مثَّلت تجربة فرانز فانون (1925 -1961م) النضالية والفكرية إلهامًا لا يُنْسَى في سياقات مواجهة الاستعمار وتجلياته وعنفه؛ كما تبلور ذلك بأشد الوضوح في مؤلفه الكلاسيكي The Wretched of the Earth (1961)([1])، الذي نُشِرَ بعد وفاته بأسابيع قليلة مصحوبًا بمقدمة هامة للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، وصدرت ترجمته الإنجليزية في وقت متقارب مع الصدور، وتم تناوله تحت عنوان “العنف في السياق الدولي”.
وقرأ “فانون” تحقيق الدول الأوروبية لوحدتها الوطنية عندما تمكنت الطبقات الوسطى الوطنية من تركيز أغلب الثروة في أيديها. وأن الطبقة الوسطى كانت أكثر الطبقات الاجتماعية دينامية وازدهارًا. ومكَّن وصولها للسلطة من تلبية توقُّعات مهمة للغاية مثل التحوُّل الصناعي وتطوير وسائل الاتصالات، والبحث عن منافذ للهيمنة خارج حدود الدولة الأم. وأن الاستقلال الوطني في عصر “فانون” -نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات تحديدًا-، ونمو الشعور الوطني في الأقاليم المتخلفة؛ قد اتخذ أشكالًا جديدة تمامًا. ففي أغلب هذه الدول، وباستثناءات قليلة للغاية، تناضل الجماهير ضد الفقر ذاته([2]).
وبعد أكثر من ستة عقود على نص “فانون”، وإلهامه في مسألة العنف لتحقيق التحرر الوطني، تَحلّ مئوية المفكر الإفريقي الشابّ فيما يشهد العالم وقائع واحدة من أخطر جرائم الاستعمار ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة، والتي تشمل الإبادة والتجويع والإذلال دون حدود؛ مما قد يدفع لإعادة قراءة “فانون” ومشروعه في ظل صعود الاستعمار الصهيوني المدعوم بآلة أمريكية وغربية لا تَكِلّ ولا تَمَلّ عن الاستهانة بكُلّ القِيَم الإنسانية في فلسطين، وتمتدّ بأوجه أخرى في إفريقيا.
استعمار يحتضر: عَوْد على بَدْء!
في دراسته القيّمة عن “فانون”، وعلم نفس القمع (1985م) قدَّم المفكر الصومالي حسين عبدالله بُولحن H. A. Bulhan خلاصات دالة حول إحباط “فانون” إثر عودته إلى موطنه جزر المارتينيك بعد دفاعه عن أطروحته الطبية في فرنسا في نوفمبر 1951م، واكتشافه أن الفقر والاغتراب والقمع هي جذور المرض النفسي وإدمان الكحول الذي اجتاح بني وطنه؛ الأمر الذي ظل مكوّنًا رئيسًا في شخصيته ورؤيته للاستعمار ومساعي التحرر منه في مناطق مختلفة من العالم؛ لكنه بات ثوريًّا صِرْفًا، بالمعنى الأيديولوجي والحركي، خلال وجوده في الجزائر ومعاينته نضالها من أجل التحرر، بعد مكوث عابر في فرنسا (ليون)، ورفضه عرضًا بتولّي إدارة إحدى المستشفيات في المارتينيك، وتجاهل الرئيس السنغالي ليوبولد سنجور طلبه بالانتقال للعمل في السنغال([3]).
ولم يكن وصوله الجزائر لتولّي إدارة مستشفى بليدة جونفيل -بناء على طلب قدَّمه للسلطات الفرنسية- حدثًا عارضًا أو مُضِيًّا نحو مجهولٍ للفكاك من حالة العزلة التي عاينها في فرنسا ومن قبلها الإحباط في موطنه؛ بل كان لـ”فانون” إلمام في مراحل تكوينه المبكرة، -وهو الذي تُوفِّي شابًّا في عمر 36 عامًا-، بالقضية الجزائرية، ودلَّ على ذلك مقاله عن “متلازمة شمال إفريقيا” (L’Esprit, February 1952) الذي قدَّم فيه نقدًا شاملًا للعنصرية في المجتمع، كما في المؤسسة الطبية، وأبان المقال عمق الأزمة النفسية-الوجودية (في تحليله لنفسية المواطن الجزائري)، وتفشي “متلازمات القمع”([4]).
ودارت أفكار المقال، التي طُوِّرت لاحقًا بإسهاب في كتابيه A Dying Colonialism وthe Wretched of the Earth، حول شكوك الأطقم الطبية في فرنسا إزاء جدية مرض الشمال أفارقة في تجسيد سوء الفهم التراجيدي للوضع الكولونيالي (كما شرح “فانون” لاحقًا)؛ ورسوخ النزعة العنصرية لدى هذه الأطقم على نحو يعوق التشخيص الصحيح، ومِن ثَم علاج هؤلاء المرضى (في تحليل يتجاوز الحالة الطبية إلى آفاق مجتمعية وسياسية أرحب)، كما أن العنصرية الثقافية تصف الشمال إفريقي بأنه شخص كسول دائمًا؛ وتوصّل “فانون” في مقاله لفرضية أن النوايا الطيبة لا تكفي، بل إن الالتزام بتأمين العدالة للجميع هي مسؤولية كل فرد، وأن حل الاغتراب والمرض، بمعنى واسع، يتطلب ما لا يقل عن إعادة بناء اجتماعي جذرية([5]).
وبالرجوع إلى كتابه “استعمار يحتضر”، نجد “فانون” يُقدّم إشارة مفصلية في فَهْم أثر الاستعمار على حالة الشعوب المستعمَرة السيكولوجية والمجتمعية بشكل عام؛ إذ يُلاحِظ أن “الشخص المستعمَر الذي يخرج لزيارة طبيب يكون دومًا غير واثق بنفسه. وتكون إجاباته أحادية الطابع، ولا يُجيب إلا عن النذر اليسير، وسرعان ما يثير نفاد صبر الطبيب. ولا يثير هذا الموقف الالتباس لدى الطبيب إزاء نوع الخوف الكامن الذي يشعر به المرضى عادة في حضرته. لقد اعتدنا سماع أن طبيبًا ما ذا أسلوب جيد هو الذي يجعل مرضاه مسترخون دون توتُّر. لكن ما يحدث بالفعل في هذا الوضع الاستعماري غياب ملحوظ للمقاربة الشخصية، والقدرة على أن يكون المرء هو نفسه، وإرساء “الاتصال” والحفاظ عليه. إن الوضع الاستعماري يضع معايير للعلاقات؛ لأنه يقسم المجتمع الاستعماري إلى قسمين على نحو ملحوظ”([6]).
يشير هذا النص، الوارد في الفصل الرابع الذي حمل عنوان “الطب والاستعمار”([7]) من مُؤلَّف “فانون” “استعمار يحتضر”(1959، وتُرجَم إلى الإنجليزية في العام 1965م)، إلى حقيقة ما كرَّسه الاستعمار من آثار نفسية على المستعمَرين، ويتجلى ذلك حاليًّا فيما يعانيه أهل فلسطين من آثار نفسية بالغة الخطورة مع استمرار آلة الإبادة الصهيونية بحقهم، والتي تمثل صورة أكثر تفصيلًا وتماثلًا مع ما سبق أن قام به الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وشاهده “فانون” خلال سنوات وجوده في الأخيرة.
فلسطين وما بعد “فانون”:
بات “فانون” في مطلع الستينيات، وبعد وفاته مباشرة، رمزًا للنضال المناهض للاستعمار في العالم الثالث؛ وتبنَّت النخبة الأفرأمريكية الراديكالية في الولايات المتحدة رُؤَاه بشكل واضح، وحتى مطلع السبعينيات على أقل تقدير. وبات “فانون” وإسهامه الفكري ذا أهمية كبيرة في مجال العلوم الاجتماعية، بحسب قراءة عز الدين حضور ما بعد البنيوية لـ”فانون”([8]).
لكنّ إسهام “فانون” يظل قابلًا لمزيد من التفسير والإيضاح في ضوء التطورات الراهنة في الجنوب العالمي وفي فلسطين أيضًا؛ فقد حذَّر “فانون” من توجُّهات القومية (في عصره وفي إفريقيا وحالات أخرى بطبيعة الحال)؛ لاستبدالها العداء للاستعمار بالسماح بصراع طبقي (أو تغذيته في واقع الأمر) ذاهبًا إلى أن: طرد المستعمر لمجرد إحلالهم “بالمتطورين”، أو نخبة الطبقة الوسطى التي تمرست على الثقافة الاستعمراية الفرنسية. ورأى “فانون” أن تلك النخبة لا تُمثّل “القوة الثورية التي ستدعو لوقف الاستعمار”، بل إنها، على النقيض من ذلك، تُمثِّل استعمارًا جديدًا ناشئًا سوف يُعمِّق من مأساة الجموع المستغَلة([9]).
وتثير رؤية “فانون” هنا، أي فيما يتعلق بفلسطين ومعاناتها، حقيقة تمادي الاستعمار في جرائمه مع تواطؤ وجه مستحدَث من “الاستعمار الجديد” تقوده قوى غربية بنفس الأساليب التقليدية: النهب والاستغلال بغضّ النظر عن التكلفة البشرية للمستعمَرين، وبقدرة فائقة على الاعتماد على قوى وظيفية تُيسِّر هذا النهب والاستغلال بادعاءات مكررة مثل السعي للتهدئة والتسوية، دون وجود أفق محدد، وفي ظل تغيرات خطيرة على الأرض لا تخفى صعوبة التراجع عنها للوراء.
وتتسق المشاهد التي تأتي من فلسطين والإبادة الجارية فيها حاليًّا مع ملاحظة “فانون” (1961م) بأن “التحامل العنصري للبورجوازية الغربية تجاه الزنجي nigger والعربي هي عنصرية ازدراء”([10])؛ إذ يُلاحظ أن مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين على مدار قرابة عامين بات مسألة مقبولة ضمنًا، وباستثناء اعتراضات خجولة، وتركيز جزئي على معاناة الأطفال من المجاعة المصنوعة في البلاد.
لكنّ حالة فلسطين، التي واجهت أعتى نُظُم الاستعمار ضراوة واستمرارية في القرن العشرين وحتى نهاية الربع الأول من القرن الحالي، تظل استثناءً مُخِلًّا في علاقات الاستعمار الجديد/ القديم بالشعوب المستعمَرة؛ وهي حالة يَعمد فيها الاستعمار إلى إبادة شعب كامل بخطوات ثابتة، ومتسارعة في الشهور الأخيرة، وصولًا إلى جهد خلق “دولة” جديدة تمامًا على أنقاض فلسطين، وضمن مشروع مُعلَن بإعادة تشكيل “إقليم الشرق الوسط”.
“فانون” وزمن الإبادة في فلسطين:
عمد “فانون” إلى تفسير منطقية الثورة (ضد المستعمر) في ضوء ما لمسه من عنف استعماري في الجزائر، ولمس فضاءات المستشفيات التي عمل فيها حينذاك؛ وفيما نشاهد حاليًّا إبادة مستشفيات بأكملها (تحت ذريعة إيواء “إرهابيين” ومسلحين ومخططين لهجمات إرهابية محتملة، أو دون عناء إصدار بيانات تفسيرية في حالات أخرى)؛ فإن خيار العنف الذي تبنَّاه “فانون” يبدو عاجزًا عن الاستجابة الحقيقية للإبادة الجارية، عِوضًا عن اختلال القوى بشكل مفرط يتجاوز ما ساد في خمسينيات وستينيات القرن الماضي نسبيًّا. كما أن الفعل الاحتجاجي (حتى بمستوياته الدنيا) لم يَعُد مؤثرًا في مواجهة سردية عنصرية محمية بترتيبات وتوازنات نظام عالمي جائر.
وفي نهاية الأمر يُثَار سؤال عن جدوى قراءة “فانون”، الذي حلَّت ذكرى ميلاده المائة في يوليو الحالي في ظل الإبادة الجارية في فلسطين؟
وتبدو الإجابة بالغة الصعوبة، واستشرافية بوجهٍ أو بآخر. فـ”فانون” الذي ضاق ذرعًا بسيكولوجية المستعمر وتعمُّد إذلال المستعمَر، كان يلمس جنونًا في حالة جنود الاستعمار وتلذذها ولهوها خلال قتل مدنيين أبرياء لا يُخشَى منهم على الأرض أيّ شيء، وهو جنون لا يمكن تفسيره إلا بمفاهيم مثل “عنصرية الازدراء”، كما لا يمكن فَصْله عن تعقيد المكوّن الأيديولوجي المتطرف لدى “المستعمر”.
وكان “فانون” يأخذ تفسيراته وقراءاته إلى مستويات أبعد مما كتب بالفعل، بل وإعادة النظر في مجمل “التجربة الصهيونية” كنموذج للاستعمار في أقبح صوره، وليست مثالًا تحرريًّا في رؤية بعض معاصري “فانون”.
………………………………..
[1] Fanon, Frantz, The Wretched of the Earth (Preface by Jean-Paul Sartre, Translated by Constance Farrington) Grove Press, New York, 1963.
[2] Ibid, pp. 95-6.
[3] Bulhan, Hussein Abdilahi, Frantz Fanon and the Psychology of Oppression, Plenum Press, New York, 1985, pp. 208-210.
[4] راجع في تفصيل ذلك: محمد عبد الكريم أحمد: وجوه إفريقية: هوامش في قضايا الفكر والاستعمار والتحرر، دار المرايا للثقافة والفنون، القاهرة، 2024م، ص ص 37-44.
[5] Bulhan, Hussein Abdilahi, Frantz Fanon, op. Cit. pp. 210-13.
[6] Fanon, Frantz, A Dying Colonialism (Translated by Haakon Chevalier), Grove Press, New york, 1965, p. 126.
[7] Ibid, pp. 121-145.
[8] Haddour, Ezzedine, Frantz Fanon, Postcolonialism and the Ethics of Difference, Manchester University Press, Manchester, 2019, pp. 58-91.
[9] Ibid, p. 88.
[10]Reingard Nethersol: Shards of Hegel: Jean- Paul Sartre’s and Homi K. Bhabha’s Readings of The Wretched of the Earth (in: Ulrike Kistner and Philippe Van Haute (editors)Violence, Slavery and Freedom between Hegel and Fanon, Wits University Press, Johannesburg, 2020, p. 125.