د. جيهان عبد السلام
أستاذ الاقتصاد المساعد- كلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
مقدمة:
على الرغم من وقف إطلاق النار الأخير الذي تم الاتفاق عليه في يوليو 2024م بين جيش جمهورية الكونغو الديمقراطية وحركة (M23) -وهي جماعة متمردة مسلحة تنشط في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية-؛ إلا أن القتال قد اشتد بدايةً من يوم 27 يناير 2025م؛ حيث أعلنت الحركة أنها استولت على مدينة “جوما”، عاصمة مقاطعة شمال “كيفو”.
وتجدر الإشارة إلى أن الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية ليس ظاهرة حديثة بأي حال من الأحوال، بل امتد لأكثر من 20 عامًا، ويؤدي تقدُّم حركة M23 إلى تفاقم أحد أطول الصراعات أمدًا في إفريقيا([1]).
وفي 3 فبراير 2025م، أعلن تحالف المتمردين M23 أنه سيُنفِّذ وقف إطلاق النار من جانب واحد بدءًا من يوم 4 فبراير 2025م، لكن هذا لم يدم طويلًا؛ حيث ألغت الجماعة وقف إطلاق النار، وسيطرت على بلدة “تعدين” في منطقة جنوب “كيفو” بشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.
ومن هذا المنطلق، يهدف هذا التحليل إلى إلقاء الضوء على أهم دوافع هذا الصراع، وانعكاساته الاقتصادية والإنسانية، وذلك فيما يلي:
أولاً– الدوافع الاقتصادية والسياسية للصراع:
يُعدّ الصراع في جمهورية الكونغو الديمقراطية معقدًا ومُتعدّد الأسباب؛ حيث تتداخل العوامل التاريخية، السياسية، الاقتصادية، والعرقية في تغذيته. وفيما يلي أهم أسباب الصراع:
– الصراع على الموارد الطبيعية:
تُعدّ جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدة من أغنى دول العالم بالموارد الطبيعية، لكنها في نفس الوقت من أكثر الدول التي تعاني من الصراعات؛ بسبب هذه الثروات. إذ تعتبر أحد أكبر الدول في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وتتمتع بموارد طبيعية استثنائية، بما في ذلك المعادن مثل الكوبالت والنحاس، وإمكانات الطاقة الكهرومائية، والأراضي الصالحة للزراعة الكبيرة، والتنوع البيولوجي الهائل، وتمتلك ثاني أكبر غابة مطيرة في العالم. وهذه الموارد المتنوعة كانت سببًا رئيسيًّا في الصراع للحصول عليها([2]).
– الفقر وعدم عدالة توزيع الثروة:
لم يَستفد معظم السكان في جمهورية الكونغو الديمقراطية من هذه الثروة التي تتمتع بها الكونغو؛ حيث أدَّى تاريخ طويل من الصراع والاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار والحكم الاستبدادي إلى أزمة إنسانية خطيرة ومستمرة، ولذا فالتفاوت بين ثراء جمهورية الكونغو الديمقراطية في الكولتان والكوبالت والذهب والماس والمعادن الثمينة الأخرى، والفقر الذي يصيب الكثير من الشعب الكونغولي في كثير من الأحيان، هو تفاوت مذهل.
ووفقًا للبنك الدولي، يعيش ما يقرب من ثلاثة أرباع مواطني البلاد البالغ عددهم 102.3 مليون نسمة (نحو 73.5% من الشعب الكونغولي) على أقل من 2.15 دولار في اليوم لعام 2024م.
ويُعدّ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد، الذي يقل عن 630 دولارًا، من بين أدنى المعدلات على مستوى العالم. في حين أن الشركات التي تعتمد بشكل كبير على المعادن الكونغولية تُحقِّق تريليونات دولار سنويًّا.([3]) كما تُعدّ جمهورية الكونغو الديمقراطية من بين أفقر خمس دول في العالم، ويعيش حوالي واحد من كل ستة أشخاص في فقر مدقع.([4])
– الانقسامات العرقية والإثنية:
التنوع العرقي والإثني في الكونغو الديمقراطية عامل رئيسي في تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكنه أيضًا مصدر للنزاعات المستمرة، خاصةً في المناطق الحدودية مع رواندا وأوغندا؛ حيث يوجد في الكونغو أكثر من 200 مجموعة عرقية، بعضها لديه نزاعات تاريخية على الأراضي والموارد. وتستغل الجماعات المسلحة هذه الانقسامات لتجنيد المقاتلين، مما يؤدي إلى تفاقم أعمال العنف بين المجتمعات المحلية. وبعض هذه المجموعات تسيطر على قطاعات معينة مثل التعدين، الزراعة، والتجارة، مما يؤدي إلى فجوات اقتصادية بين الأعراق المختلفة.
– ضعف الحكومة والمؤسسات الأمنية:
إذ تعاني الحكومة الكونغولية من ضعف مؤسسات الدولة والفساد، مما يجعلها غير قادرة على فرض سيطرتها على كامل البلاد. ويعاني الجيش الكونغولي من ضعف التدريب والتجهيز، مما يجعله غير قادر على مواجهة الجماعات المسلحة بفعالية. ووفقًا لمؤشر مدركات الفساد لعام 2024م الصادر عن منظمة الشفافية الدولية؛ حصلت جمهورية الكونغو الديمقراطية على 20 نقطة من أصل 100، مما يضعها في المرتبة 163 عالميًّا من بين 180 دولة شملها المؤشر، ويُظهر هذا الترتيب استمرار التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد في مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في القطاع العام([5]).
– انتشار الجماعات المسلحة:
توجد أكثر من 120 جماعة مسلحة في شرق الكونغو، أبرزها حركة (M23) المدعومة من رواندا، والقوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR) التي تضم مقاتلين هوتو معارضين لحكومة رواندا. وتحالف القوى الديمقراطية (ADF) المرتبط بتنظيم داعش، وينفذ هجمات إرهابية في شرق البلاد.
ثانيًا– التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في الكونغو الديمقراطية:
– التهجير القسري للسكان وتزايد أعداد اللاجئين: تم تشريد 7 ملايين شخص داخل البلاد، وإجبار أكثر من مليون شخص على طلب اللجوء خارج حدود البلاد، وتستضيف أنغولا، وبوروندي، ومالاوي، ورواندا، وجنوب إفريقيا، وأوغندا، وجمهورية تنزانيا المتحدة، وزامبيا معظم هؤلاء اللاجئين، وهي البلدان التي حافظت، على الرغم من التحديات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية العميقة، على سياسة الباب المفتوح للأشخاص الذين أُجْبِرُوا على الفرار.
وفي الوقت نفسه، تستضيف جمهورية الكونغو الديمقراطية أكثر من نصف مليون لاجئ وطالب لجوء من البلدان المجاورة. وأجبرت الاشتباكات العنيفة بين الجماعات المسلحة في شمال وجنوب كيفو الناس على الفرار من منازلهم، بما في ذلك من وإلى المناطق التي تكون فيها إمكانية وصول المساعدات الإنسانية محدودة. كما تم تسجيل غارات الجماعات المسلحة غير الحكومية على مواقع النازحين داخليًّا، مما تسبَّب في حوادث حماية خطيرة.
وفي إيتوري، كانت الاشتباكات الطائفية مسؤولة عن مقتل العشرات وانتهاكات حقوق الإنسان. وفي النصف الأول من عام 2024م وحده، أُجْبِر أكثر من 940 ألف شخص على الفرار من أعمال العنف. وقد تم بالفعل تهجير العديد منهم عدة مرات. وقد تفاقمت محنة النازحين الجدد في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية بسبب الوضع الإنساني الضاغط الموجود مسبقًا؛ حيث يواجه النازحون واللاجئون في جميع أنحاء البلاد مخاطر عالية بالفعل مرتبطة بعدم كفاية الملاجئ، وسوء مرافق الصرف الصحي، ومحدودية فرص توليد الدخل.([6])
ومع اشتداد النزاع، أفادت التقارير بأن الجماعات المسلحة غير الحكومية ومختلف الجهات الفاعلة، بما في ذلك أفراد المجتمع والنازحون داخليًّا، قامت بتفكيك مواقع النازحين الحالية، وقد عاد بعض الأفراد إلى ديارهم، بينما لجأ آخرون إلى المدارس أو الكنائس أو لدى أُسَر مضيفة أو إلى مواقع جماعية مرتجلة في جوما. وبشكل عام، بلغ عدد النازحين داخليًّا في جمهورية الكونغو الديمقراطية 6.7 مليون شخص، بما في ذلك 4.6 مليون في جنوب وشمال كيفو. وفي مقاطعة إيتوري الشمالية الشرقية؛ حيث الصراع مستمر، بما في ذلك الهجمات ضد المدنيين مِن قِبَل جماعة المتمردين التابعة للقوات الديمقراطية المتحالفة، هناك 1.8 مليون نازح داخليًّا.
– أزمات إنسانية: تُعدّ حالة الطوارئ في جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدة من الأزمات الإنسانية الأكثر تعقيدًا في العالم؛ حيث أدَّت عقود من الاشتباكات بين القوات المسلحة الكونغولية ومختلف الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة، والانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وحوادث العنف القائم على النوع الاجتماعي المدمرة، إلى مستويات غير مسبوقة من الاحتياجات الإنسانية، وزيادة نقاط الضعف والمخاطر المتعلقة بالحماية. وتُحذّر منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة من تفشّي الأمراض المحتملة، بما في ذلك الجدري والكوليرا والحصبة. ومما يزيد من حدة الأزمة أن تعليق التمويل الإنساني الأمريكي لمدة 90 يومًا يؤثر بشدة على الأمن الغذائي والصرف الصحي وجهود الإغاثة.([7])
وتزداد حدة الأزمة الإنسانية في الكونغو؛ حيث يواجه 23.4 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي وأكثر من 237000 نازح في عام 2025م وحده. وتتفاقم الأزمة بسبب الانتهاكات التي ترتكبها القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية وحلفائها من ميليشيا وازاليندو، وهي مجموعة دفاع عن الشباب، قامت بدمج الجماعات المسلحة المحلية والحراس الأهلية. وشملت الانتهاكات النهب والابتزاز والاختطاف والعنف ضد المدنيين، مما دفع المزيد من الناس إلى ترك منازلهم.
ومما يزيد من عدم الاستقرار أن المنطقة تعاني من وجود أكثر من 100 جماعة مسلحة مختلفة تعمل في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها، مما يؤدي إلى إدامة الاضطرابات المزمنة.([8]) كما تتهم حركة 23 مارس بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثل الاغتصاب الجماعي والتجنيد القسري والقتل خارج نطاق القضاء، فكان أكثر من 21 مليون شخص بحاجة بالفعل إلى مساعدات إنسانية قبل التصعيد الأخير للأزمة، وهو أحد أعلى الأرقام في جميع أنحاء العالم([9]).
– تراجع العملية التعليمية:
دعت منظمة اليونيسف إلى اتخاذ إجراءات طارئة لإنقاذ العام الدراسي بالنسبة لآلاف الأطفال مع ارتفاع مستويات العنف والنزوح في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ حيث إن نظام التعليم في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية كان يعاني من ضغط هائل حتى قبل التصعيد الأخير للنزاع، ويُعزَى ذلك جزئيًّا إلى العدد الكبير من النازحين والذي بلغ أكثر من 6.5 مليون شخص، بمن فيهم 2.6 مليون طفل .وقد تسبَّب النزاع العنيف الذي اندلع منذ بداية العام الحالي 2025م في إغلاق أكثر من 2,500 مدرسة ومجمع تعليمي في شمال كيفو وجنوب كيفو بما فيها تلك الموجودة في مخيمات النزوح .وقد أدى إغلاق المدارس أو تضررها أو تدميرها أو تحويلها إلى ملاجئ، إلى حرمان 795 ألف طفل من التعليم. وأكثر من 1.6 مليون طفل في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية هم الآن خارج أسوار المدارس.(([10]
– السيطرة على المناطق الاقتصادية الإستراتيجية:
يُعدّ الاقتصاد الأسود (Black Economy) في الكونغو نموذجًا لنهب الموارد وتهريبها عبر رواندا وأوغندا، ومِن ثَم بيعها في الأسواق العالمية، فهذا النظام يُبْقِي الصراع مستمرًّا؛ إذ تجد الميليشيات في التجارة غير الشرعية مصدرًا مستدامًا للتمويل.(([11] ومن هذا المنطلق، ركزت حركة M23 على تأكيد سيطرتها على المناطق الإستراتيجية الرئيسية في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، وخاصة في المناطق الغنية بالمعادن، والتي تعتبر مركزية لصناعات الكولتان والذهب والقصدير في البلاد؛ إذ تركز على شرق الكونغو الديمقراطية، وهو أغنى وأهم المناطق اقتصاديًّا بسبب موارده الطبيعية الضخمة، وخاصة: مقاطعة شمال كيفو – مركز الموارد المعدنية، وتشمل (مدينة جوما – العاصمة الإقليمية لشمال كيفو، وهي محور اقتصادي رئيسي ذو موقع إستراتيجي على الحدود مع رواندا، مما يسهّل التهريب التجاري للمعادن الثمينة. و”روبايا” وهي مدينة تعدين إستراتيجية بالقرب من جوما تنتج 15% من الكولتان في العالم، ومنطقة ماسيسي الغنية بالذهب، والقصدير، فضلاً عن أراضٍ زراعية خصبة توفر الغذاء للمنطقة، كما دخل متمردو حركة M23 وسط مدينة بوكافو الإستراتيجية، ثانية كبرى مدن شرق الكونغو الديمقراطية)، ومن خلال الاستيلاء على هذه المناطق، حققت الحركة إيرادات كبيرة، بما في ذلك ما يُقدَّر بنحو 800 ألف دولار شهريًّا من الضرائب على تعدين الكولتان، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة.
وقد لعب هذا الاحتكار الاقتصادي دورًا رئيسيًّا في تمويل الجهود العسكرية للجماعة، وإطالة أمد الصراع، وتحقيق أرباح من السيطرة على إنتاج المعادن وتجارتها. كما تمكنت حركة M23 أيضًا من إعادة تنظيم سيطرتها الإقليمية، وتسهيل وصول الجهات الفاعلة الاقتصادية الموالية للجماعة (مثل جامعي المعادن والسماسرة والتجار)، وبناء طريق للمساعدة في نقل المعادن إلى رواندا المجاورة. ويتم تحقيق ذلك عن طريق إخفاء المعادن بين الإنتاج الرواندي، ومِن ثَم الإعلان عن مصدرها في رواندا.
ويقول المراقبون: إن تدفق الموارد المستخرجة بشكل غير قانوني إلى نفس مسالك المعادن المشروعة يُعقّد القدرة على التمييز من أين جاءت هذه المخزونات، وما إذا كان قد تم استخراجها وفقًا للمبادئ المتفق عليها أم لا. ومن أجل ذلك، أنشأت مجموعات مثل المبادرة الدولية لسلسلة توريد القصدير (ITSCI) خططًا للتتبع تهدف إلى ضمان عدم ربط المعادن بعمالة الأطفال أو دعم الجماعات المسلحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وتشمل أهداف المبادرة ضمان الحصول على المعادن من مصادر مسؤولة وعدم تهريبها عبر رواندا. ومع ذلك، وجد تقرير صدر عام 2022م من Global Witness حول جهود ITSCI أن مستويات عالية من المعادن غير المشروعة كانت تشقّ طريقها خارج جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى رواندا.([12])علاوة على ذلك، استخدمت حركة 23 مارس إستراتيجية شاملة لإضعاف الحكم المحلي، وفرض نفوذها في المنطقة.
– احتمال تأثر اقتصادات الإقليم المحيط بالصراع: في ظل التداخل بين الملفات الداخلية والخارجية في المنطقة؛ تتهم الكونغو وأطراف أخرى رواندا بتقديم الدعم للحركة المتمردة، وهو ما تنفيه كيجالي، ومما يثير المخاوف من انزلاق البلدين إلى حرب مباشرة لن تنجو دول الجوار من تداعياتها. إذ تسلط الانتصارات العسكرية التي حققتها حركة M23 الضوء على نقاط الضعف الأمنية الداخلية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ولكنها تشير أيضًا إلى أن الجماعة المسلحة ليست وحدها التي تستفيد من النظام الاقتصادي الذي تهيمن عليه الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية. فهناك اتهامات واسعة النطاق بأن رواندا تدعم حركة M23 على الرغم من أن الحكومة الرواندية نفت ذلك مرارًا وتكرارًا.
ويرتبط هذا الدعم جزئيًّا برغبة الحكومة في هزيمة القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، وهي جماعة مسلحة موجودة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أسَّسها القادة السابقون للإبادة الجماعية في رواندا عام 1994م. ولكن في حين تُشكّل القوات الديمقراطية لتحرير رواندا بعض التهديد لأمن رواندا، فإن هذه الحجة تفشل في تبرير قيام الحكومة الرواندية منذ فترة طويلة بتوفير القوات والمعدات العسكرية لجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ومن المرجَّح أن يكون الدافع وراء مشاركة الحكومة الرواندية هو اعتبارات مالية. ولم يُخْفِ النظام طموحه في تحويل كيجالي إلى مركز إقليمي لتجهيز وتجارة الموارد الطبيعية. ولتحقيق هذه الغاية، فإنها تهدف إلى تأمين الوصول المتميز إلى الموارد المعدنية الكونغولية، وإنشاء ممر تجاري بين كيجالي والمدن الرئيسية في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجعل الحدود الرواندية نقطة الدخول والخروج الرئيسية للسلع الكونغولية. بالإضافة إلى ما سبق يُفسِّر تقرير أعدَّه رئيس مكتب مؤسسة “كوناراد أديناور” الألمانية في كينشاسا موقف كيغالي جزئيًّا باعتماد رواندا الاقتصادي على تصدير المواد الخام التي تأتي في الأساس من الكونغو؛ حيث لا تتوفر هذه المواد الخام إلا بكميات محدودة للغاية في البلاد، وللتدليل على ذلك يُورد التقرير عددًا من الأمثلة؛ منها ربطه بين الزيادة الكبيرة لصادرات الكولتان الرواندية في السنوات الأخيرة والتوسع الإقليمي لحركة M23 التي استولت على منجم روبايا، الذي يُقدّر الخبراء أنه أكبر منجم لهذا المعدن في العالم.
وليست فقط رواندا المنخرطة في هذا الصراع، بل أوغندا وبوروندي أيضًا، سواء بدعم فصائل معينة، أو بنشر قوات على الحدود، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني. ويؤدي استمرار الصراع إلى تعطيل الأنشطة الاقتصادية، خاصةً في قطاع التعدين، مما يؤثر سلبًا على اقتصادات الدول المجاورة التي تعتمد على التجارة مع الكونغو. كما يسهم النزوح الجماعي للسكان بسبب العنف في الضغط على الموارد والخدمات في الدول المجاورة، مما يزيد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية. وكل ذلك يشير إلى احتمال اتساع دائرة الصراع ليشمل عدة دول بالمنطقة ويضرّ باقتصاداتها. هذا في الوقت الذي كانت تشهد فيه نحو 15 دولة إفريقية نموًّا اقتصاديًّا بأكثر من 5% لعام 2023م، بما في ذلك جمهورية الكونغو الديمقراطية، رواندا، وأوغندا([13]).
ثالثًا- اقتصاد الكونغو الديمقراطية إلى أين؟
تُواجه جمهورية الكونغو الديمقراطية في عام 2025م تحديات اقتصادية كبيرة نتيجة التوترات السياسية والأمنية المستمرة، خاصةً في المناطق الشرقية من البلاد. وتؤثر هذه التوترات بشكل مباشر على الاستقرار الاقتصادي وتُعيق جهود التنمية. هذا في ظل كون اقتصاد الكونغو أحد أهم الاقتصادات الإفريقية؛ حيث يستحوذ على نحو 60% من الكوبالت، بجانب احتياطات ضخمة من الليثيوم، والزنك، كما تُعدّ الكونغو من أغنى الدول باليورانيوم مما جعلها لاعبًا محوريًّا في قطاع الطاقة النووية، إلى جانب معدن الكولتان النادر جدًّا، وتسيطر أيضًا الكونغو على إنتاجه، وهذا الثراء الاستثنائي في ظل وضع اقتصادي وسياسي هشّ، سمح بمزيد من الصراعات والتوترات.
ومما لا شك فيه أن هذه الأوضاع تَصُبّ انعكاساتها السلبية في معدل النمو الاقتصادي للدولة والذي انخفض من 8.8% عام 2022م إلى 7.5% عام 2023م، بسبب ضعف الأداء في الصناعات الاستخراجية (حيث انخفض معدل النمو من 22.3% عام 2022م إلى 15.4% عام 2023). واستمر في الانخفاض ليصل معدل النمو إلى نحو 6% عام 2024م، مع ارتفاع التضخم من 9.3% في عام 2022م إلى 19.9% في عام 2023م، بسبب انخفاض قيمة الفرنك الكونغولي مقابل الدولار الأمريكي (بانخفاض 21.8%) والقيود المفروضة على إمدادات الغذاء والطاقة. ومن المتوقع مزيد من ارتفاع معدلات التضخم في عامَي 2025م و2026م. مع استمرار التوقعات بتراجع معدل النمو الاقتصادي إلى 6.5% بنهاية عام 2025م([14]). وفى توقعات أخرى للأمم المتحدة، من المتوقع أن يتراجع نموّ الناتج المحلي الإجمالي إلى 4.9% في عام 2025م، وأن يستقر عند حوالي 4.8% خلال عام 2026م؛ حيث إن الحرب المتصاعدة في الشرق واستمرار التقلبات السياسية من الممكن أن تؤدي إلى تقويض القدرة على إحراز تقدُّم في جهود الإصلاح الاقتصادي. وللتخفيف من هذه المخاطر، يتمثل التحدي المباشر الذي تواجهه جمهورية الكونغو الديمقراطية في تعزيز الأمن والحفاظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي الكلي مع بناء مؤسسات قوية لضمان النمو المستدام، وهو أمر صعب في ظل التوترات الحالية([15])
شكل رقم (1) تطور معدل النمو الاقتصادى للكونغو الديمقراطية للفترة (200-2025م)
Source:African Development Bank , “Democratic Republic of Congo Economic Outlook”, 2024م , available at: https://www.afdb.org/en/countries-central-africa-democratic-republic-congo/democratic-republic-congo-economic-outlook
خاتمة:
تنبع الأسباب الأساسية للصراع في جمهورية الكونغو الديمقراطية من التفاعل المُعقَّد للتوترات العرقية، والفساد السياسي والشركات، والآثار المتبقية للاستعمار الغربي في إفريقيا. وطوال هذه الاضطرابات، أدى السعي للاستفادة من الموارد الطبيعية إلى تفاقم العنف والفقر، في تناقض حادّ مع التقدم التكنولوجي الذي أتاحته المعادن في أجزاء أخرى من العالم.
ولتحقيق الاستقرار الاقتصادي في جمهورية الكونغو الديمقراطية رغم الصراعات المستمرة، يجب تبنّي إستراتيجية شاملة تجمع بين الإصلاحات الاقتصادية، السياسية، والأمنية. فهناك حاجة ماسَّة إلى تمكين جمهورية الكونغو الديمقراطية من السيطرة على مواردها الطبيعية، وتعزيز الأمن والاستثمار، وتنويع اقتصادها، حتى يكون بإمكانها الحد من تأثير الصراعات وبناء اقتصاد أكثر استقرارًا ونموًّا.
ولكن تتطلب هذه الحلول إرادةً سياسيةً قويةً، وتعاونًا دوليًّا، ودعمًا داخليًّا من كافة الأطراف الفاعلة في البلاد؛ إذ يبدو أن مستقبل الصراع في الكونغو الديمقراطية يعتمد بشكل كبير على نجاح الجهود الدبلوماسية الإقليمية والدولية في تحقيق وقف دائم لإطلاق النار، والبدء في حوار شامل بين جميع الأطراف المعنية، ودون ذلك، قد يستمر التصعيد العسكري، مما يزيد من تعقيد الأوضاع الإنسانية والأمنية والاقتصادية في البلاد والمنطقة المحيطة.
……………………………..
قائمة المراجع:
[1] ) The Soufan Center , “The Escalating Web of Conflict in the Eastern Democratic Republic of Congo” , JANUARY 28, 2025 , available at: https://thesoufancenter.org/intelbrief-2025-january-28/
[2]) The World Bank , The World Bank In Congo DRC , 2025, available at: https://www.worldbank.org/en/country/drc/overview
[3]) JOHN CANNON , “The key factors fueling conflict in eastern DRC ” , 14 FEB 2025 , available at: https://news.mongabay.com/2025/02/in-eastern-drc-the-history-of-conflicts-is-fueled-by-new-factors/
[4])The World Bank , Op.cit.
[5])Transparency International , ‘ CORRUPTION PERCEPTIONS INDEX” , 2024 , available at: https://www.transparency.org/en/cpi/2024
[6]( UNHCR , “Democratic Republic of the Congo situation” , 2025 , available at: https://reporting.unhcr.org/operational/situations/democratic-republic-congo-situation
[7]) ReliefWeb , “Democratic Republic of Congo – Protection Brief”, February 2025, available at: https://reliefweb.int/report/democratic-republic-congo/democratic-republic-congo-protection-brief-february-2025
[8] )The Soufan Center , Op.cit.
[9]) UNHCR ,Op.cit.
[10]) الأمم المتحدة، “الكونغو الديمقراطية: مدارس مُغلقة وأطفال مُحرومون من التعليم بسبب تصاعد العنف” ، 17 فبراير 2025 ، متاح على الرابط التالي: https://news.un.org/ar/story/2025/02/1139166
[11]) ساجدة السيد، ” أفق مجهول.. مستقبل الصراع في الكونغو الديمقراطية بعد سيطرة حركة M23 على جوما”، القاهرة الإخبارية، 9 فبراير 2025م، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/5Nrjqpdn
[12]) JOHN CANNON ,Op.cit.
[13]) African Development Bank , AFRICAN ECONOMIC OUTLOOK 2024, (Abidjan : African Development Bank, 2024) , PP.1-3.
[14] )African Development Bank , “Democratic Republic of Congo Economic Outlook”, 2024 , available at: https://www.afdb.org/en/countries-central-africa-democratic-republic-congo/democratic-republic-congo-economic-outlook
[15])The World Bank , Op.cit.