تمهيد:
يتشابك اثنان من أكبر التحديات التي تواجهها البشرية تشابكًا وثيقًا؛ وهما: الفساد وأزمة المناخ. فبينما يواجه مليارات البشر حول العالم العواقب اليومية لتغيُّر المناخ، لا تزال الموارد المخصَّصة للتكيُّف معه والتخفيف من آثاره غير كافية على الإطلاق. ويفاقم الفساد هذه التحديات، مما يُشكِّل تهديدات إضافية للمجتمعات الضعيفة.
يزيد غياب آليات الشفافية والمساءلة الكافية من خطر إساءة استخدام أموال المناخ أو اختلاسها. علاوة على ذلك، يمكن أن يتَّخذ فساد المناخ شكل تأثير غير مُبرَّر على صانعي القرار مِن قِبَل الصناعات الملوثة، والسياسيين الذين لديهم تضارب في المصالح بسبب امتلاكهم أسهمًا في شركات النفط والغاز أو عملهم لصالحها.
أعاقت هذه العوامل اعتماد السياسات والتدابير الطموحة اللازمة لمعالجة تغيُّر المناخ، مما أدَّى إلى تغليب مصالح فئات ضيقة على الصالح العام. وتمثل أزمة الفساد عقبة كبيرة أمام حل أزمة المناخ.
تبرز هذه التحديات في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، وتبتلع أيّ محاولات لمكافحة الفساد. ومن هنا تتناول هذه الدراسة التحليلية موقع بلدان المنطقة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م. من خلال المحاور التالية:
المحور الأول: الفساد والتغير المناخي.
المحور الثاني: مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م… نظرة عالمية.
المحور الثالث: مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م في إفريقيا جنوب الصحراء.
المحور الرابع: المراكز المالية العالمية… جهات تمكين للفساد.
المحور الخامس: تقييم مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م وأبرز التوصيات.
المحور الأول
الفساد والتغير المناخي
أولًا: الفساد وأزمة المناخ
تُعدّ أزمة المناخ من أكثر التحديات إلحاحًا في عصرنا، مدفوعةً بشبكة من العوامل المترابطة. ومن بينها قضيةٌ حاسمةٌ غالبًا ما تُغْفَل، ألا وهي الفساد، الذي يُقوِّض العمل المناخي من خلال سوء توجيه الموارد، وتمكين الممارسات الضارة، وخنق التقدم. ويُظهر مؤشر مدركات الفساد أن الفساد مشكلةٌ عالمية، تُؤثر على كل بلد، وتُعيق الجهود المبذولة لمواجهة تغيُّر المناخ على نحوٍ سليم. ([1])
يُسهم الفساد في أزمة المناخ بطرقٍ عدة؛ إحداها اختلاس أموال المناخ وإساءة استخدامها. ويُهدّد الفساد التمويل المُخصَّص للتخفيف من آثار الاحتباس الحراري والتكيف معها. وفي حين أن المبلغ المُستثمَر حاليًّا في تدابير التخفيف والتكيف لا يُمثِّل سوى جزءٍ ضئيلٍ مما تُقدِّره الأمم المتحدة لمواجهة هذا التحدّي، فإن الفساد يُمكن أن يُقوِّض فعالية هذه الأموال بتحويلها عن الغرض المُخصَّص لها.
في كثيرٍ من الأحيان، تُواجه الدول التي هي في أمسّ الحاجة إلى هذه الأموال صعوباتٍ في السيطرة على الفساد. وتشمل هذه الدول الهند (38) وكولومبيا (39) ومصر (30).
إن حماية مبادرات التخفيف من آثار المناخ والتكيُّف معه من الفساد يمكن أن يجعلها أكثر فعالية وفائدة للفئات الأكثر ضعفًا. فعادةً ما تكون لدى الفئات المُهمَّشة خيارات أقل للتكيف مع تقلبات الطقس والتلوث، مما يجعلهم في أمس الحاجة إلى الدعم الحكومي. ومع ذلك، فمع تحويل الفساد للأموال التي تشتد الحاجة إليها إلى جيوب خاصة، غالبًا ما تظل هذه الفئات مُعرَّضة بشكل خاص لآثار تغيُّر المناخ الناجمة عن عدم كفاية البنية التحتية، وضعف الاستعداد للكوارث، وأشكال أخرى من الإهمال.
في روسيا (في المرتبة 22)، وجدت مراجعة مؤشرات قوية على اختلاس ملايين الدولارات من مشروع ممول من مرفق البيئة العالمية، ويديره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي يهدف إلى خفض الانبعاثات من خلال تعزيز معايير كفاءة الطاقة. وأفادت التقارير أن المشروع -الذي استمر من عام 2010 إلى عام 2017م- فشل في تحقيق أيٍّ من أهدافه المتعلقة بخفض الانبعاثات.
تواجه ليبيا (في المرتبة 13) نقاط ضعف حادة في مواجهة تغيُّر المناخ، بما في ذلك الحرارة الشديدة، وتناقص هطول الأمطار، وارتفاع منسوب مياه البحار، والجفاف لفترات طويلة. وتتفاقم هذه التحديات بسبب الفساد المستشري وغياب إستراتيجية تكيُّف متماسكة، مما يُعمِّق عدم الاستقرار في البلاد. في عام 2023م، تسبَّبت العاصفة دانيال في فيضانات كارثية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 11000 شخص، وفقًا للسلطات الليبية. وتم عزو الكارثة، التي اجتاحت أحياء بأكملها، جزئيًّا إلى البنية التحتية سيئة الصيانة، بما في ذلك انهيار سدين بسبب الفساد والإهمال.
تمتلك العديد من الدول ذات الدرجات العالية في مؤشر مدركات الفساد الموارد والسلطة اللازمة لقيادة العمل المناخي المقاوم للفساد حول العالم، ولكنها غالبًا ما تخدم مصالح شركات الوقود الأحفوري. كما أن بعض هذه الدول موطن لمراكز مالية تجذب الأموال غير المشروعة الناتجة عن الفساد وتدمير البيئة وغيرها من الجرائم. وبينما لا يقيس مؤشر مدركات الفساد هذا الأمر، فإن الأموال القذرة تُشكِّل مشكلة فساد رئيسية ذات آثار ضارة تتجاوز حدود هذه الدول بكثير.([2])
ثانيًا: صناعة السياسات المناخية تتعرض للاستغلال
كما سبق معنا، يتمثل جانب آخر من جوانب الفساد المناخي في التأثير غير المبرّر على السياسات المناخية وصنع القرار. فمن خلال تقويض تطوير وتطبيق سياسات مناخية وبيئية حاسمة، يعيق الفساد الجهود المبذولة لتطبيق لوائح صارمة، وخفض الانبعاثات، وتعزيز مبادرات الطاقة النظيفة.
يحدث التأثير غير المبرر على السياسات المناخية في البلدان ذات مستويات الفساد العالية والمنخفضة. ومع ذلك، فإن الدول الغنية والمتقدمة هي التي يُقوّض فيها هذا التدخل التقدم العالمي بشكل أكبر. وتتحمل هذه الدول المسؤولية الأكبر في قيادة أهداف مناخية طموحة، وخفض الانبعاثات على نطاق واسع، وبناء القدرة على الصمود في جميع أنحاء العالم. عندما يُشوِّه التأثير غير المبرر سياساتها، فإنه يُؤخِّر الإجراءات الحاسمة، ويُضعف التعاون الدولي، ويُعيق النضال العالمي ضد أزمة المناخ.
بالإضافة إلى الولايات المتحدة ونيوزيلندا، تُعدّ كندا (75) دولة أخرى مُتراجعة في مؤشر مدركات الفساد، والتي لطالما قادت العمل المناخي حول العالم، مما يُسلّط الضوء على اتجاه مُقلق لقادة المناخ العالميين.
وتُظهر جنوب إفريقيا (41) أيضًا اتجاهًا مثيرًا للقلق؛ حيث انخفض تصنيفها بثلاث نقاط منذ عام 2019م. في عام 2025م، ستستضيف البلاد قمة قادة مجموعة العشرين، مما يمنحها فرصةً حيويةً للدعوة إلى زيادة التزامات تمويل المناخ من دول مجموعة العشرين، والتي لا تخلط بين سداد الديون والتمويل الخاص والقروض كبديل للآليات المباشرة للتخفيف من أزمة المناخ. يجب على جنوب إفريقيا تعزيز آليات الرقابة لضمان عدم تداخل الفساد المحلي مع هذه العمليات الدولية الحاسمة، كما حدث في القمم السابقة.
في الولايات المتحدة (65)، دبَّرت شركة طاقة كبرى مخطط رشوة بقيمة 60 مليون دولار أمريكي للتأثير بشكل غير ملائم على السياسة العامة لصالحها وإبطاء التحول إلى الطاقة المتجددة. يجادل المدعون العامون بأن الشركة حوّلت أموالًا إلى سياسي -يصر على براءته- وشركائه، ليتمكنوا من تمرير خطة إنقاذ بقيمة مليار دولار لمحطتين للطاقة النووية. وبحسب ما ورد، ساعد هذا الشركة على منافسة أشكال الطاقة الأحدث والأرخص واكتساب ميزة تنافسية.
ثالثًا: ضعف الحماية البيئية وتهديدات يتعرّض لها النشطاء
يُقوّض الفساد بشدة إنفاذ القوانين والسياسات البيئية، من خلال إضعاف الرقابة التنظيمية. ويمكن أن تدفع الرشوة والعمولات المسؤولين الحكوميين، وهيئات إنفاذ القانون، وموظفي الجمارك، وسلطات الموانئ، وهيئات الترخيص، والجهات التنظيمية إلى التغاضي عن الانتهاكات البيئية أو الاستفادة منها بشكلٍ فعّال.
لذلك، تُعد مكافحة الفساد أمرًا أساسيًا لضمان إنفاذ اللوائح البيئية القائمة، ومنع الممارسات الضارة والاستغلال غير المستدام للموارد. كما أنها حيوية في مكافحة الجريمة البيئية -التي تُعدّ الآن رابع أكبر شكل من أشكال الجريمة المنظمة؛ حيث تُدرّ أرباحًا سنوية للشبكات الإجرامية تُقدّر بما يتراوح بين 82 مليار دولار أمريكي و238 مليار دولار أمريكي.
تُوضّح فيتنام (40) كيف يُؤدّي الفساد المُمنهج، الذي يمتدّ من أدنى المستويات إلى كبار المسؤولين الحكوميين، إلى تدمير البيئة وتدهور الغابات. وقد سهّلت الرشاوى والعمولات لكبار المسؤولين الفيتناميين، إلى جانب موظفي الجمارك والحدود، تهريب الأخشاب الكمبودية المقطوعة بشكل غير قانوني إلى فيتنام، وغسلها في السوق القانونية.
ويُصعّب الفساد على الناس التعبير عن آرائهم ضد تغير المناخ. ويتعرض المدافعون عن الأرض والبيئة -الذين غالبًا ما يكونون في طليعة مكافحة أزمة المناخ- بشكل خاص للعنف والترهيب، بل وحتى القتل في البلدان التي ترتفع فيها مستويات الفساد. في السنوات الخمس الماضية، قُتل أكثر من 1000 مدافع عن البيئة، معظمهم في بلدان تقل درجات مؤشر مدركات الفساد فيها عن 50. على سبيل المثال، قُتل العديد من النشطاء في البرازيل (34) والفلبين (33) والكونغو الديمقراطية (20).
المحور الثاني
مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م… نظرة عالمية
في 11 فبراير 2025م، نشرت منظمة الشفافية الدولية مؤشر مدركات الفساد 2024م. ويُعدّ هذا المؤشر الأكثر استخدامًا عالميًّا لقياس الفساد، ويغطي 180 دولة. يُقيّم هذا المؤشر الدول/الأقاليم بناءً على مدى إدراك الخبراء والمسؤولين التنفيذيين لفساد القطاع العام في الدولة.
تشير درجة الدولة/الإقليم إلى مستوى إدراك فساد القطاع العام على مقياس من 0 إلى 100، حيث يعني 0 أن الدولة تُعتبر شديدة الفساد، بينما يعني 100 أن الدولة تُعتبر نظيفة جدًّا. وهو مؤشر مُركّب، يعتمد على 13 مصدر بيانات من 12 مؤسسة مختلفة، استنادًا إلى بيانات نُشرت في العامين السابقين. لكي تُدرج الدولة/الإقليم في هذا التصنيف، يجب أن تكون مُدرَجة في ثلاثة مصادر بيانات على الأقل من مصادر بيانات مؤشر مدركات الفساد.
أولًا: الاتجاهات العالمية
مع تنامي الفساد في نطاقه وتعقيده، أصبحت أكثر من ثلثي الدول الآن تسجّل درجات أقل من نقطة المنتصف في مؤشر مدركات الفساد. يؤثر الفساد على مليارات البشر حول العالم، مُدمرًا حياتهم، ومُقوّضًا حقوق الإنسان، ومُفاقمًا الأزمات العالمية. وهو يُعيق اتخاذ إجراءات حقيقية؛ حيث تشتد الحاجة إليها، ومع صعود المُستبدين وتراجع الديمقراطية، لم تكن مُكافحته أكثر إلحاحًا من أيّ وقت مضى.
يُظهر مؤشر 2024م أن الفساد مشكلة خطيرة في جميع أنحاء العالم، إلا أن العديد من البلدان تشهد تغيرًا إيجابيًّا. كما تكشف الأبحاث أن الفساد يُشكّل تهديدًا كبيرًا للعمل المناخي؛ إذ يُعيق التقدم في خفض الانبعاثات والتكيُّف مع الآثار الحتمية للاحتباس الحراري.
بشكل عام، تحسنت تصنيفات 32 دولة خلال الفترة من 2012م إلى 2024م، بينما تراجعت 47 دولة، وظلت الدول الـ101 المتبقية على حالها. وقد حصل ثلثا الدول على درجة أقل من نقطة المنتصف البالغة 50 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م (متوسط الدرجة العالمية 43). المؤشر يُبرز التناقض الصارخ بين الدول ذات المؤسسات القوية والمستقلة والانتخابات الحرة والنزيهة، وتلك ذات الأنظمة الاستبدادية القمعية. بلغ متوسط درجة مؤشر مدركات الفساد في الديمقراطيات الكاملة 73، بينما يبلغ متوسط درجة الديمقراطيات المعيبة 47، والأنظمة غير الديمقراطية 33 فقط. ووفقًا للتقرير، “يُبرز هذا أنه على الرغم من أن بعض الدول غير الديمقراطية قد يُنظر إليها على أنها تُدير أشكالًا معينة من الفساد، إلا أن الصورة الأوسع تُظهر أن الديمقراطية والمؤسسات القوية ضرورية لمكافحة الفساد بشكل كامل وفعال”.
ويركّز تقرير مؤشر مدركات الفساد لعام ٢٠٢٤م على تأثير الفساد على العمل المناخي العالمي، والدور المهم للحكومات والمنظمات الدولية والشركات في إعطاء الأولوية لدمج تدابير فعّالة لمكافحة الفساد في تمويل المناخ وسياساته ومشاريعه. ومن شأن هذه التدابير أن تُسهم في معالجة: (١) التأثير غير المشروع على سياسات المناخ وصنع القرار؛ (٢) اختلاس وإساءة استخدام أموال المناخ؛ (٣) ضعف حماية البيئة من خلال الرقابة التنظيمية؛ و(٤) التهديدات التي يتعرض لها النشطاء.
في حين أن هناك العديد من الإنجازات الملهمة، إلا أن لكل قارة أسبابًا جدية للقلق. هذا العام، انخفضت مستويات الفساد الإجمالية في ثلاث مناطق، ولم تتحسَّن إلا منطقة واحدة. ويُعدّ ارتفاع متوسط درجة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مدعاة للتفاؤل، لكن هذه أول زيادة منذ أكثر من عقد، وهي نقطة واحدة فقط – إلى 39 من 100. لتحقيق تقدُّم ملموس، يجب على هذه المنطقة مواجهة التحديات الهائلة المتمثلة في الصراع والاستبداد. تجتمع هذه العوامل نفسها مع ضعف أنظمة العدالة في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، التي لديها ثاني أدنى متوسط في العالم. وتحتل منطقة إفريقيا جنوب الصحراء أدنى درجة. غالبًا ما تُعيق الضغوط الشديدة -من تغيُّر المناخ إلى الصراعات- التقدم في هذه المنطقة.
ومع ذلك، هناك أمل؛ حيث تُشير العديد من البلدان إلى طريق التقدم من خلال تحسينات كبيرة. وتتصدر أوروبا الغربية والاتحاد الأوروبي قائمة الدول التي حصلت على أعلى درجة، لكنها انخفضت بشكل عام للعام الثاني على التوالي؛ حيث يخدم العديد من القادة مصالح الأعمال بدلًا من الصالح العام، وغالبًا ما تُطبق القوانين بشكل سيئ. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، يجب على الأميركتين التصدي بشكل عاجل لظاهرة الإفلات من العقاب، وحماية الحيّز المدني، واتخاذ تدابير للحد من نفوذ الجريمة المنظمة والنخب في السياسة. وبينما تشهد منطقة آسيا والمحيط الهادئ تحسنًا في بعض الدول، إلا أن متوسط درجاتها آخِذ في الانخفاض؛ حيث تُلقي حلقات الفساد المفرغة وآثار تغيُّر المناخ بظلالها السلبية. ويبين الشكل التالي درجات مناطق العالم المختلفة في المؤشر والتغيُّر فيه بين عامي 2023 و2024م.
شكل (1) إفريقيا جنوب الصحراء في مؤشر مدركات الفساد بين عامي 2023 و2024م مقارنة بمناطق العالم
المصدر: رسم الباحث من بيانات تقريري مؤشر مدركات الفساد لعامي 2023 و2024م.
ثانيًا: الأفضل والأسوأ أداء:
للعام السابع على التوالي، لا تزال الدنمارك تتربع على عرش قائمة الدول “الأكثر نظافةً” بحصولها على 90 نقطة، تليها فنلندا وسنغافورة بـ 88 و84 نقطة على التوالي. وتراجعت نيوزيلندا من المراكز الثلاثة الأولى لأول مرة منذ عام 2012م، لتحتل المركز الرابع بحصولها على 83 نقطة.
في الوقت نفسه، تهيمن الدول التي تعاني من صراعات أو حريات مقيَّدة بشدة ومؤسسات ديمقراطية ضعيفة على قاع المؤشر. وتحتل جنوب السودان (8)، والصومال (9)، وفنزويلا (10) المراكز الثلاثة الأخيرة. وتكمل سوريا (12)، وغينيا الاستوائية (13)، وإريتريا (13)، وليبيا (13)، واليمن (13)، ونيكاراغوا (14)، والسودان (15)، وكوريا الشمالية (15) قائمة الدول الأقل تصنيفًا.
وظلت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء (بمتوسط 33 نقطة) أسوأ منطقة أداءً لعام 2024م، تليها الدول العربية (بمتوسط 34 نقطة).
يتضمن تقرير منظمة الشفافية الدولية أيضًا تفاصيل عن “أهم التطورات” للفترة من 2015م إلى 2024م، مسلطًا الضوء على التحسينات أو التدهور الملحوظ خلال هذه الفترة. وفي الفئة الأولى، أظهرت البحرين وساحل العاج ومولدوفا تحركات إيجابية كبيرة، في حين أظهرت مناطق أخرى بما في ذلك إيسواتيني والنمسا وروسيا انخفاضًا كبيرًا.
المحور الثالث
مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م في إفريقيا جنوب الصحراء
أولًا: أداء منطقة إفريقيا جنوب الصحراء بشكل عام
إن ضعف إجراءات مكافحة الفساد يُقوّض العمل المناخي؛ في عام 2024م؛ حيث سجّلت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء مرة أخرى أدنى متوسط درجة على مؤشر مدركات الفساد، عند 33 من 100 فقط، مع حصول 90% من البلدان على أقل من 50 درجة. ومع ذلك، في ظل هذا الأداء السنوي المنخفض للغاية، كانت هناك بلدان إفريقية استثمرت في مكافحة الفساد وحققت تقدمًا ملحوظًا.
تشمل الدول الأعلى تصنيفًا في المنطقة سيشل (درجة مؤشر مدركات الفساد: 72)، والرأس الأخضر (62)، وبوتسوانا (57)، ورواندا (57). أما الدول الأقل تصنيفًا في مؤشر مدركات الفساد لهذا العام، فقد شهدت تراجعًا إضافيًّا: غينيا الاستوائية (13)، وإريتريا (13)، والصومال (9)، وجنوب السودان (8)([3])، وفقًا للشكل التالي:
شكل (2) أدنى وأعلى أربع دول في تصنيف مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م في جنوب الصحراء
المصدر: رسم الباحث من بيانات تقريري مؤشر مدركات الفساد لعامي 2023 و2024م.
ثانيًا: عدالة أقوى
في السنوات الأخيرة، أظهرت العديد من الدول الإفريقية تحسنًا ملحوظًا في جهودها لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية؛ حيث عززت ساحل العاج (45) تقدمها، محققةً 10 نقاط إجمالًا منذ عام 2019م. ويُعزى نجاح البلاد إلى عدد من الإصلاحات القانونية والمؤسسية التي نفَّذتها إدارة الرئيس الحسن واتارا لتعزيز الشفافية والمساءلة، وتعزيز مكافحة الجرائم الاقتصادية والمالية.
أما سيشيل (72) -صاحبة الأداء الأفضل في القارة، والبلد صاحب أكبر زيادة عالميًّا-، تحسنت بمقدار 20 نقطة منذ عام 2012م. وتتابع الدولة بنشاط قضايا الفساد البارزة، واتخذت خطوات لتحسين شفافية المالكين المستفيدين، وتعزيز تبادل المعلومات بين مؤسسات إنفاذ القانون ذات الصلة. ونتيجةً لذلك، استوفت الدولة جميع متطلبات رفع اسمها من القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي لعدم امتثالها لمعايير الشفافية المالية الدولية.
واكتسبت تنزانيا (41) 10 نقاط منذ عام 2014م؛ حيث واجه المسؤولون الفاسدون أخيرًا عواقب أفعالهم. على مدى العقد الماضي، أصبح من الشائع إعفاء كبار المسؤولين الحكوميين المشتبه في فسادهم فورًا من مناصبهم، مع بدء جهات إنفاذ القانون تحقيقات. كما أنشأت الدولة محكمة متخصصة معنية بمقاضاة الفساد والجرائم الاقتصادية.
ويبرز الشكل التالي التحسينات في المنطقة؛ حيث كانت أنجولا أبرزها منذ عام 2015م، والتي تقدمت (17) درجة، وجاءت ساحل العاج في المركز الثاني بنحو (13) درجة، وتنزانيا (11) درجة. بينما جاءت زامبيا رابعًا منذ عام 2020م متقدمة (6) درجات على مقياس المؤشر.
شكل (3) أبرز التحسينات في إفريقيا جنوب الصحراء
المصدر: رسم الباحث من بيانات تقريري مؤشر مدركات الفساد لعامي 2023 و2024م.
ثالثًا: تراجعات مُقلقة: وأسبابٌ للأمل
على مدار العقد الماضي، انخفض تصنيف ليسوتو (37) 12 نقطة؛ حيث شنّت الحكومة حملةً قمعيةً على المجتمع المدني وأسكتت الصحفيين. في عام 2023م، حاول ناشطون الاحتجاج سلميًّا ضد مشروع سد بوليهالي لآثاره السلبية على المجتمع، لكن قوات دفاع ليسوتو صادرت لافتات المتظاهرين وقمعت الاحتجاج بالقوة. وإلى جانب عملية تعيين القضاة غير الشفافة، وتراكم القضايا الكبير الذي شكَّك في فعالية القضاء، زاد هذا من صعوبة مكافحة الفساد.
كما انخفض تصنيف إسواتيني المجاورة (27) بشكل ملحوظ، بمقدار 16 نقطة خلال العقد الماضي. وأظهر تقريرٌ صادرٌ عن لجنة الحسابات العامة في فبراير وجود العديد من النفقات غير المصرح بها في الميزانية الوطنية مِن قِبَل وزارات مختلفة، دون أي ردٍّ من هيئة مكافحة الفساد.
وسجلت كلٌّ من الغابون (27) وليبيريا (27) انخفاضًا بمقدار عشر نقاط مئوية منذ عام 2014م، إلا أن التطورات الأخيرة في البلدين تبعث على الأمل. فقد أنهى انقلاب عام 2023م حكمًا عائليًّا واحدًا دام 56 عامًا في الغابون، والتزم الرئيس الانتقالي، برايس أوليغي نوغيما، بجهود مكافحة الفساد، بما في ذلك إعادة تشكيل لجنة المشتريات العامة، بعد أن كشفت عمليات التدقيق عن وجود مبالغة في الأسعار. قدّم الرئيس الليبيري جوزيف بواكاي، الذي تولى منصبه في يناير 2024م، إقرارًا بالأصول العامة، وشرع في عمليات تدقيق لمؤسسات الدولة الرئيسية، بما في ذلك البنك المركزي، مما بعث الأمل في المستقبل.
ويبين الشكل التالي التراجعات في المنطقة؛ حيث كان تراجع الجابون (-18) درجة مقارنة بعام 2016م هو الأبرز، تلاه تراجع ليبيريا (-10)، ومالي (-8). ومنذ عام 2015م جنوب إفريقيا (-7).
شكل (4) أبرز التراجعات في مؤشر مدركات الفساد لبلدان جنوب الصحراء
المصدر: رسم الباحث من بيانات تقريري مؤشر مدركات الفساد لعامي 2023م و2024م.
رابعًا: الحاجة الماسَّة لمعالجة تغيُّر المناخ
في ظل تدمير مياه الفيضانات للمناظر الطبيعية والمجتمعات في جميع أنحاء إفريقيا، من السنغال (45) إلى تنزانيا (41)، فإن تأثير تغير المناخ على القارة لا يمكن إنكاره. وتشير التقديرات إلى أنه مقابل كل درجتين مئويتين من ارتفاع درجة الحرارة، تفقد إفريقيا حوالي 5% من ناتجها المحلي الإجمالي. واستجابةً لذلك، تحتاج الدول الإفريقية إلى تمويل يُقدر بنحو 2.8 تريليون دولار أمريكي لتنفيذ “مساهماتها المحددة وطنيًّا” بموجب أُطُر الأمم المتحدة لمكافحة تغيُّر المناخ. ومع ذلك، فإن هذا التمويل لا يزال أقل بكثير من المطلوب حاليًّا، وما يُقدم منها يُقوّض بشكل كبير بسبب الفساد.
تُظهر جنوب إفريقيا (41) اتجاهًا مُقلقًا؛ حيث انخفض ترتيبها بثلاث نقاط منذ عام 2019م. وفي عام 2025م، ستستضيف البلاد قمة قادة مجموعة العشرين، مما يمنحها فرصةً حيويةً للدعوة إلى زيادة التزامات تمويل المناخ من دول مجموعة العشرين، والتي لا تخلط بين سداد الديون والتمويل الخاص والقروض كبديل للآليات المباشرة للتخفيف من أزمة المناخ. ويجب على البلاد أن تعزز آليات الرقابة، لضمان عدم تداخل الفساد في البلدان المضيفة مع مثل هذه العمليات الدولية الحاسمة، كما حدث في القمم السابقة.
يتجاوز هذا الشرط مجرد دولة مضيفة واحدة. ففي مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين، التزمت الدول الغنية بتقديم 300 مليار دولار أمريكي سنويًّا بحلول عام 2035م للدول الضعيفة لمكافحة تغيُّر المناخ، مما يعني ضرورة تدفق المزيد من تمويل المناخ بسرعة إلى القارة الإفريقية. وسيتطلب هذا أنظمة قوية لمكافحة الفساد لضمان دعم هذه الأموال للشعوب والعالم الطبيعي، بدلًا من النخب الفاسدة. ويكتسب هذا أهمية خاصة بالنظر إلى أنه في الفترة من 2013 إلى 2017م، لم يُحسب ما بين 24 مليار دولار أمريكي و41 مليار دولار أمريكي من تمويل المناخ من محفظة مشاريع البنك الدولي. ولذلك، يُعدّ تعزيز أنظمة مكافحة الفساد استثمارًا بالغ الأهمية لضمان قدرة شعوب إفريقيا على مواجهة تغيُّر المناخ وتأمين الفرص الاجتماعية والاقتصادية اللازمة لبناء مستقبل أفضل.
المحور الرابع
المراكز المالية العالمية… جهات تمكين للفساد
أولًا: تدفق الأموال غير المشروعة إلى المراكز المالية العالمية وتغذيتها
تُسلّط النتائج الأخيرة الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية الضوء على كيفية تدفق أموال المسؤولين الفاسدين في إفريقيا غالبًا إلى المراكز المالية التي تُسجّل درجاتٍ عالية في مؤشر مدركات الفساد. ومن الأمثلة البارزة على ذلك: كارلوس ساو فيسينتي، الرئيس التنفيذي السابق لشركة تأمين مملوكة جزئيًّا للدولة في أنغولا، الذي اختلس أكثر من 1.2 مليار دولار أمريكي من خلال شركات مسجلة في برمودا. ثم حوّل مبالغ طائلة إلى حسابات في سنغافورة (84) وسويسرا (81)، بما في ذلك ما لا يقل عن 558 مليون دولار أمريكي إلى حساب واحد في سنغافورة.
وفي مكان آخر، صنّف تحليل إقليمي أُجري عام 2023م لمنطقة شمال البلطيق لوكسمبورغ (81) وإيرلندا (77) كوجهتين رئيسيتين لأنماط الدفع عبر الحدود المشبوهة المحتملة، مما أثار مخاوف جدية بشأن تدفق الأموال القذرة إلى هذه المراكز المالية.
وللأسف، هذا ليس مفاجئًا. ففي حالة لوكسمبورغ، لم تفصح نسبة مذهلة تبلغ 80% من صناديق الاستثمار الخاصة في البلاد عن المستفيدين منها، كما كشف بحث أُجري عام 2021م. ثم، في نوفمبر الماضي، وُجد أن مئات الحسابات في أحد البنوك الكبرى في لوكسمبورغ لعبت دورًا رئيسيًّا في نقل ما لا يقل عن 175 مليون دولار أمريكي من الأموال المزعومة المسروقة من بنك حكومي أذربيجاني، والتي انتهى بها المطاف في عقارات بالمملكة المتحدة (71).
ورغم هذه الاتجاهات المثيرة للقلق، لا يزال إنفاذ القانون في العديد من المراكز المالية ضعيفًا. في عام ٢٠٢٣م، فرضت سنغافورة غرامةً على بنكين بلغت قيمتها الإجمالية ٢.٣ مليون دولار أمريكي لانتهاكاتٍ تتعلق بمكافحة غسل الأموال، أي ما يعادل ٠.٠١٨٪ فقط من إجمالي أرباحهما السنوية. وبالمثل، يُظهر بحثٌ قادمٌ من منظمة الشفافية الدولية أنه في عام ٢٠٢٣م، فرضت هونغ كونغ (٧٤) غراماتٍ بلغ مجموعها ٣.٢ مليون دولار أمريكي على أربعة بنوك، وهي نسبةٌ ضئيلةٌ لا تتجاوز ٠.٠٠٨٥٪ من الأرباح التي أعلنت عنها البنوك في ذلك العام.
في الوقت نفسه، تفتقر الهيئة التنظيمية المصرفية في سويسرا إلى سلطة فرض الغرامات بشكلٍ كامل، وتعتمد بدلًا من ذلك على أوامر الامتثال أو الإحالات من المحاكم الجنائية. لا يمكن للبنوك مواجهة عقوباتٍ ماليةٍ عقابيةٍ إلا بعد الإدانة الجنائية، مما يَحُدّ من ردع آليات العقوبات في البلاد، ويسمح باستمرار الأنشطة غير المشروعة.
وبتتبُّع مسار الأموال وجد أكثر من ٣.٧ مليار دولار أمريكي من الأصول الإفريقية المرتبطة بالفساد مخبأة في الدول الغنية.
ثانيًا: توفير السرية والتخزين الآمِن للمكاسب غير المشروعة
على الرغم من تصنيفاتها المرتفعة في المؤشر، لا تزال العديد من المراكز المالية توفر السرية لعملائها العالميين من خلال كيانات وترتيبات قانونية مسجلة في ولاياتها القضائية. وبينما يمكن لهذه الهياكل أن تخدم أغراضًا مشروعة، إلا أنها تُعدّ بنفس القدر من الفعالية أدوات لأنشطة أكثر خطورة.
لنأخذ إيرلندا (77) على سبيل المثال. فالشركات المحدودة الأيرلندية -وهي هيكل أعمال يُستخدم غالبًا للاستثمار أو إدارة الأصول- معرضة بشكل خاص للاستغلال. ولا يُطلب من الشركات المحدودة الأيرلندية الإفصاح عن مالكيها المستفيدين (الأفراد الحقيقيين الذين يستفيدون ماليًّا من الشراكة أو يتحكمون فيها)، حتى عندما يكون أحد الشركاء شركة مسجلة. وهذا يعني أنه إذا كان الشريك مقيمًا في ولاية قضائية سرية في الخارج، فحتى السلطات الأيرلندية لا تستطيع تحديد هوية المالكين الحقيقيين. ومما يزيد الطين بلة، أنه لا يوجد حدّ لعدد الشركات التي يمكن لشخص واحد امتلاكها، مما يسمح للأفراد بالعمل كـ”واجهات”، وإدارة شراكات متعددة لصالح آخرين على نطاق واسع. في عام 2022، خلص صندوق النقد الدولي إلى أن أيرلندا، بصفتها مركزًا ماليًّا دوليًّا سريع النمو، تواجه تهديدات كبيرة ومتزايدة من عائدات الجريمة الأجنبية. نمت أصول القطاع المالي الإجمالي في البلاد بنسبة 30% بين عامي 2017 و2020م، لتصل إلى 6.57 تريليون يورو، مدفوعةً إلى حد كبير بتوسع صناديق الاستثمار، وهو قطاع معرض بشكل خاص لغسل الأموال.
في حين اتخذت المملكة المتحدة (71) خطواتٍ مؤخرًا لمكافحة الأموال القذرة، إلا أن جهودها معرضةٌ لخطر التقويض بسبب ضعف التقدم نحو شفافية الشركات في أقاليمها الخارجية، والتي تُعدّ ملاذاتٍ ماليةً خارجيةً للمحتالين لإخفاء وغسل مكاسبهم غير المشروعة.
في هونغ كونغ (74)، لا يقل الوضع إثارةً للقلق؛ حيث لا يوجد سجل مركزي للملكية المستفيدة، فكل ما يُطلب من الشركات هو الاحتفاظ بهذه المعلومات بنفسها. حتى إن بعض أنواع صناديق الاستثمار مُعفاة من الاحتفاظ بسجلاتٍ لأصحابها. مع تسجيل أكثر من 1.4 مليون شركة في عام 2023م، يُمثل رصد الامتثال لهذه القواعد تحديًا هائلًا، مما يخلق ثغراتٍ يمكن للجهات الفاعلة المشبوهة استغلالها بسهولة.
لدى سنغافورة (84) سجلاتٌ للملكية المستفيدة، لكن الوصول إليها يقتصر على السلطات الحكومية. هذا النقص في الشفافية يعني أن الصحفيين والمجتمع المدني لا يستطيعون الوصول إلى المعلومات للتحقيق في المخالفات وكشفها.
ويزداد الغموض سوءًا عندما يتعلق الأمر بالصناديق الائتمانية. فهونغ كونغ وسنغافورة تفتقر إلى أي شكل من أشكال تسجيل المالكين المستفيدين للصناديق الائتمانية. ونتيجة لذلك، لا تملك حتى السلطات وسيلة لمعرفة عدد الصناديق الائتمانية الموجودة أو العاملة في بلدانها، ناهيك عن الأصول التي تمتلكها. في الحالات التي يُشتبه فيها بوجود مخالفات، يتعين على السلطات الاعتماد على الأمناء لتقديم المعلومات: وهي عملية تستغرق وقتًا طويلًا وغير فعّالة.
تُعدّ المراكز المالية أيضًا بؤرًا جاذبة للأصول عالية القيمة، مثل العقارات الفاخرة، مما يُتيح منفذًا رئيسيًّا لغسل مبالغ طائلة من الأموال غير المشروعة. من لندن وباريس إلى هونغ كونغ، وتُعدّ أسواق العقارات في هذه المدن؛ حيث يُضفي الغموض وضعف إنفاذ قوانين مكافحة غسل الأموال عليها جاذبية خاصة للمشترين غير الشرعيين.
ثالثا: جهات تمكين تقدم باقة من الخدمات
لا تقتصر المراكز المالية على المصرفيين فحسب، بل تضم أيضًا شبكات من الجهات المهنية غير المالية التي تُسهّل غسل عائدات الفساد – ويشمل ذلك المحامين ووكلاء العقارات وكتاب العدل والمحاسبين وغيرهم من مقدمي الخدمات للشركات. وتُشكّل المراكز المالية مراكز لهذه الخدمات؛ حيث يُقدّم المحترفون خبراتهم ليس فقط ضمن نطاق اختصاصاتهم، بل أيضًا للعملاء في جميع أنحاء العالم. يكشف تحليلنا للتدفقات المالية غير المشروعة المرتبطة بالفساد الناشئ في إفريقيا أن الجهات المساعدة المسجلة في لوكسمبورغ (81)، وسنغافورة (84)، وسويسرا (81)، تظهر بشكل متكرر في الحالات التي تُقدّم فيها الخدمات في الخارج لحماية الأصول. كما تُظهر بيانات التسريبات الخارجية أن مقدمي خدمات الصناديق الائتمانية والشركات يُنشئون بشكل روتيني شركات وصناديق ائتمانية في الخارج نيابةً عن أشخاص سياسيين مُعرّضين للخطر. تُفاقم الثغرات الإشرافية هذه المشكلة، وتُظهر المراكز المالية التي تحتل مراتب عالية في مؤشر مدركات الفساد لهذا العام أوجه قصور كبيرة في هذا المجال.
في سنغافورة، تُظهر دراسةٌ قادمةٌ من منظمة الشفافية الدولية أن مكاتب المحاماة تخضع للتفتيش كل 24 عامًا في المتوسط؛ حيث تُجري نقابة المحامين 50 عملية تفتيش فقط سنويًّا. أما في سويسرا، فلا تُغطي لوائح مكافحة غسل الأموال الأنشطة غير المالية لمحاميها وكتاب العدل. سيُناقش البرلمان السويسري مشروع قانون في نهاية فبراير لمراجعة قانون مكافحة غسل الأموال، والذي من شأنه توسيع نطاق هذه الالتزامات لتشمل المحامين. حتى في هونغ كونغ (74)؛ حيث يبدو أن الرقابة على قطاعات مزودي خدمات الثقة والشركات تُمارس بوتيرةٍ أكبر، لا يزال إنفاذ القانون ضعيفًا للغاية. بين عامي 2018 و2022م، قدّمت الجهة الحكومية المشرفة على هذه الصناعات 72 إجراءً تأديبيًّا وملاحقة قضائية ناجحة لانتهاكات التزامات مكافحة غسل الأموال. ومع ذلك، بلغ متوسط الغرامات 2263 دولارًا أمريكيًّا فقط لكل انتهاك، وهو ما لا يُعدّ رادعًا كافيًا. أما في عامي 2023م و2024م، فقد بلغ متوسط القضايا الـ 58 المُسلّط عليها الضوء أقل من 2090 دولارًا أمريكيًّا لكل قضية.
وقد لعب المهنيون، مثل المحامين والمحاسبين ومقدمي الخدمات للشركات، دورًا حاسمًا في مخططات الفساد العابرة للحدود التي تورط فيها مسؤولون أفارقة.
المحور الخامس
تقييم مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م وأبرز التوصيات
أولًا: تقييم مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م
ترصد بيانات مصدر مؤشر مدركات الفساد عددًا من مظاهر الفساد في القطاع العام، بما في ذلك الرشوة، وتحويل الأموال العامة، والوصول إلى المعلومات المتعلقة بالشؤون العامة/الأنشطة الحكومية، وقدرة الحكومات على احتواء الفساد في القطاع العام. ورغم عدم وجود مؤشر يقيس المستويات الوطنية الموضوعية للفساد بشكل مباشر وشامل، فإن مؤشر مدركات الفساد يتضمن آراءً مستنيرة من الجهات المعنية، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمؤشرات الموضوعية. لذلك، تستخدم العديد من الشركات مؤشر مدركات الفساد كجزء من تحليلها لمخاطر الفساد، على سبيل المثال في تقييمات المخاطر وإجراءات العناية الواجبة من قِبل جهات خارجية.
ومع ذلك، فإن له حدوده: فهو لا يُقيِّم فساد القطاع الخاص، أو السرية المالية، أو الفساد العابر للحدود الوطنية. وقد يُعطي هذا انطباعًا مُضلّلًا بأن بعض الدول ذات الأداء الأفضل تُكافح الفساد بفعالية، ولا تزال بمنأى عن وصمة الفساد. هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. فعلى وجه الخصوص، تُعدّ الدول التي تستضيف مراكز مالية رئيسية عُرضة للتدفقات المالية الفاسدة. فبينما تُعطي مؤسساتها القوية مظهر النزاهة، غالبًا ما تُتيح قطاعاتها المالية وأطرها التنظيمية فرصًا لاستغلال الثغرات، مما يُقوّض في نهاية المطاف الجهود العالمية لمكافحة الفساد.
لطالما واجهت المراكز المالية الغربية، مثل سويسرا (درجة مؤشر مدركات الفساد: 81 من 100)، ولوكسمبورغ (81)، والمملكة المتحدة (71)، تدقيقًا تاريخيًّا لتسهيلها حركة الأموال المشبوهة. ومع ذلك، فإن المراكز غير الغربية، مثل هونغ كونغ (74)، وسنغافورة (84)، تلعب أدوارًا مماثلة بشكل متزايد، وتستحق فحصًا أدق. ومثل نظيراتها الغربية، تتمتع هذه المراكز بسيادة قانون قوية نسبيًّا ومؤسسات تعمل بكفاءة، إلا أن قوانينها المصرفية، وهياكلها المؤسسية، وأحكامها السرية، قد تُمكّن شخصيات مشبوهة من غسل الأموال، وتجاوز اللوائح، وتجنب الكشف.
العديد من الدول ذات الأداء الأفضل في مؤشر مدركات الفساد لهذا العام ليست بمنأى عن هذا النوع من الاستغلال، بما في ذلك القوى المالية الكبرى مثل ألمانيا (75) وفرنسا (67). وتستمر مراكز رئيسية أخرى، مثل الولايات المتحدة (65)، في تقديم ثغرات يمكن استغلالها، ولكنها غير مشمولة في هذا التحليل؛ لأنها تقع خارج البلدان ذات الأداء الأفضل في مؤشر أسعار المستهلك لهذا العام.
ثانيًا: كيفية التقدم نحو عالم مستدام
للتصدي بفعالية لأزمة المناخ، يجب أن نضع الفساد في صميم النقاش العالمي. يجب على الحكومات والمنظمات الدولية والشركات إعطاء الأولوية لدمج تدابير فعّالة لمكافحة الفساد في تمويل المناخ وسياساته ومشاريعه. الشفافية والمساءلة أساسيتان لضمان حماية الموارد، وتحقيق السياسات لأهدافها، ووصول المشاريع إلى المجتمعات الأكثر حاجة إليها. إن التصدي المباشر للفساد سيعيد بناء ثقة المجتمعات في مبادرات المناخ، ويدفع عجلة التقدم نحو عالم مستدام.
وضع النزاهة في صميم جهود المناخ. هذا أمر أساسي لتحقيق تأثير حقيقي. يمكن لتدابير مكافحة الفساد أن تعزز قدرة البلدان على التخفيف من آثار أزمة المناخ والتكيف معها. وبما أن مجال المناخ لا يزال في طور التطور، فهناك فرصة فريدة لوضع ضمانات ضد السرقة، والاستيلاء على السياسات، وغيرها من أشكال الإساءة. إن التعاون الوثيق بين الجهات الفاعلة في مجال المناخ ومكافحة الفساد أمر بالغ الأهمية؛ حيث توفر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد إطارًا بالغ الأهمية لدعم هذا العمل.
حماية عمليات صنع السياسات المناخية من التأثير غير المبرر على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. سيؤدي ذلك إلى اتخاذ إجراءات مناخية أقوى. إن بلوغ أعلى مستويات الشفافية والشمولية في سياسات المناخ وتخصيص التمويل من شأنه أن يُطلق العنان لكامل إمكاناتها، مع إعادة بناء الثقة في المبادرات المناخية. يُعدّ إنشاء آليات للكشف عن تضارب المصالح وإدارته -بما في ذلك من خلال سجلات الضغط وإعلانات المصالح- أمرًا أساسيًّا لرفع مستوى الطموح في المنتديات المناخية الرئيسية مثل اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لمكافحة تغير المناخ.
تعزيز التحقيقات والعقوبات والحماية لمكافحة الفساد. سيؤدي ذلك إلى ردع الجرائم البيئية والحد من الإفلات من العقاب. ويمكن تحسين الوصول إلى العدالة من خلال تعزيز هيئات الإنفاذ والرقابة، بما في ذلك هيئات مكافحة الفساد. تحتاج المجتمعات المحلية إلى الوصول إلى آليات التظلم، بينما يجب حماية أولئك الذين يُعبّرون عن آرائهم –حماية المدافعين عن المناخ والأراضي والبيئة، والمبلغون عن المخالفات- من جميع أشكال الانتقام.
بالإضافة إلى تعزيز مشاركة المواطنين في الاستثمارات المناخية، سيُمكّن ذلك المتضررين من أزمة المناخ من المساعدة في تصميم الحلول. ويجب أن تكون المعلومات المتعلقة بتمويل المناخ والمشاريع والعقود مفتوحة ومتاحة للجميع، وأن تُنشَر في الوقت المناسب، بما يتماشى مع مبادئ الحصول على الموافقة الحرة والمسبقة والمستنيرة من الأشخاص المتضررين من هذه المبادرات. تضمن أُطر المساءلة الشاملة إشراك المجتمعات المحلية في مبادرات مثل شراكات التحول العادل للطاقة بين الدول، بما في ذلك من خلال الرقابة. وهذا يُفضي إلى نتائج تُلبي احتياجاتهم بشكل أفضل.
تضطلع المراكز المالية بدورٍ بالغ الأهمية -ومسؤوليةٍ لا يمكن إنكارها- في إنهاء لعبة الغميضة العالمية لتدفقات الأموال الفاسدة. ومع ذلك، ورغم مرور ما يقرب من عقدين من التسريبات والفضائح الخارجية الكبرى التي كشفت عن تواطؤ هذه المراكز، فإنها تُصرّ على قبول أموالٍ ملوثة، مما يُقوِّض الجهود العالمية لتطهير النظام من الفساد.
الشفافية أمرٌ بالغ الأهمية، ولذا يجب على الحكومات والهيئات الدولية اتخاذ إجراءاتٍ حاسمة لمعالجة نقاط الضعف النظامية المستمرة، وإعطاء الأولوية للإفصاح الكامل عن الملكية المستفيدة للشركات والصناديق الائتمانية وغيرها من الأصول، مثل العقارات. ويجب أن تخضع الجهات المُمكّنة الرئيسية لإشرافٍ فعال، مع ضرورة سدّ الثغرات التنظيمية، وتمكين الهيئات الإشرافية وتمويلها بشكلٍ كافٍ.
يجب على المجتمع العالمي أن يعقد العزم على التصرف بحزم، وألا يسمح لسمعة المراكز المالية كمراكز اقتصادية عالمية بأن تُعمي أنظارها عن الضرر الناجم. والحقيقة هي أن هذه المراكز تُمكّن الفساد وتُقوّض الجهود العالمية لمكافحته. وإذا لم تتم معالجة هذه القضايا، فإنها ستظل ملاذًا آمنًا للفاسدين.
ختامًا:
راوحت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء موقعها في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024م للعام الثالث على التوالي محققة (33) درجة كتوسط لنحو (49) دولة يصنفها التقرير على أنها تقع جنوب الصحراء الكبرى. متذيلة مناطق العالم كالعادة. بأقل من عشر درجات عن المتوسط العالمي (43). والذي ظل ثابتًا تقريبًا للعام الثالث أيضًا.
ربط تقرير 2024م بين الفساد والتغيُّر المناخي. ويبدو أن الحكومات المستبدة تبقى وتتعايش بالأزمات، حتى أصبحت الأزمات من وسائل نجاة الطغاة والفاسدين. وهو الحال في المنطقة محل الدراسة، فتمويل المناخ يذهب جزء لا بأس به منه إلى الجيوب الخاصة، فلا تزداد إلا تحكمًا واستبدادًا وفسادًا. فدائمًا ما يبتلع الفساد، جهود المكافحين للتغيُّر المناخي، الذين لا تتوافر لهم الحماية، ومِن قِبَل مدعي الشفافية، الذين يعملون كجهات تمكينية خارجية؛ فتبقى المُحصّلة صفرية أو سلبية.
………………………………
[1] ) Transparency International, Corruption Perceptions Index 2024.at: https://www.transparency.org/en/news/how-transparency-international-fought-corruption-in-2024
[2] ) Susannah Cogman and et al, Transparency International publishes the CPI 2024.at: https://www.herbertsmithfreehills.com/notes/fsrandcorpcrime/2025-posts/transparency-international-publishes-the-cpi-2024
[3] ) Paul Banoba and et al, CPI 2024 FOR SUB-SAHARAN AFRICA: WEAK ANTI-CORRUPTION MEASURES UNDERMINE CLIMATE ACTION.at: https://www.transparency.org/en/news/cpi-2024-sub-saharan-africa-weak-anti-corruption-measures-undermine-climate-action