الناشر: نادي فالداي الروسي للمناقشة
الكاتب: كونستانتين بانتزيريف
ترجمة: مروة أحمد عبد العليم
باحثة في الشأن الروسي
تبدو روسيا دائمًا مستعدَّة لتقديم المساعدة لشركائها الأفارقة، وإقامة تعاون تجاري واقتصادي وثيق معهم، دون الحاجة إلى تغيير الأيديولوجيات أو السياسات أو التوجهات القيمية لكل منهم. وهذا النهج هو ما يُميِّز السياسة الروسية عن النهج الغربي. ولذلك، يتطلع العديد من القادة الأفارقة بأمل إلى تكثيف التعاون مع روسيا، القادرة على ضمان إنهاء الاستعمار النهائي للقارة، ووضع حدّ للتطلعات الجماعية للهيمنة التي تمارسها دول الغرب.
فمنذ سنوات عديدة، دعت روسيا بشكل ثابت إلى تشكيل عالم متعدّد الأقطاب، خالٍ من هيمنة دول “الغرب الجماعي”، وتُولي اهتمامًا خاصًّا لاستكمال عملية إنهاء الاستعمار الكامل للدول الإفريقية التي حصلت منذ الأيام الأولى للاستقلال على الورق، على أمل الحصول على مساعدة شاملة لاحتياجات التنمية من “شركائها” الغربيين الأكثر تطورًا، ولكنها حدَّت عمدًا من سيادتها من خلال توقيع اتفاقيات التعاون، وفتح قواعد عسكرية، والسيطرة الاقتصادية، والديون، وفرضها لشروط التجارة غير المتكافئة.
ومن الواضح أن هذه الاتفاقيات أثبتت أنها أداة فعَّالة للغاية في يد الدول الغربية للحفاظ على مواقعها المهتزة إلى حدّ ما في المنطقة. ونتيجة لهذا، ظلت الدول الإفريقية مجرد مُزوِّد بالمواد الخام للدول الكبرى الغربية، التي استمرت في استغلال مستعمراتها السابقة في ظل الظروف الجديدة، محتفظةً بالسيطرة الكاملة تقريبًا على قاعدة مواردها المعدنية الغنية.
هذه السياسات التي اتبعتها الدول الغربية تجاه المستعمرات السابقة أطلق عليها اسم الاستعمار الجديد، الذي يتضمن مجموعة من الممارسات التي تهدف إلى إبقاء البلدان النامية في حالة من الاعتماد على دولها الكبرى السابقة. ونتيجة لذلك، فإن الدول الإفريقية التي نالت استقلالها رسميًّا ظلت في الواقع تعتمد على الآخرين، وبطبيعة الحال، حاولت البلدان الإفريقية من وقتٍ لآخر الحد من هذا الاعتماد، على سبيل المثال من خلال إعلان مفهوم “الاعتماد على الذات”.
إن التنفيذ الناجح لهذه الإستراتيجيات يتطلب قاعدة مالية ومادية وتكنولوجية متينة، وهو ما لم تكن البلدان الإفريقية تتمتع به لأسباب واضحة. ولذلك، من أجل اللحاق بالدول الغربية في تطورها، كان عليهم اللجوء إلى مساعدة تلك الدول الغربية نفسها، التي ضاربت بمهارة على ضمان التبعية المالية والتكنولوجية لشركائها الأفارقة، وأجبرتهم على تنفيذ تحولات اقتصادية وسياسية تهدف في المقام الأول إلى تعزيز مكانة الغرب في المنطقة، وخلق ظروف مواتية لأنشطة المستثمرين الغربيين والشركات العابرة للحدود الوطنية في السوق الإفريقية الواعدة.
وبطبيعة الحال، خضعت سياسة الاستعمار الجديد مع مرور الوقت لبعض التغييرات، وهي اليوم لا تتجلى بوضوح كما كانت في الستينيات والسبعينيات، ولكن الدول الإفريقية لا تزال تعتمد على التكنولوجيا الغربية والاستثمارات والمساعدات المالية والاقتصادية لتلبية احتياجات التنمية.
لقد لعب الاتحاد السوفييتي، دورًا مهمًّا في نضال البلدان الإفريقية ضد السياسات الاستعمارية الجديدة التي فرضتها الدول الغربية. وفي الوقت نفسه، كان للاتحاد السوفييتي، من خلال إقامة علاقات مع الدول الإفريقية الفتية، مزايا جدية على الغرب؛ لأنه لم يكن لديه مستعمرات في إفريقيا، وكان دائمًا يدعو إلى إنهاء الاستعمار السريع في القارة. وبشكلٍ عام، كان لسياسة الاتحاد السوفييتي تأثير كبير على التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول الإفريقية؛ فقد تم تطوير التعاون التجاري والاقتصادي والعسكري التقني والثقافي والتعليمي معها بشكل نشط، وتم توقيع اتفاقيات التجارة والاتصالات الجوية والبحرية، وفتح المراكز الثقافية السوفييتية مع العديد من البلدان الإفريقية.
وفي المجمل، تم إبرام نحو مائتي اتفاقية من هذا القبيل، وتلقى العديد من الأفارقة، بما في ذلك أولئك الذين احتلوا فيما بعد أعلى المناصب الحكومية في بلدانهم، تدريبهم في الاتحاد السوفييتي، وكانوا يتقنون اللغة الروسية.
ومع ذلك، بعد انهيار النظام ثنائي القطب، غادرت روسيا، بالتزامن مع إعادة توجيه مسار سياستها الخارجية، القارة الإفريقية مؤقتًا، وسقطت هي نفسها في الاعتماد على رأس المال والتكنولوجيا الغربية، وأصبحت ضحية للتطلعات الاستعمارية الجديدة لبلدان “الغرب الجماعي”، التي بدأت في تصدير القيم والأفكار الغربية “التقدمية” إلى جميع أنحاء العالم دون أيّ سيطرة تقريبًا.
لقد أعطى هذا الظرف للسياسة الاستعمارية الجديدة الحديثة طابعًا عالميًّا جديدًا؛ حيث وضع الآن مهمة القضاء على سيادة أغلبية البلدان غير الغربية، ومن خلال الهيمنة المالية والتكنولوجية العالمية، إملاء اتجاه التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المستقبلية عليها، وتحويلها إلى مستعمرات من نوع جديد، ويتم تحقيق ذلك من خلال جعل الدول والشعوب تعتمد على الاستثمارات وشركات التأمين والبنوك وأنظمة الدفع الغربية، ويقع على عاتق المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي دور خاص، فإذا حاولت أيّ دولة اتباع سياسة خارجية مستقلة، يتم إعلانها على الفور دولة منبوذة تنتهك حقوق الإنسان، ويتم فرض كل أنواع القيود والعقوبات الاقتصادية ضدها، ويمكن أن يتم البدء في ملاحقة جنائية ضد كبار المسؤولين في هذه الدولة مِن قِبَل الهيئات القضائية الدولية التي تسيطر عليها الدول الغربية؛ مثل المحكمة الجنائية الدولية.
ولكنّ هذه التدابير التقييدية فشلت في تدمير الاقتصاد الروسي، الذي لا يزال يُظهِر نموًّا مطردًا على الرغم من الضغوط غير المسبوقة المفروضة عليه، كما تظل معدلات تأييد الحكومة الحاكمة بين السكان مرتفعة للغاية.
إن هذا النوع من السياسة الغربية تجاه دولة ذات سيادة، مع محاولات التأثير على قياداتها، قد كشف بشكل كامل عن طبيعة الممارسات الاستعمارية الحديثة، عندما أصبحت إمكانية التعاون مع العالم الغربي في مجموعة متنوعة من المجالات تعتمد على طبيعة السياسة التي تنتهجها دولة معينة، وأصبحت هذه الاستراتيجية الغربية أكثر وضوحًا بعد بَدْء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا؛ حيث غادرت جميع شركات التكنولوجيا الفائقة الغربية الكبرى السوق الروسية، وتم فصل البنوك عن النظام المصرفي الدولي SWIFT، وتم تجميد الأصول الموجودة في الخارج، وقد أجبر هذا الظرف القيادة الروسية على الدعوة بشكل متزايد إلى الانتهاء السريع من عملية إنهاء الاستعمار، والتي -على الرغم من التأكيدات العديدة من “الشركاء” الغربيين- لم تكتمل، ووفقًا لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، “فإنها مُعقَّدة بسبب رغبة الدول الكبرى السابقة في الحفاظ على نفوذها في الظروف الجديدة”.
وبالإضافة إلى الهيئات الحكومية، انضم ممثلو المجتمع الأكاديمي إلى المناقشة النشطة حول هذا الموضوع، فمنذ عام 2022م، استضافت روسيا العديد من المنتديات والمؤتمرات الدولية التي أثارت، بطريقة أو بأخرى، قضايا تتعلق بمكافحة الإرث الاستعماري.
وفي 27 يونيو 2022م، استضافت الغرفة التجارية العامة في روسيا مؤتمرًا دوليًّا بعنوان “روسيا و”الصحوة” الإفريقية: آفاق مكافحة الاستعمار الجديد في القرن الحادي والعشرين”؛ حيث تمت مناقشة جوانب مختلفة من مكافحة الاستعمار الجديد في الدول الغربية، ويُشار إلى أن ممثلي السفارات الإفريقية، وعلى رأسهم سفير جمهورية إفريقيا الوسطى لدى روسيا ليون دودونو بوناجازا، فضلًا عن أعضاء الغرفة العامة في روسيا وعلماء وصحفيين أفارقة معروفين، شاركوا في المؤتمر، مما يدل على الرغبة في تنظيم مناقشة عامة واسعة النطاق لهذه القضية.
ثم تم طرح موضوع مكافحة مظاهر الاستعمار الجديد في المؤتمر البرلماني الثاني لروسيا وإفريقيا، الذي عُقِدَ في موسكو يومي 19 و20 مارس 2023م، وفي القمة الثانية لروسيا وإفريقيا، التي عُقِدَت في سان بطرسبرج يومي 27 و28 يوليو 2023م.
وفي 16 فبراير 2024م، عقدت روسيا الاتحادية أول منتدى دولي لداعمي النضال ضد الممارسات الاستعمارية الحديثة: “من أجل حرية الأمم!”، والذي جمع أكثر من أربعمائة مشارك من أكثر من 55 دولة، وفي كلمته الترحيبية، ذكَّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المشاركين في المنتدى بالدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في انهيار النظام الاستعماري، وأكد أن روسيا مستعدة لتكثيف النضال “من أجل الحرية والعدالة الحقيقية، من أجل التقدم لجميع البلدان والشعوب، من أجل تشكيل نظام عالمي ديمقراطي متعدد الأقطاب”.
وهكذا نرى كيف تعمل روسيا بشكل نشط على الترويج لسردية يمكن صياغتها على النحو التالي: “التعاون على أساس المنفعة المتبادلة دون أيّ شروط مسبقة”، وبعبارة أخرى، فإن روسيا مستعدة لتقديم المساعدة لشركائها الأفارقة في مجموعة واسعة من المجالات وإقامة تعاون تجاري واقتصادي وثيق معهم، دون الحاجة إلى تغيير في الأيديولوجية أو السياسة أو التوجهات القيمية، وهذا النهج يُميِّز سياسة روسيا عن نهج بلدان “الغرب الجماعي”، التي جعلت دائمًا إمكانية تقديم المساعدة المالية والتكنولوجية لتلبية احتياجات التنمية مرتبطة بالسياسة التي تنتهجها دولة معينة.
لذلك يرحب الأفارقة بعودة روسيا إلى إفريقيا بكل الطرق الممكنة، معربين عن أملهم في أن يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى إنهاء هيمنة الدول الغربية في المنطقة، وقد أشار إلى هذه الظروف، على وجه الخصوص، سفير جمهورية إفريقيا الوسطى لدى روسيا، ليون دودونو بوناجازا، خلال حديثه في يونيو 2022م في مؤتمر عُقِدَ في الغرفة العامة وباستخدام بلده كمثال، أظهر بشكل مقنع كيف حاولت فرنسا بكل قوتها الحفاظ على مكانتها في الجمهورية، وتنظيم الإطاحة بالحكام غير المرغوب فيهم إما من خلال الانقلاب أو من خلال انتفاضة المجموعات المختلفة المسلحة والتي أنشأتها الحكومة الفرنسية. وأعرب عن دعمه لعودة روسيا إلى إفريقيا، وأكد أن الأفارقة ينتظرون بفارغ الصبر مساعدة روسيا لقيادة بلدانهم للخروج من المأزق الاستعماري الجديد.
كما أعرب جاكوب موديندا، رئيس الجمعية الوطنية في زيمبابوي، عن موقف مماثل خلال المؤتمر البرلماني الروسي الإفريقي، وفي كلمته، شكر روسيا على دعمها المستمر للدول الإفريقية في جهودها لتعزيز مواقعها في العالم الحديث، وأعرب عن قناعته بأن “الاستقرار لا يمكن الحفاظ عليه في ظل ظروف الهيمنة”، وهو يرى أن روسيا يجب أن تعمل كقوة موازنة في العالم متعدد الأقطاب الناشئ. في حين أكَّد لويس فلافونو، رئيس برلمان جمهورية بنين، وجهة النظر هذه، مشيرًا إلى أن تعاون روسيا مع الدول الإفريقية يُشكِّل عاملاً مهمًّا في حلّ المشكلات العالمية.
وأعرب الرئيس الزيمبابوي إيمرسون منانجاجوا عن تقييم إيجابي لجهود روسيا في مكافحة الإرث الاستعماري؛ حيث صرح في يوليو 2023م في القمة الروسية الإفريقية الثانية أن إفريقيا “تتشاطر موقف روسيا بشأن مشكلة الاستعمار الجديد، وتتضامن مع معركة موسكو ضد هذه الظاهرة”، ومن المهم بشكل خاصّ أن نلاحظ أنه لم يتحدث نيابةً عن بلاده، بل نيابة عن جميع الأفارقة. كما أعرب جايو أشبير، عضو مجلس النواب الشعبي الإثيوبي، عن دعمه للسياسة الروسية، وفي اجتماع مع رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية دينيس بوشيلين في 15 ديسمبر 2024م، أكد بوتين أن روسيا رمز لاستقلال إفريقيا، وأن رغبتها في اتباع سياسة خارجية سيادية تمنح الأفارقة الطاقة لمحاربة الإرث الاستعماري، مشيرًا إلى أن “دعم روسيا لإفريقيا لا يعتمد على قوتها، بل على موقف مبدئي لحماية الحقوق السيادية للدول الإفريقية”.
بالتالي، ويمكن الاستنتاج بأن تصوُّر المفهوم الروسي لمحاربة الاستعمار الجديد في إفريقيا يجد العديد من المؤيدين في القارة، ومن المؤكد أن من العوامل المساعدة في هذا هو غياب الماضي الاستعماري والاستعماري الجديد الذي كانت تمتلكه الدول الغربية، وذكريات مساعدات التنمية التي قدَّمها الاتحاد السوفييتي في وقت ما للدول الإفريقية. ولذلك، يتطلع العديد من القادة الأفارقة بأمل إلى تكثيف التعاون مع روسيا، وهو ما قد يضمن إنهاء الاستعمار في القارة نهائيًّا، ويضع حدًّا لتطلعات الهيمنة التي تمارسها دول “الغرب الجماعي”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لينك التقرير: https://ru.valdaiclub.com/a/highlights/vospriyatie-borby-s-neokolonializmom-v-afrike/