نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
تمهيد:
في وقتٍ تُعدّ فيه حرية الصحافة ضمن المؤشرات الأساسية التي تُقاس بها جودة العملية الديمقراطية ومستوى الحوكمة في أيّ مجتمع، ورغم أن هذا الحق يُفتَرض أن يكون مكفولًا دستوريًّا وأخلاقيًّا، إلا أنه يُواجه اليوم تحديات متزايدة ومُعقَّدة، لا تقتصر فقط على القمع المباشر أو الرقابة السياسية، بل تمتد إلى ضغوط اقتصادية متزايدة تُضْعِف استقلالية الإعلام، وتُقوِّض قدرته على أداء دوره الرقابي والمهني.
في هذا السياق، يكتسب مؤشر حرية الصحافة العالمي الصادر في مايو 2025م، عن منظمة “مراسلون بلا حدود”(RSF) ، والمكوَّن من 5 مؤشرات فرعية (الاقتصادي، السياسي، القانوني، الاجتماعي-الثقافي، السلامة والأمن)، أهمية خاصة؛ إذ يكشف عن التأثير العميق للهشاشة الاقتصادية في تقويض حرية الإعلام حول العالم، داعيًا إلى إصلاح عاجل للبنية المالية التي تحكم القطاع الإعلامي، باعتبار أن الاستقلال الاقتصادي هو الشرط الأساسي لضمان صحافة حرَّة وموثوقة تخدم الصالح العام.
انطلاقًا مما سبق، يسعى هذا المقال إلى استعراض أبرز ما جاء في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2025م، مع التركيز بشكل خاص على موقع إفريقيا جنوب الصحراء في هذا المؤشر، وذلك من خلال النقاط الرئيسية التالية:
- المحور الأول: مؤشر حرية الصحافة 2025م… قراءة عالميّة.
- المحور الثاني: إفريقيا جنوب الصحراء في ضوء مؤشر حرية الصحافة 2025م.
- خاتمة (رؤية تقييمية).
المحور الأول: مؤشر حرية الصحافة 2025م… قراءة عالميّة
في هذا القسم نقدّم قراءة عامة لأبرز الاتجاهات والتحديات التي تواجه حرية الصحافة عالميًّا، كما وثّقها تقرير “مراسلون بلا حدود” لعام 2025م، وذلك على النحو التالي:
أولًا: اتساع الفجوة بين أوروبا وبقية العالم
وفقًا للمؤشر، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا استمرارًا في تصنيفها كأخطر منطقة على الصحفيين، لا سيّما بعد الدمار الذي لحق بوسائل الإعلام في غزة جراء العمليات الإسرائيلية. كما أن جميع دول المنطقة تقريبًا مصنّفة ضمن الفئات الدنيا لحرية الصحافة، باستثناء قطر (المرتبة ٧٩).
من جهة أخرى سُجّل في تونس تراجع كبير في المؤشر الاقتصادي (المرتبة ١٢٩)، وذلك انعكاسًا لأزمة سياسية تُهدّد الإعلام المستقل. أما إيران (المرتبة ١٧٦) وسوريا (المرتبة ١٧٧) فظلتا ضمن الدول الواقعة في نهاية المؤشر؛ نتيجة القمع والرقابة المشددة.
في آسيا والمحيط الهادئ، انخفض المؤشر الاقتصادي في ٢٠ من أصل ٣٢ دولة، بسبب هيمنة النموذج الدعائي الصيني واستلهام الأنظمة السلطوية له. وعليه، فقد عادت الصين (المرتبة ١٧٨) إلى قاع المؤشر، تسبق فقط كوريا الشمالية (المرتبة ١٧٩). كما أدى تركُّز الملكية الإعلامية والضغوط الاقتصادية في بلدان مثل الهند (المرتبة ١٥١) إلى تراجع حادّ في الحريات الإعلامية.
في الأمريكيتين، تدهور المؤشر الاقتصادي في ٢٢ من أصل ٢٨ دولة، فقد شهدت الولايات المتحدة (المرتبة ٥٧) تراجعًا بعد فوز دونالد ترامب بولاية ثانية. وفي الأرجنتين (المرتبة ٨٧) والسلفادور (المرتبة ١٣٥)، ساهمت الدعاية السياسية والهجمات على الإعلام المستقل في تعميق الأزمة. أما المكسيك (المرتبة ١٢٤)، فظلت الأخطر على الصحفيين. وعلى النقيض، تحسّنت البرازيل (المرتبة ٦٣) بعد مغادرة بولسونارو للسلطة.
أخيرًا، تبقى أوروبا المنطقة الأفضل أداءً، رغم الانقسام بين شرقها وغربها. فقد شهدت ٢٨ من أصل ٤٠ دولة تراجعًا في المؤشر الاقتصادي. ولا يزال قانون حرية الإعلام الأوروبي (EMFA) في طور الانتظار. في المقابل، احتفظت النرويج (المرتبة ١) بالمركز الأول للعام التاسع على التوالي، تلتها إستونيا (المرتبة ٢) وهولندا (المرتبة ٣).
ثانيًا: موجة إغلاق مستمرة
وفقًا للبيانات التي أوضحها مؤشر حرية الصحافة العالمي ٢٠٢٥م، فإن وسائل الإعلام -في ١٦٠ من أصل ١٨٠ دولة يتم تقييمها-، قد حقّقت الاستقرار المالي “بصعوبة”، أو “لم تحققه على الإطلاق”، والأسوأ من ذلك، أن وسائل الإعلام أغلقت أبوابها بسبب الضائقة الاقتصادية في حوالي ثلث دول العالم. وينطبق ذلك على الولايات المتحدة (المرتبة ٥٧، تراجعت بمقدار مركزين)، وتونس (المرتبة ١٢٩، تراجعت ١١ مركزًا)، والأرجنتين (المرتبة ٨٧، تراجعت ٢١ مركزًا).
أما الوضع في فلسطين (المرتبة ١٦٣) فيعتبر كارثيًّا؛ إذ دمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي غرف أخبار، وقتلت ما يقرب من ٢٠٠ صحفي، وفرضت حصارًا كاملًا على قطاع غزة لأكثر من ١٨ شهرًا. وفي هايتي (المرتبة ١١٢، تراجعت ١٨ مركزًا)، أدى انعدام الاستقرار السياسي إلى إدخال الاقتصاد الإعلامي في حالة من الفوضى.
حتى الدول المصنّفة في مراتب متقدمة نسبيًّا، مثل جنوب إفريقيا (المرتبة ٢٧) ونيوزيلندا (المرتبة ١٦)، لم تَسْلَم من هذه التحديات.
علاوةً على ذلك تعاني ٣٤ دولة -على مستوى العالم- من حالات للإغلاق الجماعي لوسائل الإعلام، ما أدَّى إلى لجوء الصحفيين إلى المنفى في السنوات الأخيرة. ينطبق ذلك خصوصًا على نيكاراجوا (المرتبة ١٧٢، تراجعت ٩ مراكز)، وبيلاروسيا (المرتبة ١٦٦)، وإيران (المرتبة ١٧٦)، وميانمار (المرتبة ١٦٩)، والسودان (المرتبة ١٥٦)، وأذربيجان (المرتبة ١٦٧)، وأفغانستان (المرتبة ١٧٥)؛ حيث تتفاقم الأزمات الاقتصادية إلى جانب الضغوط السياسية.
ثالثًا: وضع عالمي “صعب” للمرة الأولى
لطالما حذّر المؤشر، منذ أكثر من عشر سنوات، من تدهور عالمي متوقع في حرية الصحافة. وفي عام ٢٠٢٥م، سُجّل مستوى متدنٍ جديد؛ فقد انخفض متوسط درجات جميع الدول المشمولة بالتقييم إلى ما دون ٥٥ نقطة، ما يضعها ضمن فئة “الوضع الصعب”. كما شهدت أكثر من ١١٢ دولة – أي أكثر من ٦ من كل ١٠ دول– تراجعًا في درجاتها الإجمالية ضمن المؤشر.
ولأول مرة منذ إطلاق المؤشر، أصبحت ممارسة الصحافة في أكثر من نصف دول العالم ضمن فئتي “الصعب” أو “الخطير جدًّا”، بينما لم تعد الأوضاع “مرضية” سوى في أقل من رُبع دول العالم.
وهو ما أدّى إلى خريطة تزداد احمرارًا (وضع أكثر خطورة)، نوضحها لاحقًا في خريطة رقم 1. وعليه نجد أنه في ٤٢ دولة – تضم أكثر من نصف سكان العالم– يُصنّف الوضع على أنه “خطير جدًّا”. في هذه المناطق، تغيب حرية الصحافة كليًّا، وتصبح ممارسة المهنة محفوفة بالمخاطر. من بين هذه الدول فلسطين (المرتبة ١٦٣)؛ حيث دمرت القوات الإسرائيلية العمل الصحفي على مدار أكثر من ١٨ شهرًا، وقتلت ما يقارب ٢٠٠ من العاملين في الإعلام –من بينهم ما لا يقل عن ٤٣ قُتلوا أثناء أداء مهامهم–، وفرضت تعتيمًا تامًّا على قطاع غزة المُحاصَر. أما إسرائيل (المرتبة ١١٢)، فقد واصلت تراجعها في المؤشر، متدنية ١١ مرتبة.
وفي آسيا الوسطى، أدت بعض التطورات السلبية في قيرغيزستان (المرتبة ١٤٤) وكازاخستان (المرتبة ١٤١) إلى مزيد من التدهور في المنطقة. أما في الشرق الأوسط، فقد تدهورت أوضاع الأردن (المرتبة ١٤٧) بشكل حادّ؛ حيث هبطت ١٥ مرتبة نتيجة تشريعات قمعية استُخدمت ضد الصحافة.
وإجمالًا، توضح الخريطة التالية حالة حرية الصحافة في 180 دولة ومنطقة يشملها المؤشر، علمًا أن اللون الأخضر يعني وضع جيد لحرية الصحافة (وهو الأقل على الإطلاق)، فيما يشير الأصفر إلى وضع مُرْضٍ، أما البرتقالي فيشير إلى وضع إشكالي، بينما يشير البرتقالي الغامق إلى وضع صعب، وأخيرًا يرمز اللون الأحمر الغامق إلى وضع شديد الخطورة (وهو الأكثر على الإطلاق).
خريطة رقم (1)
حالة حرية الصحافة على مستوى العالم وفقًا لمؤشر حرية الصحافة 2025م (بحسب 180 دولة ومنطقة)
Source: “RSF World Press Freedom Index 2025: economic fragility a leading threat to press freedom”, Reporters Without Borders (RSF), May 2025, On: https://2u.pw/yABxR
رابعًا: الضغط السياسي والاستقطاب الإعلامي
في هذا الإطار يشير المؤشر إلى تعرُّض أكثر من نصف الدول المشمولة في المؤشر -عدد الدول الإجمالي 180- لضغوط سياسية مباشرة أو غير مباشرة على وسائل الإعلام. ويُلاحظ هذا التأثير بشكل خاص في دول مثل أذربيجان (المرتبة ١٦٧)، وتركيا (المرتبة 159)؛ حيث لا يزال عدد كبير من الصحفيين في السجن.
ويؤدي هذا الوضع إلى خلق مناخ من الاستقطاب الإعلامي الحادّ، سواء كان مفروضًا من السلطات أو ناتجًا عن الولاءات السياسية، كما هو الحال في بولندا (المرتبة ٤٧)؛ حيث تخضع وسائل الإعلام العامة لسيطرة الحزب الحاكم السابق، رغم تغيُّر الحكومة.
خامسًا: الذكاء الاصطناعي وزعزعة الثقة في الإعلام
يُنبّه هنا تقرير “مراسلون بلا حدود” إلى أنه من بين التهديدات الجديدة التي تُواجه الصحفيين هي تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ إذ تُسهِّل نشر معلومات مضللة، مثل الصور المفبركة التي ظهرت خلال الانتخابات الرئاسية في إندونيسيا أو أثناء الحرب في غزة. كما تؤدي هذه الأدوات إلى خَلْق محتوى غير موثوق يفتقر إلى المعايير المهنية، ما يُضْعِف من ثقة الجمهور في وسائل الإعلام. بالإضافة إلى ذلك، تستخدم بعض الحكومات تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد الصحفيين أو إنتاج محتوى دعائي لها بصورة أوتوماتيكية.
سادسًا: تدهور الحالة النفسية للصحفيين
في أكثر من ثلث الدول التي شملها المؤشر (إجمالي 180 دولة ومنطقة)، يؤثر تدهور الحالة النفسية للصحفيين على جودة عملهم؛ حيث يُعدّ الضغط الاقتصادي وظروف العمل غير المستقرة والعنف المُوجَّه ضدهم، وخطاب الكراهية عبر الإنترنت، كلها عوامل أدَّت إلى انتشار واسع لحالات الإرهاق النفسي.
ففي الهند (المرتبة 151)، تم تسليط الضوء على هذه المشكلة من خلال قضية انتحار المصور الصحفي المخضرم “سردار بال سينغ”، الذي ترك رسالة عبَّر فيها عن استيائه من الظروف التي يعمل فيها الصحفيون.
ولا يختلف الوضع كثيرًا في البرازيل (المرتبة 63)؛ حيث أظهرت دراسة أجراها الاتحاد الوطني للصحفيين أن ٧ من كل ١٠ صحفيين يعانون من الاكتئاب.
في ضوء ما سبق، تتضح صورة قاتمة لواقع حرية الصحافة في العالم في المؤشر الصادر لعام 2025م؛ حيث تشهد المهنة تحدّيات متصاعدة على جبهات متعددة؛ من تضييق الخناق السياسي والأمني، إلى الانهيار الاقتصادي لوسائل الإعلام، مرورًا بتأثيرات الذكاء الاصطناعي والاستقطاب المتزايد، وصولًا إلى تدهور الصحة النفسية للعاملين في المجال الصحفي.
وبينما تستمر أوروبا في التربُّع على رأس المؤشر؛ فإن الفجوة بينها وبين بقية العالم تتسع بشكل مقلق، خاصةً مع تحوُّل عدد متزايد من الدول إلى مناطق “خطرة جدًّا” لممارسة الصحافة. ويبدو أن الاتجاه العام يسير نحو انحسار المساحات الحرة، ما يفرض على المجتمع الدولي وصنّاع السياسات مواجهة هذا التراجع بوصفه خطرًا مباشرًا على الديمقراطية وحق الجمهور في المعرفة.
المحور الثاني: إفريقيا جنوب الصحراء في ضوء مؤشر حرية الصحافة 2025م
تُواجه حرية الصحافة في إفريقيا جنوب الصحراء اليوم تحديات متفاقمة؛ إذ تُسجِّل العديد من دول المنطقة تراجعًا مقلقًا على مستوى المؤشرات الفرعية المختلفة للمؤشر (السياسية- الاقتصادية- الاجتماعية- السلامة والأمن.. إلخ). كما تُعدّ المنطقة من أكثر المناطق تأثرًا بالتدهور الاقتصادي؛ حيث انخفضت درجات حرية الصحافة في نحو 80% من دولها.
ويُفاقم هذا الوضع تركُّز ملكية وسائل الإعلام في أيدي عدد محدود من الفاعلين المرتبطين بالسلطة أو أصحاب المصالح السياسية، مما يُقوِّض استقلالية غرف الأخبار، ويُضْعِف الأداء المهني للصحافة.
وفي هذا السياق، نستعرض أبرز الاتجاهات والمظاهر (والمُهدّدات) التي تُشكّل المشهد الصحفي في إفريقيا جنوب الصحراء وفق ما ورد في مؤشر حرية الصحافة الصادر عام 2025م كما يلي:
أولًا: الصحافة الإفريقية تحت ضغط اقتصادي يُهدّد استقلاليتها
يتجلى هذا بشكل خاص في دول مثل نيجيريا (المركز ١٢٢ من أصل 180 دولة ومنطقة يشملها التقرير)، وسيراليون (٥٦)، والكاميرون (١٣١). وتتفاقم المشكلة بسبب اعتماد وسائل الإعلام على عائدات الإعلانات، والتي تأتي غالبًا من ميزانيات خاصة بالدولة والشركات الكبرى، كما هو الحال في بنين (٩٢) وتوجو (١٢١). هذا الاعتماد قد يدفع غرف الأخبار إلى ممارسة الرقابة الذاتية وتقييد هامش الحرية؛ خوفًا من فقدان التمويل، وهو خوف له ما يُبرّره؛ ففي كينيا (١١٧)، على سبيل المثال، سحبت شركة “سفاريكوم” للاتصالات إعلاناتها من صحيفة ذا نيشن، بعد كشف الأخيرة عن دور الشركة في مراقبة اتصالات المواطنين.
كما يُضعف قطاع الإعلام غياب الدعم العام المستمر والشفاف. ففي العديد من الدول يكون الدعم الحكومي نادرًا أو يتم توزيعه بطريقة غير عادلة. ففي موريتانيا (٥٠)، يضعف هذا الدعم بسبب ضعف الحوكمة، مما يُقوّض استقلالية الإعلام. أما في السنغال (٧٤)، فقد أولت الإصلاحات الجارية أولوية لجعل الدعم الحكومي لوسائل الإعلام أكثر شفافية، رغم أن الصحفيين يرون أن التدابير المقترحة قد تؤدي إلى تفاقم حملات التفتيش الضريبي وتعليق عقود الإعلانات مع المؤسسات العامة.
ثانيًا: الصحفيون ووسائل الإعلام في خطر
يركّز المؤشر هنا على منطقة الساحل؛ حيث تؤثر الأوضاع الأمنية المتدهورة لديها بشكل مباشر على الجدوى الاقتصادية لوسائل الإعلام، وكذلك الدعم المُقدَّم لها. ففي بوركينا فاسو (١٠٥) ومالي (١١٩) أوقفت بعض المؤسسات الإعلامية نشاطها، وتم تهجير طواقمها داخليًّا أو اضطرت إلى اللجوء إلى الخارج. بل إن بعض الصحفيين المنتقدين للسلطات البوركينابية أُجْبِرُوا على التجنيد القسري في الجيش، مما زاد من حدة القمع ضد الصحافة. وفي شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية (١٣٣) أُغْلِقَت العشرات من محطات الإذاعة المحلية، وتعرَّض العديد من الصحفيين للنزوح، ما أدَّى إلى فقدان وظائفهم.
بالإضافة إلى التحديات الأمنية، فإن الإجراءات القضائية والإدارية المشددة تُؤثّر سلبًا على الحالة المالية للإعلام. ففي عدة بلدان، تَستخدم السلطات النظام القضائي أو الهيئات التنظيمية الحكومية لمعاقبة المؤسسات الإعلامية. ففي غينيا (١٠٣)، أدى سحب تراخيص البث لقناتي “ديجوما تي في”، و”إسباس إف إم”، إلى فقدان أكثر من ٧٠٠ وظيفة. وفي مالي (١١٩)، تسبَّب تعليق قناة “جوليبا تي في” لمدة ستة أشهر مِن قِبَل الهيئة الوطنية للاتصالات في انخفاض حادّ في عائداتها الإعلانية.
ثالثًا: الخريطة الحمراء تتسع (الوضع الأكثر خطورة)
في هذا السياق يشير المؤشر إلى أن 7 دول إفريقية الآن أصبحت ضمن الربع الأدنى من التصنيف (المعني بـ “حرية الصحافة”). فقد انضمت أوغندا (١٤٣)، وإثيوبيا (١٤٥)، ورواندا (١٤٦) هذا العام إلى فئة “الوضع الخطير جدًّا”. أما بوروندي (١٢٥)، التي كانت بالفعل بالقرب من قاع المؤشر، فقد تراجعت ١٧ مرتبة. وعلى الرغم من الإفراج عن مقدمة البرامج في راديو “إيجيكانييرو” فلوريان إيرنجابيي، فإن الوضع العام لا يزال حرجًا؛ حيث تعمل العديد من وسائل الإعلام البوروندية من المنفى.
أما إريتريا (١٨٠)، فلا تزال في المرتبة الأخيرة في المؤشر؛ حيث تخضع الصحافة لحكم استبدادي من الرئيس أسياس أفورقي. ولا توجد أيّ وسيلة إعلام مستقلة في البلاد، كذلك يتم احتجاز الصحفيين كالصحفي السويدي-الإريتري داويت إسحاق.
بشكل عام، باتت مهمة نقل الخبر للجمهور في إفريقيا تحديًا مزمنًا، إلا أن بعض الدول التي حصلت على مراتب متقدمة، مثل جنوب إفريقيا (٢٧)، وناميبيا (٢٨)، والرأس الأخضر (٣٠)، والجابون (٤١)، وما زالت تشكّل بوارق أمل في المشهد الإعلامي القاري.
ويوضح الجدول رقم (1) التالي موقع دول إقليم غرب إفريقيا وفقًا لمؤشر حرية الصحافة 2025م، كما يلي:
جدول رقم (1)
ترتيب دول إفريقيا جنوب الصحراء وفقًا لمؤشر حُريّة الصحافة العالمي لعام 2025م
(من الأكثر حرية للصحافة للأقل)
Source: Adopted from: RSF World Press Freedom Index 2025: economic fragility a leading threat to press freedom, On: https://rsf.org/en/index
يُلاحَظ من الجدول رقم 1 أن ١٨ دولة من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء قد تقدَّمت في ترتيبها مقارنةً بعام ٢٠٢٤م، بينما تراجعت 27 دولة عن ترتيبها في العام نفسه، في حين حافظت دولتان فقط على نفس المركز، وهما: غامبيا (٥٨) وإريتريا (١٨٠ – وهو المركز الأخير).
من جهة أخرى، يظهر الجدول أن المنطقة -إفريقيا جنوب الصحراء- شهدت تفاوتًا فيما حصلت عليه من تصنيف، فبعض الدول شهدت تحسنًا ملحوظًا (مثل جنوب السودان +٢٧، السنغال +٢٠، ليسوتو +١٥)، بينما تراجعت بلدان أخرى بشكل كبير عن عام 2024م (مثل غينيا -٢٥، بوركينا فاسو -١٩، غينيا بيساو -١٨)، ما يعكس تفاوتًا في البيئة الإعلامية بين الدول، رغم الانتماء الجغرافي المشترك.
في المجمل، يعكس تقرير “مراسلون بلا حدود” لعام 2025م صورة متباينة تهيمن على الوضع الإعلامي في المنطقة. فمن جهة، تُظهر بعض الدول مثل جنوب إفريقيا وناميبيا تقدمًا ملحوظًا في تحسين بيئة الصحافة، ما يمنح الأمل في مستقبل أكثر حرية واستقلالية لوسائل الإعلام. إلا أن المؤشر من جهة أخرى، يُظهر تراجعًا خطيرًا في العديد من الدول، سواء بسبب القمع السياسي أو الأزمات الاقتصادية أو التدهور الأمني الذي يؤثر على سلامة الصحفيين، وغيرها من مؤشرات يشملها التقرير (5 مؤشرات)، ما جعل مهمة الصحافة في تلك البلدان مُهدّدة بشكل لافت للغاية.
وعليه، نقول: إن تركز ملكية وسائل الإعلام في أيدي فاعلين محددين وغياب الدعم الحكومي والشفافية يعزز من قبضة النفوذ السياسي على الفضاء الصحفي، ما يَحُدّ من قدرة الصحفيين على ممارسة مهنتهم بحرية واحترافية. وبالتالي، تظل حرية الصحافة في إفريقيا جنوب الصحراء تحت التهديد المستمر، لذا تبرز الحاجة لتعزيز الجهود الدولية والمحلية للحفاظ على هذا الحق الأساسي، وضمان استقلالية وسائل الإعلام في مواجهة التحديات المتزايدة.
خاتمة:
محصلة القول، يُعدّ مؤشر حرية الصحافة أداة هامة لفهم واقع حرية الصحافة والفضاء الأوسع الذي تعمل خلاله وسائل الإعلام على مستوى العالم وعلى صعيد إفريقيا جنوب الصحراء بشكل أكثر تحديدًا، خاصة أنه يُسلّط الضوء على التحديات التي تواجه الصحفيين ووسائل الإعلام، ويكشف عن تأثير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والأمنية على قدرتهم في ممارسة مهنتهم بحرية واستقلالية. وبينما يظهر المؤشر تحسنًا في بعض المناطق مثل أوروبا وأمريكا الشمالية، إلا أن العديد من الدول، خاصةً في إفريقيا جنوب الصحراء، لا تزال تُواجه تهديدات متنامية لحرية الصحافة لا سيما مع الضغوط السياسية والتدهور الأمني، وتركُّز ملكية الإعلام في أيدي قلة من الفاعلين، كما بيّنا مسبقًا.
أخيرًا، وعلى الرغم من القيمة التي يُوفّرها المؤشر في تقديم صورة عامة عن البيئة الإعلامية العالمية، إلا أنه لا يخلو من بعض التحفظات، لا سيما بشأن محدودية قدرته على مراعاة الخصوصيات والسياقات المحلية، وهو ما قد يؤدي إلى نقل غير دقيق لواقع حرية الصحافة في بعض البلدان.
كما يرى بعض المختصين أن المؤشر يميل إلى تبنّي معايير غربية لحرية الصحافة، ما قد ينتج عنه انحياز ضد الدول التي تتبنّى نماذج مختلفة، ولا يراعي التنوع الثقافي والسياسي العالمي. لذا، من المهم أن يُصاغ المؤشر بطريقة توازن بين الديناميات المحلية والاعتبارات الدولية، دون إغفال أي منهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-مصدر مؤشر حرية الصحافة العالمي للعام 2025م:
“RSF World Press Freedom Index 2025: economic fragility a leading threat to press freedom”, Reporters Without Borders (RSF), May 2025. Retrieved from: https://rsf.org/en/classement/2025/africa
2-للمزيد حول منهجيّة مؤشر حرية الصحافة العالمي وقراءة لنسخته للعام 2024م، انظر:
نِهاد محمود، قراءة لموقع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2024م، قراءات إفريقية، 18 سبتمبر، 2024م، على الرابط: https://2u.pw/UjJjouVJ