نهال أحمد السيد
باحثة في الشأن الإفريقي
تواجه القارة الإفريقية العديد من التهديدات الأمنية، يأتي على رأسها تهديد الأمن البحري لسواحلها، فرغم اعتمادها في أكثر من 90% من تجارتها الخارجية على البحر([1])، إلى جانب ارتباط الأمن البحري مباشرة بتحقيق ثنائيتي الأمن الغذائي، والتنمية المستدامة؛ إلا أن الجرائم والممارسات غير الشرعية للنشاط البحري، تسبَّبت في خسائر مادية، تُقدّر بمليارات الدولارات، ناهيك عن الخسائر في الأرواح البشرية.
وعلى مدار السنوات الماضية؛ شهدت السواحل الإفريقية -البالغ طولها نحو 48 ألف كيلو متر- العديد من الجرائم والتهديدات الأمنية، وهو ما يرجع بشكل رئيسي، إلى تغاضي الحكومات الإفريقية عن تقديم حلول للمسببات الرئيسية لتلك التهديدات، وهو ما انعكس سلبًا على الأمن الإقليمي لدول القارة، كما شكَّل ذريعة للتنافس بين الدول الكبرى المتطلعة لتوسيع نفوذها، لذا تتطلب المرحلة الحالية، وضع مقاربات وإستراتيجيات حازمة، لمواجهة تلك التهديدات، والحدّ من تأثيرها على استقرار البلاد، وبناءً على ذلك يتناول المقال أبرز تهديدات الأمن البحري الإفريقي، وتداعياته على استقرار القارة، وأهم المقاربات التي تم وضعها، للحد من تأثير تلك التهديدات.
أولاً: ملامح التهديدات البحرية للسواحل الإفريقية
شهدت السواحل الإفريقية، لا سيما سواحل الصومال، وساحل خليج غينيا، العديد من التهديدات البحرية، وهو ما تسبَّب في خسائر مادية وبشرية فادحة، كما كانت سببًا رئيسيًّا في تصاعد معدلات العنف والجرائم، بحكم ارتباط انعدام الأمن البحري، بتراجع معدلات التنمية، ومِن ثَم انعدام الأمن الغذائي، وعلاوة على ذلك، يمكن إبراز ملامح التهديدات البحرية في القارة على النحو التالي:
1-تصاعد نشاط القرصنة:
شهدت السواحل الإفريقية خلال العقد الماضي تصاعدًا في معدلات نشاط القرصنة؛ حيث يتركز هذا النشاط بشكل كبير في ثلاث مناطق رئيسية هي (الساحل الصومالي، وخليج عدن شرق إفريقيا، وساحل غينيا)، فيما صنّفت الأمم المتحدة في تقرير لها منطقة ساحل غينيا بالأشد خطورة على المجال البحري.
ووفقًا لتقارير صادرة عن المكتب البحري الدولي؛ فقد ارتفع نشاط القرصنة منذ عام 2020 بنسبة 50%؛ حيث شهد عام 2020 أكثر من 130 عملية قرصنة، ما يعادل 40% من إجمالي حوادث القرصنة المبلَّغ عنها عالميًّا، وفي ديسمبر 2019 تعرَّضت العديد من ناقلات النفط للقرصنة، منها ناقلة نفط يونانية في ديسمبر2019([2])، أثناء إبحارها على السواحل الكاميرونية، وفي الشهر ذاته تعرَّضت إحدى الناقلات النفطية للاختطاف في خليج غينيا، وبناءً على ذلك صنّف مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد، في تقرير له، منذ عامين، خليج غينيا بكونه من أكثر بؤر القرصنة خطورة على مستوى العالم خلال العقدين الماضيين([3]).
أما على السواحل الصومالية، فتشهد هي الأخرى تصاعدًا كبيرًا لعمليات القرصنة، باعتبار هذا النشاط ضمن المنابع الرئيسية، لتمويل نشاط التنظيمات الإرهابية، المتمركزة بالساحل الشرقي للقارة، ففي نوفمبر 2023، تم اختطاف سفينة صيد إيرانية “المعراج1” مِن قِبَل قراصنة صوماليين، وطالبوا بفدية تقدر بـ400 ألف دولار، فيما أعلنت البحرية البريطانية ديسمبر 2023 اختطاف سفينة تجارية، والاتجاه بها ناحية السواحل الصومالية؛ حيث عُثر عليها على بُعد 680 كيلو شرق ميناء بوصاصو الصومالي، وفي يناير 2024 تم اختطاف سفينة ليبيرية “ليلا نورفولك”، وعلى متنها 15 هنديًّا و6 فلبينين([4]).
2-تمويل الأنشطة الإرهابية:
أدى انتشار التنظيمات الإرهابية، وتمركزها في دول القارة، إلى تركيزها على تنويع منابع تمويلها، وهو ما أدَّى لظهور مصطلح الإرهاب البحري؛ حيث تعمل التنظيمات الإرهابية على تحقيق مكاسب، من خلال ابتزاز الشركات الدولية، التي تمر تجارتها ومصالحها عبر السواحل، وفرض إتاوات لتسهيل مرورها، أو القيام بعمليات سطو على البضائع التي تمر عبر السواحل البحرية الإفريقية، ووفقًا لتقرير أمميّ، يبلغ إجمالي إيرادات الفدية، التي حصلت عليها العصابات في خليج غينيا، لما يقدر بـ5 ملايين دولار([5]).
من جهة أخرى، تقوم الجماعات المسلحة بالاستيلاء على الموارد الطبيعية، كالماس والذهب والعاج والفحم، وبيعها لدول مجاورة، مستغلين سيطرتهم على السواحل، نتيجة حالة الفراغ الأمني التي تسود سواحل غالبية الدول الإفريقية.
فعلى سبيل المثال؛ تحقق حركة الشباب الصومالية مكاسب سنوية، تقدر بنحو 7 ملايين دولار، نتيجة تهريب مورد الفحم وبيعه. كما تمكّن جيش الرب من حصد مكاسب كبيرة، على خلفية قيامه بتهريب العاج والماس من أوغندا وإفريقيا الوسطى. وفي موزمبيق تمكَّنت داعش من السيطرة على ميناء موكيمبوا دا برايا الرئيسي الواقع في إقليم كابو ديلجادو شمال البلاد، وبسيطرتها على الميناء البحري، يمتلك التنظيم إمكانية بيع الموارد الطبيعية التي تُمكّن من الاستيلاء عليها، ناهيك عن تسهيل مهمة حصوله على دعم السلاح، والتحاق عناصر جديدة موالية له من الخارج.
3-سرقة النفط:
يرتكز نشاط القراصنة مؤخرًا على اختطاف ناقلات النفط الخام، نظرًا لمحدودية مخاطر تلك العملية، ومكاسبها المربحة، مقارنةً باختطاف السفن التجارية أو السياحية، وقد انعكس ذلك سلبًا على عوائد الصادرات النفطية لدول القارة، مما أثَّر على الأوضاع الاقتصادية، وعدم قدرة الحكومات على تلبية الاحتياجات الرئيسية للمواطنين.
فعلى سبيل المثال، تراجعت مكانة نيجيريا، التي كانت تصنّف في المرتبة الأولى في القارة بكونها أكبر مُصدِّر للنفط، لتأتي في المرتبة الثانية بعد أنجولا، نتيجة تعرُّض كميات هائلة من واردتها النفطية للسرقة؛ حيث أفاد تقرير صادر عن الأوبك في مايو 2023 عن تراجع الإنتاج النيجيري النفطي منذ مارس 2023، من 1.26 مليون برميل يوميًّا إلى 999 ألف برميل([6])، وهو انخفاض كبير لم تشهده نيجيريا منذ ثمانينيات القرن الماضي.
4-الاتجار بالبشر:
تستغل عصابات الاتجار بالبشر الهشاشة الأمنية للبلاد، وضعف السيطرة على الحدود البحرية، إلى جانب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدنية، وتعمل على تكثيف أنشطتها، كتهريب المهاجرين غير الشرعيين، والاتجار بالبشر، والاستغلال الجنسي للقُصَّر؛ حيث كشف تقرير صادر عن الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر في تونس عام 2022، عن تصاعُد معدلات الاتجار بالبشر، لتشمل استغلال أطفال في أنشطة إرهابية، والاستغلال الجنسي للفتيات، مما أدَّى إلى ارتفاع معدلات الحمل القسري، وكذا بيع الأطفال والرضع، والاتجار في الأعضاء البشرية.
المصدر: موقع فرنسا 24: https://2u.pw/KUbRlL7
5-تهريب المواد المخدرة:
يُعتبر خليج غينيا الممر الرئيسي لانتقال عصابات الاتجار بالمخدرات، من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية؛ حيث يمر خلاله أكثر من 30% من جملة المواد المخدّرة المستهلكة في أوروبا، وخلال الفترة من (2000-2007) تم تهريب أكثر من 47 طن من الكوكايين عبر خليج غينيا([7])، وفي 2023 تم ضبط أكثر من نصف طن من المخدرات على متن أحد القوارب بالمحيط الهندي، وفي 2021 ضبطت قوة بحرية فرنسية شحنة من الهيروين، تبلغ نصف طن في قناة موزمبيق.
6-سرقة الثروة السمكية:
تعتبر سرقة الثروة السمكية، عن طريق الصيد الجائر وغير القانوني، من المهدّدات الرئيسية للأمن البحري، لا سيما وأنها تؤثر بشكل مباشر على الأمن الغذائي؛ حيث يعتمد أكثر من 200 مليون إفريقي على السمك كوجبة رئيسية، فيما يؤدي الصيد غير القانوني للإضرار بالاقتصادات الإفريقية؛ حيث تبلغ العوائد الناتجة عن المصايد السمكية قرابة 24 مليار دولار سنويًّا، وبالتبعية يؤدي نهب الثروة السمكية إلى ارتفاع معدلات الفقر، وتصاعد البطالة، لا سيما مع اعتماد أكثر من 10 ملايين شخص عليه كمهنة([8])، ولا يمكن تجاهل الانعكاسات السلبية للصيد غير القانوني على أنشطة الاقتصاد الأزرق، التي تشمل السياحة البحرية، والمصايد السمكية، كذلك التأثير السلبي على عوائد النقل البحري، ما من شأنه تهديد الاقتصادات الوطنية لدول القارة.
ثانيًا: محفّزات تصاعد التهديدات البحرية:
ساهمت المشكلات التي تواجهها دول القارة، في تحوُّل سواحلها، إلى بيئة خصبة لتمركز الجماعات المسلحة، وتوسع أنشطتهم المهددة للأمن البحري، وبناءً على ذلك، نُسلّط الضوء على محفزات تصاعد تلك التهديدات، على النحو التالي:
1-ضعف الحكومات:
تعاني حكومات الدول الإفريقية ضعفًا شديدًا، نتيجة للعديد من التحديات، التي مثلت ضغوطًا شديدة عليها، مما أدى لعجزها عن فرض السيطرة الشاملة على أقاليم الدولة، وهو ما هيَّأ المناخ للتنظيمات الإرهابية لتوسيع أنشطتها، وسيطرتها على المراكز الحيوية، كالموانئ، والمناجم، والمناطق التي تحوي ثروات طبيعية، وقد ترتب على ذلك تصاعد عمليات القرصنة، وارتفاع معدلات الجريمة المنظمة على سواحل بعض الدول، كالصومال وموزمبيق والكاميرون ونيجيريا.
2-ضعف الأجهزة الأمنية:
أدت الصراعات الداخلية، وعجز الحكومة المركزية، عن إدارة وضبط التعددية الإثنية، إلى جانب انتشار الفساد، بالتوازي مع ضعف الإمكانيات المادية، وتدني الأوضاع المعيشية، واتساع الفجوة بين طبقات المجتمع، إلى تشتُّت الأجهزة الأمنية لاحتواء التوترات الداخلية، وهو ما أدَّى لحالة من الفراغ الأمني، أتاحت الفرصة لانتشار وتغلغل التنظيمات الإرهابية، مما شكَّل بيئة ملائمة لتنامي التهديدات البحرية، لا سيما في منطقة ساحل غينيا، غرب القارة، وعلى السواحل الشرقية قبالة الصومال.
3-فشل ضبط التعددية الإثنية:
من أبرز سمات الدولة الإفريقية: التعددية الإثنية، والتنوع القَبَلي، ورغم ذلك فشلت الأنظمة الحاكمة في إدارة وضبط هذا النمط من التنوع، بما يتوافق مع خدمة الأمن القومي، فأصبح هناك حالة من التهميش للأقاليم الحدودية، واتسعت الفجوة بين طبقات المجتمع، فيما اقتصرت المشاركة السياسية على فصائل محددة، بينما حرمت باقي مكونات المجتمع من المشاركة، مما أدى لتصاعد الصراعات الإثنية، التي أدت في بعض الأحيان إلى صراع حول فرض السيطرة على الممرات البحرية، للضغط على الحكومة المركزية، من أجل الحصول على بعض الامتيازات.
من جهة أخرى، تركزت الثروات في يد قبليات محدودة، وحُرم باقي المواطنين من التمتع بعوائد ثروات بلادهم الطبيعية، ناهيك عن ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، كل ما سبق أتاح الفرصة أمام التنظيمات الإرهابية للانتشار، واستقطاب الطبقات الفقيرة وضمهم إليها، وهو ما ساهم في تقوية هيكلهم، والاتجاه نحو تنويع الأنشطة الإرهابية، بما فيها الإرهاب البحري.
4-هشاشة الأوضاع الاقتصادية:
تعاني غالبية الدول الإفريقية من أوضاع اقتصادية غاية في السوء، تظهر مؤشراتها في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتراجع المستوى التعليمي، وتدني الأوضاع الاجتماعية، وهو ما يدفع فئة عريضة من الشباب للانضمام إلى صفوف التنظيمات الإرهابية، والتورط في جرائم قرصنة، بغية توفير الأموال اللازمة، للحصول على احتياجاتهم.
ثالثًا: انعكاسات تصاعد تهديدات الأمن البحري:
فشلت الحكومات الإفريقية في وضع حلول جذرية للمسببات الرئيسية لانعدام الأمن البحري، الأمر الذي أدى لتداعيات خطيرة، يمكن إبرازها على النحو التالي:
1-تصاعد التهديدات الأمنية:
اكتسب النشاط الإرهابي خلال السنوات الأخيرة سمات جديدة؛ لعل أبرزها: قوة التشابك بين التنظيم الرئيسي وأفرعه المختلفة، فعلى سبيل المثال: هناك قنوات اتصال مستمرة بين حركة شباب الصومالية وتنظيم القاعدة؛ حيث يمد الأخير الحركة بالسلاح، والعناصر المسلحة، لدعم أنشطتها وتكثيف عملياتها داخل وخارج الحدود الصومالية، وفي ظل التحديات الأمنية التي تواجهها الأجهزة الأمنية، والتي لم تحقق حتى الآن إنجازًا في احتوائها؛ صار هناك حالة من الفراغ الأمني، الذي تستغله التنظيمات الإرهابية، في تعزيز تدفقات السلاح والأموال، وضم العديد من العناصر لصفوفها، لتمكينها من بسط نفوذها وتعزيز انتشارها، وهو ما سينعكس في تصاعد معدلات الجريمة المنظمة، وتهريب المخدرات، والاتجار بالبشر، وهذا من شأنه تهديد أمن واستقرار دول القارة، وتأجيج الصراعات، ناهيك عن توسع عمليات القرصنة.
2-التأثير على الأوضاع الاقتصادية:
فمن ناحية تؤدي القرصنة البحرية إلى تراجع معدلات الملاحة البحرية في الممرات المائية الإفريقية، مما يعني خسارة الدول مصدرًا مهمًّا للعملة الصعبة، وهو ما سيؤثر سلبًا على الاقتصادات الوطنية لتلك الدول، ومن ناحية أخرى، تسيطر العصابات على مناطق تركز الثروات الطبيعية؛ حيث يقومون بالاستيلاء عليها، وبالتوازي مع سيطرتهم على الموانئ البحرية، يسهل عليهم بيع تلك الموارد، والاستفادة من عوائدها في دعم أنشطتهم الإرهابية.
3-إتاحة الفرصة للتدخل الأجنبي:
تفرض القرصنة البحرية نوعًا جديدًا من الاحتلال الأجنبي، كما تعزّز من حدة التنافس بين القوى الكبرى لتوسيع النفوذ بالقارة، تحت ذريعة مساعدة الدول الإفريقية على مواجهة التهديدات الأمنية البحرية، وأيضًا حماية التجارة الأجنبية، والرعايا، مما يُتيح الفرصة لاستيلاء الدول الأجنبية على الموارد الطبيعية، ناهيك عن فرض السيطرة على بعض الموانئ بزعم حماية الأمن المائي، يستدل على ذلك من جملة القواعد العسكرية الأجنبية المتمركزة على امتداد ساحل البحر الأحمر، كما يعكس نشاط فاغنر، والشركات الأمنية والعسكرية، نوعًا آخر من أنواع التدخل الأجنبي، بزعم دعم استقرار البلاد، والحفاظ على أبعاد أمنها التقليدي وغير التقليدي.
4-قطع الاتصالات الدولية:
ففي حال عدم وضع حلول جذرية لتهديدات الأمن البحري، يمكن أن يتسبّب ذلك في قطع الاتصالات الدولية، وعدم القدرة على تبادل المعلومات والبيانات، نتيجة قطع الكابلات البحرية المسؤولة عن تبادل ونقل 95% من بيانات الاتصالات([9])، وهو ما سيتسبّب في تداعيات بالغة الخطورة، تُلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي، وعلى جهود مكافحة الإرهاب؛ حيث إن فقد أحد تلك الكابلات، سيؤدي إلى حجب 33%من خدمة الإنترنت عالميًّا، وهو ما سيؤثر على طبيعة التواصل بين الأجهزة المختلفة.
رابعًا: مقاربات إفريقية لمواجهة التهديدات البحرية
انطلاقًا من الأهمية الإستراتيجية للمجال البحري الإفريقي، باعتباره من المحددات الرئيسية لضمان استقرار دول القارة، وتحقيق أبعاد الأمن المختلفة؛ كالأمن المائي والغذائي، وكذلك تحقيق التنمية المستدامة، مما سينعكس بشكل مباشر على الاقتصادات الوطنية الإفريقية، فكان لزامًا على دول القارة إعادة النظر في كيفية ضبط وإدارة كافة الأنشطة عبر ممراتها البحرية، من خلال عدة مقاربات.
1-الإستراتيجية الأمنية البحرية لإفريقيا (2050)([10]).
استنادًا إلى القرار الصادر عن القمة الإفريقية التي انعقدت في سرت عام 2009؛ دعا قادة ورؤساء حكومات الدول الإفريقية إلى وضع إستراتيجية بحرية متكاملة لإفريقيا حتى 2050، وبالفعل تم وضع الإستراتيجية الأمنية البحرية 2050، التي دخلت حيّز التنفيذ عام 2014، وتتضمَّن الإستراتيجية 112 بندًا، تتمحور جميعها حول إيجاد حلول حقيقية لمواجهة تهديدات الأمن البحري؛ تمهيدًا لإحداث تنمية مستدامة.
وتتضمن الإستراتيجية البحرية مجموعة من الأهداف، ترتكز إلى تعزيز القدرات الإنتاجية لدول القارة، والاستفادة من ثرواتها البحرية، والعمل على تكريس مفهوم الاقتصاد الأزرق، عبر وَضْع أُطر قانونية واضحة لضبط الأنشطة المتصلة بالبحر، في محاولة للسيطرة على أنشطة الصيد غير القانوني، وضبط محاولات السطو على الثروات البحرية، وإيقاف ممارسة الأنشطة الإجرامية عبر المياه الإفريقية، من اختطاف، واستغلال جنسي، واتجار بالمواد المخدرة.
ولضمان تنفيذ أهداف الإستراتيجية؛ وضع الاتحاد الإفريقي خطة عمل تضمنت 21 آلية، من أبرزهم؛ تعزيز التعاون بين حكومات الدول الإفريقية في مجال تبادل المعلومات، وخلق جيل يمتلك القدرات والمهارات المتعلقة بمجال الحوكمة البحرية.
2-الميثاق الإفريقي للأمن البحري (2063)([11])
تم التوقيع على الميثاق الإفريقي للأمن البحري في أكتوبر 2016؛ حيث تضمن 56 مادة، شملت العديد من القضايا المتعلقة بالأمن البحري، ودعم الاقتصاد الأزرق، وتحقيق التنمية المستدامة، للمساهمة في رفع المستوى المعيشي للمواطنين. كما أكد الميثاق أهمية العمل على رفع مستوى الوعي لدى الأفراد بكيفية تجنُّب الممارسات المهددة للأمن المائي، وتعزيز التعاون والتواصل بين الشركاء الإقليميين في مجال حماية الأمن المائي، وشدَّدت البنود على تحقيق التكاتف والمشاركة المجتمعية، للتصدي للجرائم المنظمة، عبر تنظيم برامج توعوية تستهدف الفئات الفقيرة، وتضمَّن الميثاق عددًا من التدابير القانونية، لمنع استغلال الموارد البحرية عبر الصيد غير القانوني، فيما ركزت المواد من 6 إلى 11 على دور أجهزة الدولة، التي لا بد أن تُولي اهتمامًا لوضع أُطُر تنظيمية وقانونية فيما يتعلق بدور القطاع العام والخاص في حماية الأمن المائي، بعيدًا عن أيّ احتكار أو سيطرة استثمارية لقطاعات معينة، كما شدد الميثاق أيضًا على تعزيز القدرات اللازمة لتفعيل الحوكمة في المجال البحري، وأهمية تطوير البنى التحتية للموانئ؛ لتعزيز القدرة التنافسية للدول الإفريقية في مجال الشحن، بالتوازي مع تطوير القدرات البشرية، والأداء الوظيفي للعاملين في القطاع البحري.
ووصَّى الميثاق بأهمية التعاون القضائي والقانوني بين دول القارة في تسوية النزاعات البحرية، استنادًا لمبدأ احترام سيادة كل دولة، فالميثاق يعتبر استكمالاً لما جاء في الإستراتيجية البحرية 2050، وتأكيدًا على ما ورد بها من أهداف.
3- مبادرات مختلفة
لم تقتصر جهود مواجهة التهديدات البحرية على الاتحاد الإفريقي فقط، لكن كان هناك دور بارز لمجموعة من الجهات الفاعلة الإفريقية وغير الإفريقية، عبر عدة مدونات، فعلى سبيل المثال قدمت مدونة ياوندي المعنية بقواعد السلوك عام 2017 إطارًا تعاونيًّا يتضمن آليات تنسيق التعاون، وكيفية استغلال موارد الدول الإفريقية، لمكافحة أنشطة القرصنة، ومواجهة الإرهاب، وفي عام 2009، تم إنشاء مدونة جيبوتي، التي تمكَّنت من تقديم إطار تعاوني للدول التي تمتلك مصالح إستراتيجية بخليج عدن([12])، وارتكز الإطار على تنسيق التعاون في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتحقيق الشراكة الأمنية في العمليات الموجهة لاستهداف أنشطة القرصنة والاختطاف.
خامسًا: أبرز التحديات
بالرغم من المبادرات التي صاغتها الدول الإفريقية لمواجهة التهديدات الأمنية البحرية؛ إلا أنها جميعها لم تُحقق النتائج المرجوة، حتى الآن، وهو ما يرجع لجملة من التحديات، التي ينبغي أن تتوخى دول القارة الحذر حيالها، ويمكن إبرازها على النحو التالي:
1-ضعف التمويل:
يتطلب نجاح أي إستراتيجية، التنفيذ الفعَّال لها، ووجود اتساق بين مراحل التطبيق المختلفة. ومن أبرز معرقلات التنفيذ: ضعف التمويل، وعدم وفاء الدول الأعضاء بحصصهم المادية، فعلى سبيل المثال، تضمنت إستراتيجية 2050 إنشاء مجلس تنفيذي مختص بتحديد أهداف كل مرحلة، ووضع الخطة اللازمة لتحقيقها، ومع ذلك نجد أن كل الاجتماعات التي دعا إليها المجلس، شهدت مشاركة محدودة، وخلال الفترة من 2014 حتى 2021، لم يعقد المجلس سوى أربعة اجتماعات، شهدت مشاركة محدودة، نتيجة لضعف التمويل، والإمكانيات المادية المحدودة، ما أدى إلى تهديد فاعلية الإستراتيجية، وقدرتها على تحقيق الأهداف المرجوة.
2-نقص الخبرات:
تعاني القارة الإفريقية نقصًا في الكوادر البشرية المتخصصة في إدارة المجال البحري، وكذلك هناك حاجة لإنشاء مراكز بحثية، ومؤسسات فكرية، لخلق جيل يمتلك القدرة والكفاءة في هذا المجال، ناهيك عن انعدام الوعي المجتمعي بأهمية الاقتصاد الأزرق، وضرورة الحفاظ على الأمن البحري المستدام.
3-عدم وجود إدارة بحرية:
أدرج الاتحاد الإفريقي الاقتصاد الأزرق بأبعاده المختلفة، ضمن الأجندة الإفريقية 2063، ويتطلب ذلك وجود إدارة بحرية، وهيئة شاملة، لضبط وإدارة هذا الهدف، وهو ما يصعب تحقيقه حاليًّا، لعدة أسباب؛ منها انعدام الكوادر المتخصصة للعمل في المجال البحري، وعدم وجود قوة بحرية مشتركة تابعة للاتحاد الإفريقي معنية بتوفير الأمن البحري، من جهة أخرى لم يتم وضع أُطر مؤسسية لتسوية النزاعات الحدودية البحرية، وهذا من شأنه عرقلة تنفيذ المقاربات التي تم وضعها، وطول أمد النزاعات البحرية، التي قد تمتد لحروب إقليمية، تؤثر على الأمن التقليدي للدول.
4-ضعف الإرادة السياسية:
اشترطت إستراتيجية 2050 شرطًا أساسيًّا، يُعتبر المحرّك الرئيسي لتنفيذ كافة الأهداف، وهو توافر الإرادة السياسية، ومع ذلك يعكس الواقع غير ذلك، فهناك حالة من عدم الاهتمام بتعزيز الميزانية الخاصة بتنفيذ الإستراتيجية، أو تحرك جدي لتفعيل بنود الميثاق الإفريقي، أو تطبيق أيّ من أُطر التعاون الإقليمية، ناهيك عن عدم الالتزام بتنسيق الجهود المشتركة بين الدول لضمان الأمن البحري، حتى إنه على صعيد التصديق على الإستراتيجية البحرية 2050، نجد أنه من بين 55 دولة، وقَّع 35 فقط، بينما صدَّقت دولتان، الأمر الذي يعني غيابًا واضحًا للإرادة السياسية، وضعف الالتزام بما ورد من بنود وأهداف في المبادرات المختلفة.
مجمل القول: في ضوء التهديدات المتنامية للأمن البحري الإفريقي، أصبح لزامًا على دول القارة، الوصول إلى مقاربة أمنية حقيقية شاملة، ومرنة، تتكيف مع كافة المستجدات، وترتكز بشكل رئيسي إلى تعزيز القدرات الأمنية، وتحقيق المشاركة المتكاملة بين الدول فيما يتعلق بتبادل المعلومات، والعمل على تعزيز التدابير الأمنية البحرية، والأهم؛ التركيز على معالجة المسببات الرئيسية للإرهاب البحري، فحل المشكلة من جذورها، يضمن صياغة مقاربات أمنية ممتدة الأثر.
………………………………………….
[1] From missed opportunity to oceans of prosperity, institute for security studies(ISS),13/10/2015, available at: https://2u.pw/v11yijh
[2] Piracy and armed robbery against ships, ICC international maritime bureau, 31/12/2020, available at: https://www.icc-ccs.org/reports/2020_Annual_Piracy_Report.pdf
[3] Piracy in the Gulf of Guinea – Trends, Causes, Effects and Way Forward ,Research Gate, January 2022, available at: https://2u.pw/PybsK9E
[4] إيمان الشعراوي، هل تهدد القرصنة الصومالية الأمن البحري في عام 2024؟، قراءات إفريقية، 31/1/2024، متاح على: https://2u.pw/LW7DmPD
[5] Gulf of Guinea Piracy, security council report, Nov 2022, available at: https://2u.pw/9ZJbxLT
[6] د. شيماء محيي الدين، المقاربة الإفريقية لمكافحة الجريمة البحرية وحماية الأمن البحري، موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 20/6/2023، متاح على: https://acpss.ahram.org.eg/News/20926.aspx
[7] – أحمد عسكر، خريطة مهددات الأمن البحري في إفريقيا جنوب الصحراء، الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين، 6/7/2023، متاح على: https://2u.pw/AZXXIfo
[8] Africa Program for Fisheries, the world Bank,8/6/2020, available at: https://2u.pw/I4rbz3Q
[9] – أحمد عسكر، موقع سبق ذكره
[10] AFRICA’S INTEGRATED MARITIME STRATEGY (2050 AIM STRATEGY( , African Union, available at: https://au.int/sites/default/files/newsevents/workingdocuments/33832-wd-african_union_3-1.pdf
[11] African Charter on Maritime Security and Safety and Development in Africa (Lomé Charter), African Union, available at: https://au.int/en/treaties/african-charter-maritime-security-and-safety-and-development-africa-lome-charter
– [12] د. أميرة محمد عبد الحليم، السياسات الإقليمية والدولية لتعزيز النفوذ وحماية الأمن البحري في إفريقيا، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 1/7/2023، متاح على: https://acpss.ahram.org.eg/News/20934.aspx