روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
“اليوم قد نبدو صغارًا، وقد لا يؤمن الناس بنا، لكننا سنجبرهم على الإيمان بنا من خلال إنجازاتنا”؛ هكذا قال توني إلوميلو أحد روّاد الأعمال والاقتصاديين الأفارقة.([1])
وفي ظل متغيرات عالمية متسارعة تقف الدول الكبرى والقوى العظمى على شفا جرف هارٍ، تظهر فيه الأجندات السياسية على حقيقتها، وترسم معالم مستقبلٍ جديد قد تختفي فيه دولٌ وتبرز أخرى.
ووسط هذا الواقع المضطرب، يبدو أن هناك فرصًا تلوح في الأفق للقارة السمراء، القارة الواعدة الشابة، التي تملك الإنسان والثروة، لكنها لا تملك القرار والإرادة الحرّة.
في هذا التحقيق تتعرض “قراءات إفريقية” للمتغيرات الحالية في النظام الدولي، ومستقبل أمريكا كقوة عظمى، وتأثير ذلك على القارة الإفريقية، وكيف يمكن أن يستفيد الأفارقة من هذه المتغيرات الدولية؟
أمريكا أولًا!
في الفترة الأخيرة تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية للعديد من التحديات التي تهدّد مستقبلها كقوة عظمى، لكن ولاية الرئيس ترامب التي بدأت منذ أشهر فقط ضاعفت هذه التحديات والمخاطر؛ حيث يرى الخبراء أن مستقبل النظام العالمي الذي تبلور على مدى ثمانية عقود في ظل هيمنة الولايات المتحدة أصبح على المحكّ؛ النظام الذي كان قائمًا على التجارة الحرة وسيادة القانون واحترام السلامة الإقليمية.
ففي عهد ترامب، الذي يحتقر المنظمات متعددة الأطراف، وينظر إلى الشؤون العالمية بعقلية رجل الأعمال؛ نجد النظام العالمي يتعرض لاهتزازات قوية، فقد أدَّت سياسة “أمريكا أولًا” إلى نفور الأصدقاء وجرأة الخصوم.
وقد اتهم ترامب شركاءه التجاريين بنهب الولايات المتحدة على مدى عقود من الزمن، وبدأ في تطبيق سياسة رسوم جمركية شاملة أدَّت إلى اضطراب الأسواق المالية وإضعاف الدولار وإثارة تحذيرات من تباطؤ الناتج الاقتصادي العالمي وزيادة خطر الركود.
في هذا الصدد يقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة سكاريا التركية، د. محمد سليمان الزواوي، في حديثه لـ“قراءات إفريقية”: إن أمريكا سوف تبقى قوة عظمى لفترة من الزمن بسبب الصناعات الدفاعية الكبرى التي تملكها والجيوش والتقنيات المتقدمة، لكن صعود الصين ربما يُعجّل من المنافسة العسكرية، فالتغيُّر قد يحدث في بنية النظام الدولي في حال حدثت مواجهة بين الصين وحلفائها، وبين الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة بحر الصين الجنوبي.
وأشار “الزواوي” إلى الصعود العسكري البطيء للصين لتحتل مكانتها في النظام الدولي، فقد أصبحت الصين تمتلك أكبر قطع بحرية في العالم متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية، كما أثبتت الطائرات الصينية تفوقها في المناوشات الأخيرة بين باكستان والهند، وتفوقت الصناعات العسكرية الصينية سواء فيما يتعلق بالطائرات جي20 أو الصواريخ أو أنظمة الاستطلاع، وهذا مؤشر على صعود الصين لتحتل مكانة كبيرة في الصناعات الدفاعية، وهذا سيؤثر على مكانتها في النظام الدولي.
ورغم بقاء أمريكا كقوة عظمى يعتقد “الزواوي” أن التحالفات ستتأثر في عهد ترامب، وعلى رأسها حلف شمال الأطلسي؛ بسبب السياسات غير المتزنة للرئيس الأمريكي الذي يرى العالم من منظور تجاري ومالي، وهذا يمكن أن يُقوّض العلاقات مع دول الحلف؛ لأنه يضع المال قبل الأمن الدفاعي لهذا الحلف، ومِن ثَم قد تواجه أمريكا تدهورًا في القدرة على بسط نفوذها حول العالم.
ومن جهة أخرى، فإن تغيُّر أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة أدَّى إلى تراجع العلاقات مع إفريقيا كأحد أهم ساحات النفوذ، ووسط هذا التراجع الغربي ينفتح الباب أمام قوى أخرى لبسط نفوذها مثل الصين وروسيا وتركيا.
ويرى “الزواوي” أن النفوذ الغربي تأثر بصفة عامة بسبب الصورة التي بدت واضحة عن استنزاف الغرب لقدرات وموارد إفريقيا واعطائها الفتات، وأن وجود لاعبين جدد سيوفّر بدائل لإفريقيا وتنويعًا لمصادر القوة، وستحصل على عروض تجارية أكبر مما يؤدي إلى زيادة التنافسية، وكلما زادت التنافسية زادت قدرة إفريقيا على الاختيار.
نحو عالم متعدد الأقطاب:
يرى هنري كيسنجر([2])، وزير الخارجية الأمريكي سابقًا، أن الولايات المتحدة ليس بمقدورها الانفراد بإدارة العالم في ظل التحديات الجديدة، وأن النظام العالمي الجديد يجب أن يكون متعدد الأقطاب، مشتركًا بين الولايات المتحدة والصين، وأن الاقتصاد العالمي يجب أن يسوده اقتصاد السوق.
في هذا الإطار يمكن القول: إنّ التحولات المتوقعة على صعيد بنية النظام الدولي يتجه نحو منظومة دولية متعددة الأقطاب، وإن ما يقوم به ترامب هو عملية تسريع لمعادلة قادمة ليس فيها طرف واحد مهيمن.
وهناك شواهد على الساحة الإفريقية؛ ففي عام 2023م أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لإفريقيا، بحجم تجارة تجاوز 282 مليار دولار، وفي دول مثل إثيوبيا وكينيا ونيجيريا؛ أحدثت الاستثمارات الصينية نقلةً نوعيةً في البنية التحتية، مما أدى إلى بناء طرق سريعة ومطارات ومناطق صناعية ساهمت في تعزيز النمو الاقتصادي، ويتناقض هذا بشكلٍ صارخ مع المساعدات الغربية التي غالبًا ما تكون مشروطة بإصلاحات سياسية ومعايير حقوق الإنسان.
وقد لاقى نهج الصين “غير المشروط” استحسانًا لدى حكومات إفريقيا الساعية إلى مزيد من الاستقلالية في صنع القرار، ومع ذلك يُحذّر المنتقدون من أن هذا النموذج ليس خاليًا من المخاطر، فالقروض الصينية وخاصةً تلك المخصصة للبنية التحتية غالبًا ما تؤدي إلى تراكم الديون، ومنها إلى الاستغلال والسيطرة على الدول الإفريقية.
كما أن ازدواجية المعايير الغربية في تطبيق القانون الدولي قد يُسرّع من وتيرة هذا التحول، فالتناقض بين ردّ الغرب القوي على الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022م، وتقاعسه في الحرب على غزة والصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ كان دليلًا على أن الغرب يطبق القانون الدولي بشكل انتقائي عندما يتوافق مع مصالحه الجيوسياسية، وعليه قد تسعى الدول إلى أُطُر بديلة توفر معاملة أكثر إنصافًا.
في هذا السياق يؤكد رئيس المعهد التركي العربي الإفريقي للدراسات الإستراتيجية بأنقرة، د. محمد العادل، أن الصين تنتهج إستراتيجية واضحة في إفريقيا بعيدًا عن حسابات الولايات المتحدة الأمريكية، ويرى أنها نجحت في التمركز في معظم الدول الإفريقية، وقرأت بشكل جيد احتياجات الأفارقة، وقدمت لهم خدمات مغرية مقارنة بالتكلف الأوروبي والأمريكي الذي يفرض خيارات سياسية معينة.
وأردف أن الصين تركز على مصالحها الاقتصادية، وأنها حين تقدّم قرضًا للدول الإفريقية فهي تركز على الاستفادة من تنفيذ الشركات الصينية لهذه المشاريع، وهذا يفتح لها الباب لمشاريع جديدة وتموقع اقتصادي وتجاري أكبر، ولا شك أن انشغال أمريكا سيفتح لها مجالًا أوسع.
وقال “العادل” في حديثه لـ“قراءات إفريقية”: إن الجانب الإفريقي بدأ ينهض بطريقة مفاجئة والتحولات السياسية والعسكرية التي حدثت مؤخرًا في عدد من الدول الإفريقية؛ تُنبئ أن إفريقيا تتغير والشعوب الإفريقية أيضًا تتغير، وأصبح هناك طموحات جديدة للاستقلال الفعلي عن المستعمر القديم.
وأشار “العادل” إلى توجهات وطنية إفريقية جديدة، ليس فقط الانقلابات الأخيرة في دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ ولكن تحولات ثقافية وحضارية مهمة تدعو إلى “أفرقة” كل شيء، مثل الحضارة الإفريقية واللغات الإفريقية والمصالح الوطنية الإفريقية والتحالفات الإفريقية-الإفريقية، وهذه التوجهات الجديدة قد لا تكون اكتملت، لكنّها بداية صحيّة جيدة.
وعليه يعتقد “العادل” أن الدول الإفريقية ليست مُجبرة أن تتوجه نحو الصين وروسيا؛ لأن الأطراف الأوروبية والأمريكية تراجعت، فالمصلحة تقتضي التوازن بين جميع الأطراف الإقليمية والدولية، وليس قَدر إفريقيا أن تتأرجح بين الطرف الأوروبي الأمريكي أو الطرف الصيني الروسي، بل يجب أن يكون لها خياراتها الوطنية التي تنطلق من مصالحها الإستراتيجية، وأنها إذا ظلت مُرتهنة للخيارات الأمريكية أو الصينية، فهذا لن يخدم الشعوب الإفريقية.
القطب الإفريقي واستغلال الفرص:
تمتلك القارة الإفريقية إمكانيات هائلة تُمكّنها من احتلال مكانة أقوى مركز للعالم الناشئ متعدد الأقطاب، حيث يلتقي العالم الإفريقي بالعالم العربي الإسلامي، كما تضم العديد من الشعوب الأصيلة والثقافات والأعراق والتيارات الدينية والتاريخ القديم المتنوع، فضلًا عن الشعور الداخلي بالمصير المشترك والإيمان بالمستقبل الواحد والرغبة في التنمية المتبادلة والتطلعات للتكامل الاقتصادي والسياسي، وامتلاكها للثروات الطبيعية، كل ذلك يجعل إفريقيا كيانًا جيوسياسيًّا متكاملاً وجزءًا من نظام المستقبل متعدد الأقطاب.
فلدى إفريقيا كافة مقومات التحوّل إلى مركز سيادي قوي، وتعتبر مخزنًا حقيقيًّا لثروات الأرض؛ إذ يوجد بها 30% من موارد العالم المعدنية، بما فيها من معادن ثمينة وأحجار كريمة، إضافة إلى الكروم والبوكسيت والكوبالت واليورانيوم والليثيوم والمنجنيز والفحم والعناصر الأرضية النادرة، وبفضل موقعها الجغرافي تتمتع بإمكانية الوصول المباشر إلى ممرات النقل العالمية، وخاصة الممرات العابرة للمحيطات.
ويمكن القول: إن إفريقيا هي قارة المستقبل من حيث عدد السكان البالغ مليار ونصف المليار نسمة، وتتفوق كذلك بمقياس التركيبة العمرية؛ إذ نجد نصف الأفارقة دون سنّ العشرين، وتشير التقديرات إلى أن عدد سكان القارة سيصل إلى ملياري ونصف المليار نسمة بحلول عام 2050م، وهو ما يعني أن كل رابع شخص على وجه الأرض سيكون إفريقيًّا.
في حديثه لـ“قراءات إفريقية”، يقول الباحث النيجيري المتخصص في الشؤون الإفريقية، د. حكيم نجم الدين: يمكن لإفريقيا أن تكون أساسًا أو فاعلاً في النظام الدولي متعدد الأقطاب بالنظر إلى الإمكانيات الاقتصادية لإفريقيا، وخاصة الموارد الطبيعية مثل الكوبالت والبلاتين والذهب والمعادن النادرة، وغيرها؛ والقدرة الزراعية وتركيبة القارة السكانية، والنمو الرقمي والطاقة الخضراء.
ولكي تكون إفريقيا قطبًا أو طرفًا فاعلًا في هذا النظام بحسب “نجم الدين”؛ فهي تحتاج إلى تكامل اقتصادي أكبر من خلال الاستفادة من الأطر الحالية مثل منطقة التجارة الحرة الإفريقية، وإلى بناء قدرة الدول الإفريقية على إدارة مواردها ومقاومة الشَراكات الاستغلالية، وهذا يتطلب تقوية المؤسسات الإقليمية والقارية مثل الاتحاد الإفريقي، والمجتمعات الاقتصادية الإقليمية مثل إيكواس وسادك وإيغاد وغيرها، بهدف تنسيق رؤية دبلوماسية مشتركة بشأن القضايا العالمية.
وأكد “نجم الدين” على أن الدول الإفريقية إذا أرادت الاستفادة من المتغيرات في النظام العالمي يجب عليها أن تسلك نهجًا إستراتيجيًّا مختلفًا، يبدأ بتنويع الشراكات والتحول عن العلاقات التي تُركّز على المساعدات، والتوجُّه أكثر نحو شراكات تُركّز على التجارة والاستثمار، وأن الأفارقة يمكنهم الاستفادة من معادنهم الحيوية من خلال الإصرار على إضافة القيمة والمعالجة المحلية لهذه المعادن، بدلاً من مجرد تصديرها كمواد خام.
وأردف “نجم الدين” أن الأفارقة مضطرون إلى تعزيز القدرات الداخلية من خلال الاستثمار في البنية التحتية، وتنمية رأس المال البشري، والحوكمة الرشيدة والاستقرار، وتثبيت السيادة الرقمية والتكنولوجية، وأن الحكومات الإفريقية يجب عليها التركيز على الأولويات الاقتصادية والتنموية؛ مثل التصنيع والأمن الغذائي والمعالجة الزراعية، وتخفيف الديون وإصلاح البنية المالية.
إن الصيغ التي يمكن أن تكون مجدية وناجحة في القارة الإفريقية هي الصِّيغ التي لا يتم إملاؤها من الخارج، بل التي يطوّرها الأفارقة أنفسهم، أو ما يطلق عليه “الحلول الإفريقية-الإفريقية”، وهذا لا يتحقق إلا بالاستقرار السياسي في الدول الإفريقية، والتداول السلمي للسلطة، وإرساء دعائم الديمقراطية.
وختامًا.. فإن دور إفريقيا يتزايد في السياسة العالمية باستمرار، وتبقى إفريقيا بين مصيرين؛ إما أن تبقى تابعةً للقوة العظمى مهما اختلف مسماها، وإما أن تستغل الفرصة من المتغيرات في النظام الدولي وتنهض بكل ما تملكه من إمكانيات لتعزيز دورها كإحدى أقطاب النظام العالمي الجديد.
يقول الشاعر السوداني محيي الدين فارس عن إفريقيا([3]):
إفريقيا المضيئة المظلمة... إفريقيا يا آخر الملحمة
يا ثورة مجنونة في الدجى … تأهبت للجولة القادمة
…………………
[1] https://www.tonyelumelufoundation.org/articles/tony-o-elumelu
[2] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%87%D9%86%D8%B1%D9%8A_%D9%83%D9%8A%D8%B3%D9%86%D8%AC%D8%B1
[3] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AD%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86_%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3