من الأقوال الشائعة التي تُنسب إلى المفكر الكبير فرانتز فانون ولاتزال صحيحة حتى اليوم هي أن “إفريقيا تُشبه المسدس والزناد هو جمهورية الكونغو الديموقراطية”.
فما الذي حدث خطأ في الكونغو؟
تناولنا في كتابنا “الدولة المستحيلة في إفريقيا” أزمة الدولة في القارة الإفريقية من منظور نقدي وتحليلي. وينطلق الكتاب من تساؤل جوهري حول مدى إمكانية تحقق نموذج الدولة الحديثة، كما عُرف في السياق الغربي، في بيئة ما بعد استعمارية تعاني من تحديات بنيوية وتاريخية معقدة.
ويقدم الكتاب قراءة في فشل الدولة الإفريقية في ترسيخ أسس الشرعية، واحتكار العنف المشروع، وتحقيق التنمية المستقلة، حيث ظل هذا النموذج المستورد عاجزًا عن التكيف مع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية للقارة.
ومن هنا، طرحنا فكرة أن الدولة في إفريقيا، كما هي قائمة اليوم، دولة مستحيلة بالمعنى الوظيفي والسيادي، ما لم يُعاد صياغتها على أسس تتجاوز الإرث الاستعماري وتستجيب للحاجات الفعلية للمجتمعات الإفريقية. وبالنظر إلى أزمة جمهورية الكونغو الديمقراطية نجد أنها حسب هذا الفهم ليست مجرد “دولة إفريقية مضطربة”.
إنها صورة مصغرة تعكس بعض أهم القضايا الجيوسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تواجه القارة – بل والعالم – اليوم.
تضاريسها الشاسعة غنية بالمعادن الأساسية لاقتصاد القرن الحادي والعشرين، من الكوبالت إلى النحاس إلى الليثيوم.
غاباتها تُعتبر مصدرًا غنيا للكربون بحيث لا يمكن للبشرية تحمل خسارته.
ومع ذلك، لا يزال شرق الكونغو غارقًا في صراع يبدو بلا نهاية، مهجورًا من قبل عالم يتظاهر بأن المشكلة معقدة للغاية بحيث يصعب حلها.
دعونا نكون واضحين:
إن تحقيق سلام دائم في جمهورية الكونغو الديمقراطية أمر ممكن. لكنه يتطلب التخلي عن وهم أن صفقات المعادن مقابل الأمن أو الحلول العسكرية المفروضة من الخارج ستحقق الاستقرار في المنطقة.
ما يحتاجه الكونغو هو دولة فاعلة. هذا يعني بناء المؤسسات، وتقديم الخدمات العامة، واستعادة ثقة الجمهور، ومقاومة الجغرافيا السياسية المُفسدة التي حوّلت البلاد منذ زمن طويل إلى ساحة معركة للطموحات الأجنبية.
دولة مُنهارة، وليس حرب فاشلة:
ليست الحرب هي جوهر أزمة جمهورية الكونغو الديمقراطية – على الأقل ليس بالمعنى التقليدي. ما نشهده هو انهيار الدولة الموروثة عن العهد الاستعماري.
قد يكون لجمهورية الكونغو الديمقراطية علم ورئيس ونشيد وطني ومقعد في الأمم المتحدة، لكن على أرض الواقع، تُحكم أجزاء كبيرة من البلاد من قِبَل جماعات مسلحة مثل حركة إم23 وقوات الدفاع الديمقراطية وغيرها الكثير.
هؤلاء ليسوا مجرد متمردين. إنهم يجمعون الضرائب، ويقيمون نقاط تفتيش على الطرق، ويُديرون المناطق كحكومات فعلية.
وعليه فإن الدولة موجودة في الشرق من الناحية النظرية فقط في الغالب. لم يكن مستغربًا القول بأنه بدون دولة، لا يمكن أن يكون هناك سلام. ومع ذلك، فإن معظم الردود الدولية تُعامل مشاكل جمهورية الكونغو الديمقراطية على أنها معضلات أمنية، وليست إخفاقات في الحكم. الجميع ينفق الموارد على عمليات حفظ السلام، ومهام مكافحة التمرد، ومراقبة الانتخابات دون إصلاح آليات الدولة المعطلة.
يشبه الأمر أنك تحاول طلاء منزل على وشك الانهيار.
ومن جهة أخرى لو كانت مشاكل الكونغو داخلية فقط، لربما كان الحل أسهل. لكن جمهورية الكونغو الديمقراطية تقع على مفترق طرق بين تسع دول مجاورة، لكل منها مصالحها وشكوكها وطموحاتها. وُجهت اتهامات موثوقة إلى رواندا بدعم متمردي حركة 23 مارس، وهو ادعاء تنفيه كيغالي، لكن مصادر عديدة تؤكده بحيث يصعب دحضه. كما لعبت أوغندا لعبتها المزدوجة، وكذلك فعلت جهات فاعلة من بوروندي وجنوب السودان ودول أخرى.
هناك حقيقة خفية يجب الاعتراف بها:
يستفيد العديد من جيران جمهورية الكونغو الديمقراطية من ضعف الكونغو وأن تظل رجل إفريقيا المريض. إن الكونغو المستقرة والغنية بالموارد والمتماسكة وطنيًا ستكون قوة إقليمية قادرة على تحدي التبعيات الاقتصادية والترتيبات الأمنية.
وفي منطقةٍ يسودها انعدام الثقة والتحالفات التجارية، يُمثل هذا تهديدًا تُفضل بعض الدول عدم تحققه. لكن اللوم لا يقتصر على الجيران وأبناء العم الأفارقة فقط.
فالصين تُسيطر على مساحات شاسعة من اقتصاد التعدين في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وخاصةً في الكوبالت والنحاس.
كما أن للشركات الغربية يدٌ في الأمر أيضًا.
في غضون ذلك، تواصل بعثات حفظ السلام الدولية وبيانات السياسة الخارجية الضغط من أجل “الاستقرار” دون الاستثمار الجاد في القدرات الكونغولية.
والنتيجة؟ وهمٌ بالانخراط في مبادرات إقليمية ودولية دون تغيير حقيقي.
هل هي لعنة الموارد؟
ربما يكون من المُغري توجيه أصابع الاتهام إلى ثروات جمهورية الكونغو الديمقراطية الطبيعية – معادنها وغاباتها وأنهارها – كمصدرٍ للعنتها.
لكن هذا تحليلٌ مغرق في التبسيط. القول بلعنة الموارد وأنها سبب الصراع قد لا يكون صحيحًا، حيث إن إخفاقات الحوكمة هي التي تُسببه.
نعم، تُعتبر جمهورية الكونغو الديمقراطية موطنًا لأكثر من نصف المياه العذبة في إفريقيا، وأكبر احتياطيات الكوبالت في العالم.
نعم، إن التحول في مجال الطاقة يجعل الليثيوم والكولتان والنحاس الكونغولي أكثر قيمة من أي وقت مضى. لكن هذه الثروات ستكون نعمة في ظل نظام يضمن التوزيع العادل والتخطيط الوطني وحماية البيئة.
وبدلاً من ذلك، يُدار اقتصاد البلاد الاستخراجي كمؤسسة إجرامية. تختفي مليارات الدولارات من عائدات التعدين كل عام، وتُحوّل إلى حسابات خارجية وشبكات محسوبية.
في هذه الأثناء، يعيش المواطنون الكونغوليون في فقر مدقع، والمدارس تفتقر إلى الطباشير، والمستشفيات تفتقر إلى الأدوية، والطرق غير ممهدة تتحول إلى غبار. إنها ليست قضية اقتصادية، بل هي قضية سياسية.
إذا كنا نعتقد أن الانتخابات علامة على التقدم الديمقراطي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فعلينا التفكير مرة أخرى.
لقد شاب آخر تصويت، في عام 2023، مظاهر الفوضى والترهيب واتهامات بالتزوير. وليس من المبالغة القول إنها ستُسجل كواحدة من أسوأ الانتخابات إدارةً في تاريخ إفريقيا الحديث.
وعليه فإن المشكلة هي شخصنة السلطة في الكونغو حيث يتمتع القادة، السابقون والحاليون، بسلطة شخصية لدرجة أن المؤسسات تخدم الأفراد، وليس عامة الناس.
اتُهم الرئيس فيليكس تشيسكيدي، الذي أُشيد به يومًا ما كرجل اصلاحي، بتكرار النزعات الاستبدادية التي اتبعها أسلافه. الفساد منتشر على نطاق واسع. وأضحت المحسوبية سياسة. والمجتمع المدني يتعرض للمضايقة بدلًا من التمكين.
لا زلت أتذكر أن الرئيس موبوتو سيسي سيكو كوكو وازا بنجا، حاكم زائير (الكونغو الديمقراطية حاليا)، كان يُصوِّر نفسه كشخصية شبه مقدسة، وأحيانًا باعتباره “المسيح المنتظر”، في إطار دعاية سلطوية تهدف إلى تأليه الزعيم.
ومن أبرز مظاهر هذه الدعاية أن صورته كانت تُعرض في البرامج التلفزيونية الرسمية وكأنها تهبط من السماء وسط الغيوم، في مشهد يضفي عليه طابعًا كارزميا. وقد ارتبطت هذه الصورة الرمزية بسياسة موبوتو في شخصنة السلطة، حيث فُرض على المواطنين تعليق صوره، ومنح نفسه ألقابًا مثل “الزعيم الأبدي” و”المنقذ”، في محاولة لترسيخ ولاء شعبي قائم على القداسة والخوف، لا على الشرعية الديمقراطية أو المؤسساتية.
بدون مساءلة ديمقراطية ومؤسسات فاعلة، تُصبح مبادرات واتفاقيات السلام بلا معنى. مجرد حبر على ورق، كما أن وقف إطلاق النار ليس سلامًا. والتصويت ليس شرعية.
لا يحتاج الكونغو إلى المزيد من القوات الأجنبية التي لا تتحدث اللغات المحلية وتعمل بتفويضات غامضة. ولا يحتاج إلى صفقات المعادن مقابل الأمن التي تُمكّن المتعاقدين العسكريين الخاصين وتستنزف الثروات لصالح جهات خارجية. وبالتأكيد لا يحتاج إلى أن يُعامل كبيادق جيوسياسية في لعبة كبرى جديدة بين الشرق والغرب.
هذا ما تحتاجه البلاد:
تحتاج الكونغو إلى حوار وطني جاد لا يقتصر على النخب فحسب، بل يشمل أيضًا الفئات المهمشة والشباب والنساء والمجتمع المدني.
وتحتاج إلى إصلاح انتخابي يُصعّب الاستيلاء على السلطة ويُسهّل محاسبة القادة. وتحتاج إلى مؤسسات حكومية تُقدّم خدمات فعلية – التعليم، والمياه، والرعاية الصحية، والأمن.
تحتاج الكونغو إلى تكامل إقليمي يُحوّل الجيران من مُتنافسين إلى شركاء، لا سيما في إدارة الموارد المشتركة والهجرة.
كما تحتاج إلى دعم دولي – ولكن من النوع الذي يُلزم القادة بالمعايير، وليس النوع الذي يدعم الأنظمة الفاسدة مقابل الحصول على المعادن.
السلام الدائم يتطلب تفكيرًا طويل الأمد من خارج الصندوق:
إن أي حل في جمهورية الكونغو الديمقراطية يجب أن يمتد لأجيال. لا يُمكن التراجع عن عقود من العنف والفساد والانهيار باتفاقية سلام واحدة أو برنامج مانحين مدته خمس سنوات.
بل نحتاج إلى رؤية تمتد لثلاثين عامًا – رؤية تتسم بالصبر والتكيف والتعبير عن الطموحات المحلية. ويجب على القوى الغربية والمؤسسات الإفريقية والشعب الكونغولي نفسه الالتزام بعقد اجتماعي طويل الأمد.
هذا يعني تمويل بناء الدولة، وليس مجرد الاستجابة للأزمات. ويعني دعم التعليم المدني، والصحافة المستقلة، وسيادة القانون. ويعني أيضًا مقاومة الرغبة في “إصلاح” الكونغو من الخارج. يجب أن تأتي الحلول من الداخل.
وختامًا:
في نهاية المطاف، لا تعكس الأزمة في جمهورية الكونغو الديمقراطية ضعف الكونغو فحسب، بل تعكس أيضًا فشل الأنظمة الإقليمية والعالمية في إعطاء الأولوية للعدالة وتحقيق المصلحة العامة والقضاء على الاستغلال.
وعليه إذا تم الاستمرار في التعامل مع الكونغو كمكان منهار يصعب إصلاحه، فسيستمر في الانهيار – وسيدمر معه جزءًا كبيرًا من وسط إفريقيا.
ولكن إذا أدركنا أنه نقطة محورية للاستقرار الأفريقي، والأمن المناخي، والعدالة العالمية، فربما نجد العزم على التصرف بشكل مختلف. لأن الكونغو ليست معقدة للغاية بحيث يصعب إصلاحها. إنها بالغة الأهمية بحيث لا يمكن تجاهلها. الدولة هي بيت الداء. تلك هي المسألة!