روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
في وقتٍ غير متوقع، وفي حدثٍ جديد من نوعه على السنغال؛ خرج الرئيس ماكي سال ليُعلن تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرَّر عقدها في 25 فبراير الحالي، ليضطرب الشارع السنغالي على إثر هذا القرار، بعد 60 عامًا من الممارسة الديمقراطية والتبادل السلمي على السلطة بين الزعماء المنتخبين.
يفرض هذا الحدث تحديات جديدة أمام السنغال، الذي يعاني بالفعل من مشكلات سياسية واقتصادية، كما يؤجّج الخلافات القائمة بين الحكومة والمعارضة… فما أبعاد تأجيل الانتخابات السنغالية؟ وهل يُعدّ ما قام به ماكي سال انقلابًا دستوريًّا؟ وما التحديات التي تواجه السنغال بعد هذا التغيير؟
هذا وأكثر تتناوله “قراءات إفريقية” في هذا التحقيق.
رفض شعبي:
قام الرئيس السنغالي ماكي سال في بداية شهر فبراير 2024 بتأجيل الانتخابات الرئاسية قبل أسابيع فقط من الموعد المقرر لها في 25 فبراير، وأدى ذلك إلى إشعال الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد التي تعاني بالفعل من التوتر السياسي منذ أشهر.
وقال “سال”: إنه أرجأ الانتخابات بسبب خلاف بين البرلمان والمجلس الدستوري بشأن المرشحين المحتملين الممنوعين من الترشح، وبسبب مخاوف من عودة الاضطرابات التي حدثت في عامي 2021 و2023م.
ودخلت الجمعية الوطنية في حالةٍ من الفوضى بعد القبض على أعضاء المعارضة الذين حاولوا عرقلة مشروع قانون التأجيل، وتم التصويت في وقت متأخر من يوم 5 فبراير لصالح تأجيل الانتخابات حتى شهر ديسمبر 2024م، وهو ما أثار القلق على المشهد السياسي في السنغال، فقد مهّد التصويت الطريق أمام “سال” -الذي كان من المقرّر أن تنتهي فترة ولايته الثانية في أبريل القادم- للبقاء في منصبه حتى يتم تنصيب خليفته ربما حتى عام 2025م.
كما اشتعلت المدن السنغالية غضبًا وحدثت مظاهرات قوية، تلقتها السلطات الأمنية بالأعيرة المسيلة للدموع، وهتف المتظاهرون ضد الرئيس “سال”، ووصفوه بالدكتاتور، وهو اللقب نفسه الذي بدأ يتردد على ألسنة سياسيين وقوى معارضة متعددة.
وقد أثار إعلان تأجيل الانتخابات الرئاسية قلقًا في الخارج أيضًا؛ حيث أكد الاتحاد الأوروبي أن التأجيل يؤدي إلى فترة من الغموض في البلاد، داعيًا إلى إجراء الانتخابات في أقرب فرصة.
كما عبّرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) عن قلقها بشأن الظروف التي أدّت لتأجيل الانتخابات، ودعت إلى تحديد موعد جديد لإجرائها بسرعة، وحثَّت الخارجية الفرنسية السلطات على إزالة الغموض المحيط بالجدول الزمني للانتخابات حتى يمكن إجراؤها في أقرب وقت وبما يتوافق مع قواعد الديمقراطية السنغالية.
في هذا الصدد يقول الصحفي السنغالي، محمد منصور، في حديثه مع “قراءات إفريقية”: إن الأراضي السنغالية شهدت أيامًا مليئةً بالحركة والاضطرابات بسبب تصاعد الاستياء والتوتر في البلاد بعد تأجيل للانتخابات الرئاسية، وأن الكثيرين اعتبروا هذا القرار خطوةً غير مقبولة وغير ديمقراطية، مؤكدين أنها تشوّه صورة العملية الانتخابية وتضرّ بمبادئ الشفافية والعدالة.
وأردف “منصور” أن المظاهرات شهدت مشاركة واسعة مِن قِبَل الشباب والشيوخ والنساء، ورفع المحتجون شعارات تطالب بالحفاظ على حقّ الشعب في تحديد مصيره السياسي وفقًا للمواعيد الدستورية المحددة، وأشار إلى اشتباكات عنيفة نشبت بين قوات الأمن والمحتجين في دكار ومدن أخرى، وهو ما يثير القلق من زعزعة الاستقرار لفترة طويلة في البلاد.
وعلى إثر هذا الرفض من الداخل والخارج ظهر “سال” خلال مقابلة تلفزيونية مع وسائل الإعلام المحلية مساء يوم 22 فبراير؛ معلنًا أن يوم 2 أبريل 2024 سيكون نهاية ولايته الرئاسية ونهاية علاقته مع الشعب السنغالي كرئيسٍ للجمهورية[1].
كما أعلن دعوته لإجراء حوار وطني قائلًا: إنه لا يستطيع إصدار مرسوم بإجراء الانتخابات قبل الحوار؛ لتحديد كيفية المضي قدمًا في مصلحة الأمة، وأضاف إن المجلس الدستوري سيتمكن من تسوية هذه المسألة واتخاذ قرار بشأنها على أساس نتائج الحوار.
المعارضة وتأجيج الخلافات:
وقد نددت المعارضة السنغالية بتأجيل الانتخابات، ووصفته بأنه “انقلاب دستوري”، وقال قادة الأحزاب السياسية والمجتمع المدني إنهم لن يدخلوا في حوار مع “سال”، وحثوه على الإعلان عن موعد الانتخابات قبل مؤتمره الصحفي المتلفز.
وأعلنت مجموعة “آر سونو للانتخابات”؛ التي تضم أكثر من 100 مجموعة من منظمات المجتمع المدني، مقاطعة الحوار الوطني ودعت إلى إضراب عام، حيث يخشى البعض من حدوث فراغ في السلطة إذا غادر “سال” قبل تنصيب خليفة له، ودعوا إلى إجراء تصويت قبل 2 أبريل[2].
كما انتقدت رئيسة الوزراء السابقة، أميناتا توريه، ما قام به “سال” قائلة: كل ما يتوقعه السنغاليون من خطاب الرئيس ماكي سال هو أن يعلن بوضوح عن موعد الانتخابات الرئاسية، فهو لديه التزام أخلاقي وقانوني بتنظيم الانتخابات قبل مغادرة منصبه حتى لا يترك السنغال في فراغ قانوني[3].
وكان المجلس الدستوري في البلاد قد أصدر الشهر الماضي القائمة النهائية للمرشحين للانتخابات، والتي استُبْعِدَ منها زعيم المعارضة “عثمان سونكو”، و”كريم واد” نجل الرئيس السابق عبد الله واد.
وكان السياسي “كريم واد”، الذي يحمل الجنسية السنغالية والفرنسية، قد تخلَّى عن جنسيته الثانية ليُصبح مؤهلاً للترشح لمنصب الرئاسة، لكن المحكمة الدستورية في السنغال حكمت بأنه غير مؤهل للترشح؛ لأنه كان يحمل جنسية مزدوجة عندما قدّم أوراق ترشحه.
وجاء قرار التأجيل ليشعل الاحتجاجات في العاصمة دكار، ويلقي بظلاله مرة أخرى على زعيم المعارضة الأكثر شعبية “عثمان سونكو”، الذي حكمت عليه السلطات السنغالية بالسجن بسبب قضايا فساد ومنعته من الترشح لمنصب الرئاسة، ورغم ذلك فقد كان حاضرًا بين المتظاهرين الذين رددوا أغنية “نفتقدك يا سونكو”، وكرروا هتافات “أفرجوا عن سونكو”.
وعليه فقد أعلن ماكي سال عن مشروع قانون للعفو في بداية ما وصفه بـ “الحوار الوطني”، وأنه سيعرض على الجمعية الوطنية مشروع قانون للعفو العام عن الأعمال المتعلقة بالمظاهرات السياسية التي وقعت بين عامي 2021 و 2024، وقال أن هذا سيعمل على تهدئة الساحة السياسية.
في حديثه مع “قراءات إفريقية”؛ أكد الأكاديمي والباحث السنغالي المتخصص في الشأن الإفريقي، عبد الرحمن كان، أن السنغال شهدت الفترة الماضية صراعًا سياسيًّا على خطّة ماكي سال للترشح للولاية الرئاسية الثالثة؛ وهو ما سبَّب ضجَّة كبيرة نتج عنها مظاهرات واعتقالات سياسية واستبعاد عدد من زعماء المعارضة من الترشّح في الرئاسيات؛ حتّى تراجع “سال” عن فكرة الولاية الثالثة، وأعلن عن تنظيم انتخابات رئاسية نزيهة.
وبناءً عليه يرى “كان” أنه بعد أزمة الولاية الثالثة لا يُتصوّر أن يكون تأجيل الانتخابات قبل انطلاقها بأقلّ من شهر حرصًا من الرئيس “سال” على الاستحقاق الديمقراطيّ؛ نظرًا لما في هذا القرار من ملابسات قانونية وانتهاك الدستور السنغالي الذي لا يُؤيِّد تأجيل الانتخابات بهذه الصورة التعسفيّة التي لم يسبقها حوار شامل مع الأحزاب والسياسيّين والمجتمع المدنيّ.
ويعتقد “كان” أن الملف يمكن معالجته بطريقة أخرى بحيث يفسح المجال للمجلس الدستوريّ بالتوقيع على تسيير الانتخابات الرئاسية في وقتها المحدد، مشيرًا إلى أن الرئيس سيحاول استدراك الأخطاء السياسية بتوسيع الحوار والإفراج عن المعتقلين السياسيين؛ ترويجًا لشخصية حامي ديمقراطية الدولة.
ديمقراطية أم انقلاب دستوري؟
في هذه السابقة الجديدة من نوعها على السنغال يأتي تساؤل إذا ما كان تأجيل الانتخابات بهذه الصورة هو حماية للديمقراطية أم انقلاب دستوري، خاصةً أن المعارضة تتَّهم الرئيس سال بمحاولة تمديد فترته الرئاسية رغم إعلانه انتهاء مدته الرئاسية في إبريل القادم.
وفي ظل التكهنات فيما سيحدث بعد 2 إبريل، سواء تنحى الرئيس قبل تحديد موعد للانتخابات أو استمراره في منصبه، إلا أن التمديد سيُمكّنه بلا شك من إحداث ما يريد من تغيير سياسي وإداري، ومن إضفاء البصمات التي يريد على مشهد الرئاسة من بعده.
فقد ذكرت مجلة جون أفريك الفرنسية، أن الرئيس سال قام بتأجيل الانتخابات الرئاسية حتى يتمكن من إيجاد وريث يكون قادرًا على جمع الأطياف السياسية من حوله، بعدما تحدثت تقارير إعلامية عن وجود أزمة داخل معسكر النظام حول مرشح الرئيس آمادو باه[4].
فمن دون شك سيُمَكِّن هذا التمديد، وهو قرابة عشرة أشهر، الرئيس سال من إحداث ما يريده من تغيير سياسي وإداري، ومن إضفاء البصمات التي يريدها على مشهد الرئاسة من بعده، لكن بحسب المراقبين فإن هذه الأشهر لن تكون أفضل ختام بالنسبة للرئيس الذي تكالبت عليه صيحات الاحتجاج من الداخل، والاستياء والغضب من الخارج.
في هذا الصدد يرى عبد الرحمن كان أن القرار الاستثنائي لرئيس الدولة بتأجيل الانتخابات هو بسبب أزمة مؤسساتية ناجمة عن خلافات بين الجمعية الوطنية والمجلس الدستوري، ومرجع الخلاف هو طعن نواب الحزب الديمقراطي على قرار المجلس الدستوري باستبعاد مرشحهم كريم واد، واتهام عدد من أعضاء المجلس بالفساد السياسي والمالي وتلقي الرشوة.
وأردف أن هذا أدى إلى تأجيل الانتخابات بعد تصويت نواب البرلمان على مقترح مشروع التأجيل في ظل ظروف غير ديمقراطية، بعد تفعيل القوّة العسكرية داخل البرلمان لتسيير جلسة النقاش، وهو ما يعكس تراجعًا خطيرًا في مبادئ الديمقراطية والحكم الرشيد.
وعن محاولة الرئيس السنغالي تمديد ولايته الرئاسية، يعتقد “كان” أن الرئيس ماكي سال استغل فترة ولايته من أجل تحقيق أهداف لتنمية وتطوير الدولة اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا، واستطاع النجاح في أكثرها؛ لكنه باء بالفشل في أواخر عهده حين تداخلت المصالح السياسية الخاصة بمصالح الدولة العامة.
وأردف أنه يصعب الجزم بأن هذا التأجيل سببه الوحيد مصالح سياسية خاصة بـ”ماكي سال”؛ نظرًا لما قدّمه من تفسيرات عن سعيه لحماية مؤسسات الدولة من الانفلات الديمقراطي.
وأشار “كان” في حديثه إلى أسباب تمديد الرئيس لولايته الرئاسية؛ منها الانتهاء من بعض مشاريع الحكومة المتعلقة بالبنية التحتية، وإعادة ترتيب مسار حزبه السياسي، والعمل على معالجة الصراع الداخلي في الحزب بطريقة تُمكِّن مرشّح الحزب من الفوز بالانتخابات.
وأضاف الأكاديمي السنغالي أن الرئيس سيحاول استدراك الأخطاء السياسية بتوسيع الحوار، والإفراج عن المعتقلين السياسيين؛ ترويجًا لشخصية حامي ديمقراطية الدولة، وسيعمل على إعادة ترتيب أوراق مؤسسات الدولة، وتغيير ما يراهُ مناسبًا لتحقيق خطته السياسية.
ماذا ينتظر السنغال؟
هذا التأجيل المفاجئ للانتخابات سيكون له تداعيات على كافة المستويات، خاصةً لدولة مثل السنغال التي احتفظت بالانتقال السلمي للسلطة لسنواتٍ في منطقة مهددة بالاضطرابات السياسية والأمنية.
يعتقد الباحث السنغالي في الشؤون السياسية والعلاقات التعاونية، حماه الله صو، أن الانتخابات في إفريقيا غالبًا ما تصحبها تداعيات على كافة الأصعدة؛ ذلك أن التجربة الديمقراطية ليست مضمونة ورغبة الرئيس بتولي منصبه لفترات عديدة أمر منتشر في إفريقيا.
وعن تداعيات تأجيل الانتخابات من الناحية الاقتصادية أكد “صو” في حديثه لـ “قراءات إفريقية” أن ما حدث سيؤدي بلا شك إلى انخفاض الإنتاجية خاصةً في مجال الخدمات؛ لأن السنغال حاليًّا تعتمد بنسبة كبيرة على قطاع الخدمات والبنوك والتأمين والعقارات، وهذا الجانب يتركز بشكل كبير في العاصمة السنغالية داكار.
وعليه يرى “صو” أن تأجيل الانتخابات وعدم الوضوح في هذا جانب سيؤدي إلى إشعال المظاهرات للمطالبة بإجراء الانتخابات، وهذا سيؤثر سلبًا على الجانب الاقتصادي، وأضاف أن كثيرًا من السنغاليين يعتمدون على التجارة الحرة، والاضطرابات الناجمة عن تأجيل الانتخابات ستؤثر حتمًا على أعمالهم وتؤدي إلى تعطيل الحركة الاقتصادية.
وعن التداعيات الأمنية قال “صو”: إن منطقة غرب إفريقيا منطقة مهدّدة وتُواجه صراعات داخلية وخارجية، كما أن هناك جماعات من المتمردين في شمال البلاد، هذا بالإضافة إلى الفوضى والشغب الناجم عن المظاهرات بسبب تأجيل الانتخابات، وكل هذا سوف يقلّل من نسبة الأمن والاستقرار في البلاد.
وأضاف “صو” أن التداعيات السياسية لتأجيل الانتخابات واضحة؛ لأن الدستور ينص على الالتزام بموعد الانتخابات ومدة الولاية الرئاسية محددة، وعدم احترام هذا سيثير المعارضة، ويؤدي إلى إثارة الفوضى على المستوى السياسي، مثل الخلافات داخل البرلمان وخلق حالة من الجدل في وسائل الإعلام، وهذا سينعكس سلبًا على الصورة الخارجية للسنغال.
وأردف الباحث في الشؤون السياسية أن عدم الاستقرار على المستوى السياسي وانتهاك مبادئ الديمقراطية التي ينص الدستور على احترامها؛ سيؤدي إلى سَلْب الحقوق الأساسية للمواطنين مثل حق التظاهر، وما إلى ذلك من حقوقهم الأخرى.
وختامًا.. بين سيناريوهات حلّ الأزمة التي تمر بها السنغال؛ من إلغاء قرار التأجيل أو الاستمرار فيه أو الوصول إلى توافق سياسي بين الحكومة والمعارضة، وبين خوف السنغاليين من ضياع ما حققته السنغال خلال 60 عامًا، وكونها استثناءً في إفريقيا.. هل يحافظ الرئيس “سال” على ما أنجزته بلاده؟ أم تنتكس الديمقراطية لأجل حسابات السياسة؟
………………………………………
[1] Senegal: President Macky Sall says he will step down on 2 April – The Africa Report.com
[2] Senegal: Macky Sall announces amnesty bill to end poll-linked turmoil – The Africa Report.com
[3] Senegal: President Macky Sall says he will step down on 2 April – The Africa Report.com
[4] https://www.aljazeera.net/politics/2024/2/15/%D8%AA%D8%A3%D8%AC%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%BA%D8%A7%D9%84-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A