وفَّر الإعلام أداة ناجعة في يد القوى السياسية والاقتصادية، باختلاف غاياتها وذيوعها؛ لخدمة مصالحها، وتقديم رؤية هذه القوى باعتبارها حقائق “مطلقة”؛ مما يؤدّي بدَوْره إلى ترسيخ هذه الرؤية وتعميقها، بل وصعوبة تجاوزها أو تقديم سردية مغايرة، إزاء تغوُّل نفوذ إعلام هذه القوى واستمرارية سرديته.
وتبدو هذه الملاحظة، التي تُعدّ بديهية راهنًا، قائمة في العديد من الأزمات الساخنة في عالم اليوم، مثل الحرب في غزة، وتبرير الإبادة الجارية فيها بحق الشعب الفلسطيني -ودون هوادة أو أدنى درجات مراعاة القانون الدولي-، بهجمات “حماس” قبل نحو عام ونصف، وتكريس الخطاب السياسي للقوى العالمية الأكبر (الولايات المتحدة) لمسألة اتخاذ قرارات عقابية بحق أغلب دول العالم بناء على سردية ماكينة إعلامية سلطوية، وممارسة ابتزاز سياسي واقتصادي تجاه جنوب إفريقيا على خلفية مواقفها المناهضة للعدوان الإسرائيلي في غزة (ضمن مسائل أخرى).
وكانت تجربة “وكالة الأخبار التلغرافية اليهودية”([1])، التي تأسَّست في العام 1917م، ولا تزال تعمل بقوة كبيرة حتى اليوم، كما يتضح في تغطيتها للحرب في غزة، ومواقف جنوب إفريقيا تجاهها؛ دالة على ذلك، وفي سياقات إفريقية متعددة في المقام الحالي.
وبقراءة أرشيف الوكالة، الغني للغاية ومتنوع مستويات الخطاب، يمكن تلمُّس توجهات “الوكالة” تجاه العديد من القضايا المعاصرة في وقتها؛ ومن ذلك مسألة الأبارتهيد في جنوب إفريقيا؛ إذ يكشف تناول الوكالة لهذه المسألة عن سردية سائدة إلى اليوم، تُعبِّر عن مصالح “يهودية” مطلقة وعابرة للجغرافيا السياسية، وقراءة “ملونة” للأحداث بما يخدم تلك المصالح وحدها.
ويسعى التناول الحالي لقراءة عينة من إنتاج “الوكالة” المعنيّ بجنوب إفريقيا في الفترة 1952- 1960م، أي مع قيام النظام العنصري المؤسسي بقيادة الحزب الوطني بزعامة رئيس الوزراء دانيال مالان، وقبيل تصويت إسرائيل “التاريخي” بإدانة الأبارتهيد “أخلاقيًّا” في الأمم المتحدة (1961م)؛ الأمر الذي أثار غضب هندريك فيرفورد رئيس الوزراء الجنوب إفريقي وقتها، والمهندس الحقيقي لنظام الأبارتهيد.
وكالة الأخبار التلغرافية اليهودية: لمحة عامة
تأسَّست الوكالة في “لاهاي” في هولندا في عام 1917م، بمبادرة من صحافيين يهوديين هما يعقوب لنداو ومائير غروسمان. وكان هدفهما الأساس([2]): “نشر المعلومة السياسية والاقتصادية واليهودية بكافة أشكالها في أوساط الجاليات اليهودية في العالم”. وكان تصريح بلفور (2 نوفمبر 1917م) من الأخبار الأولى التي تناقلتها الوكالة.
وعلى نحوٍ يتَّسق مع رسالة الوكالة وغايتها في خدمة المصالح اليهودية؛ قامت إدارتها بنقل مكاتبها إلى لندن في عام 1919م لتكون قريبة من مصادر صُنع القرار في العالم، مع إدراك القيادات اليهودية أهمية أن تكون قريبة من هذا المكان لتنال حظوةً ولتنال نصيبًا أكبر من فلسطين؛ لتحقيق المشروع الصهيوني.
إلا أن الوكالة أدركت لاحقًا أن للولايات المتحدة تأثيرًا سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا كبيرًا في العالم؛ فقامت بنقل مكاتبها إلى نيويورك في عام 1935م. وبدأت الوكالة بتزويد مكثَّف للأخبار عن الجاليات اليهودية للصحف الأمريكية المحلية المنتشرة في كبريات المدن الأمريكية، مما ساهم في زيادة منسوب تعاطف الأمريكيين مع اليهود، وما يدّعونه من وجود قضية يهودية. وتم تأسيس فرع للوكالة في فلسطين في عام 1934م في تل أبيب.
وكانت جنوب إفريقيا، التي ضمَّت واحدة من أكبر الجاليات اليهودية في بلد واحد في العالم، في بؤرة اهتمام الوكالة؛ لأسباب متنوعة، تتجاوز مجرد الاهتمام بهذه الجالية، إلى موقع جنوب إفريقيا في السياسة الدولية، ولا سيما الصراع في الشرق الأوسط بعد حرب السويس 1956م، في ضوء الصلة الوثيقة بين هذه الحرب ومكانة جنوب إفريقيا؛ وفق رؤية الوكالة والجهات الداعمة لها.
تعود جذور الجماعة اليهودية في جنوب إفريقيا([3]) إلى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، مع وصول أعداد صغيرة من اليهود من المملكة المتحدة وألمانيا، واستقرارهم في إقليمي الكيب الغربي والكيب الشرقي الحاليين. وقُدِّر عدد اليهود في العام 1880م في جنوب إفريقيا بأربعة آلاف شخص، وتضاعف الرقم مع تدفق هجرات اليهود من أوروبا الشرقية (ولا سيما من ليتوانيا والمناطق المجاورة لها)، وتجاوز عدد اليهود في جنوب إفريقيا عشية الحرب العالمية الثانية حاجز 90 ألف نسمة. وهكذا كانت تغطية الوكالة للأحداث ذات الصلة بجنوب إفريقيا وجماعتها اليهودية منطقية تمامًا، لكنّها ظلت تغطية أحادية باستمرار؛ أي: تُركِّز على مصالح الجماعة اليهودية، وتبرير خياراتها وارتباطاتها بإسرائيل، كما تكشف قراءة مادة الوكالة المتعلقة بالعنصرية ومظاهرها في جنوب إفريقيا في العينة التي نتناولها هنا (1952- 1960م).
الوكالة واليهود والأبارتهيد: صوت بلا ضمير!
أصدرت الوكالة نشرة شهيرة ومتنوعة المصادر والمراسلين باسم Daily News Bulletin؛ لتغطية أنباء الجاليات اليهودية في العالم أجمع؛ واتسمت التغطية بشكل عام بإبراز الشأن الإسرائيلي بعد قيام دولة إسرائيل، وعلاقاتها بالعالم الخارجي. وفيما يخص جنوب إفريقيا، ومسألة الأبارتهيد تحديدًا، فإن القراءة السريعة لأخبار الأبارتهيد في هذه النشرة تكشف عن انتقائية واضحة للغاية في توصيفها كظاهرة، دون تجاوز إدانتها أحيانًا من الناحية الأخلاقية، وفي سياق توتر نادر في العلاقات بين النظام العنصري في جنوب إفريقيا وإسرائيل مطلع الستينيات.
ففي عدد 23 يونيو 1952م([4]) ورد خبر عن اعتذار ب. أ. ستوفبرج، وهو أحد قادة الحزب الوطني الحاكم وعضو مجلس الترانسفال، عن ملاحظة لأحد أفراد الحزب بالإقليم بخصوص الجماعة اليهودية في جنوب إفريقيا عُدَّت تعبيرًا عن معاداة السامية (دون توضيح لمضمونها)، وفصل الخبر كلمة تلت هذا الاعتذار ألقاها دكتور ثيو فاسينار T. Wassenaar (عضو اللجنة التنفيذية الوطنية للحزب الحاكم)، معلنًا فيها تكاتف البريطانيين والبوير واليهود معًا حال مواجهة أخطار أخرى من “الشمال” (ربما في إشارة للمحيط الإفريقي بجنوب إفريقيا)، مضيفًا “أننا جميعًا نؤمن بالأبارتهيد… وعندما تحدق بنا الأخطار سننسى خلافاتنا”، كما أبدى فاسينار أكبر احترام لليهود الذين وصفهم بأنهم “الأعظم وطنية في العالم، وهم يشبهون في ذلك الحزب الوطني. وأن تعاونهم (معًا) بات ضرورةً للحفاظ على مجمل الحضارة (الجنوب إفريقية)”. ويُلاحَظ أن النشرة لم تُبْدِ تعليقًا أو تحفُّظًا أو استدراكًا على مثل تلك الملاحظات؛ مما يعني قبولًا لمثل هذه الآراء.
في المقابل رصدت النشرة لاحقًا (21 نوفمبر 1952م)([5]) موقفًا إسرائيليًّا مناهضًا للأبارتهيد، تمثل في تصويت تل أبيب لصالح قيام الأمم المتحدة بتحقيق في الوضع العرقي في جنوب إفريقيا، وذلك بعد نهاية فترة عمل اللجنة الأممية السياسية الخاصة في النظر في قوانين الأبارتهيد في جنوب إفريقيا. وهو القرار الذي صوَّتت لصالحه 35 دولة، وعارضته دولتان فقط، فيما امتنعت عن التصويت 22 دولة. لكنَّ النشرة لاحظت تقديم إسرائيل تعديل (تم رفضه بأغلبية الأصوات) على القرار تضمن رفع سلطات التحقيق ما تتوصل له للأمين العام مباشرة ليقوم بنقلها للدول الأعضاء. لكن الأغلبية في الأمم المتحدة اتفقت على تقديم تلك الخلاصات في أعمال الدورة الثامنة للجمعية العامة.
كما رصدت النشرة في فبراير 1955م([6]) تعهُّد رئيس الوزراء الجنوب إفريقي (السابق وقتها) د. دانيال ف. مالان، مهندس تطبيق الأبارتهيد بعد 1948م، لليهود بأن حقوقهم كاملة، وتُعادل حقوق بقية سكان البلاد البيض، والتي نقلها خلفه يوهانز ستريدوم لمراسل الوكالة في جنوب إفريقيا. ويُلاحَظ تعبير النشرة عن قلق الوكالة “من التقارير الواردة في صحف أجنبية معينة تُعبِّر عن سوء تناول حكومة الاتحاد (الجنوب إفريقية) لأحوال اليهود في البلاد، وأنها (الوكالة) تتطلع لتلقّي بيان رسمي من رئيس الوزراء الجديد بخصوص: ما هو موقف حكومته من المواطنين اليهود؟
ويكشف هذا التحليل عن السلطة الإعلامية الكبيرة التي نالتها الوكالة في جنوب إفريقيا وخارجها، وتبنيها خطًا سياسيًّا عمليًّا، أي عدم اقتصار رسالتها على تغطية الأحداث وتحليلها. وطرح مراسل الوكالة في جنوب إفريقيان الصحفي الكبير إدجار برنشتاين، سؤالًا على ستريدوم عن مدى تأثير تحوُّل جنوب إفريقيا إلى جمهورية (الأمر الذي لم يتم إلا بعد نحو ستة أعوام، في 1961م)، على وضع اليهود، وأجاب ستريدوم، في لهجة تبدو خانعة تجاه السؤال على نحوٍ دالٍّ، بأن قيام جمهورية جنوب إفريقية (وخروج البلاد من الكومنولث البريطاني) لن يُحْدِث أيّ تغيير في وضع (الجماعة اليهودية)؛ إذ “ستكون الجمهورية جمهورية ديمقراطية بمساواة كاملة لجميع المواطنين (البيض)”.
كما فصل ستريدوم خطط الحزب الوطني الذي يقوده ومدى تأثير عقيدته المسيحية على بقية مكونات المجتمع الأبيض غير المسيحيين، ولفت في إشارة بالغة الخطورة إلى أن التحول لجمهورية لن يتم في دور انعقاد البرلمان الحالي وقتها، مما كشف أوراق حزبه وسياساته المستقبلية بلا مقابل تقريبًا.
وتبدو انتقائية تناول الوكالة واضحة في بقية التغطية الراهنة. وعلى سبيل المثال سلَّطت النشرة (14 مايو 1957م)([7]) الضوء على مقال للدكتور لويس رابينوفتز L. Rabinowitz، كبير حاخامات اتحاد المعابد اليهودية في جنوب إفريقيا، تحدَّى فيه، بحسب سرد النشرة، “الحكومة الوطنية لجنوب إفريقيا في محاولاتها لمدّ سياسة الأبارتهيد (التفرقة) إلى الدين. وحللت النشر المقال النشور في دورية Zionist Record ورفضه تعديل الحكومة على أحد القوانين لمنع “الزنوج من كنائس البيض في البلاد”، وأنه رغم عدم وجود يهود من زنوج البلاد فإن المعابد اليهودية ستظل مفتوحة أمام أي يهودي غير أوروبي، في إشارة لليهود اليمنيين والكوشيين (بحسب تسمية سائدة حينذاك ليهود السودان والقرن الإفريقي) ويهود هارلم الزنوج، ويهود الفالاشا الإثيوبيين”؛ لأن اليهودية “لا تميز بين الأبيض والأسود”.
ورغم أن هذا الموقف يسري على اليهود بشكل أساسي، وأنه لا يوجد يهود زنوج (يقصد سكان جنوب إفريقيا السود)؛ فإن الموقف القوي كان يُقصَد به بطبيعة الحال ضمان حرية التعبُّد لجميع “اليهود”، ولا يمثل إدانة عملية لنظام الأبارتهيد. كما أن هذا المقال لم يكن متبوعًا بمواقف على الأرض لمناهضة الأبارتهيد إلا في حدود ما أتاحته هوامش الخلافات البريطانية-الجنوب إفريقية في نهاية الخمسينيات، ومع قيام الجمهورية في جنوب إفريقيا وما عَنَته من حرمان جماعات من البيض (من غير البوير- الأفريكانر) من سلطات متميزة لصالح سلطة أكبر للدولة المركزية.
وتتضح جدية هذه الهوامش في استضافة لندن لمؤتمر ديني (مايو 1960م، في أجواء مخاوف بريطانيا من إعلان الجمهورية في جنوب إفريقيا)، أدان بحسب النشرة (18 مايو)([8]) سياسة الأبارتهيد في جنوب إفريقيا.
وقد أوردت النشرة إدانة كبير حاخامات الكومنولث البريطاني د. إسرائيل برودي I. Brodie وتأكيده تضامن قادة اليهود الدينيون في بريطانيا مع أقرانهم في جنوب إفريقيا “الذين صدحوا بأصواتهم لمناهضة الأبارتهيد”. وأعرب عن أمله في “تعديل حكومة جنوب إفريقيا وأنسنتها “modify and humanise” لسياسة الأبارتهيد التي تقوم بها”، في جملة بالغة الغرابة، وتفتقد لسياق حقيقي يمكن فهمها خلاله.
على أيّ حال فإنه يمكن فهم هذا الموقف، والذي تلاه قرار للجماعة اليهودية في بولوجنا بإيطاليا بإدانة حكومة جنوب إفريقيا ودعوته لجميع الحكومات والمؤسسات الخاصة في أرجاء العالم لدعم “قتال زنوج جنوب إفريقيا من أجل المساواة”، على أنه يأتي في سياق بذل ضغوط على حكومة جنوب إفريقيا لأغراض سياسية واقتصادية في المقام الأول، وليس انطلاقًا من مناهضة مبدئية للأبارتهيد أو انحيازًا جادًّا تجاه حركة التحرر الوطني الإفريقي.
ختامًا، تكشف قراءة سريعة للمادة الإعلامية لوكالة الأخبار التلغرافية اليهودية بخصوص الأبارتهيد في جنوب إفريقيا، أن هذه المادة كانت مُعبِّرة بالأساس عن مصالح الجماعة اليهودية في هذا البلد الإفريقي، وارتباطاتها الغربية الواضحة. وأنه رغم علوّ صوت الوكالة وثراء مادتها على مدار عقود ممتدة، إلا أن هذا الصوت خلا من وجود ضمير حقيقي، واكتفى بضمير “مستعار” تتخفَّى خلفه مصالح وارتباطات اقتصادية وسياسية وأيديولوجية غربية في جنوب إفريقيا.
…………………………………………
[1]– راجع موقع الوكالة الذي يضم أرشيفًا غنيًا للغاية:Jewish Telegraphic Agency https://www.jta.org/
[2]– موسوعة المصطلحات: مدار- بيديا، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية
[3] SA Jewish history, SAJBD https://www.sajbd.org/pages/sa-jewish-history