تتجه أنظار مئات الملايين من الأفارقة إلى دولة ساحل العاج لمتابعة فعاليات بطولة كأس الأمم الإفريقية التي تشهد تقدمًا تقنيًّا وتنافسيًّا متزايدًا؛ وفي خضم هذا الحماس يأتي المقال الثاني ليبرز تناقضًا بين أهداف البطولة الرياضية كواحدة من أهم مظاهر العمل الجماعي الإفريقي على المستوى الشعبي بين شعوب القارة ورعاية واحدة من أكبر شركات الطاقة في العالم لهذه البطولة فيما تعمل على الأرض في استنزاف مواردها وإحداث تغييرات في المناخ العالمي عبر عمليات إنتاج استنزافية في حقول البترول والغاز؛ بحيث باتت إفريقيا مصدرًا رئيسيًّا لصافي أرباح الشركة الفرنسية التي تجاوزت في العام 2022م حاجز 20 بليون دولار.
أما المقال الأول فيتناول تجربة مهمة وناجحة في طريق مواجهة القارة الإفريقية لمرض الملاريا القاتل، وهي دولة كيب فيرد.
ويتناول المقال الثالث نتائج بحوث مهمة جرت حول ضرورة تنويع إفريقيا محاصيلها الغذائية لمواجهة معضلات التغير المناخي وفقر الإنتاجية، وكذلك الجوع وسوء التغذية عبر زراعة الكثير من المحاصيل “الإفريقية” التي ثبتت نجاعتها في مواجهة هذه المعضلات وبشكل مستدام تمامًا ويلائم صغار مُلّاك الأراضي الزراعية (بالتطبيق على تجربة جنوب إفريقيا).
كيب فيرد تصبح رابع دولة إفريقية تقضي على الملاريا([1])
مع تحقيقها سجلًا خاليًا وعدم وجود حالات ملاريا منذ العام 2017م؛ فإن دولة كيب فيرد الجزرية مرت برحلة طويلة حتى أصبحت خالية من المرض الذي قتل نحو 608 آلاف شخص حول العالم في العام 2022م. لتصبح كيب فيرد رابع دولة إفريقية والرابعة والأربعين عالميًّا في العالم التي تقضي على مرض الملاريا في أرضها. وتوجد في إفريقيا أكبر أعداد للمصابين بالمرض عالميًّا الذي ينتقل عبر البعوض.
وفي العام 2022م سُجِّلت 94% من الحالات المسجلة عالميًّا (والتي قاربت 250 مليون نسمة) و95% من الوفيات بسبب المرض في العالم كله في قارة إفريقيا وحدها. وكانت كل من الجزائر والمغرب وموريشيوس قد باتت خالية من الملاريا في الأعوام 2019م، و2010م، و1973م على الترتيب.
وقد مرَّت كيب فيرد على نحو منتظم بأوبئة قاتلة على امتداد جزرها العشرة المكونة للأرخبيل؛ وعلى أيّ حال فقد أصبحت الملاريا منذ ثمانينيات القرن الماضي منحصرة في جزيرتين فقط من جزر الأرخبيل، وهما سانتياجو وبوا فيستا، ولم تُسجّل أيّ منهما إصابات منذ العام 2017م. وقالت منظمة الصحة العالمية (12 يناير الجاري): إن البلاد مرت “برحلة طويلة” للقضاء على المرض، بما في ذلك المعالجة المجانية، واختبار القادمين الجدد والمراقبة والرصد المنتظم لمواقع انتشار البعوض على مدار العام.
ومن المقرر أن تظل تلك الأبنية قائمة لمساعدة كيب فيرد في محاربة الأمراض الأخرى التي ينقلها البعوض في أرجاء الجزر.
وأكد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية الإثيوبي د. تيدروس جبريسوس تهنئته لحكومة وشعب كيب فيرد على التزامهم الصلب وصمودهم في رحلتهم للقضاء على الملاريا. واعتبر مدير المنظمة أن نجاح كيب فيرد هو الأحدث في النضال العالمي من أجل مواجهة الملاريا “ويمنحنا ذلك أملًا في أنه يمكن مع استخدام الأدوات المتاحة، والجديدة بما في ذلك التطعيمات، أن نجرؤ على الحُلم بعالم خالٍ من الملاريا”.
ولا تزال أعداد المصابين بالملاريا في العالم مرتفعة بشكل واضح مقارنة بمعدلاتها قبل جائحة كوفيد-19. وقد قتل المرض في العام 2022م حوالي 608 آلاف شخص أغلبهم من الأطفال والحوامل. وتُقدّر منظمة الصحة العالمية أن نحو 63 ألف فرد توفوا من الملاريا في الفترة ما بين 2019-2021م بسبب الجائحة التي أخلَّت بخدمات الرعاية الصحية بشكل عام. وقد تم التصديق على تطعيمين يساعدان على مكافحة المرض، وقد أوصت منظمة الصحة العالمية بالاستخدام واسع النطاق لتطعيم R21/Matrix-M في العام الماضي، وسبق أن دعمت تطعيم RTS,S في العام 2021م، وتم بالفعل توزيعه على 12 دولة إفريقية في العامين الماضيين.
وأكد رئيس وزراء دولة كيب فيرد أوليسيس كوريا إسيلفا Ulisses Correia e Silva أن “شهادة (منظمة الصحة العالمية) بخلوّ بلاده من الملاريا ذات أثر هائل، وقد استغرقنا وقتًا طويلاً للوصول إلى هذه النقطة… وفيما يتعلق بصورة البلاد خارجيًّا فإنها (باتت) جيدة للغاية بالنسبة لقطاع السياحة وكل شخص آخر، مع نجاح كيب فيرد في مواجهة تَحدِّي التغلب على أزمة نظامها الصحي.
كأس الأمم الإفريقية تنطلق تحت عباءة البترول والغاز([2])
انطلقت منذ أيام قليلة بطولة كأس الأمم الإفريقية 2023م في ساحل العاج، والتي تعد الأكبر في فعاليات كرة القدم في القارة. على أي حال فقد أنقصت مخاوف متعلقة بالراعي الرئيس للبطولة “توتال انيرجيز” TotalEnergies من الاحتفاء بالبطولة. وكانت البطولة قد تداخلت بالفعل مع آثار التغير المناخي. ففي مسعًى لتهدئة مخاوف الأندية الأوروبية – وتحجيم عدد اللاعبين الأفارقة الذين تسمح لهم أنديتهم الأوروبية باللعب لصالح منتخبات بلادهم في ذروة الموسم الدولي- جدولت البطولة بالأساس لتقام في صيف العام الماضي 2023م، ومِن ثَم فإن البطولة الحالية تتم بأثر رجعي. على أي حال فإن الصيف في غرب إفريقيا هو موسم الأمطار، كما أن أنماط الطقس تصبح أقل توقعًا بسبب التغير المناخي، ومن ثم أُعيدت البطولة لموعدها التقليدي وهو يناير- فبراير.
ورغم استمرار إلحاق التغير المناخي أضرارًا بالغة بالقارة؛ فإن الاتحاد الإفريقي لكرة القدم أقدم في العام 2016م على توقيع شراكة لمدة ثمانية أعوام مع شركة توتال انيرجيز. ومنحت الشراكة لعملاق الطاقة الفرنسي حقوقًا في البطولة الإفريقية الأكبر، وزاد من مقبولية الشركة في وسط أرجاء القارة.
ووفقًا لفوربس Forbes فإن توتال انيرجيز حقَّقت أرباحًا بقيمة 21 بليون دولار في العام 2023م أغلبها من عمليات وتعدين البترول والغاز. وباعتبارها خامس أكبر شركة بترول في العالم؛ فإن توتال تقوم باستخراج البترول والغاز منذ إنشائها في العام 1924م، وكانت منذ العام 1965م في المرتبة 17 عالميًّا في قائمة أكبر مسببي انبعاثات الاحتباس الحراري في العالم.
علاوةً على ذلك؛ فإنه بالرغم من وعود توتال بالعمل عند مستوى انبعاثات صفر بحلول العام 2050م، وأن تكون “لاعبًا رئيسًا في الانتقال الطاقوي”؛ فإن الشركة الفرنسية لا تزال تخطط لصنع 85% من مبيعاتها الطاقوية بحلول العام 2030م من البترول والغاز. وفي الواقع فإنه منذ أرباحها القياسية في العام 2022م تقوم الشركة الفرنسية بخفض استثماراتها في الوقود الأحفوري، وباتت ترتب ثالثة في الموافقة على توسعات بترول وغاز جديدة عالميًّا في العام 2022م.
وتوجد نسبة كبيرة من مشروعات تتوسع في إنتاج البترول والغاز التابعة لتوتال في إفريقيا، ومن أهمها: خط انابيب البترول الخام في شرق إفريقيا East Africa Crude Oil Pipeline (EACOP) الذي من المقرر أن ينقل البترول الخام من بحيرة ألبرت في أوغندا إلى ميناء تانجا في تنزانيا على مدار مسافة تبلغ 1443 كيلو متر (حوالي 900 ميل). ويؤكد المشروع أنه “سيُتيح لأوغندا الاستفادة القصوى من مواردها الطبيعية”، لكنّ بعض المعارضين -مثل مجموعة Stop EACOP- عبّروا عن قلقهم من تشريد مجتمعات محلية وحيوانات من أجل مد خط الأنابيب الذي سيدفع العالم دفعة أخرى نحو كارثة مناخية مكتملة.
ويبدو الحديث عن خطوط أنابيب لنقل البترول الخام خارج سياق جولات رياضية رئيسة، لكن في حقيقة الأمر فإنهما مشتركان في عهد “الغسيل الرياضي” sportswashing والغسيل الأخضر greenwashing. وليست تلك هي المرة الأولى التي تواجه فيها توتال انيرجيز اتهامًا بغسل صورتها عبر الرياضة. ففي أكتوبر 2023م كانت هناك إدانات عامة وحملة شنتها جماعة السلام الأخضر Greenpeace لإبراز دور شركة توتال في التلوث العالمي عشية كأس العالم للرجبي.
كما تبع ذلك خطوات أخرى مِن قِبَل مَن يخشون مستقبل الألعاب الجميلة والحياة بشكل عام على القارة الإفريقية. ويقول سام فاراي مونرو Samm Farai Monro المُؤسِّس المشارك لجمعية Kick Polluters Out (اركلوا الملوثين خارجًا): إن “توتال انيرجيز مدانة باللعب المخادع. إنهم يحبون أن يظهروا في صورة نظيفة وخضراء برعايتهم لكأس الأمم الإفريقية، لكن الحقيقة مختلفة للغاية. وفي وقت يخبرنا فيه العلماء بضرورة وقف أي مشروعات للوقود الأحفوري؛ فإن توتال تُطوِّر المزيد والمزيد من موارد البترول والغاز في إفريقيا أكثر من أي شركة أخرى (عاملة في قطاع الطاقة). ويؤكد أن مشروع خط أنابيب البترول في شرق إفريقيا “سيؤدي إلى انطلاق غازات تزيد من الاحترار العالمي بنحو 25 ضعفًا مما تحدثه كلّ من أوغندا وتنزانيا معًا حاليًّا.
كما تواجه توتال انيرجيز اتهامات جنائية أمام القضاء الفرنسي على يد أربع منظمات تدعي أن شركة البترول الفرنسية تنتهج سياسة “قتل المناخ” climate- killing policy عبر مواصلتها تطوير مشروعات وقود أحفوري جديدة. وهكذا فإنه ليس مفاجئًا أن تواصل شركة البترول ربط نفسها بالفاعليات الرياضية البارزة في محاولة لخفض الانتقادات الموجَّهة لها أو الترويج لنفسها بشيء متميز. وكما يقول ثانديل تشينيافانهو Thandile Chinyavanhuوهو أحد الناشطين في حركة السلام الأخضر الإفريقية Greenpeace Africa Oiland Gas فإن كأس الأمم الإفريقية لا تزال تلعب دورًا مهمًّا في توحيد قارة مهشمة. فالرياضة يمكن أن تكوّن مُحرِّكًا مهمًّا للتغيير، وتفهم توتال ذلك، وقد استغلته بالفعل لتصحيح صورتها.
60% من غذاء إفريقيا يعتمد على القمح والأرز والذرة، ما البديل؟([3])
باتت الدول الإفريقية معتمدة على مواد غذائية قليلة؛ إذ تقدم الآن 20 محصولًا نباتيًّا 90% من غذائنا فيما تقدم ثلاثة محاصيل فقط –وهي القمح والذرة والأرز- 60% من جميع السعرات المستهلكة على مستوى القارة والعالم.
ويحرم ذلك القارة من موارد غذائية متنوعة؛ في الوقت نفسه الذي توصلت فيه البحوث إلى حالة عدم أمن غذائي وضعف تغذية هائل في إفريقيا. وبحلول العام 2020م واجه 20% من سكان القارة (281.6 مليون نسمة وقتها) الجوع. ومن المرجح أن يكون هذا الرقم قد ارتفع، في ضوء آثار موجات الجفاف والفيضانات وكوفيد-2019 المتعاقبة.
ورغم ذلك فإن لدى إفريقيا -تاريخيًّا- حوالي 30 ألف نبات قابل للأكل، وكان 7000 آلاف منها مزروعًا تقليديًّا أو أُعِدَّ على نحو ما للأكل. إن القارة كنز ثمين للغاية للتنوع الحيوي الغذائي (تنوع أنواع المحاصيل والحيوانات)، ويمكن لدولها أن تُطعم نفسها بسهولة. ومع تطوُّر المجتمع والزراعة فقدت العديد من الأطعمة التي كانت قوام نُظُم غذائية واكتفاء ذاتي في القارة. ويحتلّ الكثير منها الآن وضع أنواع المحاصيل المهملة والتي لا تتم زراعتها على نحو معقول، فيما تتبدد ببطء معرفة سبل إنتاجها.
إن محصول اللوبيا cowpea من المحاصيل المغذية، والتي لا تُزرع على نطاق واسع وتنمو في المناطق الجافة. ولقد راجعنا دراسات وسياسات متعلقة بالنباتات الغذائية البرية ووجدنا أنه يمكن زراعة الكثير من المحاصيل المغذية من أجل وضع نهاية للجوع في إفريقيا. وتشمل تلك المحاصيل اللوبيا والسورغام والعديد من الخضراوات إفريقية الأصل. وحددت خلاصات دراساتنا أن المحاصيل المغذية يمكنها التغلب على الحرارة والجفاف، وأن يقوم بزراعتها صغار مُلّاك الأراضي في تربة غير مناسبة لزراعة واحدة واسعة. لكن حتى يتم ذلك فإنه ثمة حاجة لتغيرات في السياسة الزراعية. إذ يجب على الحكومات أن تشجّع إنتاج تلك المحاصيل واستهلاكها عبر حوافز. وثمة حاجة لحملات لبناء وعي وتعليم إزاء المكاسب الصحية والبيئية لإنتاج مثل هذه المحاصيل وتغيير التصور الاجتماعي السائد بأن استهلاكها مرتبط بالفقراء.
إعادة ضبط نظم الغذاء في إفريقيا
لا يلائم نظام الغذاء الزراعي الحالي إفريقيا. وتظهر بحوثنا أن عدم الأمن الغذائي والتغذية في إفريقيا ليس نتيجة لانخفاض الإنتاجية الزراعية، كما يفترض، أو للفقر أو الحرارة والمناخ الصعب. فإفريقيا تملك ملايين الهكتارات من التربة الخصبة، وتواجه الآن تهديدات بتآكلها وتهديدات التغيير المناخي.
وسبق أن مهدت الثورة الخضراء في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي برزت فيها محاصيل احتكارية مثل الذرة والقمح والأرز وتمت زراعتها على نطاقات واسعة بكميات كبيرة من الأسمدة، لنظام الغذاء الزراعي الصناعي.
لكن هذا الأمر لم يُتَرجم إلى حالة نجاح في إفريقيا؛ حيث قادت زراعات المحاصيل الواحدة إلى تدهور إيكولوجي وبيئي. كما حجَّمت معيشة الملايين من صغار المُلّاك وقادت إلى حالة عدم أمن غذائي وتغذوي، مع انتشار الجوع بين أعداد كبيرة من الأفارقة. إذ قاد تجاهل التنوع الحيوي الزراعي Agrobiodiversity لصالح الزراعة الأحادية تلك المحاصيل النقدية مفتقرة للقدرة على الصمود وأكثر هشاشة إزاء الصدمات الخارجية. وجعل ذلك إنتاج الغذاء غير مستدام بشكل متزايد، مما قاد إلى الجوع والهشاشة والفقر والتفاوت.
الخطوات التالية
يؤثر التغير المناخي بالفعل على المحاصيل عبر الفيضانات وموجات الجفاف المتكررة، مما يزيد من حالة الجوع في القارة. وتحتاج الحكومات الإفريقية إلى منح المحاصيل المتميزة في مواجهة التقلبات المناخية مساحات أكبر بتيسير زراعتها مِن قِبَل صغار مُلاك الأراضي الزراعية؛ كما تحتاج الحكومات لدعم وتمويل البحوث المتعلقة بتطوير المحاصيل. وثمة حاجة لحملات لبناء وعي تعليم يوضّح مزاياها الصحية والبيئية.
وتظهر البحوث أن زراعة صغار المُلّاك في إفريقيا أداة يمكن من خلالها مواجهة الفقر وخفضه وتحقيق التنمية البشيرة. وتوصلت بحوث أخيرة حول المحاصيل وتنوع النظام الغذائي وزراعة صغار الملاك وسوء التغذية في جنوب إفريقيا إلى أن المزارعين من صغار الملاك الذين يزرعون مجموعة أكبر من المحاصيل لديهم نظام غذائي أكثر تنوعًا. كما أنهم يُحقّقون مبيعات أفضل في الأسواق المحلية، ويستغلون العوائد لشراء مجموعة أوسع من الغذاء.
……………………………………..
[1] Weronika Strzyżyńska, Cape Verde becomes fourth African country to eliminate malaria, the Guardian, January 12, 2024 https://www.theguardian.com/global-development/2024/jan/12/cape-verde-becomes-fourth-african-country-to-eliminate-malaria
[2] Vitas Carosella, Africa Cup of Nations Begins Under the Shroud of Oil and Gas, Forbes, January 13, 2024
[3] Tafadzwanashe Mabhaudhi, 60% of Africa’s food is based on wheat, rice and maize – the
continent’s crop treasure trove is being neglected, The Conversation, January 14, 2024 https://theconversation.com/60-of-africas-food-is-based-on-wheat-rice-a.