في خطوة غير مسبوقة قامت جنوب أفريقيا برفع دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، وذلك باتهام إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين أثناء الحرب الدائرة في غزة. منذ 7 أكتوبر 2023. إن تهمة الإبادة الجماعية أمام المحكمة الدولية في خضم نزاع مسلح تنخرط فيه إسرائيل التي توصف دائما بالدولة العاصية وفقا لمصطلحات القانون الدولي تعد أمرا غير معتاد. وبالمثل فإن ادعاء جنوب أفريقيا ضد إسرائيل له أهمية سياسية ودبلوماسية وتاريخية معتبرة. وقد رفضت إسرائيل مطالبة جنوب أفريقيا وتعهدت بالطعن في القضية المرفوعة ضدها. وعادة ما تستمر مثل هذه القضايا أمام المحكمة الدولية لسنوات عديدة قبل التوصل إلى حكم نهائي، لكن جنوب أفريقيا طلبت أيضًا اتخاذ تدابير مؤقتة، وهي شكل من أشكال الأوامر القضائية الدولية . وقد عقدت جلسات الاستماع الأولية في لاهاي يومي 11 و12 يناير2024. ومن المرجح أن يتم اتخاذ قرار بشأن طلب جنوب أفريقيا باتخاذ تدابير مؤقتة بحلول نهاية شهر يناير الحالي، مع احتمال أن يكون له تأثير عميق على الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة يرتبط بتفسير سلوك جنوب أفريقيا واتخاذها هذا الموقف الجريء ضد إسرائيل التي تحظى بدعم غربي واضح؟
محاولة لفهم موقف جنوب أفريقيا:
بالنسبة لمن يدرس تاريخ حركة التحرر الوطني في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري لا يستغرب قيام جنوب أفريقيا برفع قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. إنها مسألة رمزية حيث أن جنوب أفريقيا تعلم جيدا ماذا يعني نظام الأبارتهيد الذي ظلت ترزح تحت وطأته لأكثر من 350 سنة. كما أن الرعيل الأول من قادة التحرر الوطني وعلى رأسهم نلسون منديلا والقس ديزموند توتو يعلمون جيدا ماذا يعني نظام الفصل العنصري في النظرية وفي التطبيق. لقد كانت إسرائيل حليفا موثوقا به لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حتى أنهما تعاونا من أجل الوصول إلى مرحلة امتلاك القوة النووية. وعندما سأل ديزموند توتو حينما حصل على جائزة نوبل للسلام عن سبب انتقاده المستمر لإسرائيل رد قائلا:” لأنها تساعد من ظلمني على ظلمه لي لسنوات طويلة”. لم يكن مستغربا أن يرفع أبناء منديلا و ديزموند توتو هذه القضية أمام محكمة العدل الدولية ووصف ما يحدث في غزة من خراب ودمار شامل بأنه إبادة جماعية للشعب الفلسطيني. ومن الواضح من الوثيقة القانونية التي أعدها خبراء قانونيين بمنتهى البراعة والمهنية أن ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية سواء من حيث التنفيذ في مسرح العمليات الإسرائيلية في غزه أو من حيث النية، والتي عبر عنها كبار الساسة الإسرائيليين ومن بينهم أعضاء في مجلس الحرب المصغر، لإخراج الفلسطينيين وتهجيرهم من غزة وأن تتولى إسرائيل إعادة احتلال وحكم غزة بالكامل.
وعلى أية حال يمكن تفسير الموقف الجنوب أفريقي على أربعة أوجه من حيث المشابهة بين نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا ونظام الأبارتهيد في إسرائيل:
أولا: تطبيق نظام التمييز العنصري على أساس قانوني: لقد عانى الأفارقة السود من التمييز ضدهم في ظل نظام الأبارتهيد في جنوب أفريقيا، وبالمثل يعاني الفلسطينيون من التمييز داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي بما في ذلك فلسطينيو الداخل من عرب 1948 الذين يعتبرون أدنى مرتبة وذلك لأسباب تتعلق بالعرق والدين. لقد قارن مانديلا وزعماء جنوب أفريقيا من بعده القيود التي فرضتها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية بمعاملة السود في جنوب أفريقيا خلال نظام الفصل العنصري، ووضعوا القضيتين على أنهما يتعلقان بشكل أساسي بالأشخاص المضطهدين في وطنهم.
ثانيا: تطبيق نظام المعازل أو (البانتوستانات) وهي أراضي غير متصلة ببعضها تم وضع الأفارقة السود فيها. وعلى نفس المنوال قامت إسرائيل ببناء المستوطنات في الأراضي المحتلة وفصلت غزة عن الضفة الغربية بحيث أصبحت الأراضي الفلسطينية أشبه بقطعة الجبنة السويسرية تتخللها نقاط سوداء. وعليه أصبح حلم الدولتين مجرد وهم كبير يستحيل تحقيقه على أرض الواقع في الأمد المنظور. إننا أمام نظام مشابه تماما لنظام المعازل أو البانتوستانات في جنوب أفريقيا. وباعتبارها جيبًا مغلقًا ومجزأً عن بقية الأرض الفلسطينية المحتلة وتسيطر عليه إسرائيل ضمن نظام الفصل العنصري، فإن غزة عبارة عن شريط من الأرض يمكن تشبيهه في كثير من النواحي بالبانتوستان في جنوب إفريقيا. وفي حين تزعم الحكومة الإسرائيلية تبرير الإغلاق والقيود المرتبطة به تحت ستار “الأمن”، فإن الواقع يوضح كيف أن سياسات إسرائيل تحركها في الواقع نيتها فصل الفلسطينيين وتقسيمهم، وبالتالي تأكيد هيمنتها عليهم، تعزيزاً لسيادتها عليهم وفقا لأجندتها الاستعمارية الاستيطانية الشاملة.
ثالثا: استخدام القوة العسكرية المفرطة لقمع السكان الأصليين من خلال تبني رؤية استعلائية تصور هؤلاء السكان على أنهم في مرتبة أدنى وفقا لمقولات نظام الفصل العنصري. وعليه فإن إسرائيل في الإدراك الجنوب أفريقي العام هي نظام فصل عنصري. ويبدو أن حاجة جنوب أفريقيا زمن الفصل العنصري للأفارقة السود باعتبارهم قوة عمل رئيسية استند إليها اقتصاد الدولة جعلتها أقل وحشية من أجل المحافظة على الأرواح. أما بالنسبة لإسرائيل فإن اقتصادها لا يعتمد كثيرا على العمالة الفلسطينية وهو ما يجعل من وجهة نظر جنوب أفريقيا أن نظام الأبارتهيد في إسرائيل أشد قمعا ووحشية من نظام الأبارتهيد البائد في جنوب أفريقيا.
رابعا: ظهور إجماع حول تشبيه أوجه عدم المساواة التي يعاني منها الفلسطينيون بنظام “الفصل العنصري”، وقد انتقل هذا التشبيه من هوامش الجدل الإسرائيلي الفلسطيني إلى مركزه. ويشير الفصل العنصري إلى نظام الفصل العنصري الذي استخدمته حكومة الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا لتكريس سيادة البيض من عام 1948 إلى أوائل 1994. ومنذ ذلك الحين تم تعريفها بموجب القانون الدولي والمحكمة الجنائية الدولية على أنها مخطط قانوني للفصل العنصري والتمييز، كما أنها اعتبرت جريمة ضد الإنسانية. وقد طبقت منظمات حقوق الإنسان الكبرى، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، هذا المصطلح على إسرائيل. وكذلك فعل العديد من الأكاديميين: وفقًا لاستطلاع أجري في مارس 2022 لباحثين يركزون على الشرق الأوسط وأعضاء في ثلاث جمعيات أكاديمية كبيرة، وصف 60% من المشاركين الوضع في إسرائيل والأراضي الفلسطينية بأنه “واقع دولة واحدة مع عدم مساواة أشبه بـالتمييز العنصري.”
مضمون دعوى جنوب أفريقيا:
تدور قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، التي بدأت بتقديم طلب مكون من 84 صفحة لبدء الإجراءات في 29 ديسمبر 2023، بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، حول التزامها كطرف بمنع الإبادة الجماعية. وبينما كان بإمكان أي طرف دولي آخر في الاتفاقية رفع هذه القضية، فإن جنوب أفريقيا، اتخذت هذه الخطوة غير المسبوقة في تاريخ القضية الفلسطينية. وتتناول القضية تصرفات إسرائيل في فلسطين، وتروي مسلسل هجمات حماس في 7 أكتوبر والعمليات العسكرية الإسرائيلية اللاحقة في غزة. وينصب التركيز على تصريحات وأفعال القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، مع تقديم تفاصيل السلوك العسكري الإسرائيلي خلال حملة غزة وعواقبه على المدنيين الفلسطينيين. وتتخذ قضية جنوب أفريقيا شكل ادعاء بأن إسرائيل ارتكبت جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، مقترنة بطلب عاجل لاتخاذ تدابير مؤقتة لوقف أي حملة مستمرة من الإبادة الجماعية. ويتعين على جنوب أفريقيا أن تثبت مقبولية القضية، واختصاص المحكمة الدولية، والحاجة الملحة إلى اتخاذ تدابير فورية لمنع حدوث ضرر لا يمكن إصلاحه. في هذه المرحلة، ليس من الضروري وجود دليل قاطع على الإبادة الجماعية؛ سيتم تناولها في المرحلة اللاحقة. ويتعين على جنوب أفريقيا أن تثبت أن الفلسطينيين يواجهون ضرراً لا يمكن إصلاحه، وأن سلوك إسرائيل يمكن اعتباره أعمال إبادة جماعية. ومن المتوقع أن تطعن إسرائيل في هذه الادعاءات، مؤكدة على امتثالها للقانون الدولي وحقها في الدفاع عن النفس بعد هجمات 7 أكتوبر.
ماهي سلطة المحكمة الدولية؟
تتمتع محكمة العدل الدولية بسلطة إصدار أوامر تفسيرية، كما رأينا في قضية البوسنة ضد صربيا والجبل الأسود عام 2007، حيث وجدت أن صربيا تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية لعدم قيامها بمنع الإبادة الجماعية في سربرينيتسا. إن أوامر محكمة العدل الدولية ملزمة للدول، لكن تنفيذها يمثل تحدياً. في حين أن محكمة العدل الدولية يمكنها أن تمنح تدابير مؤقتة، إلا أنها قد لا تتماشى بالضرورة مع الطلبات المحددة المقدمة. وفي سياق قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، تشمل التدابير المطلوبة تعليق الأنشطة العسكرية في غزة، ووقف نزيف الدم الفلسطيني، ومنع التهجير القسري والحرمان من الاحتياجات الانسانية الأساسية. ويجوز لمحكمة العدل الدولية أن تصدر تدابير مؤقتة بناءً على السوابق التاريخية وتفسير اتفاقية الإبادة الجماعية، مع الأخذ في الاعتبار عوامل معينة مثل المخاوف الإنسانية وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين.
خاتمة وسيناريوهات المستقبل:
على الرغم من رمزية الاجراء والمعركة القانونية التي تخوضها جنوب أفريقيا والتي ساندتها دول عديدة فإنه لا يمكن التعويل كثيرا على النتائج حيث أن مرفق العدالة الدولية تنقصه آليات التنفيذ. إن النظام العالمي الذي تحكمه الفوضى، أي عدم وجود حكومة عالمية، لا يزال يقوم على مبدأ أن القوة تخلق الحق وتحميه.
ويمكن للسيناريوهات المستقبلية المتعلقة بطلب جنوب أفريقيا اتخاذ تدابير مؤقتة أن تتخذ مسارين مختلفين:
أولاً، يجوز للمحكمة أن ترفض الطلب، متذرعة بأسباب مثل عدم الاختصاص، أو عدم المقبولية لأسباب قانونية، أو عدم كفاية الدعم الواقعي لادعاءات جنوب أفريقيا. وبدلاً من ذلك، قد تقبل المحكمة طلب جنوب أفريقيا، وتصدر إجراءات مؤقتة ضد إسرائيل. وإذا حدث ذلك، فإنه سيتطلب تغييراً كبيراً في العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. ومن المهم الإشارة إلى أن المحكمة تفتقر إلى القدرة على تنفيذ قراراتها. وتسلط الأمثلة السابقة، مثل تجاهل روسيا لأمر التدابير المؤقتة الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في عام 2022 بعد غزوها لأوكرانيا، الضوء على القيود المفروضة على قدرات المحكمة على التنفيذ. وبغض النظر عن حكم المحكمة، فإن إسرائيل ستظل ماضية في خططها ضد الفلسطينيين وذلك بدعم أمريكي وغربي واسع النطاق.