نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
مُقَدِّمَة:
لا تزال تداعيات الفساد واستغلال السلطة خلال حكم جاكوب زوما (2009 -2018م) تُلقي بظلالها على المشهدين السياسي والاقتصادي في دولة جنوب إفريقيا؛ فقد أنهكت هذه الفترة مؤسسات الدولة، واستنزفت مواردها، ما أدَّى إلى تفاقم الأزمات، لا سيما مع بروز ظاهرة “الاستيلاء على الدولة” كأحد أبرز ملامح تلك الفترة، والتي تعني استغلال جهات نافذة، كعائلة غوبتا الهندية -التي هاجرت لجنوب إفريقيا عام 1993م- لنفوذها السياسي للسيطرة على موارد الدولة، وتوجيه السياسات العامة بما يخدم مصالحها الخاصة.
وقد أسهمت هذه الممارسات في تآكل ثقة المواطنين بالحكومة، ما فتح الباب أمام تحقيقات واسعة ومحاكمات تتعلق بالفساد. وعلى الرغم من استقالة “زوما” عام 2018م تحت ضَغْط حزبه “المؤتمر الوطني الإفريقي”، وتولي الرئيس “سيريل رامافوزا” في العام ذاته؛ إلا أنه لا تزال القضايا المتعلقة بفساد نظامه تُلاحقه حتى اليوم، كما لا تزال آثار ممارساته حاضرة بقوة في مفاصل الدولة.
في هذا السياق، يأتي حديثنا حول كتاب “أرضنا المسمومة: العيش في ظلال حراس زوما“، الصادر عام 2022م للصحافي الاستقصائي “جاك باو”، الذي يكشف عُمْق الفساد المتغلغل داخل أجهزة الدولة الأمنية وانعكاسه على المجتمع، مؤكدًا أن الفساد لم يكن مجرد ظاهرة عابرة خلال عهد “زوما”، بل أصبح جزءًا من بِنْيَة النظام السياسي والإداري، ما يَجْعل جهود الإصلاح التي يقودها “رامافوزا” أكثر تعقيدًا وتحديًا.
أولًا: أهمية كتاب “أرضنا المسمومة”
يُعدّ كتاب “أرضنا المسمومة”Our Poisoned Land لـ “باو”، الجزء المُكمِّل لكتاب آخر صدر له عام 2017م، حول الفساد في جنوب إفريقيا أيضًا، وهو “حراس الرئيس” The President’s Keepers، الذي حقَّق نجاحًا استثنائيًّا، وأصبح الأسرع مبيعًا في تاريخ جنوب إفريقيا؛ حيث كشف بجرأة عن أعمق أسرار “زوما” ومَن حوله مِن مسؤولين فاسدين.
وبالعودة لكتاب “أرضنا المسمومة”؛ فإن أهميته تنبع من كونه استكمالًا للدرب نفسه، كشهادة جريئة ومعمّقة من صحافي جنوب إفريقي، على مدى تغلغل الفساد في مؤسسات الدولة التي تحوَّلت إلى أداة لجني الثروات وعقد الصفقات الخارجة عن القانون، بما يخالف مصالح الدولة، ويكشف عن خفايا السلطة، ومَن يُحرّك البلاد وراء الكواليس، والعلاقات المشبوهة بين الحكومة والنخبة السياسية ورجال الأعمال وأصحاب المصلحة.
يحدث ذلك وسط تصاعد معدلات الجريمة، واستمرار إفلات الناهبين لثروات البلاد من العقاب، وتراجع أجهزة إنفاذ القانون، والأوضاع الاقتصادية المتردية، وذلك استنادًا لشهادات حية ودراسات استقصائية مُعمّقة قام بها “باو”، في كتابه الذي تجاوز الـ500 صفحة.
ثانيًا: بنية وتقسيم الكتاب
يُقَسِّم “باو” كتابه إلى 23 فصلًا، ونظرًا لتعدُّد أقسام الكتاب وتعقُّد بعض عناوين الفصول، سيتم استعراض أبرز الأفكار التي تتناولها فصول الكتاب، على النحو التالي:
- يتناول الكتاب التحديات التي واجهتها جنوب إفريقيا بعد حكم “زوما”، مُسلِّطًا الضوء على تفشّي الفساد في المؤسسات الحكومية وصراعات السلطة بين النُّخَب السياسية. ويكشف الكاتب كذلك عن استغلال الأجهزة الأمنية لتحقيق مكاسب شخصية، ودور عائلة “غوبتا” في الاستيلاء على موارد الدولة خلال فترة “زوما”، مما أدى إلى تفاقم الفساد. كما يستعرض الفساد في المشاريع والمناقصات الحكومية وبعض القطاعات كوكالة السكك الحديدية (PRASA)، وتأثير الشبكات الخفية على الاقتصاد والأمن.
- يُبْرِز “باو” من جهة أخرى تعيين شخصيات غير كفؤة في مناصب حساسة، إلى جانب ازدواجية معايير القادة الذين يتظاهرون بالنزاهة بينما هم يمارسون الفساد. كما يتناول دور الإعلام في فضح الفساد، والصراعات الداخلية بين الفاسدين، والقيود التي يتعرَّضون لها. ويناقش الكاتب في الأخير التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفساد، وكيف استمرت القوى التي دعمت “زوما” في التأثير على المشهد العام بعد رحيله.
ثالثًا: أرضنا المسمومة… قراءة في أهم المضامين
يُقدّم كتاب “أرضنا المسمومة” سردًا تحليليًّا لكشف خفايا الفساد وتشابكاته داخل مؤسسات الدولة والذي يمكن تناوله وفقًا للترتيب التالي:
- رحيل زوما عن السُلطة: جنوب إفريقيا عند مفترق طرق
تبدأ أحداث الجزء الأول من الكتاب بالمرحلة الأخيرة من حكم جاكوب زوما، رئيس جنوب إفريقيا آنذاك، ويشير الكتاب تحديدًا إلى مؤتمر لحزب زوما (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي) في ديسمبر 2017م؛ حيث كان الحزب على مفترق طرق بين استمرار النظام الحاكم المُحاصَر بتُهَم الفساد بقيادة “زوما”، أو اتخاذ مسار إصلاحي بقيادة “سيريل رامافوزا”، انتهى بالضغط على “زوما” للخروج من الحكم، منعًا للفوضى واستمرار ممارسات الفساد، وتولي “رامافوزا” حكم البلاد بدلًا منه (فبراير 2018م).
عقب ذلك، يُسلِّط “باو” الضوء على أوضاع البلاد المتدهورة بعد رحيل “زوما” من خلال الإشارة لبعض البيانات؛ منها ارتفاع نسبة البطالة إلى 27%، وانخفاض النمو الاقتصادي لأقل من 2%، إضافةً لانهيار بعض الشركات الحكومية مثل الخطوط الجوية (SAA) والكهرباء (Eskom).
من ناحية أخرى، يُشير إلى أنه رغم الآمال التي صاحبت الإطاحة بـ”زوما” في أن تشهد جنوب إفريقيا تحولًا جذريًّا نحو الإصلاح ومكافحة الفساد؛ إلا أن الواقع السياسي أثبت استمرار التحديات المتجذرة ذاتها. فعند تولي “رامافوزا” السلطة، وجد نفسه محاصرًا بمنظومة إدارية وسياسية كانت قد استفادت لعقودٍ من شبكات الفساد، مما أدَّى إلى إعادة إنتاج نفس الأنماط المؤسسية التي تُعيق تحقيق إصلاح حقيقي.
في هذا السياق، يطرح الكاتب تساؤلات حول مدى قدرة النظام الجديد على تفكيك بنية الفساد العميقة، وما إذا كانت جنوب إفريقيا قادرة على تجاوز إرث الفساد المتأصل في البلاد.
- تكديس الحكومة بالموالين: توسيع السلطة على حساب الكفاءة
ينتقل الكتاب هنا إلى الكشف عن أبرز ممارسات الفساد داخل بعض أجهزة الدولة الأمنية في جنوب إفريقيا خلال عهد “زوما”، مع التركيز على دور وكالة أمن الدولة (SSA) في حماية الفاسدين، وقمع المعارضين، والتلاعب السياسي لصالح شبكة (الاستيلاء على الدولة).
على سبيل المثال في مسعاه لتوسيع دائرة الموالين له في الحكومة، زاد “زوما” عدد الوزراء إلى 73 وزيرًا ونائب وزير، لضمان دعم الأغلبية داخل اللجنة التنفيذية لحزبه. أدَّى ذلك إلى تكديس الحكومة بمسؤولين غير مؤهلين، لكنهم موالون له تمامًا.
أما على صعيد تهديد الصحافة، وإسكات صوتها؛ لمنع نشر الفضائح المُرتَكَبة من الحكومة ومَن حولها، فعند نشر كتاب “حُرّاس الرئيس” -للصحفي “جاك باو” مُؤلِّف هذا الكتاب-؛ الذي كشف فضائح الاستخبارات والفساد داخل الدولة؛ حاولت الحكومة منعه قانونيًّا.
وخلال اجتماع سري، هدَّد “آرثر فرايزر” باغتيال الصحافي “باو”، قائلًا: “سأتخلص منه”، في إشارة إلى تصفيته جسديًّا. وجدير بالذكر أن “فرايزر” مسؤول استخباراتي بارز في جنوب إفريقيا، كان يشغل منصب مدير وكالة أمن الدولة (SSA). لكن عندما تولى “رامافوزا” رئاسة جنوب إفريقيا، قام بعزل “فرايزر” من منصبه، إلا أنه لم يُقدَّم إلى المحاكمة بل نُقِلَ إلى منصب رئيس مصلحة السجون، ما أثار تساؤلات حول جدية الإصلاحات الرامية لمكافحة الفساد التي يتخذها نظام “رامافوزا”.
- السكك الحديدية في جنوب إفريقيا: رحلة في قلب الفساد
يركز هذا القسم من الكتاب على الفساد الهائل في وكالة السكك الحديدية الجنوب إفريقية (PRASA)، ويقارن بين دور رجال الأعمال الفاسدين المحليين ودور عائلة غوبتا سالفة البيان، التي استولت على الدولة من خلال صفقات مشبوهة خلال عهد “زوما” المقرب من العائلة. ويُسلّط الضوء على كيفية نَهْب مليارات الراند (العملة الرسمية لجنوب إفريقيا) المخصَّصة لتطوير قطاع السكك الحديدية مِن قِبَل نخبة من رجال الأعمال والساسة.
نتيجة لذلك شهدت وكالة السكك الحديدية في جنوب إفريقيا عمليات فساد ممنهجة، على سبيل المثال وُصِفَ رجل الأعمال “روي موديلي” بأنه “غوبتا السكك الحديدية”؛ بسبب نفوذه الواسع في هذا المجال ونَهْبه للأموال العامة بقطاع السكك الحديدية. إلى جانبه، استفاد رجال أعمال آخرون من صفقات مشبوهة تجاوزت قيمتها 8 مليارات راند، ما أدَّى إلى شراء قاطرات غير صالحة للتشغيل وتوقيع عقود عديمة الجدوى للسكك الحديدية.
لذا، لم يكن انهيار قطاع السكك الحديدية بالكامل -بحلول عام 2022م- مستغربًا بعد تخصيص 172 مليار راند لتطوير هذا القطاع الحيوي. وبالرغم من الفضائح العديدة التي أُشيعت بهذا الملف، لم يتم تقديم أي من الشخصيات المتورطة إلى العدالة، كما لم تُسترد الأموال المنهوبة. ومع انهيار السكك الحديدية تمامًا أُجبِر 80% من الركاب الذين كانوا يعتمدون عليها، إلى اللجوء لوسائل نقل بديلة أكثر كلفة وخطورة.
باختصار، لم يكن الفساد نتيجة لسوء الإدارة فحسب، بل كان مشروعًا ممنهجًا لنَهْب الموارد العامة في هذا القطاع، ما أدَّى إلى وقوع السكك الحديدية بالكامل لصالح نُخبة استغلت النظام لتحقيق مكاسب شخصية.
- حين تُصبح الشرطة أداةً للقمع.. كيف حَمَت الدولة الفاسدين؟
يركّز الكتاب هنا على قضايا الفساد داخل أجهزة إنفاذ القانون في جنوب إفريقيا، وخاصة وكالة الشرطة المستقلة للتحقيقات(IPID) ، والصراع بين المسؤولين الفاسدين والمحققين الذين سعوا للكشف عنهم. كما يوضح كيف استُخدمت بيانات أبراج الهواتف المحمولة لكشف تواطؤ مسؤولين كبار. جدير بالذكر أن أبراج الهواتف المحمولة هي هياكل تُستخدم لدعم المعدات اللازمة لنقل واستقبال إشارات الهاتف المحمول والاتصالات اللاسلكية. تعمل هذه الأبراج كوسيط بين الهواتف المحمولة وشبكات الاتصالات، مما يسمح بإجراء المكالمات وإرسال البيانات عبر الشبكة.
وقد أظهرت تفاصيل الفساد التي توصل لها المحققون كيف استُخدمت الشرطة والقضاء لقمع المعارضين وحماية المسؤولين الفاسدين، بما في ذلك التلاعب بالأدلة، وتهديد للشهود، وحتى تدبير وتنفيذ الاغتيالات، مثل مقتل المحقق “ماندلا ماهلانغو” بعد تلقيه تهديدات مباشرة من جهات مرتبطة بالأجهزة الأمنية.
من جانب آخر يُسلّط “باو” الضوء على الطريقة التي جرى بها استخدام قوة الدولة لإسكات المحققين والصحافيين المعنيين بالكشف عن قضايا الفساد، باعتقال وتعذيب بعضهم في ظروف غير إنسانية، والتلاعب في الملاحقات القضائية لإجهاض أيّ محاولات للقبض على الشخصيات المتورطة فيما عرف بقضية “الاستيلاء على الدولة” خلال حكم “زوما”.
- تحالف (غوبتا-زوما) وانهيار المؤسسات الاستخباراتية:
يكشف هذا الفصل كيف تحوَّلت وكالة أمن الدولة في جنوب إفريقيا (SSA) خلال عهد “زوما” من جهاز لحماية الأمن الوطني إلى أداة لحماية مصالح الرئيس وحلفائه، ما أدَّى لإضعاف المؤسسات الأمنية وفشلها في التصدي لعمليات الاستيلاء على الدولة التي نفَّذتها شبكة زوما-غوبتا.
بدأ هذا التدهور عندما أصدر زوما مرسومًا عام 2009م بدمج وكالات الاستخبارات المختلفة في كيان واحد؛ لسهولة إحكام سيطرته عليها وتحويلها إلى وسيلة لقمع معارضيه وحماية مصالحه السياسية والمالية. لم يقم هذا الكيان المدمج بكشف أيٍّ من فضائح الفساد الكبرى، رغم امتلاكه معلومات حول تحويل مليارات الراند إلى الخارج مِن قِبَل شبكة غوبتا. بل على العكس، تم استخدامه كـ”شرطة سياسية” تعمل لحساب النظام، كالتركيز على قمع المعارضين السياسيين، والتجسس على النشطاء والمعارضين واستهدافهم، وتوجيه المؤسسات الأمنية لخدمة المصالح السياسية للنخبة الحاكمة بشكل عام.
يخلص هذا القسم إلى أن الوكالة التي كانت معنية بأمن المواطنين، باتت جزءًا من منظومة الفساد بدلًا من أن تكون متصدية لها، بما عملت على إضعاف سيادة القانون واستشراء الفساد المؤسسي. ورغم خروج “زوما” عن المشهد، إلا أن الكثير من شبكات الفساد “إرث غوبتا” لا تزال قائمة.
- هل جنوب إفريقيا دولة مافيا؟
في القسم الأخير من كتاب “أرضنا المسمومة” يتناول “باو” الوضع الراهن لجنوب إفريقيا -حين كتابته للكتاب الصادر عام 2022م-؛ حيث أصبحت البلاد غارقة في الفساد والجريمة المنظمة وعدم الاستقرار السياسي.
يشير الكاتب للتدليل على ذلك لأحداث وقضايا تؤكد تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية، مثل مقتل سائح ألماني في هجوم مسلح، وعمليات القتل العشوائية في المدن الكبرى، وانتشار أعمال العنف في الحانات والأحياء الفقيرة. كما يُسلِّط الضوء على ضعف المؤسسات الأمنية، كحادثة اقتحام مركز للشرطة وسرقة أسلحة نارية، في إشارةٍ لما وصلت له أجهزة الشرطة وإنفاذ القانون من فوضى واضطراب.
من جهة أخرى، يصف “باو” كيف أن الشركات الحكومية مثل Eskom، المزوّد الرئيس للطاقة في البلاد، تعرَّضت لعمليات تخريب ممنهجة هي الأخرى، مِن قِبَل تنظيمات عصابية تعمل بالتنسيق مع مسؤولين فاسدين داخل الحكومة.
كما يشير إلى معاناة المستشفيات من نقص الإمدادات الرئيسة كالمياه، بما يعكس سوء الإدارة وتفاقم أزمة البنية التحتية، والتي أثَّرت بدورها على دور الدولة في تقديم هذه الخدمات.
رغم ذلك يرى المؤلف أن جنوب إفريقيا لم تصل بعد إلى مستوى الدولة الفاشلة أو دولة المافيا، لكنَّها ستكون حتمًا في طريقها إلى ذلك؛ إذا لم يتم اتخاذ إجراءات صارمة لمكافحة الفساد واستعادة القانون والنظام. كما يحذر من أن السنوات القادمة ستكون حاسمة في تحديد مصير البلاد، خاصة إذا استمر الفساد السياسي، ولم يتم تنفيذ إصلاحات جذرية تُعيد بناء مؤسسات الدولة وتحارب الجريمة المنظمة بجدية.
رابعًا: رؤية تقييميّة
من الناحية الشكلية، يتميز الكتاب بأسلوب سردي شيّق ينجح في جذب القارئ رغم تناوله لقضية معقدة ومتعددة الأبعاد مثل الفساد المستشري داخل مؤسسات الدولة العامة. ومع ذلك، قد يجد غير المتخصصين في الشؤون السياسية لجنوب إفريقيا صعوبة في بعض جوانبه. ويُعزَى ذلك إلى أن الكاتب صحافي جنوب إفريقي مطّلع على تفاصيل المشهد السياسي في بلاده، ما يَجعله ينطلق من افتراضات قد تكون بديهية بالنسبة له، لكنها ليست كذلك للقارئ العام، خاصة من خارج حدود جنوب إفريقيا.
علاوة على ذلك، يحظى هذا النوع من الكتب، وخاصة أعمال هذا الصحافي، باهتمام واسع داخل وخارج جنوب إفريقيا، وهو ما يتطلب مراعاة تنوع الجمهور عند تقديم السرد والتحليل.
من جانب آخر، يلاحظ أن بعض أجزاء الكتاب قد أطالت في استعراض تفاصيل الفساد وتأثيراته على الدولة، ما قد يُثقل على القارئ في بعض الجوانب، لا سيما عند التطرق إلى الأبعاد التقنية والبيروقراطية لهذه القضايا. ومع ذلك، فإن هذا الإسهاب قد يكون مقصودًا لتقديم صورة شاملة عن مدى تعقيد الفساد وتغلغله في مختلف مستويات الحكم، بما يُعزِّز مصداقية التحليل المطروح.
من الناحية الموضوعية، يعتمد الكتاب على رؤية استقصائية موثقة بمصادر مهمة كالشهادات الحية للمحققين والمبلغين عن الفساد، التقارير الإعلامية، والوثائق والتقارير الحكومية، ومقابلات مع ضحايا الفساد، وغيرها، ليكشف شبكات المصالح المرتبطة بـ”زوما” وتأثيرها على المواطنين، بما يمنحه طابعًا إنسانيًّا قويًّا.
لكن مع ذلك، يركز الكتاب بشكل أساسي على فترة حكم “زوما”، دون تحليل كافٍ للعوامل التاريخية والسياسية التي ساهمت في تفشي الفساد، ما يجعل طرحه أحادي الرؤية في بعض المواضع.
بالتالي، فعلى الرغم من أن الكتاب يقدم مادة ثرية ومهمة عن إحدى أبرز الفترات السياسية في جنوب إفريقيا، إلا أن التركيز الحصري على “زوما” يجعل بعض جوانبه غير مكتملة، وربما يفتح ذلك المجال لمزيد من الدراسات التي يمكن أن تضع الفساد في سياق أشمل وأكثر توازنًا.
خاتمة: (جنوب إفريقيا بعد زوما… إرث ثقيل ومعركة مستمرة)
إجمالًا، يكشف كتاب “أرضنا المسمومة” من خلال تحليل مفصَّل مدعوم بالأدلة والشهادات المتعددة أن الفساد في جنوب إفريقيا بات جزءًا من بنية الدولة.
هذا التشخيص الجاد يشير بوضوح إلى أن الإصلاحات الحالية، رغم أهميتها، لا تزال غير كافية لإحداث تحول حقيقي.
وعليه، فإن قيمة الكتاب وما يقدمه من طرح لا تكمن أهميته فقط في فضح الفساد، وإنما في دعوته لإعادة تقييم مسارات الإصلاح السياسية والاقتصادية، وضمان أن تكون هذه الجهود أكثر شمولية وفاعلية، لتفكيك منظومة الفساد بشكل جذري، قبل أن تصبح الدولة رهينةً لهذا الوضع المتدهور.
في الختام، يُعدّ كتاب “أرضنا المسمومة” كتابًا ومرجعًا مهمًّا في دراسة الفساد في إفريقيا؛ حيث يُقدّم توثيقًا دقيقًا لتأثير الفساد على الدولة والمجتمع.
وأخيرًا، يُمثِّل الكتاب إضافة نوعية لمكتبة الدراسات الإفريقية، ليس فقط لفَهم تجربة جنوب إفريقيا، بل أيضًا كمَرْجع مُهِمّ لاستخلاص الدروس المستفادة والمقارنة مع تجارب الدول الإفريقية الأخرى في مواجهة الفساد وإصلاح المؤسسات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والإحالات:
1- مصدر الكتاب:
Jacques Pauw, Our Poisoned Land: Living in the Shadows of Zuma’s Keepers, (Cape Town: Tafelberg Publishers, 2022).
2– حول مؤلف الكتاب “جاك باو”:
يُعدّ “باو” صحافيًّا استقصائيًّا منذ عام 1984، كتب في العديد من أهم الصحف الجنوب إفريقية، قبل أن يتحول إلى صناعة الأفلام الوثائقية في عام 1994م، وأصبح متخصصًا في التحقيق في الجرائم واستغلال السلطة في القارة الإفريقية. أنتج “باو” أفلامًا وثائقية حول الصراعات في رواندا، بوروندي، الجزائر، ليبيريا، السودان، جمهورية الكونغو الديمقراطية، وسيراليون، عُرضت أعماله في جميع أنحاء العالم، ونال العديد من الجوائز الوطنية والدولية، منها: جائزة معهد الإعلام في جنوب إفريقيا للصحافة الاستقصائية، جائزتا “صحفي العام” من CNN عن إفريقيا، وجائزة “دانيال بيرل” للصحافة الاستقصائية الدولية من الولايات المتحدة. إلى جانب عمله الصحفي، ألَّف “باو” العديد من الكتب منها: إلى قلب الظلام: اعترافات قتلة الفصل العنصري (1997م)، رقصة مع الشياطين: بحث صحفي عن الحقيقة (2007م)، وحراس الرئيس: أولئك الذين أبقوا زوما في السلطة وخارج السجن (2017م).
3- غوبتات: مصطلح يشير إلى النفوذ المستمر لشبكات الفساد التي تجذّرت في جنوب إفريقيا خلال حكم جاكوب زوما، وهو مستوحى من عائلة غوبتا، التي هاجرت لجنوب إفريقيا عام 1993م، واستغلت نفوذها لعقد صفقات حكومية مشبوهة والتأثير على ترتيبات سياسية مهمة. أصبح المصطلح رمزًا للمحسوبية والتلاعب بمؤسسات الدولة؛ حيث يُستخدم لوصف الجماعات التي لا تزال تمارس نفوذًا غير مشروع حتى بعد رحيل زوما.
وبخصوص عائلة غوبتا فقد هاجرت من إحدى المناطق الهندية الفقيرة إلى جنوب إفريقيا؛ حيث بدأ الأب حياته المهنية مصلحًا وبائعًا للأحذية. وبفضل خططها الاقتصادية التوسعية وعلاقاتها المتنامية مع دوائر النفوذ، تمكنت خلال فترة وجيزة، من امتلاك كبرى المناجم وبسط سيطرتها على قطاعات تكنولوجية رئيسة. ومع توسع إمبراطوريتهم الاقتصادية، بدأت بوادر الثراء تظهر على الرئيس جاكوب زوما، ما أثار الشكوك حول طبيعة العلاقة التي تربطه بالعائلة، خاصة مع انتشار مزاعم عن حصوله على نِسَب من أرباح مشاريعهم مقابل منحهم عقودًا حكومية كبرى، دون اعتبار لمصالح البلاد العليا ومواردها العامة.
للمزيد حول عائلة “غوبتا” الهندية انظر: