روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة بالشأن الأفريقي
في حدث مهيب جَلِل في يوم 9 ديسمبر عام 1961م، كان يتم إنزال علم الاحتلال ويُرفع العلم الوطني في مدينة دار السلام التنزانية، وفي نفس الوقت تُرفع شعلة الحرية إلى قمة جبل كليمنجارو، حينها قال أبو الأمة "جوليوس نيريري": نريد أن نضيء الشعلة ونضعها على جبل كليمنجارو، لكي تضيء حتى خارج حدودنا، لنجلب الأمل حيث لا يوجد أمل، ونجلب الحب حيث الكراهية.
تُحيي تنزانيا في مثل هذا اليوم من كل عام الذكرى الـ 60 من استقلالها عن بريطانيا، لتجرَّ تاريخًا طويلًا من النضال والمقاومة، لكن التساؤلات:
أين تنزانيا الآن بعد الاستقلال؟ ولماذا تنعم الدولة الشرق أفريقية باستقرار نسبي بعكس باقي جيرانها؟ وهل نفوذ تنزانيا في أفريقيا يتزايد أم يتراجع، بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال؟ هذا وأكثر نتناوله في هذا التقرير..
تنجانيقا حرة..
خضعت تنزانيا لاستعمار بريطاني وألماني كغيرها من الدول الإفريقية، فـبعد الحرب العالمية الأولى؛ أصبح البر الرئيسي تحت السيطرة البريطانية وحُكمت باسم تنجانيقا، مع بقاء زنجبار مستعمرة بريطانية، وبدأت أول مقاومة شعبية جديّة عام 1920م، حيث تم تأسيس جمعية تنجانيقا الأفريقية، وبدأت الاضطرابات تعم مناطق واسعة من البلاد لتتحول إلى مقاومة مسلحة ضد بريطانيا.
وبدأت الحركة السياسية داخل تنزانيا مع إنشاء اتحاد تنجانيقا الأفريقي الوطني، في عام 1954م بقيادة جوليوس نيريري، والذي كان هدفه الرئيسي هو فرض السيادة على تنجانيقا، وعلى إثره تم انهاء الحكم البريطاني في تنجانيقا عام 1961م، وأصبحت جمهورية ديمقراطية.
ثم بعد ثورة زنجبار في عام 1963م، اندمجت زنجبار وتنجانيقا في أبريل 1964م، لتشكيل جمهورية تنجانيقا وزنجبار الاتحادية، والتي تم تغيير اسمها في وقت لاحق إلى جمهورية تنزانيا المتحدة.
وأصبح أول رئيس لها "جوليوس نيريري"، والذي تبنَّى نظامًا اشتراكيًا أساسه "يوجوما"؛ وهي كلمة سواحلية تعني الاعتماد على النفس والتعاون التقليدي الأفريقي. وبعد سنوات قليلة من الاستقلال، أعلن نيريري أن تنزانيا دولة ذات حزب واحد، الذي سُمي بعد ذلك بـ الحزب الثوري (CCM)، واعتبر نيريري كل من عارضوا هذا القرار أعداء.
وحَكم نيريري البلاد لمدة 24 عامًا، تم فيها إلغاء سياسة التعددية الحزبية، لكن تمت استعادة تلك السياسة في عهد الرئيس الثاني "علي حسن مويني"، وأعلنت حينها الحكومة التنزانية أنها أعادت النظام السياسي متعدد الأحزاب، وتم أجراء أول انتخابات عامة بمشاركة أحزاب المعارضة عام 1995م.
تنزانيا.. مستقلة ومستقرة!
بعكس المتوقع لم يسعَ الرئيس التنزاني الأول "نيريري" إلى ترسيخ مبدأ القبلية وتكريس السلطة في يد قبائل بعينها بقدر ما سعى إلى تعزيز هوية المواطنة والانتماء وبناء تنزانيا اشتراكية حرة، وكزعيم قومي أسهم في استقلال البلاد.
فعلى الرغم من أن حزبًا واحدًا يسيطر على السلطة في تنزانيا منذ الاستقلال، إلا أنه نجح في تأسيس الدولة بعيدًا عن القَبَلية، الأمر الذي أغلق أبواب الصراعات فيها وأدى إلى استقرار سياسي.
ولعل التناوب بين المسلمين والمسيحيين في تولي السلطة في تنزانيا أمر آخر لعب دورًا كبيرًا في تنمية التعايش الديني، حيث تعاقب على الحُكم في تنزانيا ستة رؤساء منذ الاستقلال بين مسلم ومسيحي، وتم انتخاب كل واحد منهم لدورتين متتاليتين، ولم يكن ذلك التناوب مقنَّن في دستور البلاد، لكنَّه يشكِّل اتفاقًا خارج الدستور تعارف عليه التنزانيون في إطار ما عُرف بـ "الديمقراطية التوافقية"، مما جعل تنزانيا بعيدة عن التحول الديمقراطي في إفريقيا والذي دائمًا ما تنتهي بصراع عِرقي أو ديني.[1]
كما لم تصغ تنزانيا للإملاءات الغربية في مسألة محاربة الإرهاب، والتي استجاب لها معظم دول المنطقة بكل حماس، فمنذ تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأميركية في كلٍّ من دار السلام ونيروبي 1998م، تعرض معظم الدول في شرق إفريقيا لضغوط غربية وأميركية، لتشكيل تكتل سياسي موالٍ للغرب في مواجهة الإرهاب، وازدادت هذه الضغوط مع بروز حركة الشباب الصومالية في الصومال، وقد لاقى هذا المطلب رواجًا من قِبل العديد من الدول، من بينها: كينيا وأوغندا وجيبوتي وإثيوبيا، غير أن تنزانيا لم تتحمس للانخراط في تلك المسألة وتعاملت معها بحذر مع محافظة على صداقة الغرب.
كما أبعدت تنزانيا نفسها عن التورط في الشؤون الصومالية، والمشاركة في بعثة الاتحاد الإفريقي، بخلاف أوغندا وكينيا وبوروندي ورواندا، هذه الدول التي اكتوت بنار حركة الشباب الصومالية وما زالت تعاني من تداعيات الحرب على الإرهاب.
ماذا بعد 60 عامًا من الاستقلال؟
لقد نجح الجيل الأول من حُكام تنزانيا في توحيد الناس من مختلف الأعراق والديانات والتقاليد والثقافات لإنشاء دولة، ومن خلال النظر في النمو الاقتصادي وبناء الطرق والوصول إلى الخدمات والمنتجات الضرورية لحياة الناس، فقد قطعت تنزانيا خطوات كبيرة مقارنة بما كانت عليه قبل 60 عامًا.
ومع ذلك، لا تزال تنزانيا تعاني الكثير من التحديات، في هذا الصدد يقول محاضر العلوم السياسية بجامعة دار السلام التنزانية، ريتشارد مبوندا، أن تنزانيا تحتفل بمرور 60 عامًا على استقلالها بمشاعر مختلطة، فمن ناحية يحتفل التنزانيون بنجاح مشروع بناء الدولة، حيث تمكنت البلاد من دمج 126 قبيلة في أمة واحدة، وتمتعت البلاد بسلام دائم دون خلافات سياسية عكس جيرانها في منطقة البحيرات العظمى.
وأردف "مبوندا" أنه من ناحية أخرى هناك الكثير من التحديات، لا سيما فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، فإن التنزانيين متناقضون بشأن ما إذا كانوا من البلدان ذات الدخل المتوسط أم ما زالوا محاصرين في مجموعة البلدان الأقل نموًا، ففي الأول من يوليو 2020م، أعلن البنك الدولي أن تنزانيا قد خرجت من مجموعة أقل البلدان نموًا، لكن التقرير الذي أصدرته لجنة سياسة التنمية (CDP) وهي لجنة خبراء متداخلة تقدم تقاريرها إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، لا يزال يصنف تنزانيا على أنها من أقل البلدان نموًا.
وقال "مبوندا" في تصريحه لـ "قراءات أفريقية"، أن تنزانيا لم تتمكن من اغتنام الفرص المتاحة لتحقيق التنمية الاقتصادية، وتم تصنيف البلاد على أنها "عملاق نائم" طوال هذا الوقت، وأضاف أن تنزانيا غنية بالثروات الطبيعية من المعادن والأراضي والمسطحات المائية، وكان من الممكن إطلاق العنان لإمكانات هذا العملاق لو أنها بدأت باستغلال القطاع الزراعي، الذي يوفر سبل العيش لأكثر من 60٪ من السكان.
ويرى محاضر العلوم السياسية أن المشكلة الرئيسية تتمثل في الافتقار إلى تماسك واتساق السياسات، قائلًا: إن حزب تشاما تشا مابيندوزي في السلطة منذ 60 عامًا، والرؤساء فقط هم من تغيروا، وكان المتوقع من الحزب أن يكون مؤسسيًا أكثر من نظرائه في أفريقيا، وأن يصمم سياسات سليمة وأن يشرف على أن يكون النظام الحاكم مُطبقًا للسياسات باستمرار، بغض النظر عن تغيير الرؤساء، لكن مع الأسف هذا ليس هو الحال في تنزانيا، وأعتقد أن ذلك يؤخر التقدم.
نفوذ أفريقي محدود..!
من السمات التي ميزت تنزانيا لعقود منذ استقلالها؛ هي العمل لتشكيل أمة أفريقية، والتأثير على دول أفريقية في مختلف الأجندات والسياسات والبرامج، وترسيخ الوحدة والتضامن والتكامل الإقليمي وحل النزاعات، وتبني دبلوماسية التحرير لدول جنوب أفريقيا.
ومن ضمن الأدوار الفاعلة التي منحت تنزانيا نفوذًا خلال 60 عامًا من استقلالها هي: المشاركة في عمليات حفظ السلام المختلفة في دارفور وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ودعم المناضلين في جنوب إفريقيا وموزمبيق وزامبيا وزيمبابوي وناميبيا وأنغولا، استقبال اللاجئين من دول الجوار.
كما كافحت تنزانيا من أجل الوحدة الأفريقية بالبدء بالتحالفات الإقليمية، وساهمت في حل النزاعات المختلفة في أفريقيا بما في ذلك الانتخابات الكينية لعام 2002م، ومحاربة متمردي جزر القمر، وقيادة وساطة زيمبابوي بين الزعيمين السابقين موغابي وتسفانجيراي.
وقامت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا لمعارضة السياسات القمعية في جنوب أفريقيا، وكانت ملاذا للمناضلين من أجل الحرية والسياسيين والناشطين من الدول الأفريقية.
لكن على مدى السنوات الماضية، ومنذ عام 2015م تحديدًا؛ لم تشارك تنزانيا في العديد من القضايا التي تؤثر على السياسة الأفريقية، ولم تشارك في حل النزاعات في إفريقيا، كما تم إضعاف مشاركتها في القضايا الإقليمية، ويرجع ذلك إلى أن القيادة كانت منخرطة في السياسة الداخلية.
وفي هذا الصدد؛ يضيف ريتشارد موبندا أن تنزانيا تمتعت بسمعة طيبة في الأوساط الدبلوماسية خلال عهد نيريري، وحظيت بتقدير كبير لقيادتها كفاحًا ناجحًا من أجل تحرير القارة وخاصة جنوب أفريقيا، لكن على الرغم من أنها تتمتع بنفوذ قوي، إلا أن قدرتها على السيطرة على هذا النفوذ في القرن الحادي والعشرين مُقيدة؛ بسبب افتقارها إلى القوة الاقتصادية، ويعتقد "موبندا" أن تنزانيا بحاجة إلى تعزيز القوة الاقتصادية لاستعادة نفوذها الدبلوماسي في أفريقيا وخارجها.
ولعل استعادة هذا النفوذ الإقليمي هو ما دفع الرئيسة الحالية لتنزانيا سامية سولو حسن لزيارة دول مختلفة في أفريقيا، والمشاركة في المؤتمرات الدولية وزيادة التعاون مع الدول الأخرى، لتسلك طريقا مختلفًا عمن سبقها، لكن يبدو أن هذه الجهود غير كافية وتفتقر إلى القوة والسرعة المطلوبة، وستظل عادية أو معتدلة ما لم تستند إلى القوة الاقتصادية.
وختامًا..
لا تزال أمام تنزانيا الفرصة لرفع شُعلة الحرية من جديد، لـتُنِير داخل البلاد وخارجها، لازالت الفرصة قائمة لاستعادة نفوذها في أفريقيا، والاصطفاف بجانب جيرانها لإقامة وِحدة أفريقية، فبعد 60 عامًا من الاستقلال؛ ألم يأنِ للعملاق أن يصحو من غفوته؟
[1] كان الزعيم جوليوس نيريري، أول رئيس لتنزانيا، مسيحيًّا (1961- 1985)، وتولى بعده المسلم علي حسن مويني (1985- 1995)، ثم بنجامين وليام (1995-2005)، ثم جاكيايا كيكويتي، وهو مسلم (2005- 2015)، ثم غون ماجوفولي (2015- 2021)، وأخيرا الرئيسة الحالية سامية سولو، وهي مسلمة.