النفط الأفريقي سر الهجمة الاستعمارية الغربية الجديدة
منذ ظهور الاستكشافات النفطية الجيدة ذات الاحتياطيات طويلة الأمد في عدة مناطق بالقارة الأفريقية خصوصا غربها منذ تسعينات القرن الماضي، تحولت القارة السمراء إلي بقعة ساخنة لسباق دولي محموم للاستثمار في قطاع النفط لأسباب عدة، أبرزها أنها المنطقة الأخيرة في العالم التي توجد بها احتياطيات هائلة من النفط والغاز، لا تخضع لسيطرة مؤسسات الدولة، كما هو الحال في الشرق الأوسط ، كما أن النفط الخام المستخرج من إقليم خليج غينيا (وهو مجموعة الدول الإفريقية جنوب الصحراء وتشمل نيجيريا ـ غينيا الاستوائية ـ تشاد ـ الكاميرون ـ جابون وأنجولا ) وكذا السودان يعد من النوعية الممتازة، كما أن موقع تلك الحقول في المناطق البحرية، الأمر الذي يعني سرعة نقلها للغرب وعدم الاحتكاك بالسكان .
ويمكن القول أنه منذ مطلع مارس 2000 ، بدا (اللوبي النفطي لولاية تكساس) يلفت نظر أعضاء مجلس النواب الأمريكي إلى المخزون النفطي الكبير الموجود في القارة السمراء ، بل أن بعض معاهد الدراسات الإستراتيجية الأمريكية المقربة من أوساط المحافظين الجدد الأميركيين نصحت الإدارة الأمريكية بالانسحاب التدريجي من منطقة الشرق الأوسط وتركيز الاستثمارات النفطية في أفريقيا .
وعقب أحداث 11 سبتمبر 2001 ، تمكن (معهد الدراسات الأمنية والإستراتيجية المتقدمة) من إقناع المستشارين النفطيين لدى إدارة بوش الأكثر راديكالية بأهمية النفط الإفريقي, وفي كانون الثاني من عام 2002 عقدت ندوة عن الطاقة ضمت أعضاء من مجموعة الرئيس والكونغرس وكذلك مستشارين دوليين ومسئولين عن مجموعات نفطية وشركات استثمارية وخلالها انشأ المشاركون ما سمي (مجموعة المبادرة الأمنية للنفط الإفريقي) أو (أفريكا أويل بولسي إنيشيتيف جروب) AOPIG ، كموقع الالتقاء بين المصالح العامة والمصالح الخاصة والفوا كتابا ابيض أطلقوا عليه عنوان ( بترول إفريقيا, الضروري للأمن القومي الأميركي والنمو الإفريقي) وانطلقت آلة الحرب الأميركية وصار لأفريقيا القارة التي كانت شبه مجهولة طاقاتها الكامنة الأسبقية لدى واشنطن .
وقد طالبت مجموعة «أفريكا أويل بولسي إنيشتيف جروب» وهي مجموعة مختلطة من قطاع حكومي وقطاع خاص في يونيو 2002 الكونجرس والبيت الأبيض بالاتجاه لاستغلال البترول في إفريقيا عن طريق سياسة تجمع بين الأولويات الخاصة بقطاع الطاقة للولايات المتحدة من ناحية وأمن وتنمية إفريقيا من ناحية أخرى ، ولذا اقترحت إنشاء خطط تنموية للقارة تفتح الباب أمام مستثمرين آخرين، وإرسال مساعدات إنسانية وقوات عسكرية لضمان الأمن هناك (جري لاحقا في أوائل 2007 تشكيل قوات التدخل الأمريكية في افريقيا (أفريكوم) .
وقد علق (بول مايكل ووبي) مدير «معهد الدراسات الإستراتيجية والسياسية المتقدمة» في واشنطن علي هذا الاتفاق بقوله: «إننا إن لم نفعل ذلك فسوف يؤثر على امننا لأن الأمر لا يتعلق بموضوع أخلاقي بقدر كونه من صميم العمل التجاري ، وهذه المرة لا يجوز أن نكرر الأخطاء التي جرت في دول الخليج العربية».
والمهم هنا أن نشير لحقيقة هامة هي أن مؤسسة (معهد الدراسات الأمنية والإستراتيجية المتقدمة) أنشئت أصلا في القدس عام 1984 “كمركز تخطيط” مقرب من حزب الليكود الإسرائيلي المتطرف، المؤيد تقليدياً لإستراتيجية التحرر من الارتهان للنفط السعودي، بقدر ما هي مقربة من المحافظين الجدد الأمريكيين .
مزايا نفط أفريقيا
ولهذا أستقبل الرئيس الأمريكي السابق بوش في البيت البيض عام 2005 العديد من قادة الدول الأفريقية وجري فرش السجاد الأحمر لهم وسط استقبالات حارة والحديث عن مساعدات اقتصادية وأمور كثيرة أخرى لإدخال السرور إلى نفوس زعماء وسفراء الدول الأفريقية المنتجة للنفط ، وهذه المؤشرات اللافتة للنظر والبعيدة عن النزاهة كان الهدف منها – كما تقول مجلة (جون افريك) الفرنسية المتخصصة في الشأن الأفريقي في يوليه 2007 – ” تسهيل عمل الشركات النفطية الأميركية العملاقة مثل شركة اكسكسون موبيل وشيفرون وماراتون اويل واميراداهس التي تعمل بشكل سري في خليج غينيا الغني بالنفط !؟.
فإفريقيا السوداء، بعدما زاد إنتاجها على أربعة ملايين برميل يومياً، باتت تنتج مقدار ما تنتجه إيران وفنزويلا والمكسيك مجتمعة، ففي عشر سنين زاد إنتاجها بنسبة 36 في المائة مقابل 16 في المائة لباقي القارات.
وعلى الصعيد الفني تخدم الخاصية الجغرافية للقارة السمراء واعتدال المناخ المحلي عمليات الاكتشاف وتقييمه والمباشرة بالاستثمارات عبر سفن الإنتاج والتخزين وبفضل هذه التجهيزات يمكن أن تؤمن المعالجة الأولى للنفط في مكان التنقيب وبالتالي تخفض فترات الإنتاج, كما أن نسبة نجاح عمليات التنقيب في المياه العميقة تبلغ 50% في السواحل الأفريقية مقابل نسبة 10 % في باقي أنحاء العالم وحوالي نصف الآبار ذات القدرة العالية في إنتاج 100 مليون برميل .
أيضا من الناحية الجغرافي تقع القارة السمراء في موقع يؤهلها ليس فقط لتصدير نفطها نحو القارة الأميركية الشمالية بل أيضا نحو أوروبا والتي تعتبر أيضا مستهلكا كبيرا للنفط ما يوفر تكاليف النقل وهذا بحد ذاته عامل مهم إذا ما علمنا أن 40% من نفقات الشحن العالمية يمتصها الناتج النفطي كما أن مناطق الإنتاج بعيدة عن المناطق السكنية وقريبة من البحار .
كما أن لحقول النفط الإفريقية الواعدة منافع سياسية أكيدة، فجميع الدول الإفريقية، باستثناء نيجيريا، لا تنتمي إلى “منظمة الدول المصدرة للنفط “، أوبيك، التي تسعى أمريكا – ضمن خطة إستراتيجية طويلة الأمد – إلى أضعافها بمنع انضمام بعض الدول الصاعدة إليها .
فخليج غينيا وحده به احتياط نفطي يبلغ 24 مليار برميل، بما يؤهله لكي يكون القطب العالمي الأول في إنتاج النفط ، كما أن إحتياطات القارة متصلة مباشرة بالساحل الشرقي للولايات المتحدة، ما عدا الحقول السودانية، في انتظار إنجاز خط أنابيب “تشاد-كاميرون” الذي سيضخ 250 ألف برميل من النفط يومياً في اتجاه الأطلسي ، ولهذا هناك توقعات تقول أن أرباح الاستثمارات الأميركية في قطاع الطاقة الإفريقية الغربية حوالي 35 مليار دولار عن الفترة الممتدة من عام 2003- 2008 فقط !.
والملاحظ هنا أن صراعات سياسية عديدة في مناطق النفط هذه ظلت مثارة دون حلال سنوات طويلة ، جري حلها فجأة بتدخل أمريكي بهدف توفير الأجواء للسيطرة علي النفط الموجود في هذه المناطق ، كما هو الحال في السودان وانجولا وليبيا مثلا .
ففي أنجولا ، جري التدخل لإنهاء الصراع بين انجولا وحركة يونيتا في ابريل 2002 والسبب نفط انجولا الذي أصبح يمثل أهمية للإدارة الأمريكية .. أيضا لولا بترول السودان الذي تؤكد شركات النفط أن هناك مخزون احتياطي ضخم منه ، وأنه من أفضل الأنواع وأرخصها ، لما تصاعدت التدخلات الدولية في السودان لحد السعي لتنفيذ خطة أمريكية تقوم علي تفتيت السودان إلي شمال وجنوب وشرق وغرب .. ولولا بترول خليج غينيا الذي تؤكد دراسات نفطية أنه يكفي لتغطية إنتاج دول نفطية كبري مثل إيران ، لما أصبحت هناك أهمية لمنطقة غرب أفريقيا في الأجندة الأمريكية .
والتدخل الأمريكي المكثف في السودان جاء بغرض وضع القدم الأمريكية هناك بعدما غابوا عن المنطقة لسنوات طويلة حقق فيها الصينيون والأسيويون مكاسب ضخمة ، ولذلك تدخلت واشنطن لإقرار معاهدة سلام الشمال والجنوب (نيفاشا 2005) وسعت للإشراف علي استفتاء انفصال الجنوب عام 2011 لضمان السيطرة علي أبار نفط الجنوب .. وهو نفس ما فعلوه مع ليبيا ، عندما سعت الإدارة الأميركية لإنهاء الصراع مع ليبيا ورفع العقوبات التجارية المفروضة على طرابلس أثناء حكم القذافي، إذ تدرك واشنطن أن هذا البلد يملك مخزونا نفطيا يبلغ 36 مليار برميل في ثلث الأراضي الليبية فقط ،وهو أيضا سبب تدخل أمريكا وفرنسا للمساعدة للإطاحة بالقذافي للسيطرة علي النفط الليبي .
وتؤكد التوقعات الرسمية الأمريكية أن تعتمد الولايات المتحدة علي حوالي 20% من احتياجاتها النفطية من أفريقيا خلال العقد المقبل، ستوفر دول غرب أفريقيا 15% منها ، ويتوقع مجلس المعلومات القومي الأمريكي أن ترتفع هذه النسبة إلى 25 % بحلول عام 2015م .
بل أن الإحصاءات الصادرة من الإدارة الأمريكية لشؤون النفط والطاقة تؤكد عمل كافة الترتيبات لرفع نسبة الاستيراد الأمريكي من النفط الأفريقي إلى 50 % من مجموع النفط المستورد بحلول العام 2015 ، وهذا غير المطامع في الثروة الطبيعة الهائلة الموجودة هناك خاصة الألماس، والذهب، والنحاس، فضلاً عن المواد المعدنية التي تُستخدم في الصناعات الثقيلة والنووية كالكوبالت واليورانيوم.
القوة العسكرية لتأمين النفط
وتمشياً مع ذلك جرى توسيع ما يُعرف بـ”مبدأ كارتر” الخاص ببترول الخليج العربي، بحيث يشمل بترول إفريقيا أيضاً. كان الرئيس جيمي كارتر قد أعلن في العام 1980 بأن الولايات المتحدة الأمريكية “ستستخدم كل الوسائل الضرورية ، بما في ذلك القوة العسكرية” لتأمين استمرار تدفق بترول الخليج دون معوقات. وأصبح ذلك الإعلان يُعرف بـ”مبدأ كارتر”. وهكذا أصبحت الإدارة الأمريكية ملتزمة أيضاً “باستخدام كل الوسائل، بما في ذلك القوة العسكرية، لضمان التدفق الحر لبترول إفريقيا”.
وضمن هذا التوجه للسيطرة علي النفط الأفريقي والاعتماد عليه مستقبلا – ضمن خطط التخلي عن التبعية للنفط العربي – أعلن وزير الدفاع الأميركي “روبرت جيتس” قرار استحداث قيادة عسكرية إقليمية خاصة بأفريقيا 6 فبراير 2007 . ومع أن المدخل الأمريكي لزيادة النفوذ في أفريقيا وغربها تحديدا يقوم علي حجة محاربة الإرهاب ، كمدخل أمني ، فهو ينطوي فعليا علي مداخل أخري إستراتيجية واقتصادية وسياسية هامة ، ويستهدف خلق وضع استراتيجي جديد عبر تشكيل قيادة عسكرية خاصة لأفريقيا ستكون هي رابع قيادة عسكرية أمريكية بجانب القيادات الإقليمية الثلاثة الأخرى : قيادة المنظمة الوسطى (الشرق الأوسط) وقيادة المحيط الهادي والقيادة الأوروبية .
أما الهدف فهو بوضوح إقامة ثلاث قواعد عسكرية أميركية جديدة في أفريقيا (السنغال -أوغندا, ساوتومي وبرينسيب) ، تضاف إلى قاعدة جيبوتي التي يوجد فيها نحو ألف وخمسمائة جندي منذ عام 2003 ، ليتم فيها تخزين العتاد العسكري والوقود بزعم مكافحة الإرهاب ومطاردة منظماته ، بينما الحقيقة هي السعي للبقاء الاستراتيجي في المنطقة لموقعها الاستراتيجي ومخزونها النفطي الكبير .