نشرت مجلة “السياسة والمجتمع الدولي/IPG” الألمانية مقالًا للرأي بقلم بروفيسور ” كريستوف تيتيكا/ Kristof Titeca” أستاذ في معهد سياسات التنمية (IOB) بجامعة “أنتويرب” البلجيكية، وعالِم سياسي وخبير في الحوكمة وإدارة الصراعات والتهريب على المستوى الإقليمي لأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية؛ أكَّد خلاله أن توسُّع روندا في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية بالقوات والتقديرات الإستراتيجية إنما هو صراع على السلطة والموارد الطبيعية.
بقلم: كريستوف تيتيكا
ترجمة: شيرين ماهر
استولت ميليشيات المتمردين “إم23” على مدينة “بوكافو” في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقبل أسبوعين، كانت قد استولت أيضًا على مدينة “جوما” ذات الأهمية الإستراتيجية. ويبدو أن كينشاسا تفقد المزيد من نفوذها على شرق الكونغو، فيما يُنذِر الصراع الآن بمزيد من التصعيد. ويعتقد العديد من المراقبين أن هذا التصعيد ما كان ليحدث لولا دعم رواندا. وكان رئيس الكونغو “فيليكس تشيسكيدي” يبحث عن حُلفاء في مؤتمر ميونيخ للأمن في نهاية الأسبوع.
وتشير تقارير الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة إلى أن رواندا تدعم تلك الجماعة المسلحة، ليس فقط من الناحية اللوجستية، بل وأيضًا بقواتها الخاصة في نزاعها مع جمهورية الكونغو الديمقراطية. وفي أوائل عام 2024م، قدَّرت مجموعة من خبراء الأمم المتحدة وجود ما يتراوح بين 3000 و4000 جندي رواندي في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وعقب الاستيلاء على مدينتي جوما وبوكافو، ربما زاد هذا العدد إلى ما لا يقل عن 6000 إلى 7000 جندي.
ولكن ما أهداف رواندا في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية؟
ولماذا تتصرَّف على نحوٍ يمكن وصفه بالغزو؟
لفهم سلوكها، يتعيَّن علينا أن ننظر إلى مصالح روندا المُركبة في الكونغو؛ فهناك مصالح سياسية وأمنية واقتصادية تبدو متشابكة بشكل وثيق، ودون فهم تلك الروابط، لن نتمكن من رؤية أبعاد الصراع بوضوح.
ترى رواندا أن شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية يُشكِّل تهديدًا لأمنها القومي، لكنّ حلّ الصراع لا يزال بعيد المنال، فيما تُشكّل جماعة المتمردين، “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”، على وجه الخصوص، تهديدًا للحكومة.
لقد شارك العديد من مُقاتليها في الإبادة الجماعية لقبائل التوتسي عام 1994م. والواقع أن سياسة الأمن المتشددة التي تنتهجها رواندا ما هي إلا نتيجة مباشرة للإبادة الجماعية التي وقعت عام 1994م. وفي بيان صادر في شهر فبراير 2024م، أكَّدت الحكومة الرواندية فيما يتصل بالقوات الديمقراطية لتحرير رواندا، قائلة: “تحتفظ رواندا بالحق في اتخاذ جميع التدابير المشروعة للدفاع عن البلاد؛ ما دام ذلك التهديد لا يزال قائمًا”.
هذا وتعوق جهود جمهورية الكونغو الديمقراطية للاستجابة للصراع في شرق البلاد بعض المشكلات الهيكلية، فضلًا عن فساد بعض قوات الجيش وتعاونها مع الجماعات المسلحة، بما في ذلك تعاونها مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا.
وعلى الرغم من أن الرئيس “تشيسكيدي” استثمر بكثافة في تعزيز آليات وجهود الدفاع العسكري للكونغو، إلا أن المشكلات الأساسية لا تزال باقية دون حل؛ كما تظهر حالة جوما وبوكافو. كما فشلت المحادثات مع حركة “إم23” وتسريحها (من أكتوبر 2019 إلى منتصف 2021م)؛ حيث ضاعت العديد من الفرص. وظل التركيز فقط على كينشاسا محدودًا للغاية، وكان من شأن ذلك أن يُهمّش دور رواندا ويُقلّل من أهميته.
أولًا: التهديد الذي تُشكّله القوات الديمقراطية لتحرير رواندا ليس كبيرًا بما يكفي لتبرير ذلك الرد العسكري الضخم من جانب حركة “إم23” ورواندا. والأسباب الكامنة وراء العمل العسكري كانت مزيجًا من المصالح المشروعة لكيجالي، واستغلال وضع التهديد لأغراضها الخاصة. وعندما عادت حركة “إم23” -بدعم كبير من رواندا- إلى الظهور في نوفمبر 2021م؛ كان لدى القوات الديمقراطية لتحرير رواندا ما يُقدَّر بنحو 500 إلى 1000 مقاتل، وبالتالي فإنها لم تُشكِّل تهديدًا وجوديًّا لرواندا.
ثانيًا: تلعب رواندا دورًا مزدوجًا؛ فهي “فتيل الأزمات”، وفي الوقت نفسه “رجل الإطفاء”. فعلى مدار العقدين الماضيين، دعمت رواندا العديد من الجماعات المسلحة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، الأمر الذي أدَّى إلى تأجيج العنف في المنطقة على نطاق واسع. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك: انتفاضة ميليشيا المتمردين “إم23″، التي تقاتل رسميًّا لحماية سكان التوتسي في جمهورية الكونغو الديمقراطية. والواقع أن تهميش هذه المجموعة السكانية له أسباب تاريخية. ولكن انتفاضة “إم23” تعمل على تفاقم التوترات العرقية وزيادة انعدام الأمن بين السكان التوتسي.
كما ترى رواندا أن شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية بمثابة مجال نفوذها التقليدي، وستتدخل فيه بمجرد أن ترى نفوذها مهددًا. ويُعتَبر هذا السبب الرئيسي لإحياء رواندا حركة “إم23” في نوفمبر 2021م. ففي ذلك الوقت، اعتبرت رواندا أن مصالحها في جمهورية الكونغو الديمقراطية مُهدَّدة بشدة.
وفي حين سُمح لـ “بوروندي” و”أوغندا” بالتدخُّل عسكريًّا، حُرمت رواندا من ذلك.
وقد اعتبرت العملية العسكرية الأوغندية، تحديدًا، تُشكِّل تهديدًا مباشرًا في رواندا. وكذلك خططت أوغندا لطريق في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية يَمُرّ مباشرةً عبر مجال نفوذ رواندا. وكالعادة، دافعت رواندا عن مصالحها بالتعاون مع جماعة مسلحة، وفي هذه الحالة كانت حركة “إم23”.
وكان تدخُّل رواندا يأتي في سياق رواية تاريخية عن “رواندا الكبرى”؛ حيث شكَّك الرئيس “كاجامي” علنًا في الحدود الاستعمارية بين رواندا والكونغو. وقبل نحو عام أعلن عن ذلك، قائلًا: “لقد تم تقسيم بلدينا بسبب الحدود الاستعمارية، وكان جزء كبير من رواندا يقع خارج حدودها؛ في شرق الكونغو وجنوب غرب أوغندا وأماكن أخرى”. ولا تتضمن مثل هذه التصريحات أيّ مطالبات إقليمية مباشرة، ولكن غالبًا ما يُفسِّرها السكان الكونغوليون على هذا النحو. ويرجع ذلك أيضًا إلى أن رواندا سبق أن تقدمت بمطالب مماثلة في الماضي.
كما أن تورُّط رواندا في الكونغو له دوافع وأجندة اقتصادية. فمنذ عام 2016م، أصبح الذهب أهم سلعة تصديرية لرواندا، ويأتي الذهب في الغالب من شرق الكونغو الديمقراطية. ولهذا السبب تصف النُّخبة السياسية في رواندا أحيانًا شرق الكونغو الديمقراطية، علنًا، بأنها منطقة عازلة أو تشير إلى “نموذج كردستان”.
لذلك، يجب فهم تصرفات رواندا وحركة “إم23” باعتبارها مزيجًا بين العوامل المذكورة.
ومن ناحية أخرى، تؤكد العديد من وسائل الإعلام أن هذه الحرب تدور، في المقام الأول، من أجل الوصول إلى الموارد المعدنية. وهذا في الواقع يلعب دورًا محوريًّا؛ فقد احتلت حركة “إم23” منجم روبايا، الذي يوفّر حوالي 20 في المائة من الكولتان في العالم. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، تُصدِّر حركة “إم23” حوالي 120 طنًّا من الكولتان من هذا المنجم إلى رواندا شهريًّا. ومع ذلك، يجب تقييم هذا الرقم من منظور أن حركة “إم23” لم تتمكن من إخضاع المنجم لسيطرتها إلا في أبريل 2024م؛ أي بعد عامين ونصف من عودتها.
وبالنظر إلى البُعد الاقتصادي، نجده يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمصالح السياسية والتاريخية والأمنية لرواندا. فمن الناحية السياسية، تُقدم حركة “إم23” نفسها كحكومة متمردة “حسنة النية”. وهي تريد أن تثبت قدرتها على إدارة شرق الكونغو بشكل أفضل وأكثر كفاءة من كينشاسا.
ومن الركائز الأساسية لهذه الإستراتيجية: حملة ضخمة جرى تدشينها على الإنترنت، تهدف إلى أن تُثبِت للشخصيات المؤثرة القريبة من كيجالي أن حركة “إم23” حرَّرت جوما وشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، وأنها تقوم “بعمل جيد”.
من ناحية أخرى، لا يتم التَّطرُّق إلى النزوح الجماعي وأعمال العنف التي تمارسها حركة “إم23” ضد المدنيين عَمدًا. ففي النصف الأول من عام 2024م، شرَّدت حركة “إم23” ما يُقدَّر بنحو مليوني شخص. ومنذ بداية العام، فرَّ 700 ألف شخص آخرون. وهناك أيضًا تقارير عن تنفيذ عقوبات إعدام جماعية، واختطاف، وتجنيد قسري، بما في ذلك تجنيد الأطفال من جانب حركة “إم23”.
كل ما سبق يشير إلى أن رواندا ستُحافظ على وجود طويل الأمد في مقاطعات كيفو؛ حيث نشرت رواندا المزيد من القوات، واحتلت مساحة أكبر مما كانت عليه بالفعل في عامي 2012/2013م. ومن الواضح أن التَّزامُن مع توقيت الحرب مع غزة وحرب أوكرانيا لم يكن من باب المصادفة؛ فقد تغيرت ردود الفعل الدولية على الغزوات وعمليات الضم.
وبصرف النظر عن بعض تصريحات الإدانة –وكان أحدثها مِن قِبل البرلمان الأوروبي-؛ تظل العقوبات الدولية محدودة النطاق. لقد علَّقت ألمانيا المحادثات المتعلقة بالمساعدات، فيما تُهدِّد المملكة المتحدة بقطع أموال المساعدات. هذا كل شيء، وباستثناء ذلك، لن يكون هناك رَدّ فِعْل دولي، وبالتالي فإن رواندا وحركة “إم23” لا يجدان ما يَعترض طريق تنفيذ خطتهما من أجل خلق “منطقة نفوذ” خاصة بهما.
إن هجومهما ليس نتاجًا لتهديد عنيف، بل لتحقيق مصلحة ذاتية إستراتيجية. ولكن هذه المصالح خسائرها البشرية باهظة، وتؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في المنطقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط المقال: