عليه في الانتخابات الرئاسية للعام 2023م. وكانت العلاقات بين واشنطن وهراري قد تدهورت طوال أكثر من 20 عامًا.
وفرضت الولايات المتحدة في البداية عقوبات اقتصادية متعلقة بالسفر على زيمبابوي في مطلع الألفية الجديدة، واستهدفت الرئيس الراحل روبرت موجابي والعديد من كبار مسؤولي الحكومة الذين اتهمتهم واشنطن بالافتئات على المبادئ الديمقراطية.
على أيّ حال فإنه في مارس 2024م أنهى الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن رسميًّا برنامج العقوبات الأمريكية ضد زيمبابوي، ورفع القيود على جميع الأفراد والهيئات الذين تمَّت معاقبتهم وكذلك الأصول المستهدَفة (أمريكيًّا).
وشجّع الوزير “جنوب إفريقيا” على رؤية الوضع من وجهة نظر أكثر تفاؤلًا، قائلاً: “لا تقلقوا إزاء معاقبتكم مِن قِبَل قوى عظمى. لقد اجتزنا هذا الطريق مِن قبل. إننا نشارككم تجاربنا، ولدينا الموارد بأيّ حال”.
ولقد جاءت تلك التعليقات بعد تقارير بتقديم عضو الكونجرس الأمريكي روني جاكسون قانون مراجعة العلاقات الثنائية الأمريكية-الجنوب إفريقية للعام 2025م (US and South Africa Bilateral Relations Review Act of 2025)، وهو مشروع قانون يمكن أن يفرض عقوبات على قادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بتُهَم مدَّعَاة تتعلق بدعم أعداء الولايات المتحدة، بمن فيهم الصين وروسيا وإيران. وفي يوم الخميس (24 يوليو الجاري) تناول الرئيس سيريل رامافوسا المسألة خلال زيارته لمقر شركة BMW في جنوب إفريقيا، وقال: “لقد سمعنا ما حدث في لجنة مجلس النواب الأمريكي، لكن ما يزال الطريق ممتدًّا أمام مثل هذه العملية… ولسوف تستمر معاملاتنا وارتباطاتنا مع الولايات المتحدة، ولسوف نتناول جميع الأمور بما فيها هذه المسألة”.
وأوضح رامافوسا تقدير جنوب إفريقيا للعلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، وأنها تأمل في “تقوية تلك العلاقات عبر الحوار المستمر”.
…………………………
[1] Kate Bartlett, ‘We are on our knees’: U.S. tariffs devastate Lesotho’s garment workers, NPR, July 20, 2025 https://www.npr.org/2025/07/20/nx-s1-5468516/lesotho-tariffs-africa
[2] Rose Keravuori, At Trump’s recent summit, the US talked trade. But West Africa wants security first, Atlantic Council, July 21, 2025 https://www.atlanticcouncil.org/blogs/africasource/at-trumps-recent-summit-the-us-talked-trade-but-west-africa-wants-security-first/
[3] Simon Majadibodu, ZANU–PF warns South Africa against US sanctions and Trump’s influence, IOL, July 25, 2025 https://iol.co.za/news/politics/2025-07-25-zanupf-warns-south-africa-against-us-sanctions-and-trumps-influence/