إن الناظر إلى الفكر السياسي الغربي متعمقًا فيه؛ يجد أن ثمة انفصالًا حادثًا بينه وبين المشكلات الأخلاقية الحقيقية التي نواجهها في عالمنا اليوم. فضلًا عن تناثر أفكاره التي يصعب على الباحث الربط بينها؛ فالفكر السياسي الغربي بطبيعة الحال هو فِكْر نخبوي بالأساس، مُغطّى بمصطلحات قد لا يفهمها إلا حفنة من النخبة المتخصصة في حقله، وعلى الخلاف من ذلك تمامًا يأتي الفكر السياسي الإفريقي، الذي يتبنَّى في طرحه القضايا الأخلاقية والإنسانية، وهذا ما يشعر به القارئ حين يقرأ كتاب “الفكر السياسي الإفريقي”([i]) African Political Thought لمؤلفه “جاي مارتن”([ii]) Guy Martin، يشعر وكأنه يسبح في عالمٍ من الأفكار المترابطة والمتجانسة، فلا يكاد ينتقل من فكرة إلى فكرة إلا ويشعر بهذا الترابط والتجانس؛ فتجد “مارتن” في الفصل الأول يُحدّثنا عن الأنظمة والمؤسسات السياسية الإفريقية التقليدية والتي كانت تستند إلى القرابة kinship والنسب lineage أو ما يُعرَف بـ”الأصل المشترك” Common Ancestry. حيث شكَّل “النسب” القوة الأكثر فعالية في ترسيخ الوحدة والاستقرار داخل إفريقيا القديمة. ثم يأتي الدين كمُحدِّدٍ للواجبات الأخلاقية وضبط السلوك؛ وذلك عبر وضع القوانين وإقرار العادات، إلى جانب القبول ببعض المعايير السلوكية.
تأثير القِيَم والأفكار الإسلامية على الأنظمة والمؤسسات السياسية الإفريقية الأصلية
لقد شكَّل الفكر التقليدي الإفريقي الأرضية المناسبة لاستقبال الإسلام كدين روحي ومُحدّد أخلاقي؛ أضفى بقِيَمه وأفكاره تأثيرًا كبيرًا على الأنظمة والمؤسسات السياسية الإفريقية الأصلية بدايةً من القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر، وهو ما تناوله “مارتن” في الفصل الثاني من الكتاب؛ حيث اعتبر “مارتن” انتشار القِيَم الإسلامية في إفريقيا أحد أهم مراحل تطور الفكر السياسي الإفريقي؛ وهو ما عبَّر عنه بقوله: “لم يعد الإسلام دينًا عربيًّا بحتًا؛ بل أظهر الدين الجديد قدرته على استقطاب واستيعاب عناصر عِرْقية من أصول متنوعة، قام بدمجها في مجتمع ثقافي وديني واحد”.
وبالفعل استطاع الإسلام التأقلم في مناطق مختلفة من إفريقيا، وبين شعوب متنوعة مثل “البربر” Berber و”الفولاني” Fulani و”الصوماليين” Somali الرُّحَّل؛ وتجار “السوننكي” Soninke و”الهاوسا” Hausa؛ والطبقة الأرستقراطية والعشائر الحاكمة في “غانا” Ghana و”مالي” Mali و”سونغاي” Songhay و”كانم” Kanem و”برنو” Bornu. ولعل هذا ما يُفسِّر تسمية العديد من المؤرخين للفترة الممتدة من القرن السابع إلى القرن الحادي عشر الميلادي في تاريخ الفكر السياسي الإفريقي بـ”العصر الإسلامي” The Islamic Age.
من القومية الإفريقية الغربية المبكّرة إلى الإنسانية
لتبرير الاستعمار الأوربي لإفريقيا انبرى روّاد الفكر الغربي متأثرين بـ”الداروينية الاجتماعية” Social Darwinism- التي تطورت منذ القرن السادس عشر فصاعدًا، واصفين إفريقيا بـ”القارة المظلمة” Dark Continent والأفارقة بـ”البدائيون” primitive و”المتخلفون” backward. ومن أجل إخراج إفريقيا من هذا الظلام في ظل “عصر التنوير” المزعوم في الفكر الأوربي ضمّنوا أفكارهم “واجبًا إنسانيًّا” humanitarian duty هدفه -زعمًا- جلب “بركات الحضارة الأوروبية” blessings of European civilization إلى المناطق “المتخلفة” backward من العالم مثل إفريقيا، وأُولَى هذه البركات كانت المسيحية التي وظَّفوا نصوص كتابها المقدس من أجل إذعان الإفريقي وقبوله بالدونية العرقية. وهو ما طرحه “مارتن” في فصله الثالث من الكتاب؛ والذي ناقش فيه بإسهاب السياسات الاستعمارية الفرنسية المتمثلة في “الاستيعاب” Assimilation و”الارتباط” Association، وسياسة “الحكم غير المباشر” Indirect Rule الذي انتهجته الإمبراطورية البريطانية. فكان من المناسب خلال هذه الحقبة دراسة أفكار دعاة التغريب والتحديث والديمقراطية الليبرالية من الأفارقة. ومن بينهم بعض القوميين الأوائل بغرب إفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومعظمهم من أعضاء النُّخبة المتعلمين مثل “جيمس أفريكانوس هورتون” (1835- 1883م) James B. Africanus Horton، و”إدوارد بلايدن” (1832- 1912م) Edward W. Blyden، و”جوزيف كاسيلي هايفورد” (1866- 1930م) Joseph E. Casely Hayford. يلي ذلك استعراضٌ للأفكار السياسية لاثنين من القوميين الأفارقة المعتدلين البارزين في منتصف القرن العشرين: “بوسيا” (1913 -1978م) K. A. Busia من “غانا” و”كينيث كاوندا” (1964- 1991م) Kenneth Kaunda من “زامبيا”.
الوحدة الإفريقية والجامعة الإفريقية من المثالية إلى الممارسة
لم يتشكل وجدان المفكر الإفريقي في أيّ مرحلة من المراحل من واقع الفردانية؛ فأهم ما ميَّز الفكر الإفريقي منذ بداياته هو تبنّيه للقومية كأيديولوجية كانت حاضرة على الدوام؛ ففي الوقت الذي دعا فيه القوميون الأفارقة من قادة “الوحدة الإفريقية” African Unity أو ما يُطلَق عليهم “التدريجيون” gradualists (أو الوظيفيون functionalists) بقيادة “فيليكس هوفويه بوانيي” Félix Houphouët-Boigny من “كوت ديفوار” Côte d’Ivoire، و”ننامدي أزيكيوي” Nnamdi Azikiwe من “نيجيريا” Nigeria، و”جومو كينياتا” Jomo Kenyatta من “كينيا” Kenya، و”جوليوس نيريري” Julius Nyerere من “تنزانيا” Tanzania، إلى “التكامل التدريجي” في مجالات النقل والاتصالات والعلوم والتكنولوجيا والاقتصاد، ممَّا يؤدي في نهاية المطاف إلى تكامل سياسي في المستقبل البعيد.
كان على الجهة الأخرى قادة “الجامعة الإفريقية” Pan-Africanism، بقيادة “كوامي نكروما” Kwame Nkrumah من “غانا” Ghana، وتضمّ “أحمد بن بلة” Ahmed Ben Bella من “الجزائر” Algeria، و”باتريس لومومبا” Patrice Lumumba من “الكونغو” Congo، و”أحمد سيكو توري” hmed Sékou Touré من “غينيا” Guinea، و”موديبو كيتا” Modibo Kéïta من “مالي” Mali، قد اقترحوا، وفقًا لمخطط “نكروما” كما هو موضح في وثيقة “يجب أن تتحد إفريقيا” Africa Must Unite، تكاملًا سياسيًّا واقتصاديًّا فوريًّا يأخذ شكل “الولايات المتحدة الإفريقية” United States of Africa التي تتكون من سوق إفريقية مشتركة، واتحاد نقدي إفريقي، وقيادة عسكرية إفريقية عليا، وحكومة اتحادية على مستوى القارة. وفي ذلك يقول “كوامي نكروما” في كتابه “يجب أن تتحد إفريقيا”: “إذا أردنا أن نحافظ على حريتنا، وأن نتمتع بكامل ثروات إفريقيا الغنية، فعلينا أن نتحد من أجل التخطيط لإدارة مواردنا المادية والبشرية واستغلالها الاستغلال الأمثل، بما يُحقّق المصالح الكاملة لجميع شعوبنا… إن {الانفراد} To go it alone سيَحُدّ من آفاقنا، ويَحُدّ من توقعاتنا، ويهدد حريتنا”.
الأيديولوجية الاشتراكية الشعبوية
ومن المثالية إلى الممارسة ينتقل “مارتن” من دراسة “الوحدة الإفريقية” و”القومية الإفريقية” ليُسلِّط الضوء على الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأيديولوجية الاشتراكية الشعبوية. ويعود مفهوم “الاشتراكية الشعبوية” populist-socialism إلى “كروفورد يونج” Crawford Young، ووفقًا لـ”يونج”، فإن “الاشتراكية الشعبوية” هي مبدأ تنموي تبنَّته الأنظمة الاشتراكية في الستينيات لدول مثل “الجزائر” و”غانا” و”غينيا” و”غينيا بيساو” و”مالي” و”تنزانيا”.
ويُفسّر “أمليكار كابرال” Amilcar Cabral في كتابه “الثورة في غينيا” Revolution in Guinea أهمية وجود الأيديولوجيا كمُحرّك للثورة بقوله: “يُشكل النقص الأيديولوجي، إن لم نقل انعدام الأيديولوجيا تمامًا، داخل حركات التحرر الوطني -والذي يعود أساسًا إلى جهل الواقع التاريخي الذي تدَّعي هذه الحركات تغييره-، أحد أكبر نقاط ضعف نضالنا ضد الإمبريالية، إن لم يكن أكبرها على الإطلاق… فلم تقم ثورة ناجحة حتى الآن بدون نظرية ثورية”.
الأيديولوجية الاشتراكية الشعبوية من منظور اشتراكي
وفي الفصل الخامس والسادس يواصل “مارتن” دراسة الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأيديولوجية الاشتراكية الشعبوية من منظور اشتراكي بامتياز. فيصُبّ تركيزه على رجال الدولة (والأنظمة) الذين على الرغم من خطابهم الاشتراكي، استخدموا الأيديولوجية الاشتراكية الشعبوية كأداة للسيطرة والإكراه، وأحيانًا -كما في حالة “سيكو توري” Sékou Touré في “غينيا” Guinea- كأداة للإرهاب. فأهمّ ما ميَّز هذه الأنظمة السياسية هو الاستبدادية النسبية (وأحيانًا الشمولية totalitarian)، ونظام الإدارة من أعلى إلى أسفل، بالإضافة إلى سيطرة الدولة على الاقتصاد.
واختار “مارتن” كلًّا من “جمال عبد الناصر” Gamal Abdel Nasser في “مصر”، و”كوامي نكروما” Kwame Nkrumah في “غانا”، و”أحمد سيكو توري” Ahmed Sékou Touré في “غينيا”، و”موديبو كيتا” Modibo Kéïta في “مالي”، و”جوليوس نيريري” Julius Nyerere في “تنزانيا” ضمن هذه الفئة. لكنّ “مارتن” لم يضع الجميع في درجة واحدة، بل أشار إلى وجود اختلاف كبير في الدرجة بين هؤلاء القادة من حيث الطبيعة الاستبدادية والديمقراطية لأنظمتهم.
الأيديولوجية الاشتراكية الشعبوية من منظور شعبوي
لكنه في الفصل السابع عاد “مارتن” ليُقدِّم لمحةً عامة عن الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأيديولوجية الشعبوية الاشتراكية، لكن هذه المرة من منظور شعبوي بامتياز، وذلك منذ أوائل ستينيات القرن الماضي؛ حيث قام خلال هذه الفترة بالتركيز على الأفكار السياسية والقضايا المشتركة التي ارتبطت فيما بينها بهذه المرحلة الزمنية، بدلًا من التركيز على القادة أنفسهم؛ نظرًا لأهمية وخصوصية أفكار هذه المرحلة؛ وهو ما عبَّر عنه “فرانز فانون” (1925-1961م) Frantz Fanon في تحذيره للشعوب والقادة والعلماء الأفارقة بأنه لنجاح الديمقراطية الشعبية والتنمية في إفريقيا، يجب عليهم التوقف عن التبعية العمياء للغرب: “يجب عليهم التوقف عن تقليد الثقافة والتقاليد والأفكار والمؤسسات الغربية”؛ يجب عليهم التفكير “خارج الصندوق”؛ والأهم من ذلك كله، يجب عليهم التحلّي بالجرأة والابتكار وتطوير الأفكار والمفاهيم والمؤسسات القائمة على القِيَم والتقاليد والثقافة الإفريقية. هذا المسار البديل للديمقراطية الليبرالية الغربية والتنمية الرأسمالية هو بالضبط خط تفكير الدراسات الإفريقية الناشئة.
القوة التحويلية للأفكار في إفريقيا
وأخيرًا في الفصل الثامن، وانطلاقًا من تحذير “فرانز فانون” للشعوب والقادة والعلماء الأفارقة بضرورة التوقف عن تقليد الثقافة والتقاليد والأفكار والمؤسسات الغربية؛ وبدلًا من ذلك عليهم تطوير أفكارهم ومفاهيمهم ومؤسساتهم الخاصة بناءً على القيم والتقاليد والثقافة الإفريقية. هذا المسار البديل للديمقراطية الليبرالية الغربية والتنمية الرأسمالية هو بالضبط خط تفكير المنح الدراسية الإفريقية الناشئة، واختار “مارتن” لتتبُّع هذا المسار دراسة الأفكار السياسية لأربعة من المفكرين في هذا الفصل.
وبشكل أكثر تحديدًا، استعرض خلال هذا الفصل الأفكار والقِيَم التي تدعو إلى إفريقيا جديدة وحرة ومعتمدة على الذات بما يضع مصلحة الشعب الإفريقي في المقام الأول، وبالتالي الدعوة إلى نوع شعبوي من الديمقراطية والتنمية.
ومع ذلك، وعلى عكس العلماء الشعبويين الاشتراكيين، يرفض العلماء الشعبويون الأفارقة العمل ضمن معايير الأيديولوجيات الغربية -سواء كانت “اشتراكية” أو “ماركسية لينينية” أو “ليبرالية ديمقراطية”-، ويدعون بدلًا من ذلك الأفارقة إلى التخلُّص من متلازمة التبعية الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية. كما أن هؤلاء المفكرون مقتنعون بأن حلّ المشكلات الإفريقية يكمن في الأفارقة أنفسهم. وبالتالي، فإنهم يرفضون البقاء كضحايا سلبيين لمصير مُتصوّر أو مُقدَّر مسبقًا، ويدعون جميع الأفارقة إلى أن يصبحوا المبادرين والوكلاء لتنميتهم الخاصة، بهدف نهائي هو خلق “إفريقيّ جديد” new African. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن جميع هؤلاء الأفراد هم في المقام الأول أكاديميون، ويتعاملون بدقة مع الأفكار، ولم يشاركوا بشكل مباشر في العمل السياسي (على الرغم من أن الغالبية منهم علماء سياسة). والعلماء الشعبويون الأفارقة الأربعة الذين سيكونون محور هذا الفصل هم عالم السياسة الغاني “دانيال ت. أوسابو كلي” Daniel T. Osabu-Kle؛ وعالم السياسة النيجيري “كلود آكي” (1939- 1996م) Claude Ake؛ الباحث الصحفي التنزاني “جودفري مواكيكاجيلي” Godfrey Mwakikagile؛ وعالم السياسة الكيني “مويني وا مويو” Mueni wa Muiu. وتجدر الإشارة إلى أن جميع هؤلاء الباحثين من أتباع القومية الإفريقية، وكثيرون منهم يتجنّبون الإشارة إلى جنسياتهم، ويُفضِّلون ببساطة أن يُطلق عليهم اسم “أفارقة”. وبطبيعة الحال، ينصب تركيز “مارتن” خلال هذا الفصل على الأفكار (وما يربطها) بدلًا من الأفراد.
وختامًا:
فإن مكتبة الفكر السياسي الإفريقي لا تزال خاوية إلا من بعض الكتابات التي تأتي لذَرّ الرماد في العيون، ولا يزال الباحث في هذه الحقل يحتاج إلى مزيد من القراءة والبحث والتدقيق لملء هذا الفراغ الحادث، ولعلّ القرنين الثامن والتاسع عشر هي قرون تأسيسية لهذا الحقل بوصفه حديثًا بعض الشيء؛ وهي الفترة التي عانت فيها إفريقيا من الاستعمار، وهي ذات الفترة التي عانى فيها أفارقة الشتات من العبودية؛ فالتجربة التي مرَّ بها أفارقة الشتات من قمع واستعباد لا تنفصل بأيّ حال من الأحوال عن التجربة المريرة التي مرت بها القارة من استعمار ونزوح -على مدار قرون- بحثًا عن الثروات؛ فالإفريقي الذي وُضعت في يده وقدمه وحول عنقه القيود الحديدية، ودُفع به إلى سفينة الخزي والعار ليُحْمَل إلى العالم الجديد ليزرع ويصنع ويخدم لهو نفسه الذي زرع وصنع وخدم الاستعمار في أرضه الإفريقية سُخرةً وقمعًا وإذلالًا.
لكني أتدرج وأقول: إن الإفريقي الذي ناضَل في الشتات من أجل حريته وكسر قيوده وأغلاله ولم يخنع أو يرضى أو يقبل بأيّ حال من الأحوال أن يكون عبدًا لهذا النظام الرأسمالي لهو نفسه الإفريقي الذي ناضَل من أجل استقلال قراره ونيل حريته وكسر قيود التبعية على كافة المستويات لمستعمر إمبريالي متسلط متغطرس، فناضل وكافح حتى نال حريته واستقلاله.
ولذلك كان لزامًا علينا -كباحثين في التاريخ الحديث لقارتنا الإفريقية، وتاريخ فكرها السياسي-؛ أن ندرس مَن ناضلوا في الشتات برفقة مفكرينا الأفارقة داخل القارة، فأبناء إفريقيا وُلِدُوا ليكونوا أحرارًا مناضلين رافضين العبودية لغير الله وحده.
فهذه القارة الشاسعة مترامية الأطراف الواقعة بين قارات العالم؛ حيث أوروبا في الشمال والأمريكتان في الغرب وآسيا في الشرق، تأبى أن تكون قارة يختلف أبناؤها أبيض أو أسود، شمالي أو جنوبي، شرقي أو غربي، على الإذعان أو الخضوع لمستعمر أتَى لمحو تاريخها العظيم وبثّ أفكاره الخبيثة لوَصْم أبناء القارة بدونية مقيتة عبر نظريات نُعِتَتْ كذبًا بالعلمية أو الفلسفية، وهي في الحقيقة أقل ما يُقال عنها: إنها عنصرية وُلِدَتْ من أجل تبرير أفكار وتوجهات إمبريالية توسعية هدفها استعباد قارة بها أعظم وأقدم حضارة عرفتها البشرية على مدار التاريخ، في وقتٍ كان فيه العالم يعيش في اللاتاريخ واللاحضارة.
ولا تزال إفريقيا حتى يومنا هذا مطمع لكل أُمَّة تسعى إلى أن تكون قوى عظمى، هذه القوى التي تأتي إليها بالوعود أحيانًا أو زعمًا بالاستثمارات بهدف نزح موارد إفريقيا لنقلها خارج القارة في شكلها الخام، أو ببثّ روح الفُرقة والعداوة بين دول القارة على الحدود أو الموارد، أو بين أبناء الدولة الواحدة على حسب الدِّين أو العِرْق أو الإثنية.
والآن في ظل صراع بين مَن تسمّي نفسها قوى عظمى، على الزعامة وسيادة العالم؛ نرى أن الرقم الصعب في هذا الصراع هو إفريقيا جغرافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، لذا لزامًا على إفريقيا أن تستغل هذه الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرر بأن لا تكون تابعة لشرق أو غرب أو شمال، فإفريقيا بتنوع جغرافيتها وطقسها وتربتها وبغزارة مواردها، وبتاريخها العظيم مُؤهَّلة لمرحلة جديدة من الاستقلال، بل لا أبالغ إذا قلت: إن إفريقيا مُؤهَّلة لقيادة العالم لأول مرة في التاريخ الحديث، ولِمَ لا؛ وهي مَن قادت العالم قديمًا، بحضارة لا زالت شاهدة على عظمة هذه القارة منذ آلاف السنين، حضارة لا تخطئها عين رغم مرور آلاف السنين؛ حيث الحضارة المصرية، وحضارة النوق، والإمبراطورية القرطاجية، وإمبراطورية سونغاي، وإمبراطورية مالي، ومملكة أكسيوم، ومملكة كوش، ومملكة بونت، وإمبراطورية زيمبابوي.
[i] Martin, Guy. African political thought. Springer, 2012.
[ii] GUY MARTIN: is Professor of Political Science at Winston-Salem State University, USA. He is the author of Africa in World Politics: A Pan-African Perspective (2002); co-editor (with Chris Alden) of South Africa and France: Towards a New Engagement in Africa? (2003); and co-author (with Mueni wa Muiu) of A New Paradigm of the African State: Fundi wa Afrika (2009).