روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
بعد معركة انتخابية حامية بين جيبوتي وكينيا على رئاسة مفوضية الاتحاد الإفريقي؛ فازت دولة جيبوتي لتكون أول دولة عربية تتولى رئاسة الاتحاد، وعليه يترقب الكثيرون تَصدُّر أولويات جديدة للاتحاد على رأسها الصراعات في القرن الإفريقي، وأزمات المنطقة التي لا تلبث أن تهدأ حتى تشتعل، وتأتي الفرصة لدولة جيبوتي أن تتولى الوساطة في حلّ أزمات المنطقة كدولة محورية في القرن الإفريقي.
في هذا التحقيق، نتعرَّض للأولويات الجديدة أمام الاتحاد الإفريقي، وإمكانيات القيادة الجديدة في ظل المستجدات على الساحة الإفريقية، وفرص جيبوتي لممارسة دور ريادي في القرن الإفريقي، هذا وأكثر تجدونه في التحقيق.
قيادة جديدة، ولكن…
انتخبت قمة الاتحاد الإفريقي يومي 15 و16 فبراير 2025م، قيادة جديدة للاتحاد الإفريقي، وتولَّى وزير الخارجية الجيبوتي محمود علي يوسف رئاسة مفوضية الاتحاد، والجزائرية سلمى مليكة حدادي، سفيرة الجزائر لدى إثيوبيا والاتحاد الإفريقي، نائبة رئيس المفوضية.
وقد طبّق الاتحاد الإفريقي خلال هذه الانتخابات مبدأ التمثيل الإقليمي العادل والمساواة بين الجنسَيْن في عملية الانتخاب؛ حيث حصلت منطقة شرق إفريقيا على منصب رئيس المفوضية، وبينما نالت منطقة شمال القارة منصبَ نائب رئيس المفوضية، وحصلت مناطق وسط وجنوب وغرب القارة على اثنتَيْن من المفوضيات الست.
ويرى مراقبون أن القيادة الجديدة ستتسلم دفَّة الاتحاد الإفريقي في ظل تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية بالغة التعقيد، وتطوّرات جيوسياسية قارية ودولية متقلّبة.
في هذا الصدد أكد أستاذ العلوم السياسية، د. حمدي عبد الرحمن لـ”قراءات إفريقية”، أن الاتحاد الإفريقي يدخل حقبة جديدة بانتخاب محمود علي يوسف من جيبوتي رئيسًا؛ إلا أن القيادة الجديدة ترث ست تحديات كبرى ترتبط بتصاعد الأزمات الأمنية وضعف المؤسسات.
أُولَى هذه التحديات، بحسب “عبد الرحمن” هو التحدي الأمني؛ ويتمثل في تضاعف عدد النزاعات في إفريقيا خلال العقد الماضي، وتُشكّل الحروب المنسية في السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومنطقة الساحل، بالإضافة إلى العنف المُستمر في موزمبيق وشمال نيجيريا والصومال؛ تهديداتٍ مُباشرة للاستقرار والأمن في إفريقيا.
حيث واجهت آليات السلام والأمن التابعة للاتحاد الإفريقي صعوباتٍ في مُواكبة هذه الأزمات، وغالبًا ما تتجاهل الجهات الفاعلة الدولية، بل وتُصِرّ على تهميش الاتحاد الإفريقي في المفاوضات بسبب محدودية وزنه السياسي وموارده، كما كشفت الانقلابات العسكرية والتغييرات غير الدستورية للحكومات عن محدودية فعالية الاتحاد الإفريقي في إنفاذ القِيَم المشتركة والنظام الدستوري.
ويرى “عبد الرحمن” أن التحدي السياسي يتمثل في غياب الزعامة القارية، وانتهاء عهد القادة المؤثرين القادرين على قيادة الأجندات القارية تاركين فراغًا كبيرًا، مثل نكروما وسيكوتوري ونيريري وبن بيلا ومانديلا، كما أن انشغال العديد من الدول الأعضاء الرئيسية بقضاياها الداخلية يُقلل من مشاركتها في شؤون الاتحاد الإفريقي، وبالتالي غابت قدرة الاتحاد على إنفاذ المعايير وقيادة حل النزاعات، كما أن الانقسامات الداخلية والتنافس بين الكتل الإقليمية تُضعف الصوت الجماعي للاتحاد.
ويأتي التحدي الثالث وهو التحدي المؤسسي؛ حيث يعتقد “عبد الرحمن” أن هناك فجوة مستمرة بين سياسات الاتحاد الإفريقي وتطبيقها، مع بقاء نسبة هائلة من القرارات دون تنفيذ، كما أن منصب رئيس مفوضية الاتحاد يفتقر إلى الاستقلالية والسلطة الكافيتين للتصرُّف بحزم في المسائل الإستراتيجية، وهذا يَحُدّ من قدرة الاتحاد على الاستجابة الاستباقية للأزمات.
وأما التحدي الرابع فيكمن في التمويل؛ حيث يعتمد الاتحاد الإفريقي بشكل كبير على التمويل الخارجي، مما يثير المخاوف بشأن استقلاليته وقدرته على وضع أجندته الخاصة، وعلى الرغم من بعض التقدم المُحْرَز في دعم صندوق السلام إلا أن الاستقلال المالي لا يزال بعيدًا، وفي ظل التكالب الجديد على إفريقيا تصبح الدول الإفريقية هدفًا للعلاقات التبادلية بدلاً من الشراكات الحقيقية.
وأردف “عبد الرحمن” أن تحدّي الدولة الفاشلة وغياب التنمية المستدامة من أهم التحديات؛ فالدولة ما بعد الاستعمارية لا تزال هي بيت الداء في إفريقيا؛ حيث فقدت قدرتها على تحقيق التنمية المستدامة، كما تُواجه تحديات إضافية مثل: تغيُّر المناخ، والنمو السكاني السريع، وانتشار البطالة بين الشباب، وهنا يتعين على الاتحاد الإفريقي معالجة هذه القضايا، مع التكيُّف مع التغيرات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي.
وأخيرًا تحدّي الارتباط بالشعوب الإفريقية؛ حيث يرى “عبد الرحمن” أن مصداقية الاتحاد الإفريقي تضررت بسبب عدم فعاليته وبُعْده عن المواطنين الأفارقة العاديين، مقارنةً بالاتحاد الأوروبي مثلاً، فلا يزال سد الفجوة بين مبادرات الاتحاد الإفريقي وتجارب المواطنين المعيشية يُشكِّل تحديًا، ويتضح ذلك من المشاريع المتعثرة مثل: جواز السفر الإفريقي، وبروتوكولات حرية التنقل؛ حيث إن إعادة بناء الثقة وتعزيز المشاركة الشعبية أمران أساسيان لجعل الاتحاد الإفريقي اتحادًا للشعب.
قيادة جديدة… أولويات جديدة
في حملته الانتخابية لرئاسة مفوضية الاتحاد الإفريقي؛ صرّح محمود علي يوسف، رئيس المفوضية الجديد، بأنه سيدعو إلى إصلاحات جوهرية في آليات استجابة الاتحاد للأزمات، وتشمل هذه الإصلاحات إنشاء مجلس سلام وأمن أكثر فعالية، وقوات احتياطية فعّالة وجاهزة للانتشار في مناطق النزاع.
كما تعهَّد بالتزامه بمعالجة التحديات المؤسسية وتعزيز مكانة إفريقيا في الهيكل العالمي، وقال: “على إفريقيا أن تتولى مصيرها بنفسها، لقد حان الوقت لنؤكّد على قوتنا كقارة عازمة، قادرة على التأثير في القرارات العالمية واقتراح حلول للأزمات، أتعهّد بالعمل بعزم للارتقاء باتحادنا إلى مستوى تطلعات شعوبنا، يجب أن نبثّ روحًا جديدة في منظمتنا، ونؤكّد مكانة إفريقيا في محفل الأمم”.
ونتيجة لتولي جيبوتي منصب رئاسة المفوضية يُتوقَّع أن تتصدّر قضايا شرق إفريقيا على أولويات الاتحاد، خاصةً منطقة القرن الإفريقي التي تَعُجّ بالصراعات بين دول المنطقة.
في هذا الصدد يقول د. حمدي عبد الرحمن: إن انتخاب محمود علي يوسف يمثل المرة الأولى التي يتولى فيها ممثل دولة عربية قيادة الاتحاد الإفريقي، وربما تُسهم قيادة “يوسف” في زيادة الاهتمام بأولويات شرق إفريقيا، مثل حل النزاعات في السودان والصومال وإثيوبيا، والأمن البحري في البحر الأحمر، ومن المرجّح أن يؤثر موقع جيبوتي الإستراتيجي كمركز للقواعد العسكرية الدولية وطرق التجارة على أجندة الاتحاد المتعلقة بالاستقرار الجيوسياسي والتكامل الاقتصادي.
ومن جهة أخرى، يعكس انتخاب “يوسف” تحولًا في التحالفات الإقليمية بحسب أستاذ العلوم السياسية؛ حيث اكتسبت دول شرق إفريقيا صوتًا أقوى في صنع القرار في الاتحاد الإفريقي، وربما تُسهم خلفيته الدبلوماسية وأدواره القيادية في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، في تقريب المصالح العربية الإفريقية حول قضايا مثل مكافحة الإرهاب، والوساطة في الأزمات مثل حرب السودان.
إلا أن القيود الهيكلية للاتحاد الإفريقي، بما في ذلك الاعتماد على توافق الدول الأعضاء والتمويل الخارجي، قد تقف عائقًا أمام تحديد أولويات أجندات محددة بشكل منفرد، بالإضافة إلى أن تضارب المصالح بين مناطق الاتحاد الإفريقي قد يُضْعِف التركيز على شرق إفريقيا.
وعليه يعتقد “عبد الرحمن” أن القيادة الجديدة للاتحاد الإفريقي تواجه أجندة بالغة التعقيد تتطلب إصلاحات جريئة، وإرادة سياسية قوية، وبناء تحالفات فعَّالة بين الدول الأعضاء، والقدرة على الانتقال من مؤسسة تفاعلية إلى مؤسسة استباقية، واستعادة مصداقيتها داخل إفريقيا والساحة العالمية؛ لأنه بدون اتخاذ إجراءات حاسمة سيُواجه الاتحاد الإفريقي مخاطر التهميش المتزايد في مواجهة التحديات المُلِحَّة التي تواجهها إفريقيا.
جيبوتي ودور ريادي مُنتظَر
على مدار مسيرته أثبت رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي الجديد، محمود علي يوسف، حِنْكته الدبلوماسية في العديد من المحطات المصيرية، كما عُرف بقدرته على التعامل مع القضايا الأمنية والإستراتيجية في القارة؛ حيث قاد سياسة جيبوتي الخارجية لعقدين مُشاركًا في أزمات إقليمية معقدة ومفاوضات مصيرية في ملفات السلام والتعاون الدولي، ولعب دورًا محوريًّا في تعزيز العلاقات الإفريقية العربية والدفع نحو تكامل إقليمي أكثر فاعلية.
كما أن فوز “يوسف” لا يمثل فقط نجاحًا دبلوماسيًّا لبلاده، بل يعكس أيضًا تحوُّلًا في موازين القوى داخل الاتحاد الإفريقي؛ حيث باتت الدول الصغيرة ذات التأثير الفاعل قادرة على لعب أدوار قيادية في صياغة مستقبل القارة.
إلا أن فوز جيبوتي بمنصب رئيس المفوضية يضعها أمام العديد من التحديات قد تَحُول دون مصالح جيبوتي الإستراتيجية، وعلى رأسها الصراعات والأزمات في القرن الإفريقي خاصةً مع إثيوبيا التي تكابد للحصول على منفذ بحري لها دون الاعتماد كليًّا على موانئ جيبوتي، وما ترتب على ذلك من أزمات مع الصومال وأرض الصومال.
في هذا الصدد يرى الباحث المتخصص في الشأن الإفريقي، عباس محمد صالح، أن الموانئ في القرن الإفريقي غدت مسألة مهمة تعكس وزن ومكانة الدول الشاطئية لدى القوى الخارجية المتنافسة، وأن مساعي إثيوبيا بشأن الوصول إلى البحر وطموحاتها الواسعة في هذا الصدد أثارت مواقف حادة ومخاوف جدية من تداعيات هذه المساعي.
وأردف “صالح” في حديثه لـ”قراءات إفريقية” أن جيبوتي قطعًا تخشى من فقدان أهمية موقعها الجيوإستراتيجي في ضوء اعتماد إثيوبيا على موانئها، كما تخشى في الوقت نفسه بروز موانئ منافسة في المنطقة مثل ميناء بربرا في أرض الصومال، وهو ما يجعلها تناهض مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال، وتعمل على إفشالها.
كما أوضح أن مأزق الاتحاد الإفريقي تحت قيادة جيبوتي سيصبح مأزقًا مزدوجًا؛ فمن جهة يجب أن يكون للاتحاد الإفريقي مواقف قوية وواضحة بشأن مساعي إثيوبيا في الوصول إلى البحر الأحمر بشكلٍ قد ينطوي على مساس بقيادة ووحدة وسلامة أراضي الدول، ومن جهة ثانية تتحرك جيبوتي للتصدي للطموحات الإثيوبية بما قد يجعل من قيادة الاتحاد ومؤسساته خادمة لهذا الموقف.
ورغم ذلك يعتقد “صالح” أن هناك رهانًا على دور قيادي جديد للسيد محمود علي يوسف؛ للنهوض بالأنظمة التي عانت من أزمة القيادة الفعَّالة والقوية، وهو ما سيعكس صورة إيجابية عن الدبلوماسية الجيبوتية باعتبار أن جيبوتي تصنّف من الدول الصغيرة في إفريقيا، ولا تسند إليها أدوار دبلوماسية كبيرة في محافل ومؤسسات القارة.
وختامًا… فإن قيادة جيبوتي للاتحاد الإفريقي ليس فرصة لجيبوتي فقط، بل لدول القرن الإفريقي كافة وجيرانها من الدول العربية والإسلامية، ويفتح الباب لمقاربة سياسية جديدة في أروقة الاتحاد؛ بما يزيد فرص التوصل إلى حلول لأزمات القارة، وزيادة فرص التعاون العربي الإفريقي، فضلًا عن فرصة جيبوتي لتصبح دولة ذات ثِقَل دبلوماسي.
فهل نرى فترة رئاسية مختلفة لـ”محمود علي يوسف”؟