في مشهد ليس بغريب على أروقة السياسة الأفريقية، قرر رئيس توجو “فوري جناسينجبي” Faure Gnassingbé، احتكار كل السلطات، وجعل ولاياته الرئاسية تمتد مدي الحياة، ليكون امتداداً لحكم العائلة، الذي بدأه والده “جناسينجبي إياديما” Gnassingbé Eyadéma، حينما استولي على السلطة في بلاده، عن طريق انقلاب عسكري قاده في 13 يناير 1967م.
فعلى طريق الديكتاتورية والحكم المطلق سار “جناسينجبي” الأب، وعلى خطاه وهَدْيَه سار “جناسينجبي” الابن، فكان الأب قد عدَّل الدستور، بما يلغي حدود الولايات الرئاسية، ليستمر إلى الأبد في منصبه، وبعد وفاته رشح حزبه الحاكم ابنه “فوري”، فخلف أباه في ولايات رئاسية مفتوحة، ثم عدَّل الدستور ثم استبدل به دستوراً جديداً، ليحتكر كل صلاحيات السلطة التنفيذية، وليبقي في السلطة مدي الحياة، وتسعي هذه الورقة، إلى رصد وتحليل وتفسير رحلة الدكتاتورية، التي قطعت العائلة الحاكمة في توجو فيها شوطا كبيراً، وصولاً إلى استشراف المألات المستقبلية، لهذا المسلك الدكتاتوري، عبر المحاور التالية:
كيف امتد حكم العائلة في توجو لمدة 58 عاماً:
عبر رحلة طويلة من الإجراءات غير الديمقراطية، أسست عائلة “إياديما” لدكتاتوريتها وحكمها المطلق في توجو، والمستمر حتي الأن للأكثر من 58 عاما.
- المسار الدكتاتوري للأب
شارك الضابط بالجيش التوجولي “إتيان أياديما” Étienne Eyadéma، في انقلاب عسكري على الرئيس “سلفايانوس أوليمبيو” Sylvanus Olympio عام 1963م، وأثناء ملاحقته للرئيس أطلق عليه النار،([1]) وفي عام 1967 قاد انقلاباً عسكرياً، على الرئيس “نيكولاس جرونتسكي” Nicolas Grunitzky، وعلى إثره ترأس البلاد، وحل جميع الأحزاب والكيانات السياسية، وسمح بحزب واحد فقط، هو حزبه “تجمع الشعب التوجولي” Rally of the Togolese People، وغير اسمه الشخصي الأول من “إتيان” إلى “جناسنجبي”.([2])
أحْكَم “جناسينجبي” قبضته، على السلطة والحياة السياسية برمتها، بدعم من فرنسا ومن جماعته الاثنية، وولاء ودعم كامل من الجيش التوجولي، فضلا عن دعم بارونات حزبه الحاكم، المستفيدين من استمرار الحكم الدكتاتوري، ففي بادئ الأمر بعد الاستقلال، وأد “جناسنجبي” التجربة الديمقراطية التوجولية القصيرة، وحَظَر التعددية الحزبية، وعمد إلى قمع المعارضة بكل وحشية، حيث أخفي عشرات الآلاف منهم قسريا، وأعْدَم كثير منهم دون محاكمة، مستعينا بإثنيته “كابي” Kabyé الموالية والداعمة له تماما، وهو ما حدا بمئات الآلاف من المعارضة إلى الفرار إلى الخارج، ومع مزيد من الضغوط الداخلية والخارجية، رضخ “جناسينبي” إلى مطالب المعارضة، بالتحول نحو الديمقراطية، وسمح بالتعددية الحزبية أوائل التسعينيات، لكنه صادر على ذلك بمزيد من إراقة الدماء، وانتهاك الحقوق والحريات.([3])
وقد شهدت مدة حكم الرئيس “جناسينجبي أياديما”، موجات متعاقبة من الاحتجاجات الشعبية الشديدة، التي تقودها المعارضة التوجولية، قُوبِلت بكل حزم وبقوة مفرطة، راح ضحيتها آلاف الأرواح والمصابين والنازحين واللاجئين، وقد تسبب ذلك القمع في تعرض “جناسينجبي”، لعدة محاولات اغتيال كادت أن تودي بحياته، لدرجة أنه احتفظ برصاصة كتميمة، كان قد استخرجها من جسده جَرَّاحه المعالج.([4])
في 5 فبراير 2005 توفي “جناسنجبي أياديما”، ووفقا للدستور التوجولي، يتولى الرئاسة رئيس البرلمان، غير أن الجيش عين الإبن “فوري جناسنجبي” رئيساً، في تحد صريح لنصوص الدستور، ولاقى ذلك معارضة واحتجاجات داخلية شديدة، فضلا عن ما ترتب على ذلك من عقوبات، فرضتها “المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا” “ايكواس” Economic Community of West African States “ECOWAS” على توجو، حيث علقت عضويتها في المجموعة، وحظرت سفر مسئوليها عبر المجموعة، واستدعت السفراء المعتمدين في العاصمة لومي، كما حظرت بيع الأسلحة لتوجو، وهو ما حدا بالجيش والحزب الحاكم إلى ترتيب استقالة “فور جناسنجبي”، وتغييب رئيس البرلمان “فامبريه واتارا” Fambaré Ouattara، المعترض على رئاسة “فوري”، وقاموا بعزله، وتعيين نائبه الأول “بونيفوه عباس” Bonfoh Abass، رئيسا للبرلمان ومن ثم رئيسا للبلاد بالنيابة، إلى حين إجراء انتخابات رئاسية خلال (60) يوما، وعلى الفور ترشح “فوري جناسنجبي” للرئاسة، وأجريت الانتخابات في 24 أبريل 2005م وفاز بها “فوري”.([5])
- المسار الدكتاتوري للابن
سار “فوري” على نهج أبيه، فقد عمد إلي تعديل الدستور، وقام بحل حزب أبيه الحاكم، وأعاد تسميته بـ “الاتحاد من أجل الجمهورية” Union for the Republic، واستمر في قمع ومواجهة المعارضة بكل قوة مفرطة، وتحت ضغط واحتجاجات المعارضة، عدل الدستور في ولايته الثالثة عام 2019م، ليضع حداً للولايات الرئاسية، وحددها باثنتين تحسب بدئا من انتخابات عام 2020م.([6])
وتخطيطاً لتأبيد سلطته، مرر “فوري” دستوراً جديداً في أبريل من عام 2024م، عَبْرَ سيطرة حزبه الحاكم على البرلمان، غير بموجبه نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني، وجعل انتخاب الرئيس يتم بطريق الاقتراع غير المباشر من قبل البرلمان، قلص صلاحيات الرئيس تماماً، وعَبْرَ التصويت غير المباشر للبرلمان، فاز بالرئاسة الشرفية “جان لوسيان دي توفي”، ولما كان الدستور الجديد، ينص علي أن الحزب صاحب الأغلبية في البرلمان، يعين رأس السلطة التنفيذية (رئيس مجلس الوزراء)، فقد عين الحزب الحاكم رئيسه (جناسنجبي الإبن)، رئيسا لمجلس الوزراء وهو منصب لا حدود زمنية لولاياته، وبهذا احتكر “فوري جناسنجبي” كافة صلاحيات السلطة التنفيذية في يده، وضمن بقاءه في السلطة (الفعلية) مدي حياته، دون مخالفة دستورية.([7])
موقف الشعب التوجولي وقادة المعارضة:
تنبئ كل المؤشرات في كافة التقارير، التي تناولت الشأن السياسي التوجولي، بأن غالبية الشعب في توجو غير راض عن حكم عائلة “إياديما”، القابض على السلطة لأكثر من (58) عاما حتي الآن، وكثيراً ما خرج المعارضون احتجاجاً على سياسات ذلك الحكم الشمولي، لكنه قوبل بكل وحشية، ففي إحدى موجات الاحتجاج، التي خرجت رفضاً لسياسات الرئيس “جناسينجبي إياديما” (الأب)، أطلق أفراد من قوات الأمن النار، على متظاهرين سلميين في 25 يناير 1993م، ما أسفر عن مقتل (19) شخصا على الأقل، وفي الأيام التي تلت ذلك تعرض الكثير من قوات الأمن للهجوم، من قِبَل معارضين مدنيين وقتل وأصيب بعضهم، وفي 30 يناير 1994م قامت عناصر من الجيش، بجولة لمدة (8) ساعات في جميع أنحاء لومي، أطلقوا فيها النار بشكل عشوائي، فقتلوا ما لا يقل عن (12) شخصاً، وحدا هذا القمع بأكثر من (300) ألف توجولي، إلى الفرار من لومي إلى بنين أو غانا أو داخل توجو.([8])
وقد تواصلت موجات احتجاج غالبية الشعب التوجولي، في عهد “فوري جناسنجبي” (الإبن) رفضا لسياساته، وهو ما زاد “فوري” وحزبه وحكومته، وقواته العسكرية والشرطية وحشية ودموية، ومن أكثر المواجهات دموية: ما حدث في سبتمبر 2017 حينما خرج المعارضون التوجوليون، احتجاجاً على سياسات “فوري”، وعلى ديمومة حكمه، حيث واجهتها قوات الشرطة بوحشية شديدة، خَلَّفَت عشرات القتلي ومئات المصابين، وآلاف النازحين الفارين من عنف النظام، وما حدث كذلك على نفس النحو بالتزامن مع فرض الدستور الجديد، الذي أقره البرلمان في أبريل 2024، والذي غير نظام الحكم، وطريقة انتخاب رئيس الجمهورية.([9])
وعلى مستوي النخب السياسية وقادة المعارضة، كان دأبهم الدعوة إلى الاحتجاج، وقيادة المظاهرات، فضلاً عن استخدام الضغوط السياسية، وفي مقدمتها مقاطعة الانتخابات، غير أن النظام سواء في عهد الأب أو في عهد الابن، لم يكن يكترث بتلك الضغوط السياسية، ولا حتي بالدعوة إلى الاحتجاج، لأنه درج على ممارسة العنف، واستخدام القوة المفرطة، في مواجهة تلك الاحتجاجات دون رادع، وبخاصة في ظل غض الطرف الدولي المتنامي، بسبب شبكة المصالح التي تنسجها الأنظمة الدكتاتورية، مع الدول الفاعلة في النظام الدولي، وكذلك في ظل عدم فعالية، صلاحيات التنظيمات الدولية والقارية والإقليمية، في مواجهة الاستبداد بالسلطة، وليس أدل على ذلك من انتشار بؤر الاستبداد في أرجاء أفريقيا، ومن أبرزها هذه البؤرة التوجولية.([10])
موقف ودور الجيش التوجولي:
كان الجيش التوجولي فاعلا رئيسيا، في بناء دكتاتورية عائلة “إياديما”، وفاءً للأب “جناسنجبي إياديما” أحد أفراده النشطين، والذي شارك في صناعة الأحداث، منذ الانقلاب العسكري الأول عام 1963م، ومما زاد من ولاء الجيش لعائلة “أياديما”، تعيين كبار قادته من الأقارب والمقربين، والمنتمين لإثنية العائلة “كابي”، والتي تعد ثاني أكبر مجموعة عرقية في توجو، بعد شعب “إيوي” Ewe، وقد استخدمت عائلة “أياديما” دوما، قوات من الجيش في قمع المعارضة، والسيطرة على الاحتجاجات الشعبية.([11])
ويعد مسلك الجيش حيال وفاة الأب “جناسنجبي”، من أظهر الأدلة على ولاء الجيش التوجولي التام لعائلة “أياديما”، حيث بادر إلى تنصيب الابن “فوري” رئيسا للبلاد، في خرق واضح للدستور، على الرغم من أن “فوري” لم يكن عسكريا في يوم من الأيام، ولقد كان دعم الجيش الدائم والمستمر، من أكبر العوامل التي ساعدت عائلة “إياديما، على احتكار السلطة والبقاء فيها.([12])
مآلات المشهد السياسي في توجو:
بعد ما يقارب الـ (6) عقود، بلغ الاحتقان ذروته في المشهد السياسي التوجولي، بما ينذر بتغيير جذري في السلطة، غير أن سياقات البيئة السياسية التوجولية، وتحولات النظام العالمي، تنبئ بصعوبة التغيير الديمقراطي، وكذا الراديكالي (مدني أو عسكري)، ومع ذلك تظل كل السيناريوهات محتملة، وأبرزها:
السيناريو الأول: تغيير راديكالي عسكري (انقلاب)، وهو ما نستبعده في ضوء الولاء التام للجيش التوجولي للنظام الحاكم، بسبب استحواذ وسيطرة عائلة “إياديما” على مناصب القيادة، ومع ذلك تظل نسب حدوث انقلاب عسكري ضئيلة، ومحصورة في صغار ضباط الجيش، على غرار ما حدث في بعض دول غرب أفريقيا.
السيناريو الثاني: تغيير راديكالي مدني (ثورة)، فعلى الرغم من تهيؤ البيئة السياسية التوجولية، لمثل هذا التغيير، إلا أنه يظل احتمالاً مرجوحاً، نظراً لتشتت وضعف المعارضة، وعدم قدرتها على قيادة التحول الثوري، ونظراً لتأثير العامل الإثني، وفعالية آلة القمع التي يستخدمها النظام الحاكم، في ظل انشغال أو غض طرف المجتمع الدولي.
السيناريو الثالث: إذا كان التغيير الديمقراطي، سواءً من أعلى أو من أسفل مستبعداً، فالمرجح بقاء سيطرة عائلة “أياديما” على السلطة على ما هي علية، ومن ثم رضوخ الشعب والنخب السياسية للأمر الواقع، مع نوبات متقطعة من المد الثوري، مع مزيد من محاولات التحالف والائتلاف في صفوف المعارضة.
………………………..
([1]) Time, “Togo: Death at the Gate”, Time Magazine Website, Last Visit at 12 May 2025, at 1:00 pm, at link:
https://time.com/archive/6873310/togo-death-at-the-gate/
([2]) Benjamin N. Lawrance, “The end of the Eyadéma Dynasty in Togo?”, Africa Is a Country Website, Last Visit at 12 May 2025, at 1:05 pm, at link:
https://tinyurl.com/3mwh7dyr
([3]) Amnesty International “ِAI”, “Togo: Impunity for killings by the military” (London: AI, AI Index: AFR 57/13/93, 5 Oct. 1993) Pp. 1-20.
([4]) Association for Diplomatic Studies and Training “ADST”, “The Reign of the Snake – The Seedy Tenure of Togo’s President Eyadema”, “ADST” Website, Last Visit at 12 May 2025, at 1:10 pm, at link:
https://tinyurl.com/wypcmrmb
([5]) موقع الجزيرة، “بونفو يخلف غناسينغبي برئاسة توغو مؤقتا”، تحققت آخر زيارة فى 12 مايو 2025 الساعة 1:15 م على الرابط:
https://tinyurl.com/ajdcadbs
([6]) John Chin, Mirren Hibbert, and Staten Rector, “Voting for Togo’s Personalist Dictatorship”, The Review of Democracy “RevDem” Website, Last Visit at 12 May 2025, at 1:20 pm, at link:
https://tinyurl.com/26tr2d74
([7]) إدريس آيات، “يمهّد لمرحلة جديدة . . توغو تقر تعديلا دستوريا يحوّل نظام الحكم إلى برلماني”، علي موقع الجزيرة، تحققت آخر زيارة فى 12 مايو 2025 الساعة 1:25 م على الرابط:
https://tinyurl.com/m6zyeaf5
– Natasha Booty, Will Ross, “New post for Togo leader could see him rule for life”, BBC Website, Last Visit at 12 May 2025, at 1:30 pm, at link:
https://www.bbc.com/news/articles/cgjl9l9z7zjo
([8]) Global Security, “Coups in Togo”, Global Security Website, Last Visit at 12 May 2025, at 1:35 pm, at link:
https://tinyurl.com/2a4s25fz
([9]) موقع اليوم السابع، “بالصور . . قوات الأمن تطلق الغاز المسيل للدموع لفض احتجاجات فى توجو”، تحققت آخر زيارة فى 12 مايو 2025 الساعة 1:40 م على الرابط:
https://tinyurl.com/2s3vkpkc
– موقع الجزيرة، “الاحتجاجات تعم توغو واتهامات للحكومة بتنفيذ “انقلاب دستوري”، تحققت آخر زيارة فى 12 مايو 2025 الساعة 1:45 م على الرابط:
https://tinyurl.com/2abnu6wj
([10]) موقع صحيفة الشرق الأوسط، “المعارضة في توغو تدعو إلى التظاهر ضد النظام“، تحققت آخر زيارة فى 12 مايو 2025 الساعة 1:50 م على الرابط:
https://tinyurl.com/yeh8rr3n
([11]) موقع بلوتيكال كي، “رئيس توغو يعزز قبضته على السلطة من خلال تعديلات انتقائية في قطاع الأمن”، تحققت آخر زيارة فى 12 مايو 2025 الساعة 1:55 م على الرابط:
https://politicalkeys.net/?p=40754