قراءة في كتاب “التكالب الجديد… القوى الوسطى والمعركة من أجل إفريقيا”

نِهاد محمود

باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقيّة العُليا- جامعة القاهرة

مُقَدِّمَة:

في ظل تدافُع غير متوقف، لكنه مسبوق ومعتاد، من القوى العالمية الكبرى تجاه القارة الإفريقية ومُقدّراتها، تتكشف قصة أخرى موازية عن قوى تُعرَف في العلاقات الدولية باسم “القوى المتوسطة”، أو “القوى الصاعدة”، الساعية هي الأخرى للتقارب مع قارة إفريقيا والاستفادة مما تملكه من ثروات وإمكانات، بما يعنيه ذلك لتلك القوى (وهي إيران وتركيا وروسيا المقصودة بهذا الكتاب) من نفوذ ومكانة في النظام الدولي عبر بوابة القارة الإفريقية (وغيرها من التحركات خارج الإقليم، لكننا نركز هنا على تحركاتهم صوب إفريقيا).

 في هذا السياق تأتي أهمية الحديث عن كتاب: “التكالب الجديد.. القوى الوسطى والمعركة من أجل إفريقيا (إيران- تركيا- روسيا)، الصادر مطلع العام 2025م، لمؤلِّفه الأكاديمي الكبير وأحد رُوّاد الدراسات الإفريقية البارزين؛ البروفيسور “حمدي عبد الرحمن حسن”، الذي يُقدّم في كتابه محاولة بحثية جادَّة من منظور حضاري إفريقي، لفَهْم طبيعة الدور المُمَارَس مِن قِبَل بعض القوى المتوسطة داخل إفريقيا (بشكل أساسي إيران وتركيا وروسيا)، وانخراطهم المتصاعد بمفاصل القارة، على نحوٍ لن يؤثر على إفريقيا فحسب، بل على اللاعبين الإقليميين الآخرين والدوليين المعنيين بالمنطقة.

أولًا: أهمية كتاب “التكالب الجديد”

في وقتٍ يحاول فيه الدارسون فكّ رموز هذا اللغز المتعلق بصعود هذه القوى (المتوسطة)، تبرز أهمية هذا الكتاب الذي يطرح مؤلفه تساؤلًا مهمًّا، من منظور إفريقي بحت (وهي محاولة أصيلة بأغلب كتابات المؤلف من خلال تأكيده المستمر على ضرورة إيلاء الاهتمام للمنظور الحضاري الإفريقي خلال معالجة القضايا الإفريقية الأكثر إلحاحًا)، ويتمثل هذا التساؤل الرئيس في: هل هذه الشراكة الجديدة (بين إفريقيا والقوى الوسطى) وُلِدَت من رَحِم المصالح المشتركة أم أنها دالة على ظهور هيمنة جديدة في إفريقيا؟

 استنادًا لذلك يمكن إدراك أهمية هذا المؤلَّف في محاولته سدّ الفجوة المعرفيّة المتعلقة بطبيعة نفوذ وأدوار القوى المتوسطة مثل إيران وتركيا وروسيا (التي يُركّز عليها الكتاب)، في وقتٍ تتناول فيه الأدبيات والخطابات العالمية القوى الكبرى بشكل أكثر تركيزًا عن غيرها من القوى الصاعدة، وعليه يحاول الكتاب مَلْء هذا الفراغ في قضية بحثية شديدة الأهمية للقارة الإفريقية.

ثانيًا: تقسيم وبنية الكتاب

خلال مسعى المؤلف (أ.د. حمدي عبد الرحمن حسن) الإجابة عن تساؤله بشأن شكل ومسار العلاقة بين إفريقيا والقوى الصاعدة، الإيرانية والتركية والروسية، التي تقترب منذ وقت ليس بالقليل نحو القارة الإفريقية بما يمتلكه جميعهم من تواصل تاريخي وروابط ثقافية متينة مع إفريقيا يرغبون في إحيائها، قسَّم كتابه إلى 3 أقسام رئيسية، إضافة لمقدمة وخاتمة، جاءوا وفقًا للترتيب والتفصيل التالي:

المقدمة: إفريقيا والتكالب الدولي على النفوذ.

القسم الأول: إيران وإفريقيا: صراع الأيديولوجيا والمصالح:

• مقدمة.
• الجذور وما قبل الثورة.
• مراحل تطوُّر السياسة الإفريقية لإيران بعد إعلان الجمهورية.
• محدِّدات السياسة الإيرانية تجاه إفريقيا.
• الوسائل والأدوات: محاولات السيطرة وكسب النفوذ.
• القوة الناعمة.
• التشيُّع وحرب السرديات الكبرى.

القسم الثاني: تركيا وإفريقيا أحلام العثمانية الجديدة:

• مقدمة.
• في المنهج.
• مراحل تطوُّر العلاقات التركية الإفريقية.
• تركيا بين العثمانية الجديدة والأفرو-أورو آسيوية.
• العلاقات الاقتصادية.
• العلاقات التركية الصومالية: دراسة حالة.

القسم الثالث: عودة روسيا إلى إفريقيا:

• مقدمة.
• مراحل تطوُّر العلاقات الروسية الإفريقية.
• الأهداف والمصالح الروسية في إفريقيا.
• ماذا يريد الأفارقة من روسيا؟
• قضايا العلاقات الروسية الإفريقية.
• تداعيات الحرب الأوكرانية على العلاقات الروسية الإفريقية.
• الخاتمة.

ثالثًا: قراءة في القضايا والإشكاليات الرئيسة الواردة بالكتاب

1- إيران والفضاء الإفريقي الأوسع.. قصة التعقيد والتشابك

يحاول “عبد الرحمن” في ذلك القسم من الكتاب تفكيك أغلب جوانب ومفاتيح فَهم التغلغل الإيراني في إفريقيا، بدءًا من أقدم العصور التي تعود للقرن العاشر الميلادي؛ حيث هجرة مجموعة من الإيرانيين واستقرارهم بمنطقة الساحل الإفريقي، وصولًا لعام ٢٠٢١م؛ عقب انتخاب الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي.

كما يُسلّط الكاتب الضوء على عدد من دوافع انخراط طهران في إفريقيا، والتي كان أبرزها الهروب من العقوبات الأمريكية، والبحث عن المعادن والمصالح الاقتصادية بشكل أوسع نطاقًا في القارة، وصولًا لأهداف جيوسياسية تتصل بالتنافس الإقليمي، وإن شئت فقُل الحرب الباردة بين إيران والمملكة العربية السعودية في إفريقيا، كمسرح لهذا التنافس.

وبشكل عام، وخلال مسعى الكتاب لفَهم مسألة الحضور الإيراني في إفريقيا، وهي قصة بالغة التعقيد ومتعددة الأبعاد والمراحل التاريخية؛ يطرح عددًا من التساؤلات المنطقية للغاية لفهم التحركات الإيرانية في القارة الإفريقية، مثل:

• ما جذور وتاريخ العلاقة بين إيران وإفريقيا؟
• كيف أثَّر التغير في طبيعة وهيكل النظام الديني لإيران على علاقتها مع إفريقيا؟
• ما مصالح وأهداف التغلغل الإيراني في إفريقيا؟
• كيف سعت إيران في ظل عزلتها الدولية لتحقيق مصالحها الإفريقية؟
• ما عوامل التغيُّر والاستمرار في السياسة الإيرانية تجاه إفريقيا؟

2-إفريقيا وأحلام العثمانية الجديدة:

رغم أن العلاقات التركية الإفريقية تعود للقرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين؛ إلا أن هذه الروابط كانت تشهد خفوتًا في أوقات، وصعودًا في أوقات أخرى. على سبيل المثال شهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية النظر إلى إفريقيا وعلاقاتها بالشرق الأوسط كمنطقتين منفصلتين بحكم الجغرافيا، ثم تغيرت هذه المُدركات، وأعادت تركيا اكتشاف القارة في أعقاب نهاية الحرب الباردة، وصولًا لمرحلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ حيث تنظر اليوم إلى القارة تحت زعامته كمنطقة مهمة ذات نفوذ إستراتيجي، يمكن من خلالها تحقيق أحلام العثمانية الجديدة، وهو مصطلح له أبعاد سياسية وثقافية واقتصادية، يرتبط بالتوسع العسكري التركي ومحاولته إحياء الخلافة العثمانية في قارات العالم القديم، ويستخدم المصطلح لفهم ومناقشة سياسات تركيا خارج إقليمها الجغرافي وبخاصة في إفريقيا.

بشكل أكثر شمولًا يحاول “عبد الرحمن” البحث في الحضور التركي في القارة الإفريقية من خلال الإجابة عن عددٍ من التساؤلات؛ من أبرزها: ما مراحل تطور العلاقات التركية الإفريقية؟ ما الأسباب والظروف التي تُفسِّر صعود أو تراجُع السياسة الخارجية التركية تجاه إفريقيا؟ كيف يمكن تطوير تعميمات متوسطة المدى من خلال دراسة الحالة التركية في إفريقيا، والتي يمكن تطبيقها لاحقًا على غيرها من الحالات في أماكن أخرى؟

في الجزء الأخير من هذا القسم المعني بالتوجُّه التركي الحثيث صوب إفريقيا، يؤكد الكتاب على أنه برغم وجود العديد من التحديات والقيود المصاحبة للانخراط التركي في قارة كإفريقيا التي تتشابك فيها مصالح قوى عديدة، وتشهد أجواء جيوسياسية ملتهبة؛ إلا أن تركيا امتلكت موقعًا مهمًّا في إفريقيا وبخاصة في منطقة القرن الإفريقي، وهو ما قد يثير مخاوف ويؤثر على مصالح قوى أخرى إقليمية في المنطقة كمصر وبعض الدول الخليجية، وخصوصًا فيما يتعلق بدعم حكومة أنقرة لصعود حركات الإسلام السياسي، وما يمكن أن يؤثر عليه ذلك في تفاعلات المنطقة ككل.

3- روسيا البوتينية والعودة لإفريقيا

فيما يخص روسيا؛ تؤكد الدراسة أنها تسعى وبقوة تحت زعامة فلاديمير بوتين لتحقيق أهدافها الإستراتيجية في إفريقيا، وبالفعل فقد نجحت في ذلك، من خلال الاستفادة من إرثها التاريخي مع بعض حركات التحرر الوطني. وما من شك في أن الوجود الروسي في القارة قد أعاد تشكيل خريطة التفاعلات والتوازنات في القارة، مؤثرًا على حلفاء تقليديين كان لهم الباع الأول في المنطقة، كفرنسا، التي تشهد حتى الآن خفوتًا لنجمها بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا، واتجاه قادة هذه البلدان في المقابل للدوران في فلك روسيا البوتينية، كالحال في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغيرهم، في رَفْضٍ شديد اللهجة على ممارسات وسياسات المستعمر الفرنسي السابق، والتأكيد على سيادة القارة من خلال تحركات عدة يأتي أبرزها في الاتجاه نحو شركاء يؤكدون على احترامهم لسيادة الدول الإفريقية، وعدم المساس بشؤونهم الداخلية الخاصة، وأن شراكتهم لا تتعلق بأيّ مشروطيات، بخلاف القوى الغربية التي ترتبط حُزَم مساعدتها بجملة من المشروطيات ذات الصلة بحقوق الإنسان والديمقراطية وإجراء انتخابات مدنية، وغيرها من الأمور التي بات يعتبرها الأفارقة (قادة وشعوبًا) خطًّا أحمر لا يجوز الاقتراب منه.

من ناحية أخرى، يجسّد الاهتمام الروسي غير المسبوق بإفريقيا حقيقة أنه في ظل سياسات العولمة المتسارعة التي نعيشها اليوم، ليس بمستغرب أن تجد القوى الإقليمية أو الكبرى لديها اهتمامات إستراتيجية في مناطق تتجاوزها كثيرًا جغرافيًّا. ويمكن تفهُّم ذلك بالنظر إلى مبدأ رئيس وهو مصالح الدولة الوطنية، وهو أمر من المفترض ألا يُقْلِق أيّ دولة أخرى أو يُنظَر له بعين التهديد، إلا أن الممارسة الواقعية لروسيا تشهد بالفعل تهديدًا، وتؤثر على حضور قوى كانت إفريقيا بالنسبة لهم مناطق نفوذهم التقليدي (كفرنسا)، كما ذكرنا أعلاه.

في نهاية هذا القسم من الكتاب يؤكد “عبد الرحمن” على حقيقة أن روسيا كانت ولازالت تقوم ببراعة بملء الفراغ الذي تتركه الدول الغربية؛ وقد حدث ذلك -على سبيل المثال- مع مصر، عندما قطعت الولايات المتحدة مساعدتها العسكرية لها في ٢٠١٣م، وسرعان ما تمكَّنت روسيا من ملء هذا الفراغ، وإمداد الدولة المصرية بما تحتاجه. وتكرر الأمر نفسه مع نيجيريا في عام ٢٠١٤م عندما ألغت الولايات المتحدة عقدًا لتوريد طائرات هليكوبتر مقاتلة، بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان، وتدخلت روسيا حينها وزوَّدت البلاد بطائرات هليكوبتر مقاتلة من طراز Mi- 35M، وهي مروحية روسية متعددة الأغراض.

وفي ظل العلاقات الغربية غير المستقرة مع إفريقيا، وبخاصة فرنسا، ومع العقوبات المفروضة على روسيا المرتبطة بغزوها لأوكرانيا، ومع رغبة القادة الأفارقة في الخروج من دائرة التبعية الغربية الاستعمارية، وممارسة دور إفريقي قائم على الإرادة الحُرَّة والنفع المشترك بين الشركاء الإقليميين والدوليين؛ فمن المرجح استمرار العلاقات الروسية الإفريقية، وأن يتَّسع المسرح الإفريقي للمزيد من الانخراط الروسي، ما لم يتأثر بتعثُّره في بعض المناطق والمعارك هنا وهناك في الشرق الأوسط وإفريقيا، كسقوط النظام السوري في ديسمبر ٢٠٢٤م، وهزيمة فاغنر في قتال مع مسلحي الطوارق بـ”تين زواتين” بشمال مالي في يوليو ٢٠٢٤م.

4-السيادة “الوحدة” الإفريقية وحسابات ما بعد النيوكولونياليّة:

منذ ولادتها في الشتات في أواخر القرن التاسع عشر وانتقالها لاحقًا إلى القارة؛ حيث أصبحت القوة الدافعة لحركات التحرير الإفريقية، كانت الوحدة الإفريقية قوة أيديولوجية قوية. وقد أوضح كوامي نكروما وآخرون هذه القضية بوضوح في كتاباتهم السياسية في الخمسينيات والستينيات. وبالانتقال إلى وقتنا الحالي يمكن تفسير ما يحدث -وفقًا لمطالعتنا للكتاب-، من انخراط للقوى الإقليمية الصاعدة أو الوسطى وفقًا لهذا المنظور -ضمن عوامل أخرى في البيئتين الإقليمية والدولية-، بمعنى أن بزوغ تلك القوى قد حدث بالتزامن مع موجة إعادة قراءة تاريخ ممارسات المُستعمر وخطاباته، وهو ما يتماشى مع رغبة الأنظمة الإفريقية الوطنية -مدنية كانت أو عسكرية- في الانفكاك عن ظِلّ القوى الكبرى الغربية، التي وجد الأفارقة أن جهودهم المبذولة لم تُسهم بالشكل المأمول في تقدُّم القارة، بقَدْر ما قوَّضت من مسار التنمية، وأسهمت في تخلفها، عبر استنزاف ونهب ثرواتها، سواء خلال الفترة الاستعمارية التقليدية، أو سياسات ما بعد الاستقلال “الاستعمار الجديد”، بما يعني أن مساعي التقارب الحثيثة من قِبَل القوى المتوسطة (مثل إيران وتركيا وروسيا وغيرهم) لم تكن لتظهر على هذا النحو من التقارب لولا الرغبة في إحياء الإرادة الإفريقية المستقلة التي يتجسَّد أبرز معالمها في الخروج من مدار الشمال المتقدم إلى مزيد من التلاقي مع بلدان الجنوب والقوى الطامحة لشراكات متكافئة بعيدة عن الإرث الاستعماري الذي تتكبَّد القارة أثمانه الباهظة حتى وقتنا الراهن.

لكن رغم ذلك يعود الكاتب، ويؤكد على ضرورة الانتباه من مخاطر الاعتماد المفرط على القوى الوسطى، خاصةً أن القوى الثلاثة محل هذه الدراسة، ونتيجة لما تعانيه من أزمات كالعقوبات الدولية المفروضة على إيران وروسيا، أو تداعيات الحرب الأوكرانية على روسيا، أو الاستقطاب الداخلي الذي تمر به تركيا إزاء أردوغان، كلها عوامل تُنذر بأن هذه القوى قد لا تتمكّن من الإيفاء بالتزاماتها على المدى الطويل تجاه القارة، وقد لا تتمكن من الاستمرار في التبرير لمواطنيها (كتركيا) نفقاتها المتصاعدة داخل المنطقة، مع بعض ما تمرّ به من أزمات اقتصادية، وهو ما يلفت الانتباه إلى ضرورة تنويع الشركاء والانفتاح على أغلب القوى العالمية والإقليمية، وفقًا لأولويات ومصالح القارة، وتجنُّب الاعتماد المفرط على شركاء بعينهم.

 وعليه يُوصي الكتاب بضرورة وضع هذه الاعتبارات في الحُسبان خلال أيّ شراكة مع القوى الثلاث، ومَن على شاكلتهم، على أن يتم تفعيل دور المؤسسات القارية والإقليمية الإفريقية لتوحيد الصوت الإفريقي والتنسيق بين المصالح، كالاتحاد الإفريقي؛ بحيث لا تقف الدول الإفريقية فُرادى أمام هذه الشراكات التي ينبغي التدقيق في عائدتها على القارة، بما في ذلك تحديد أهداف واضحة منها وضمان الشفافية والمساءلة، بما يضمن الحفاظ على السيادة الإفريقية والدور المُستقل.

خاتمة:

يمكن أن نَستخلص من مطالعة الكتاب، ما يحاول تقديمه من مُساهمة قيِّمة وجادة لمكتبة الدراسات الإفريقية لفهم منظور القوى الوسطى (الإيرانية والتركية والروسية)، وتحوّلها صوب إفريقيا، وهي قضية جديرة بالاشتباك والتفكيك، وبخاصة فيما يتصل بتداعيات هذا الانخراط على القارة وكذلك على الشركاء الآخرين؛ لمعرفة ما إذا كانت الأولى ستظل مسرحًا لتفاعلات ومصالح هذه القوى، على غرار القوى العالمية، أم سيكون لإفريقيا رأي آخر هذه المرة، يُمهِّد لممارسة حقيقية لدور إفريقي حُرّ، دون الاستغلال والتبعية!

 من جهة أخرى يصدر هذا المؤلَّف في وقت يصعب فيه الاختلاف على أهميته وحساسيته بالنسبة للقارة الإفريقية التي تشهد تدافعًا محمومًا على شراكتها من قِبَل العديد من القوى الصاعدة التي تحاول إيجاد موطئ قدم لها بالقارة، كما تتردد أصداء توترات الشرق الأوسط إلى المنطقة الإفريقية، وعليه تأتي قيمة الكتاب في وضعه أساسًا بحثيًّا متينًا (من المنظورين الجزئي والكلي) لتحليل أدوار هؤلاء الفاعلين الصاعدين، بما يُيَسِّر فَهم مآرب هذه القوى، ومِن ثَمَّ التنبؤ بتداعيات ذلك على المُحيط الإفريقي الناشطين خلاله، وصولًا للسيناريوهات المُحتملة ذات الصلة بمستقبل القارة في ظل هذا التسابق.

بصورة أكثر عمومية، يتكشف لك أن دراسة دور القوى المتوسطة في إفريقيا لا تلقي الضوء على التفاعلات الجيوسياسية المتطورة في المنطقة فحسب، بل تؤكد على أهمية القارة في تشكيل التطورات الإقليمية والعالمية. بما يساعد في تفسير ما يمكن أن تُحدثه هذه القوى من توازن بين نفوذ القوى الكبرى واحتياجات الدول الإفريقية الأصغر، بما قد يؤدي إليه من تشكيل نظام عالمي ذي تعددية قطبية وربما أكثر تعاونًا، لكنْ نؤكد في الوقت ذاته على أن التعددية القطبية لا تعني بالضرورة أن النظام الدولي سيكون أكثر عدالةً وإنصافًا، إلا إنها قد تتيح هامشًا أكبر من التفاعل والمناورة للقوى المتوسطة والأصغر على أقل تقدير.  

باختصار نرى أنه إذا كان مُقدرًا للدول الإفريقية أن تكون رابحة وليس خاسرة من هذه العملية، فيتعين عليها أن تستجيب بطريقة أكثر ذكاءً وتوحيدًا في الصفوف بما يتماشى مع ديناميات هذا النظام العالمي والإقليمي المتغير.

في الأخير؛ يفسح كتاب “التكالب الجديد” الطريق للدارسين والمعنيين بالشأن الإفريقي للقيام بدراسات مُماثلة بالقياس على نماذج قوى صاعدة أخرى (تنشط في إفريقيا قوى أخرى خلاف الفواعل الثلاثة محل تركيز الكتاب، كالصين، البرازيل، كوريا الجنوبية، الهند، اليابان، المملكة العربية السعودية، الإمارات وغيرهم)، عقب دراستهم بشكل مفصل كما اتبع الكاتب خلال بحثه الدقيق حول إيران وتركيا وروسيا وروابطهم بالقارة الإفريقية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصدر الكتاب:

أ.د. حمدي عبد الرحمن حسن، التكالب الجديد.. القوى الوسطى والمعركة من أجل إفريقيا (تركيا- إيران- روسيا)، (القاهرة: المرايا للثقافة والفنون، الطبعة الأولى، 2025م)، 335 صفحة.