نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- بجامعة القاهرة
مقدّمة:
لطالما عانت إفريقيا من التبعية السياسية والاقتصادية، وحتى الثقافية، التي فرضتها عليها قوى الاستعمار الغربي، بما في ذلك جَعْلها رهينة للمساعدات الخارجية، بدلًا من أن تكون قارة مستقلة تعتمد على قدراتها ومواردها.
في ظل الدعوات المطالبة إفريقيا بفكّ قيود التبعية وتبنّي نهج جديد يقوم على الاكتفاء الذاتي والتنمية المستدامة بقيادة أبنائها يبرز حديثنا حول كتاب “إفريقيا 101: دعوة لإيقاظ وعي القارة”، الذي يرى أن تحقيق حُلم إفريقيا (المستقلة المتقدّمة) التي نريدها ليس مستحيلًا، بل هو هدف واقعيّ يتطلّب معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات التي تعاني منها القارة.
أولًا: أهمية الكتاب
تنبع أهمية الكتاب من كونه نداءً واضحًا للقادة الأفارقة وأبناء القارة في الداخل والشتات، للاعتماد على الذات وتوحيد الصف الإفريقي لمواجهة التحديات العالمية، من خلال طرح الكاتبة الزيمبابوية “أريكانا تشيهومبوري كاو”، التي شغلت سابقًا منصب المندوبة الدائمة للاتحاد الإفريقي لدى الولايات المتحدة.
وهي رسالة لا تزال تؤكدها في كتاباتها ومقابلاتها، مثل تصريحها مؤخرًا في لقاء أجرته مع الجزيرة الإنجليزية، مارس 2025م، -تعليقًا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتجميد بعض المساعدات الأمريكية-، بأن تحقيق الاكتفاء الذاتي هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل إفريقيا، مؤكدة أنه لا توجد دولة اعتمدت على المساعدات الخارجية وتمكنت من تحقيق تنمية حقيقية في القطاعات الحيوية التي تتلقى المساعدات مثل التعليم والصحة والتنمية الاجتماعية، سواء الأمريكية، الفرنسية، البريطانية، وغيرهم.
كما شددت على أن القارة الإفريقية لن تتمكّن من حلّ مشكلاتها بالاعتماد على المساعدات، وبدلًا من المساعدات، يتوجب وقف استنزاف مواردها المنهوبة لصالح القوى الأجنبية، وإعادة توجيه ثرواتها لخدمة مصالح شعوبها.
وأشارت كذلك في لقائها إلى ضرورة تبنّي نهج جديد في التعامل مع القضايا الإفريقية، مستشهدةً بشعار “أمريكا أولًا” الذي يَرفعه ترامب دائمًا، مؤكدةً أنّ على الأفارقة أن يتبنوا المبدأ ذاته، بوضع “إفريقيا أولًا” في كلّ السياسات والقرارات ذات الصلة بالقارة، على أن يضعوا في الاعتبار أن القوى الكبرى، هي التي تعتمد في نهضتها على إفريقيا، وليس العكس.
تكمن أهمية الكتاب أيضًا في إثارته للنقاش حول إعادة بناء الهوية الإفريقية، وتعزيز الوعي الجماعي؛ حيث ترى الكاتبة أن إحدى أهم معضلات القارة تكمن في الانقسامات العِرْقية والقبلية التي تُغذّيها القوى الخارجية لمنع تحقيق الوحدة الحقيقية. كما تُركّز على أهمية التضامن بين الدول الإفريقية، والعمل الجماعي لتحقيق التقدم والتنمية، مؤكدة أن إفريقيا تملك الموارد والإمكانات اللازمة للاعتماد على نفسها، لكنّها بحاجة إلى إعادة النظر في سياساتها الداخلية والخارجية.
ثانيًا: بنية وتقسيم الكتاب
تروي “تشيهومبوري كاو” رحلتها من الطب إلى الدبلوماسية كسفيرة للاتحاد الإفريقي في الولايات المتحدة، مُكتشِفَة خلال ذلك التهميش الذي يُواجه الأفارقة عالميًّا، مُناقِشَة تأثير الاستعمار، تقسيم إفريقيا، ونهب مواردها، إضافة إلى تحديات مثل هجرة العقول من إفريقيا والاستعمار الاقتصادي من القوى الغربية. كما تطرح حلولًا من خلال تعزيز الوحدة الإفريقية، التجارة الحرة، ودور الشتات في التنمية، داعية إلى ضرورة تغيير السردية حول إفريقيا واستعادة كرامتها، وذلك عبر فصول الكتاب التي بلغت 23 فصلًا، وجاءت كالتالي:
- (النداء) الأول.
- التشخيص.
- مؤتمر برلين.
- أثار مؤتمر برلين.
- شرور الاستعمار.
- المطالبة بالتحرر.
- (المخطط) لإدامة الاستعمار.
- منظمة الوحدة الإفريقية(OAU) .
- زعزعة استقرار إفريقيا.
- السردية الاستعمارية الموجهة.
- الأغلال المُكبّلة للعقل.
- شعب منقسم.
- الاتحاد الإفريقي.
- منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA).
- هجرة العقول.
- السنة 400: عام العودة.
- إفريقيا في صعود.
- كونك أسود.
- دعوة ملك الأشانتي: نداء للوحدة بين إفريقيا وشتاتها.
- رسالة من أخت سوداء إلى أخيها الأبيض.
- الطبيبة تذهب إلى واشنطن.
- (النداء) الأخير.
- ملحق: لا نستطيع التنفس، أزيحوا أقدامكم عن رقابنا.
ثالثًا: أهم الأفكار والمضامين
من خلال خبرتها التي جمعتها عبر مراحل حياتها المختلفة، بدءًا من عملها طبيبةً، ثم سفيرة، وقبل ذلك كونها مواطنة إفريقية نشأت في زيمبابوي، وتأثرت بتبعات الاستعمار؛ عايشت الكاتبة واقع القارة الإفريقية ومعاناة شعوبها من آثار الاستعمار المستمرة. وفي هذا السياق، تسعى إلى تقديم رؤيتها حول التأثير العميق الذي خلَّفه المستعمر في إفريقيا، ليس فقط على المستوى الاقتصادي والسياسي، بل أيضًا على الوعي الجمعي للأفارقة. ومن خلال طرحها، تحاول استكشاف سُبُل التحرُّر من هذه القيود، وعرض مجموعة من الأفكار التي تَجْمع بين تشخيص المشكلة واقتراح الحلول، والتي يمكن تلخيص أبرزها في النقاط التالية:
1-جراح لا تندمل.. كيف شكَّل الاستعمار وعي الكاتبة؟
تُحدِّثنا الكاتبة في بداية مؤلَّفها عن ليلة لا تُنسَى في إحدى قرى زيمبابوي؛ حيث تروي مأساة والدها الشخصية مع الاستعمار البريطاني. يصف والدها كيف أتى المستعمرون على ظهور الخيل وأحرقوا القرية، ناشرين الفوضى والرعب بين الأهالي الذين فرّوا بلا وجهة واضحة.
فقدت العائلة كل ممتلكاتها، واضطروا للتنقل عدة مرات -بعدما استولى البريطانيون على أراضيهم الخصبة-، إلى مناطق قاحلة مليئة بالأمراض. يحكي والدها كيف أن هذه المأساة لم تكن مجرد تجربة فردية، بل كانت جزءًا من سياسات النهب والاضطهاد الاستعماري في زيمبابوي.
يكشف هذا القسم عن أثر هذه التجربة في تشكيل وعي “تشيهومبوري كاو”؛ من خلال ما تعرَّضت له من ظلم على يد المُستعمِر، وتُوضّح كيف أن هذه الأحداث المبكّرة زرعت فيها الرغبة في الدفاع عن العدالة ومناهضة التبعية، كما تؤكد أن نشأتها في ظل هذه الأجواء غير العادلة عززت التزامها بالنضال من أجل إفريقيا، وهي الخلفية التي قادتها لاحقًا إلى تمثيل القارة على الساحة الدولية.
2- إرث الاستعمار.. هل تحرَّرت إفريقيا حقًّا؟
يأخذنا الكتاب هنا إلى آثار الاستعمار الأوروبي في إفريقيا، وكيف أدَّى إلى تفكيك النظم الاجتماعية والمؤسسات التقليدية للحكم، وسلب الموارد الطبيعية للقارة. خلال هذه الفترة، سافر بعض الأفارقة للدراسة في الخارج، ما أدَّى إلى تنامي وعيهم بمظالم الاستعمار.
مع تصاعد الوعي، ظهرت شخصيات قيادية بارزة مثل “كوامي نكروما، جمال عبد الناصر، جومو كينياتا، وسيكو توري”، الذين بدأوا بالمطالبة بالاستقلال. غير أن القوى الاستعمارية رفضت التخلي عن السلطة، ساعيةً للحفاظ على استغلال القارة، متجاهلةً أن إفريقيا كانت تمتلك أنظمة حكم راسخة قبل الاحتلال.
ورغم تحقيق الاستقلال السياسي لدول إفريقيا جنوب الصحراء، بدءًا من غانا في عام 1957م، لا تزال إفريقيا تواجه تحديات الاستعمار الجديد حتى اليوم؛ حيث تستمر القوى الخارجية في التأثير على اقتصادها وسياستها.
3-تمثيل إفريقيا في قلب واشنطن: المهمة الدبلوماسية التي لم أكن أتوقعها
في ربيع عام 2016م، تلقَّت الكاتبة والطبيبة أريكانا تشيهومبوري-كواو مكالمة هاتفية غير متوقعة في الثالثة صباحًا، توقعت أنها من غرفة الطوارئ، لكونها طبيبة، لكنها كانت من شخص رفيع المستوى يطلب منها التفكير في تولّي منصب سفيرة الاتحاد الإفريقي لدى الولايات المتحدة. في البداية، اعتبرت الأمر غير منطقي، لكنها تلقَّت عدة مكالمات لاحقًا تُؤكّد جدية العرض؛ حيث رأت قيادة الاتحاد الإفريقي أن الشتات الإفريقي يجب أن يكون في صُلْب قضايا القارة وتنميتها.
ترددت “تشيهومبوري-كواو” لمدة 6 أشهر، معتبرة أن المنصب سيُغيِّر حياتها وحياة أسرتها ومرضاها، لكنها قررت القبول بعد تشجيع زوجها، الذي أخبرها بأنها تحصل على فرصة نادرة لإحداث تغيير حقيقي في إفريقيا. ذهبت إلى واشنطن العاصمة بنية البقاء لبضعة أشهر فقط، لكنها اكتشفت أن خبرتها كطبيبة ساعدتها كثيرًا في فهم الخبايا الدبلوماسية؛ حيث كانت قادرة على تحليل الشخصيات والمواقف بنفس الطريقة التي كانت تُحلّل بها مرضاها.
في أثناء عملها، صُدمت بمستوى عدم الاحترام لإفريقيا على المستويات المختلفة، سواء من الحكومات الأجنبية، الشركات متعددة الجنسيات، أو حتى الزائرين. كما لاحظت الجهل العام بالأسباب الحقيقية لتخلف إفريقيا الاقتصادي، حتى بين القادة والسياسيين الأفارقة. هذه العوامل دفعتها للبقاء في منصبها؛ حيث رأت أن مهمتها هي تمثيل إفريقيا، ورفع صوت الأفارقة في الشتات. وخلال ذلك حدَّد الاتحاد الإفريقي ثلاثة أهداف رئيسية لعملها: التواصل مع الحكومة الأمريكية، الترويج لإفريقيا في الأمريكيتين، وتحفيز الشتات الإفريقي على المشاركة في نهضة القارة.
مع إدراكها لحجم المسؤولية، رفضت أن تكون مجرد دبلوماسية صامتة، بل قررت أن تخوض معركة لتغيير الصورة المغلوطة حول إفريقيا، وإشراك المجتمع الإفريقي في الشتات. سافرت في أنحاء الولايات المتحدة والأمريكتين لحَشْد الدعم وتشجيع أبناء إفريقيا على العودة والمساهمة في بناء القارة. كانت رسالتها واضحة وهي أن إفريقيا تحتاج إلى أبنائها، ويجب أن يطالب الأفارقة بالاحترام والمساواة على الساحة الدولية.
4- حين يروي الصياد القصة.. الإعلام الغربي وتشويه الحقائق الإفريقية
تشير الكاتبة في هذا القسم إلى البروباجندا (الدعاية المزيفة والتضليل) ضد إفريقيا من قِبَل القوى الاستعمارية السابقة، التي بدأت منذ أكثر من 600 عام، وترسخت خلال العبودية والاستعمار ولازالت؛ حيث تم تصوير القارة على أنها متخلفة سياسيًّا، ثقافيًّا، اجتماعيًّا، وتكنولوجيًّا، رغم أنها مَهْد الحضارات البشرية. كانت إفريقيا متقدمة علميًّا قبل الاستعمار، فقد تعلم الفلاسفة والعلماء اليونانيون في مصر وليس في أوروبا، إلا أن الأوروبيين -بما في ذلك المستكشفون، التجار، الإداريون، والمبشرون-، ساهموا في تشويه صورتها ونشر فكرة أنها قارة بدائية غارقة في الفوضى والأمراض. ولا يزال الإعلام الغربي يُقدِّم إفريقيا كقارة تعاني من الجوع، الحروب، والفساد، في حين يتم التقليل من مشكلات الغرب.
على سبيل المثال، يتم انتقاد الحكومات الإفريقية على مشكلات الفقر والتشرد، بينما يتم تسليط الضوء على “الأبطال البيض” الذين يساعدون الفقراء في الغرب. هذا التحيُّز يعود إلى عدم تخصيص الإعلام الغربي موارد كافية لتغطية القارة بشكل دقيق، ما يُرسِّخ التصورات الخاطئة عنها. كما أن وسائل الإعلام الغربية مملوكة في الغالب مِن قِبَل القوى الاستعمارية السابقة، وهو ما يسمح لها بالتحكم في كيفية تصوير إفريقيا، لذلك أصبح من الضروري أن يمتلك الأفارقة وشتاتهم وسائل إعلامهم الخاصة لرواية قصتهم الحقيقية.
5- معركة الوعي الإفريقي.. لماذا لا يثق الأفارقة في أنفسهم؟
تنتقل “تشيهومبوري كاو” لمناقشة مسألة الأغلال الذهنية، أو التصورات المغلوطة التي تعيق الأفارقة في القارة والشتات عن فَهْم أنفسهم وعن التقدم؛ حيث ترى الكاتبة أن المشكلة الأساسية ليست في الأزمات الاقتصادية أو العنصرية بل في التأثير العميق للاستعمار والعبودية على تقدير الذات والهوية الإفريقية، مؤكدة أن قرونًا من الاضطهاد والعنصرية الممنهجة والإذلال زرعت عقدة نقص لدى الأفارقة ما أدى إلى شعور دفين بالدونية أمام البيض. ينعكس هذا في سلوكيات تمييزية يمارسها الأفارقة ضد بعضهم البعض، حيث يسعوا إلى كسب قبول الغرب بدلًا من دعم بعضهم. في هذا الإطار تشير الكاتبة إلى ظاهرة “PhD” أو “Pull Him/Her Down” التي تُعبِّر عن ميل الأفارقة لإحباط بعضهم البعض بدلًا من التعاون والنهوض الجماعي.
في نهاية هذا القسم يدعو الكتاب إلى ضرورة مراجعة الذات والاعتراف بالأضرار النفسية العميقة التي سببتها العبودية والاستعمار، بما في ذلك العمل على التخلُّص من هذه الأغلال الذهنية، من خلال رفع الوعي التاريخي بأهمية إفريقيا، وتعزيز الوحدة بين أبناء القارة والشتات الإفريقي.
وتختتم الكاتبة بدعوة الأفارقة إلى مواجهة أنفسهم في المرآة بصدق والاعتراف بالمشاكل الداخلية، والسعي إلى تحرير العقول من تأثيرات العبودية والاستعمار؛ لأن استمرار الانقسامات الداخلية وعدم الاعتراف بها ومواجهتها سيؤدي إلى مزيد من التراجع والتبعية.
6- هجرة العقول والكفاءات الإفريقية: نزيف مستمر يعيق التنمية
يشير الكتاب في هذا القسم إلى مسألة هجرة الأدمغة، موضحًا أن جذورها في إفريقيا تعود إلى أكثر من 600 عام، بدءًا من تجارة الرقيق التي نقلت ملايين الأفارقة إلى الأمريكيتين، ما أسهم في بناء اقتصادات الدول المستعمِرة على حساب القارة. وبعد إلغاء الرق، واصلت القوى الاستعمارية استغلال موارد إفريقيا وشعبها، مما أدّى إلى مزيد من التبعية والتخلف الاقتصادي. وحتى بعد الاستقلال، استمرت هجرة الكفاءات العلمية والمهنية بسبب الحروب، الأزمات الاقتصادية، والبحث عن فرص تعليمية ومهنية أفضل.
في الوقت الحالي، تشهد دول مثل إثيوبيا ونيجيريا وكينيا نزيفًا حادًّا في الكفاءات، خاصةً في المجال الطبي، حيث يهاجر آلاف الأطباء سنويًّا للعمل في الغرب، ما يفاقم الأزمات الصحية في القارة. على سبيل المثال، يوجد في نيويورك أطباء غانيون أكثر من غانا نفسها، وفي لوس أنجلوس يوجد أطباء نيجيريون أكثر من نيجيريا. هذا النقص في الخبرات يؤثر على البنية التحتية والخدمات الأساسية، كما يعوق التنمية المستدامة.
تحاول الحكومات الإفريقية، بدعم من الاتحاد الإفريقي، احتواء هذه الظاهرة عبر تشجيع الكفاءات المهاجرة على العودة، لكنّها تُواجه تحديات مثل نقص التسهيلات، العقبات البيروقراطية، والصدامات الثقافية بين العائدين والمقيمين؛ حيث يُنظَر إلى العائدين أحيانًا على أنهم متعالون، بينما يخشى السكان المحليون من فقدان وظائفهم لصالحهم.
لتحقيق التنمية، تحتاج إفريقيا إلى إعادة دَمْج عقولها المهاجرة من خلال سياسات تحفيزية، وتحسين بيئة العمل، وتعزيز الشعور بالانتماء. ما نود قوله: أن القارة غنية بالموارد، لكن استغلالها يتطلب عودة خبرائها لبناء مستقبل مزدهر ومستقل.
7- حينما عرَّفونا بالأبيض والأسود: تأملات في الهوية والتمييز
تقول “تشيهومبوري كاو”: “كبرتُ في قريتي بزيمبابوي وأنا أُعرَف ببساطة كإفريقية. لم نكن ندرك مفاهيم “الأسود” و”الأبيض” حتى جاء المستعمرون والمبشرون، ليزرعوا في أذهاننا أن الأسود مرادف للشر والقبح، بينما الأبيض رمز للخير والجمال. هذه المفاهيم لم تكن بريئة، بل كانت جزءًا من مشروع لترسيخ التفوق العرقي وتشويه صورة الأفارقة.
أن تكون شخصًا أسود في هذا العالم يعني أن تواجه تحديات لا حصر لها، حتى في أرفع المناصب. على سبيل المثال عندما صرتُ طبيبة، لم أكن محصّنة ضد العنصرية، مثل مريضة ألقت تعليقًا عنصريًّا بجهلٍ تام، لمجرد أنني إفريقية. بما يكشف كيف أن بعضهم يحمل عنصرية غير واعية، ترسخت عبر قرون من التمييز.
هذه ليست مجرد تجارب فردية، بل جزء من منظومة تُعامل السود كطبقة أدنى، سواء عبر الاستهداف المباشر كما حدث لأحد أقاربي الذي وجد نفسه وسط مواجهة مع الشرطة دون سبب، أو عبر التلاعب بالمفاهيم حتى يُصبح الأسود مرادفًا لكل ما هو سلبي، بينما الأبيض يرتبط بالنقاء والتفوق.
لكننا اليوم أمام فرصة لاستعادة كرامتنا الجماعية. لسنا مجرد “سود”، بل أفارقة، أبناء قارة غنية بالموارد والتاريخ والحضارة. لقد حان الوقت لنكسر هذه السلاسل النفسية وأن نعلّم أبناءنا حقيقتهم، أن يكونوا فخورين بجذورهم، ويعرفوا أنهم ليسوا أقل من أحد. العالم يعرف قوة السود، نحن فقط بحاجة لأن ندرك قيمة وقوة أنفسنا.
8- لون بشرتي لا يُلغي صوتي.. رسالة مصارحة إلى أخي الأبيض
في هذا القسم تطلعنا الكاتبة على رسالة مفتوحة تكتبها إلى “أخيها الأبيض” (حديث أخوي بين الأسود والأبيض)، تُعبِّر فيها عن الألم والغضب من قرونٍ من الظلم والاستغلال الذي تعرَّض له الأفارقة على يد الغرب. تبدأ رسالتها بالتأكيد على ضرورة إجراء حوار صادق حول القضايا التاريخية والمعاصرة التي لا تزال تربط إفريقيا بالقوى الاستعمارية السابقة.
تتطرق عبر خطابها إلى الإرث الثقيل للعبودية والاستعمار، مشيرة كيف استمرت هيمنة القوى الغربية عبر وسائل جديدة مثل التدخلات السياسية، الهيمنة الاقتصادية، الغزو الثقافي، التلاعب بالموارد الإفريقية. بعد استعراض قائمة طويلة من المظالم، تطالب الكاتبة الغرب بمراجعة مواقفه وإعادة النظر في علاقته بإفريقيا. داعيةً إياهم -القوى الغربية- إلى إنهاء الاستغلال، الاعتراف بالجرائم الماضية، ومناقشة مسألة التعويضات.
رغم لَهْجتها الحادة الصادقة، تَختتم الكاتبة رسالتها بدعوة الغرب للتعايش -التعاون وبناء العلاقات-، مع إفريقيا لكن بشكل عادل، مؤكدة أن إفريقيا يمكنها أن تحتضن الجميع، شريطةَ أن يقوم ذلك على الاحترام والنفع المتبادل والعدالة.
خاتمة:
يُعدّ هذا الكتاب محاولة جادة لتقديم نظرة عن القارة الإفريقية من زوايا متعددة، معتمدًا على منظور توعوي يهدف إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة عن إفريقيا، خاصةً فيما يتعلق بالإرث الاستعماري وتأثيره المستمر على حاضر القارة ومستقبلها.
يتميز الكتاب بشمولية الطرح؛ حيث يغطي مجموعة واسعة من القضايا التي تعكس التحديات والفرص التي تواجه إفريقيا، كما يسعى إلى تفكيك الصور النمطية التي رسمها الإعلام الغربي عن القارة، مقدمًا سردًا أكثر واقعية. وبأسلوب واضح وسهل، يجعل الكتاب من السهل على القارئ استيعاب محتواه دون الحاجة إلى خلفية أكاديمية متخصصة، معتمدًا على تحليل يربط الماضي بالحاضر ليبرز كيف أن الاستعمار لم ينتهِ فعليًّا، بل استمر بأشكال جديدة مثل التبعية الاقتصادية ونهب الموارد. كما يتجاوز الكتاب مجرد الوصف إلى تقديم دعوة للعمل، مشددًا على أهمية تحقيق الاستقلال الاقتصادي للقارة وتعزيز التضامن الإفريقي.
على الرغم من أهمية الطرح، فإن الكتاب يتَّسم أحيانًا بنبرة عاطفية قد تؤثر على موضوعيته، وهو أمر يمكن تفهُّمه نظرًا لكون الكاتبة إفريقية تحمل هموم قارتها. ومع ذلك، يأتي هذا أحيانًا على حساب التحليل الأكاديمي العميق، ما يجعله أقرب إلى عمل توعوي -كما أشرنا سابقًا-، أكثر منه دراسة بحثية معمقة.
ومع ذلك، يظل الكتاب مرجعًا مهمًّا لمن يسعى إلى فَهْم جذور الأزمات الإفريقية بعيدًا عن السرديات الغربية السائدة، كما يَفتح المجال لنقاش ضروري حول سُبُل تجاوز إفريقيا لتحدياتها من خلال استثمار إمكاناتها الذاتية، بعيدًا عن تدخل القوى الغربية والاعتماد على مساعداتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر الكتاب:
Arikana Chihombori-Quao, Africa 101: The Wake Up Call, (Washington, D.C: Library of Congress, 2020).
للمزيد حول لقاء الكاتبة انظر:
Chihombori-Quao: USAID was ‘a wolf in sheep’s clothing’ in Africa, The Bottom Line, Al Jazeera English, Mar 17, 2025, On: https://www.youtube.com/watch?v=5mFSRb5dUOM
حول الكاتبة:
شغلت سعادة السفيرة أريكانا تشيهومبوري-كواو، منصب الممثل الدائم للاتحاد الإفريقي في واشنطن العاصمة؛ حيث لعبت دورًا رئيسيًّا في تعزيز العلاقات بين الاتحاد الإفريقي والهيئات التنفيذية والتشريعية للحكومة الأمريكية، والسلك الدبلوماسي الإفريقي، والجاليات الإفريقية في الشتات، والمؤسسات المالية الدولية. خلال فترة توليها المنصب بين عامي 2016 و2019م، أعادت الحيوية إلى بعثة الاتحاد الإفريقي، وطرحت مبادرات وبرامج جديدة، وساهمت في توحيد الشتات الإفريقي تحت رؤية مشتركة لـ “إفريقيا واحدة وصوت واحد”.
حظيت قيادتها باهتمام واسع؛ حيث حصلت على أكثر من 70 جائزة خلال فترة عملها سفيرةً للاتحاد الإفريقي في الولايات المتحدة، وتم اختيارها “شخصية العام 2019م” مِن قِبَل صحيفة الجارديان النيجيرية، كما صنَّفتها صحيفة EyeGambia ضمن أكثر 10 شخصيات إفريقية تأثيرًا في عام 2019م؛ حيث احتلت المرتبة الرابعة.
قبل انخراطها في السلك الدبلوماسي، عملت السفيرة طبيبة متخصصة في طب الأسرة في مورفريسبورو بولاية تينيسي لأكثر من 25 عامًا، وهي زميلة في الأكاديمية الأمريكية لأطباء الأسرة وعضو في عدة جمعيات طبية مهنية. وعلى الصعيد الشخصي، فهي أم لخمسة أبناء وجدة لخمسة أحفاد.