تسعى هذه الدراسة إلى ملء فراغ بين السطور حول المفكر والمناضل السياسي الجامايكي المولد ذي الأصول الإفريقية "ماركوس جارفي" Marcus Garvey؛ من خلال محاولة تفكيك وتحليل وفهم طبيعة دعوته إلى القومية السوداء، وذلك من خلال ما سجَّله من آراء في افتتاحيات صحيفة "العالم الزنجي" Negro World، الدورية الخاصة بمنظمته الإفريقية، والتي اتَّخذت من الولايات المتحدة الأمريكية مقرًّا لها، وهي "الرابطة العالمية لتحسين الزنوج" Universal Negro Improvement Association (UNIA).
وقد تركزت القومية السوداء لجارفي على الاعتقاد بأن السود هم عِرق واحد بغض النظر عن جنسية أفرادها. ويأمل "جارفي" أن يتطوّر العِرْق وتعلو الهوية حتى يتسنَّى تأسيس دولة سوداء متطورة داخل إفريقيا يمكن لجميع السود من خلالها التواصل والاتصال بإخوانهم في جميع أنحاء العالم، على غرار الطريقة التي كان يفكر بها اليهود.
لذلك تسعى هذه الدراسة إلى البحث في إرث "جارفي" وفلسفته وآرائه الخاصة من وجهة نظر ناقدة مبنية على التمحيص والتفنيد والمساءلة.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية لـ"جارفي":
وُلِدَ "ماركوس موسى جارفي" (1887-1940م) Marcus Mosiah Garvey في 17 أغسطس 1887م في "سانت آن" Saint Ann's Bay بمستعمرة "جامايكا". تميزت نشأته منذ ولادته وحتى عام 1904م بسياقها الاستعماري الذي اتَّسم بتسلسلية هرمية اجتماعية مبنية على اللون، الأمر الذي جعل "جارفي" وعائلته في المنزلة الدنيا من المجتمع؛ كونه أسود من أصل إفريقي كامل؛ حيث وُلِدَ جده الأكبر لأبيه في العبودية قبل إلغائها في "جامايكا".
عمل والده بنَّاءً، وعملت والدته "سارة ريتشارد" بالخدمة المنزلية، وأبوها أحد المزارعين ذوي الأصول الإفريقية. لكنَّ عائلته كانت أكثر ثراءً من جيرانهم الفلاحين الذين نظروا إليهم باعتبارهم بعض البرجوازيين؛ لاستحواذهم على بعض الأراضي الزراعية. وتلقى والده تعليمًا ذاتيًا فأجاد القراءة وأسَّس مكتبة كبيرة ساعدت "جارفي" على الاطلاع والقراءة.
وقد أثبتت هذه الخلفية التي تبدو لأول وهلة نموذجية عكس ذلك تمامًا؛ حيث اكتفى والد "جارفي" بتعليمه حتى المرحلة الابتدائية، ليترك "جارفي" المدرسة في سن الرابعة عشرة من عمره، ويتجه في سنوات المراهقة إلى العمل والتدريب على أعمال الطباعة. ولينتقل بعد ذلك إلى العاصمة "كينجستون" Kingston ومواصلة عمله في الطباعة، ونظرًا لتميزه وذكائه ترقى ليصبح رئيس عمال وهو في سن الثمانية عشرة من عمره.
كان لعمله في الطباعة عظيم الأثر في توجهه نحو الاهتمام بالصحافة وتعزيز نظرته للعالم من حوله. فأصبح على اتصال دائم بالمناقشات السياسية خلال إقامته في العاصمة "كينجستون"، لكنه كان يشعر بالتنمر أحيانًا بسبب لهجته الريفية. الأمر الذي دفعه لملاحظة الدعاة والخطباء واستكشاف تقنيات جديدة للتحدث الفعَّال، وممارسة الإيماءات والتدريب على النطق والقواعد أثناء عزلته في غرفته. لتؤتي في النهاية جهوده الرامية لتطوير مهاراته في الخطابة ثمارها.
وفي عام 1912م سافر إلى "لندن"، وهناك التحق بـ"كلية بيركبيك" بـ"جامعة لندن" Birkbeck, University of London؛ حيث درس القانون والفلسفة. وأثناء دراسته عمل بإحدى الصحف الإفريقية؛ حيث التقى بأحد رواد الجامعة الإفريقية "دوس محمد علي"، ومستعينًا بقدراته الخطابية شارك في الندوات النقاشية التي كانت تُقام في "ركن الخطباء" Speakers' Corner الذي يقع في "هايد بارك" بلندن.
وبعد عامين قضاهما في "لندن"، تلقَّى خلالهما تعليمًا كان من المحتمل ألا يكون متاحًا له في الأمريكتين بسبب لون بشرته، ثم عاد مرة أخرى إلى "جامايكا" ليؤسس "الرابطة العالمية لتحسين الزنوج".
وما أن وصل إلى "نيويورك" عام 1916م، لفت إليه الأنظار بسبب فصاحته وقدرته على الخطابة والإقناع، ليصبح "كاتبًا موهوبًا وخطيبًا بارعًا"، يتنقل بين المدن، إلى أن ذاع صيته داخل أمريكا بشكل كبير. بداية من خطبته الأولى في "كنيسة القديس مرقس" St. Mark’s Church الشهيرة التي أعطته الثقة اللازمة لاستكمال جولته؛ حيث زار أكثر من ثمانية وثلاثين مدينة أمريكية، الأمر الذي جذب إليه قطاعًا عريضًا من السود. وخلال هذه الفترة عمل في إحدى المطابع لتغطية نفقاته.
قام "جارفي" بتأسيس فرع جديد لرابطته في حي "هارلم" في عام 1917م، وتبع ذلك إصداره لصحيفته "العالم الزنجي". وبحلول عام 1919م، أنشأ هو ورفاقه شركة شحن تحت رعاية رابطته وسماها "النجم الأسود" Black Star Line؛ واستطاع من خلالها الاستحواذ على عدة سفن قام بتوظيفها في إعادة الزنوج الأمريكيين إلى "ليبيريا"، لكنَّ المسؤولين في "ليبيريا" شككوا في نوايا "جارفي"، ومِن ثَمَّ قاموا بإلغاء المشروع.
وفي عام 1920م وأثناء وجوده في "نيويورك"، قام بتأليف وصياغة "الإعلان العالمي لحقوق الشعوب الزنجية" Declaration of Rights of the Negro Peoples of the World، والذي تم التصديق عليه في مؤتمر "الرابطة العالمية لتحسين الزنوج". وخلال هذا الاجتماع، تم انتخاب "جارفي" أيضًا "رئيسًا مؤقتًا" لإفريقيا.
وبسبب نشاطه الصريح ودعوته الانفصالية، أصبح "جارفي" هدفًا لـمكتب التحقيقات الفيدرالي. والذي خلص في تقاريره إلى أن "جارفي مُحَرِّض زنجي سيئ السمعة". وفي عام 1923م، بعد محاكمة مثيرة للجدل، أُدين "جارفي" بعدة تُهَم، وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة خمس سنوات كحد أقصى. ليقضى عقوبته في سجن "أتلانتا". وفي عام 1925م قام بتأليف "الرسالة الأولى إلى زنوج العالم من سجن أتلانتا" First Message to the Negroes of the World from Atlanta Prison.
وعندما اُطلق سراحه من السجن في عام 1928م، سافر إلى "جنيف" بسويسرا، للتحدث إلى عصبة الأمم حول قضايا العِرْق، وما يتعرَّض له الملونون من إساءة وظلم على يد البيض في جميع أنحاء العالم.
وبعد بضعة أشهر، عاد إلى "جامايكا" حيث أسَّس "الحزب السياسي الشعبي" People’s Political Party كأول منظمة سياسية حديثة في "جاميكا"، وتبنَّى في برنامج حزبه حقوق العمال والفقراء.
وفي عام 1935م، عاد "جارفي" إلى لندن مرة أخرى؛ حيث عاش وعمل حتى وفاته عن عمر يناهز 52 عامًا. وتوفي في 10 يونيو من سنة 1940م. وبسبب قيود السفر المفروضة خلال الحرب العالمية الثانية؛ تم دفنه في مقبرة "سانت ماري الرومانية الكاثوليكية" St. Mary's Roman Catholic في العاصمة "لندن". وفي 13 نوفمبر عام 1964م، تم استخراج رفاته وإعادة دفنه أسفل نُصب "ماركوس جارفي التذكاري" بحديقة الأبطال الوطنية في "كينجستون".
ثانيًا: السياق التاريخي المعاصر لـ"جارفي":
تزامنت تحركات "جارفي" ودعوته داخل أمريكا ونجاح الثورة الروسية عام 1917م وانتهاء الحرب العالمية الأولى، مع انتشار مصطلح "البلشفية" أو "الشيوعية"؛ حيث سيطر الخوف والذعر على المجتمع الأمريكي مما اعتبروه تهديدًا لأمن واستقرار الولايات المتحدة الأمريكية. الأمر الذي أدَّى إلى المطالبة بترحيل الأجانب غير المرغوب فيهم وتشكيل ما يسمى بمجموعات "سوبر باتريوت"؛ فظهرت جماعة "كو كلوكس كلان" The Ku Klux Klan (KKK) بشكل بارز ضمن هذه المجموعات، مما أدى إلى إحياء المشاعر المعادية للسود؛ وهو ما أدَّى إلى اعتداءات جسدية طالت البعض منهم، إلى جانب الأشخاص الذين وظفوا السود في أعمالهم.
استغل "جارفي" هذا المناخ السياسي للترويج لسياسات القومية السوداء؛ لكنه حرص على عدم اتباع وسائل الضغط من أجل إحداث تغييرات جذرية، كما فعل الشيوعيون. وبدلاً من ذلك، روَّج لبرنامج يتماشى إلى حد كبير مع الديمقراطية.
واستغل "جارفي" كذلك الظروف الاجتماعية خلال عشرينيات القرن الماضي؛ حيث الاهتمام المتزايد بدراسة التاريخ والموسيقى والفن الزنجي؛ وعُرفت هذه الحقبة على نطاق واسع باسم "نهضة هارلم"، والتي تزامن معها تدفق الفنانون السود -وخاصة الكُتّاب- على حي "هارلم". وتزايدت هجرة الزنوج من الولايات الجنوبية إلى الشمال؛ نظرًا للاحتجاجات المتزايدة ضد مظالم الفصل العنصري؛ ومعه ظهرت المجتمعات السوداء في المدن الشمالية. ومع زحف السود على الأحياء البيضاء ازدادت التوترات الاجتماعية على طول الخطوط العرقية؛ الأمر الذي استغله "جارفي" باقتدار للترويج لسياساته. وقد سمح له هذا الجو من التكتلات بجذب قطاع عريض من السود إلى حركته وتبنّي أفكاره.
إلى جانب المناخ السياسي والاجتماعي استفاد "جارفي" أيضًا من الظروف الاقتصادية السائدة لعرض قضيته على السود؛ فقد اتسمت عشرينيات القرن الماضي بموجة من التضخم تسببت في مزيد من الإضرابات؛ نظرًا لأن معظم العمال كانوا يعيشون على رواتبهم قبل الحرب. مما دفع البيض اليائسين إلى التنافس على وظائف كانوا يرفضونها عادةً قبل الانكماش الاقتصادي؛ مستخدمين الرعب والترهيب لإجبار أصحاب العمل على طرد السود. الأمر الذي استغله "جارفي" ببراعة ليجعل المظالم الاقتصادية جزءًا أصيلاً في أجندته الداعية لقومية سوداء، فطالب بالتنمية والحرية الاقتصادية للسود. بهدف إنشاء بديل اقتصادي من تصميم السود أنفسهم وتحت سيطرتهم.
وفي مساعيه، استفاد "جارفي" أيضًا من المنتج الديموغرافي الأكثر تميزًا في هذا العقد، وهو "الزنجي الجديد" New Negro. و"الزنجي الجديد" هو رجل أسود زاد وعيه وإدراكه للظلم الذي ارتكبته الطبقة الحاكمة الأمريكية ضده، وأصبح على استعداد تام لفعل الكثير من أجل تحسين أوضاعه.
وقد قدمت أيديولوجية الزنجي الجديد، جنبًا إلى جنب مع الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة في عشرينيات القرن الماضي، أرضية انطلاقة مثالية لتوجهات "جارفي" الفكرية. ويرجع القبول السريع لأيديولوجية "جارفي"، إلى الإحباطات المتنامية للزنجي الجديد. فقد أصبحت هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها التنفيس عن مشاعرهم وتحقيق طموحاتهم".
ثالثًا: المنطلقات والإسهامات الفكرية لـ"جارفي":
سعى "جارفي" من خلال جهوده إلى مكافحة آثار الفصل والحرمان وتشويه السمات العرقية والتهميش الاقتصادي للسود، إلى جانب رفضه إضفاء الطابع المؤسسي على التسلسل الهرمي للأعراق، الداعي إلى دونية السود في أمريكا والخارج؛ وذلك من خلال منظمته الداعية لتحسين أوضاع الزنوج.
وعلى الرغم من أن منظمة "جارفي" UNIA كانت قاعدتها الرئيسية داخل أمريكا، إلا أن نطاقها كان دوليًّا. وهكذا، أصبحت منظمته أول منظمة إفريقية في القرن العشرين تُدين أمريكا علنًا؛ هذه الدولة الصناعية التي أصبحت محطّ أنظار العالم، لكنها كانت من وجهة نظر "جارفي" تمثل الإمبريالية البيضاء والنفاق السياسي والاستبداد الاقتصادي ضد السود على مستوى العالم.
فقبل ما يقرب من أربعين عامًا من شعار القومي الأسود "مالكولم إكس" Malcolm X: "بأي وسيلة ممكنة" by any means necessary أو قبل ستين عامًا من دعوة الناشط الحقوقي "جيسي جاكسون" Jesse Jackson: "ليبقى الأمل حيًّا" keep hope alive، أعطى "جارفي" الأمل للسود من خلال تبنّيه لأجندة سياسية يشرف عليها السود، تدعو للفخر العرقي، وانفصالية سوداء في مجتمعات مستقلة، فهو لم يكن يومًا يؤمن بالتكامل، وعلى العكس من ذلك كان يرى أن السود بحاجة إلى خَلْق هوية مستقلة عن تأثيرات البيض.
ومن خلال دراسة افتتاحياته في مجلة "العالم الزنجي" يمكن تلخيص مشروعه الفكري والسياسي في النقاط التالية:
1- إفريقيا للإفريقيين
شكلت دعوة "جارفي" لتأسيس أمة سوداء متطورة في إفريقيا سمة بارزة في دعوته لقومية إفريقية؛ حيث رأى أن العالم الغربي -وخاصة أمريكا- هو عالم الرجل الأبيض، الذي سيظل يتحكم في مكاسب السود الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولأنه كان محبطًا من التأييد الصامت لـلـ"كو كلوكس كلان" وأعمال الشَّغب العرقية مِن قِبَل غالبية الأمريكيين البيض؛ ورأى أن البديل المتاح أمام السود هو تأسيس وطن بديل في إفريقيا.
وأوضح "جارفي" أن حرمان السود من حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية يعود بشكل مباشر إلى حرمانهم من المواطنة أو الانتقاص منها. لذلك دعا "جارفي" إلى إقامة أمة سوداء على غرار تلك التي نهض بها "أوتو فون بسمارك" Otto Von Bismarck في ألمانيا بالقرن التاسع عشر؛ مع الأخذ في الاعتبار أن السود واجهوا النزوح من خلال تجارة الرقيق؛ فأصبح السود يعيشون في الشتات، بدلاً من أن يكونوا في موقع جغرافي مماثل لما كان عليه الألمان الذين شكَّلوا الأمة الألمانية في النهاية.
لكنَّه أكَّد أن المكان الأصلح لإقامة أمة سوداء هي إفريقيا، فهي أصل السود، وإليها يعود النسب وروابط الأسلاف. وفي إفريقيا يمكن إنشاء دولة متطورة منفصلة ومكتفية ذاتيًا، وهو الأمر الذي قد يمنح السود وسيلة فعَّالة لتجنُّب الاضطهاد العنصري وتطوير القِيَم بناءً على نظرتهم الخاصة للعالم.
إحدى الطرق التي طوَّر بها "جارفي" دعوته إلى إنشاء وطن للسود كانت من خلال تفكيك دستور الولايات المتحدة فيما يتعلق بالسود. على سبيل المثال، دعا القراء إلى إدراك أن دستور الولايات المتحدة يكرّس لدونية السود من خلال تسوية "ثلاثة أخماس"، كما أنه لم ينص على أحكام المواطنة للسود الأحرار.
وسعى بدلًا من ذلك إلى تخلي السود عن الدستور، واصفًا تمسكهم بالدستور بالإحساس الزائف بالانتماء كمواطنين للولايات المتحدة. حتى مع التعديل الرابع عشر، كانت رؤية "جارفي" تتمتع بالمصداقية في ضوء القرارات التي اتخذتها المحكمة العليا، والتي فسَّرت التعديل بطريقة قيَّدت حقوق السود داخل أمريكا؛ وهو الأمر الذي أكَّد على صحة فرضية "جارفي" القائلة بأن أمريكا ليست مكانًا للسود؛ وفي هذا الصدد، قال لقرائه: "معاناتُنا هي دليل إيجابي على أن الدساتير والقوانين حين تم تأطيرها من قبل المدافعين الأوائل عن الحرية الإنسانية، لم تشمل السود ولم تقصدهم كشعب".
ولدعم فكرته؛ سعى "جارفي" إلى محو أيّ ولاء من العقول السوداء للسياسة البريطانية والأمريكية. وجادل بأن الأسباب السياسية والاقتصادية، وليس مفاهيم المساواة، هي التي أدَّت إلى إلغاء العبودية على نطاق وطني في الولايات المتحدة. وأشار إلى أن قرار "أبراهام لنكولن" Abraham Lincoln بتحرير العبيد هو مجرد محاولة لتأمين النصر في الحرب الأهلية الأمريكية، وليس امتدادًا للمساواة. وأن تحرير العبيد في جزر الهند الغربية البريطانية، لم يكن عملاً من أعمال الرحمة، ولكنه كان ضمن إجراءات اقتصادية في ظل صعود التصنيع الذي غيَّر المجتمعات الزراعية الغربية، التي اعتبرت العمالة المستعبَدة عبئًا لا تستطيع تحمُّله.
ومع ذلك، فإن زوال العبودية لم يمحُ مفهوم التفوق الأبيض على السود. لذلك فإن "جارفي" يعتقد أن السود لا ينبغي أن يفسروا وضعهم كمواطنين على أنه مساواة. بل وصفه بقوله: "نحن نعيش في حضارة غريبة تفرض علينا اقتضاء واتباع كل ما يفعله الرجل الأبيض. ولن نخرج من هذه البيئة إلا إذا امتلكنا إرادتنا الخاصة لخلق البيئة التي تناسبنا".
وحث أتباعه على تبنّي فكرة إنشاء دولة إفريقية ذات بِنْيَة تحتية قوية للمنافسة في السوق الدولية؛ حيث قال: "إن الاكتفاء بالشرب حتى الثمالة من كأس التقدم البشري للبيض لن يثبت أحقيتنا كشعب للعيش جنبًا إلى جنب مع الآخرين على قدم المساواة؛ طالما بقينا خاضعين لإرادة ونزوات الأعراق التقدمية فلن نستفيد شيئًا؛ ولكن عندما نملك المبادرة لبناء مصانعنا، وتشكيل الحكومات، للتأسيس لإمبراطورية إفريقية، عندها فقط سنثبت للإنسانية كلها أننا مؤهلون للبقاء".
2- الفخر بالعِرْق وإفريقيا ضرورة للقومية السوداء
اعتمدت مهمة "جارفي" لغرس الفخر بالعرق الأسود أشكالًا مختلفة؛ فقد اعتبر الفخر بالعرق خطوة ضرورية لتحقيق القومية السوداء؛ حيث لا يمكن لأيّ عرق أن يتطور بحق إذا لم يكن لديه أيّ حب أو فخر بهذا العرق الذي ينتسب إليه. ويرى أن تحرُّر العقل الزنجي من القيود الأيديولوجية التي فرضها البيض ستؤدي فعليًّا إلى تطور السود اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا بصورة أفضل؛ وهو الأمر الذي سيُكسب السود الثقة لكي يفخروا بعرقهم؛ فالفخر بالعرق يمثل لبنة مهمة في تصور "جارفي" للقومية السوداء.
ونظرًا لأن تطوير الفخر العرقي كان ضروريًّا لبرنامج "جارفي" القومي، فقد دعا إلى "المركزية الزنجية" Negrocentric لمواجهة المركزية الغربية البيضاء. واستخدم مقالاته الافتتاحية في صحيفته لنشر هذه الأيديولوجية، وطالب السود بتجاهل القيادة وعدم الاستماع إلى أيّ نصائح تأتي من خارج العرق. واستخدم لدعوته وفلسفته الجديدة مصطلح "الأصولية الإفريقية" African Fundamentalism. ناصحًا قراءه بضرورة تبنّي الثقافة الإفريقية؛ وتجنُّب قدر الإمكان الثقافة البيضاء؛ حيث قال: "نحن بحاجة إلى انعتاق جديد؛ حيث التحرر من التعليم الأجنبي، والتأثير الأجنبي، والبيئة الغريبة... ونحتاج كذلك إلى بناء ثقافة وحضارة خاصة بنا. فأيّ شعب يخضع لثقافة وحضارة الآخرين سيصبح حتمًا عبدًا وتابعًا لأصحاب هذه الثقافة".
وبهذا لم يكن "جارفي" مؤمنًا بالفصل العنصري وحسب، لكنه ذهب إلى المطالبة بضرورة الفصل الأيديولوجي كشرط أساسي لتحقيق أجندته القومية. معتقدًا أن التخلّي عن الأيديولوجيات القديمة من شأنه أن يمنح السود حرية صياغة أفكار جديدة تعود عليهم بالفائدة؛ "فالأفكار السوداء المفيدة للعرق ستعزز بلا شك فخر السود بعرقهم".
وفي ترويجه للفخر العرقي كعنصر أساسي لقوميته السوداء، حث "جارفي" قراءه على توخّي الحذر من دعاية العرق الأبيض المضادة؛ "ذلك لأن البيض يسيطرون بشكل فعَّال على وسائل الإعلام الرئيسية، وبهذا استطاعوا في كثير من الحالات تهميش السود وتشويه سمعتهم". وضرب مثالًا بما قام به المخرج "ديفيد وارك جريفيث" D.W. Griffith في عام 1915م حينما صوّر السود كمجرمين كسالى ومغتصبين في فيلمه "ولادة أمة".
ولحثّهم على الفخر العرقي، أخبر "جارفي" قراءه من السود أن أصولهم الإفريقية محل فخر واعتزاز؛ فالتاريخ والواقع خير شاهد ودليل على الحضارة المصرية والاثيوبية في إفريقيا. وطالب قراءه أن يرفضوا التبريرات الغربية للعبودية بدعوى مواجهة البربرية الإفريقية، وأن التنصير كان بدعوى نشر التحضُّر بين السود، متجاهلين الثقافات العظيمة للسود في إفريقيا، على غرار إمبراطوريات غانا ومالي وسونغاي. لذا فعلى السود أن يفخروا بتاريخهم وثقافتهم الإفريقية.
وفي نهجه متعدد الأوجه لغرس الفخر العرقي، شجب "جارفي" ما وصفه بـ "روح العبيد" slave spirit والتي استمرت بين السود بعد التحرر؛ وطالب السود بتخليص أنفسهم من هذه الروح التي وصفها بالانهزامية لاعتمادها في كل شيء على البيض. ففي واحدة من هجماته اللفظية العديدة على "الجمعيَّة الوطنيَّة للنهوض بالملوّنين" National Association for the Advancement of Colored People (NAACP)، أشار "جارفي" إلى أن قيادة هذه الجمعية تدين للبيض إدارة وتمويلًا. وفسَّر ذلك بأن القيادات السوداء في الجمعية تعتمد على البيض بدلًا من الوثوق بإمكاناتهم وقدراتهم على فعل ذلك بمفردهم. لذا فقد أسَّس منظمته الخاصة كمثال على كيفية اعتماد السود على أنفسهم في تأسيس وتنظيم مؤسسات تقوم على خدمة مصالحهم.
وانتهي "جارفي" إلى اعتقاد بأن السود لكي يحصلوا على أيّ مستوى من الاستقلال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، يجب أن يكونوا قادرين على التفكير بأنفسهم؛ وإلا فإن السود سيظلون أسرى لروح العبد، وحبيسي الحدود الاجتماعية والسياسية للأعراق الأخرى. واعتبر تطوير الذات والفكر هو وسيلة السود وإفريقيا للتحرر النهائي، وكلاهما من المتطلبات الأساسية في مشروع جارفي القومي.
3- التنمية السوداء ضرورة للقومية السوداء عند جارفي
في خطبه ومقالاته الافتتاحية أشار "جارفي" إلى أن تنمية السود جزء أصيل من البنية التحتية للقومية السود. ولتحقيق هذه التنمية ناشد قراءه بأربعة أشياء: أولًا، ضرورة إدراك أن تطورهم يعتمد بالأساس على جهودهم الخاصة، وبالتالي عليهم أن يكونوا سبّاقين في تحقيق ذلك. ثانيًا، لكي يتحقق هذا التطور، شدَّد "جارفي" على ضرورة امتلاك السلطة. والتي تتخذ أشكالًا مختلفة؛ علمية وعسكرية واقتصادية. ثالثًا، رأى أن السود بحاجة إلى إقامة علاقات اقتصادية أوثق مع بعضهم البعض لتسهيل هذا التطور. وأخيرًا، دعا إلى وحدة عالمية للأفارقة لتذليل العقبات التي تحول دون تنميتهم.
وبالعودة إلى النقطة الأولى والتي دعا فيها السود إلى التطور، والذي لن يحدث إلا من خلال جهودهم الخاصة. سعى "جارفي" إلى غرس الثقة في أعضاء عرقه، محذرًا قراءه من فقدان هذه الثقة؛ حيث قال: "يجب عليكم ألَّا تنسوا أننا نعيش في عصر المنافسة الشديدة؛ فالأمة تنافس الأمة، والعِرْق ينافس العِرْق، والفرد ينافس الفرد في معركة كبرى من أجل البقاء للأصلح. ماذا ستفعل إذا لم تبذل أيّ جهد للبقاء على قيد الحياة، حتمًا ستُهزَم وتموت موتًا مخزيًا غير مأسوف عليك. أملي أن هناك الكثير من الزنوج في العالم بحيث لا يمكن لهذا العرق أن يموت بشكلٍ مخزٍ"؛ بهذه الكلمات حاول "جارفي" استنارة القراء بالطبيعة التنافسية للاقتصاد العالمي، ودعاهم إلى الثقة والمنافسة.
ولكي تتحقق هذه المنافسة يجب على السود أن يكون لديهم إنجازات صناعية واقتصادية ملحوظة؛ حيث اعتبر عدم الاحترام الممنوح للسود من قبل الجماعات الأخرى ناجم جزئيًّا عن عدم امتلاك السود لإنجازات صناعية واقتصادية ملحوظة، وهذا راجع إلى اعتماد السود بشكل كبير على البيض اقتصاديًّا. لذا كان "جارفي" حازمًا حين تمسك بفكرة أن السود يجب أن يغيّروا هذا الموقف بشكل جذري من أجل كسب احترام الآخرين، والأهم من ذلك تحقيق القومية السوداء.
واعتبر الاستقلال السياسي لا يقل أهمية عن الاستقلال الاقتصادي؛ فقد كان مقتنعًا بأن السود لا يستطيعون النمو بدون هذا الاستقلال. كان يعتقد كذلك أن السود لا يستطيعون تحسين أوضاعهم الاقتصادية بسبب الفرص التعليمية المحدودة الممنوحة لهم، والعنف الذي يُمارسه البيض ضدهم إلى جانب الحرمان من أقل الحقوق.
وعن حاجة الرجل الأسود للسلطة أو القوة؛ يعتقد "جارفي" أن اكتساب السود للسلطة أمر حاسم لتطورهم. ففي ظل عالم تهيمن عليه القوى الأوروبية والولايات المتحدة بشكل بشكل كبير يجب على السود معالجة هذا الموقف من خلال تنظيم أنفسهم لتقديم جبهة أكثر قوة. وبأن الكلمات لا تكفي وحدها؛ فدولة مثل "بريطانيا" ذات الجيوش القوية، استطاعت فرض إرادتها على المناطق الأضعف وتحويلها إلى مستعمرات بريطانية. واعتبر "جارفي" أن السلطة التي يحتاجها السود هي بالأساس تتمثل في القومية السوداء.
فالقومية من وجهة نظره لا تكون إلا بالتآزر والترابط والتلاحم؛ حيث قال: "دعونا نطور تجارة تزيد من لُحمتِنا؛ نتبادل من خلالها أفكارنا التجارية والصناعية؛ ولينغمس زنوج جزر الهند الغربية في اتصالات تجارية أوثق مع زنوج أمريكا. وتصل زنوج أمريكا الشمالية إلى الفرص التجارية التي يقدمها الزنوج في أمريكا الجنوبية والوسطى وإفريقيا، فالرجل الأبيض حقَّق عظمته حين أقام رابطًا تجاريًّا مع آسيا وأوروبا وإفريقيا والأميركتين، فاستطاع بناء دول وإمبراطوريات قوية وتأسيس هيكل تجاري لا يزال قائمًا، إذًا فلنصنع رابطًا خاصًّا بنا".
وخلص "جارفي" إلى ضرورة الاتحاد بين الأفارقة في كل مكان، ورفع من أجل ذلك شعار: "يا أفارقة العالم اتحدوا"؛ حثّ من خلاله على وحدة السود لتحسين فرصهم في التطور. وانعكست مطالباته بهذه الوحدة في شعار رابطته: "إلهنا واحد، وهدفنا واحد، ومصيرنا واحد". وجادل بأن الانقسام يمنع تطور العرق، ويؤدي في النهاية إلى هلاك العرق بأكمله. ونصح السود بقوله: "إن الانقسام الداخلي شرٌّ قد يُدمر وجودنا كشعب، وإذا لم نتحرك بجدية وسرعة في اتجاه إعادة التكيف، فمصيرنا حتمًا إلى زوال".
4- لماذا يجب على إفريقيا أن تكون حرة؟
يُعدّ تحرر إفريقيا من نَيْر الاستعمار والاستغلال من بين الركائز الأساسية للقومية السوداء التي دعا إليها "جارفي". ففي عام 1885م، بسبب التكالب على استعمار إفريقيا قامت القوى الاستعمارية في "مؤتمر برلين" بتقسيم القارة فيما بينها. وفي أقل من عقدين نجحوا في تقسيم القارة الشاسعة. ويعتقد "جارفي" أن هذا التقسيم وتبعاته هو أخطر ما واجهه السود وإفريقيا معًا خلال القرن العشرين؛ فالتقسيم هو العائق الأكبر الذي وقف في طريق السعي لتحقيق القومية السوداء.
ويعتقد "جارفي" أنه لكي يستطيع السود بناء كيان سياسي وجغرافي للقومية السوداء خاص بهم، فعليهم أولًا أن يطردوا الحكام الأوروبيين من إفريقيا، ويواصلوا تنميتها بأنفسهم. فبدون الحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لن يستطيع السود تطوير أنفسهم. وفي ظل سيطرة البيض على إفريقيا، واجه السود الفصل العنصري، والتأخر الاقتصادي؛ الأمر الذي جعل "جارفي" يدعو إلى احتضان إفريقيا وتبنّي شعار "الخلاص الإفريقي".
واعتبر أن حرية إفريقيا هي الحل السحري لمشاكل العرق ومعاناة الأمريكيين السود. الأمر الذي يعكس فلسفة "جارفي" القائلة بأن الصراع بين السود والبيض ينبع من عدم رغبة البيض في مشاركة مجتمعاتهم مع السود. ومن ثَمَّ، فإن تحرر إفريقيا سيساهم في اختصار المسافات لإقامة علاقة أكثر انسجامًا بين الأعراق. وأشار "جارفي" إلى أن هذا الحل يهدف إلى استحواذ السود على مكان ما لبناء مجتمعاتهم. وهكذا، ربط "جارفي" حرية إفريقيا بالمواقف غير المواتية للسود؛ حيث خاطب السود بقوله: "لا تبتعد عن إفريقيا؛ لأن إفريقيا ستكون الخلاص والحل الوحيد لهذه المشكلة العِرْقِيَّة الكبرى في أمريكا والعالم الغربي.. لماذا لا نساعدها على التخلص من الأغلال التي وضعها الآخرون؟"
وبما أن السود في جميع أنحاء العالم تعود أصولهم إلى إفريقيا؛ طالب "جارفي بأن تكون إفريقيا وطن لجميع السود؛ حيث يقول: "إن إفريقيا تمثل تراث كل رجل أسود وكل امرأة سوداء". وأشار إلى أنه حين قام بتأسيس رابطته كان يهدف إلى توحيد السود وتحرير إفريقيا وإنشاء إمبراطورية قادرة على حماية نفسها من مخططات الدول الأخرى التي تسعى إلى إخضاعها.
ويقول "جارفي": "حان الوقت لشن حملة عالمية من أجل استرداد تراثنا. فعندما يُسلب من رجل ممتلكاته، ليس عليه أن يتوسل لاسترداد حقه، بل يذهب بكل جرأة للمطالبة بهذا الحق باسم القانون وباسم العدالة. فالآن وبعد أن سُلبت إفريقيا من الشعوب الزنجية، فليس عليهم التسول لاستردادها؛ بل عليهم أن ينظموا قواهم فكريًّا وماليًّا وصناعيًّا وتجاريًّا وسياسيًّا وماديًّا ويخرجوا للمطالبة بها".
واعتقد "جارفي" أن حرية إفريقيا ستحمي مواردها الطبيعية من الاستغلال المستمر مِن قِبَل الأوروبيين والأمريكيين البيض، وأن الاحتفاظ بمواردها سيساهم في تطوير السود. وتساءل: "لماذا يجب علينا أن نسمح لهم باستغلال أرض آبائنا والسيطرة عليها؟ إذا كان الأفارقة الأصليون غير قادرين على تقدير قيمة بلدهم، فعندنا نحن إخوانهم العلوم والمعارف التي يحتاجون إليها للمساعدة في تطوير البلاد من أجل المصلحة المشتركة. فمن الأفضل أن يَجْني الزنوج في أيّ جزء من العالم فوائد الثروة الإفريقية أكثر من أيّ عرقٍ آخر".
وبشكل مختصر؛ حاول "جارفي" حَشْد أتباعه وحثّهم على تحرير إفريقيا من هيمنة البيض، كخطوة نحو تحقيق القومية السوداء. وأشار إلى أن البيض احتلوا أراضي إفريقية، واستغلوا مواردها وهي في الأساس مِلْكٌ للسود. وسعى "جارفي" إلى إعلام السود بالإمكانيات الاقتصادية للقارة، والتي ينبغي أن يستفيد منها السود. لذا كانت حرية إفريقيا أمرًا حاسمًا لمفهوم "جارفي" عن القومية السوداء؛ حيث إن إفريقيا الحرة ستوفر الموقع الجغرافي لأمة السوداء إلى جانب الموارد الطبيعية اللازمة لتطوير هذه الأمة. وبذلك شكلت حرية إفريقيا إحدى سمات البنية التحتية لقومية "جارفي" السوداء.
5- التغلب على أعظم عدوّ للرجل الأسود
يعتقد "جارفي" أن أكبر عقبة في طريق تقدم السود تأتي من داخل العرق نفسه؛ ويمثل الاعتراف بهذه المشكلة المتأصلة ومعالجتها ميزة للبنية التحتية لقومية "جارفي" السوداء. فمع بداية القرن العشرين واجه السود انقسامات داخلية يمكن تلخيصها في نقطتين رئيسيتين؛ أولاً، قسّمت القوى الاستعمارية المتنافسة إفريقيا إلى عدة كيانات، وفرضت حدودًا إقليمية جديدة لم تراعِ التوزيع العرقي والإثني والقبلي. ونتيجة لذلك، تنافس أعضاء الجماعة الاجتماعية والسياسية الواحدة فيما بينهم لخدمة المصالح الاستعمارية. ثانيًا، عاش السود في الشتات خاضعين لتراتبية لونية تعود بالفوائد على البعض وتحرم البعض الآخر؛ الأمر الذي عزز الخلاف فيما بين أعضاء العرق أنفسهم. ورأى "جارفي" أن الدعوة إلى أمة سوداء فخورة بعرقها، ساعية لتحرير وتنمية إفريقيا، هي دعوة لأمة لا مكان فيها للانقسامات؛ التي قد تصبح العقبة الرئيسية أمام السعي لتحقيق القومية السوداء.
وحين تحدث "جارفي" عن الانقسامات داخل العرق كان يشير إلى وجهة النظر الداعية إلى الاندماج والتكامل مع البيض داخل أمريكا من جانب القيادة السوداء، وعلى الرغم من قبوله لأفكار "بوكر واشنطن" حول المساعدة الذاتية للسود وتطوير الذات، لكنَّه في المقابل خاض معركة فكرية مع المفكر "وليم ديبوا"، الذي كان يرى أن السود يمكن أن يزدهروا في الغرب إذا سعوا إلى الاندماج والتكامل مع البيض. الأمر الذي عارضه "جارفي" بشدة؛ حيث أكَّد على أن الغرب لم يكن مكانًا جيدًا للسود بسبب الاضطهاد العرقي؛ وأشار إلى عدم قدرة الحكومات الغربية على سنّ تشريعات للتخفيف من هذا الاضطهاد، ورأى أنه "لا يوجد قانون يمكن أن يزيل التحيز العرقي ضد السود". لذا فالحلّ الوحيد من وجهة نظره هو الفصل العرقي والهجرة إلى إفريقيا.
وتُعدّ الاختلافات بين كلا الرجلين انعكاسًا واضحًا لأيديولوجية منظمتيهما. وانعكست هذه الاختلافات على السياسة التحريرية لصحيفة "العالم الزنجي" التي كان "جارفي" يقوم بتحريرها، وصحيفة "الأزمة" The Crisis التي كان "ديبوا" يقوم بتحريرها. الأمر الذي جعل "جارفي" يضع "ديبوا" موضع الخصم، ووصفه بأنه كاره للسود وبخاصة أصحاب البشرة الداكنة. فقد أثار "ديبوا" غضب "جارفي" عندما وصفه بطريقة مهينة؛ حين قال عنه: "رجل أسود سمين قصير؛ قبيح، ولكن بعيون ذكية ورأس كبير". وتساءل "جارفي": "ماذا يعني "ديبوا" بكلمة قبيح؟ هل الأسود قبيح؟"
واتهم "جارفي" جمعية "ديبوا" بالعمل على توظيف السود ذوي البشرة الفاتحة في مكاتبها مراعاة للمناخ العرقي داخل "نيويورك"، فقد كان البيض يعتبرون السود ذوي البشرة الفاتحة أكثر ملاءمة للتوظيف؛ بسبب لونهم الخلاسي الذي جعلهم أقرب إلى البشرة البيضاء. وهو ما اعتبره "جارفي" عنصرية تؤصّل للانقسامات داخل العرق الواحد؛ لافتًا نظر قراءه إلى أن رابطته في المقابل تسعى إلى توحيد جميع السود وعدم التحيز لأحد.
بل ذهب "جارفي" إلى أبعد من ذلك حين وصف جميع السود المؤثرين المعارضين لأيديولوجيته بأنهم قادة زائفون؛ حيث بنى إدانته على معارضتهم لمشروع رابطته الداعي إلى إنشاء مجتمع من المهاجرين في "ليبيريا"، وتحضيره لهجرة عددٍ كبير من السود إلى ذلك البلد.
حدَّد "جارفي" إفريقيا باعتبارها المكان المثالي لتأسيس أمة سوداء؛ حيث مثلت فرص الاستقرار في "ليبيريا" الخطوة الأولى نحو هذا الإنجاز. وفسَّر "جارفي" معارضة هؤلاء القادة على أنها محاولة صارخة لخنق أحد المتطلبات الأساسية للقومية السوداء.
باختصار، يعتقد "جارفي" أن المشكلة الرئيسية التي تواجه السود هي الشقاق المتأصل بين أعضاء العرق أنفسهم؛ ولمواجهة ذلك دعا إلى قومية سوداء يترابط فيها الجميع ليشكلوا شعبًا واحدًا، يفخر بعرقه، ويسعى إلى تطوير وتنمية ذاته، وذلك لن يكون إلا من خلال الإقامة داخل إفريقيا واستغلال مواردها الغنية. لذا فإن نبذ الشقاق مثَّل سِمةً أساسية للبنية التحتية للقومية التي دعا إليها "جارفي".
6- إضفاء الجانب الروحي على القومية السوداء
من المعروف أن "جارفي" كان مسيحيًّا ينتمي إلى الكنيسة الكاثوليكية Roman Catholic، ثم عضوًا في "الكنيسة الأرثوذكسية الإفريقية" African Orthodox Church على وجه الدقة. وقد أظهر "جارفي" اهتمامًا كبيرًا بالكتاب المقدس –تحديدًا نسخة الملك جيمس-؛ وكثيرًا ما كان يستشهد ببعض آياته في خُطبه ومقالاته.
كانت إحدى الاقتباسات المفضلة لديه هي الآية: "يأتي العظماء من مصر، وإثيوبيا تمدّ يديها إلى الله" (مزمور 31:68)؛ باعتبارها نبوءة استدل بها سابقيه للدلالة على خلاص إفريقيا من الاستعمار. واستطاع "جارفي" من خلال هذا النص الكتابي ربط قوميته السوداء بإفريقيا. فدعا إلى العودة إلى إفريقيا، والوحدة والإيمان المشترك؛ حيث قال: "يمكننا أن نتخيل أنفسنا شعب واحد عظيم مُتحد، يؤمن بإله واحد، وله هدف واحد، ومصير مشترك".
وتمثلت السمة المميزة لإيمانه في اعتقاده بـ"إله أسود" Black God؛ "إله إثيوبيا" God of Ethiopia كما كان يسميه – سبحانه وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-، ومن خلال هذا المعتقد روَّج لنسخة إفريقية للمسيحية.
ولدعم معتقداته أشار إلى الآية: "فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ" (التكوين 27:1)، الأمر الذي جعله يُكيِّف الآية بشكل جديد "على أساس أن الإله الأبيض لا يمكن أن يكون إله السود؛ فإله السود يجب أن يكون أسود مثلهم". الأمر الذي جعله يرفض تفسيرات الكتاب المقدس المبنية على المركزية الأوربية، والتي ساهمت في اضطهاد واستعباد الإفريقيين.
إن تصور "جارفي" لمسيحية إفريقية يمكن فهمها على أنها ردّ شرعيّ على نسخة المسيحية الغربية التي لعبت دورًا مهمًّا في تأصيل العبودية والاستعمار. ومع ذلك، فعلى الرغم من أنها كانت نسخة إفريقية للمسيحية، إلا أنها تظل هي نفسها دين المستعمر.
ولأن الدين يمثل عنصرًا أساسيًّا في البنية التحتية لقومية "جارفي" السوداء؛ ذهب إلى وصف نضال السود ضد اضطهاد البيض بالصراع بين الخير والشر, وبأن السود يمثلون الخير بسبب ما تعرضوا له من إيذاء؛ وبما قدموا من كفاح ضد مخططات الظالمين البيض الذين يمثلون معسكر الشر.
واستشهد "جارفي" بالقهر الذي مارسه البيض على السود خارج إفريقيا، وربطه باستعمار القارة. وخاطب "رئيس أساقفة كانتربري" ورجال الدين في فرنسا والفاتيكان في إيطاليا والقساوسة الأمريكان والألمان والإفارقة متسائلًا: "لماذا أصّلتُم ودعمتُم ودعوتُم إلى استعمار إفريقيا واستعباد الأفارقة؟، ألسنا نصلّي إلى نفس الرب... ألا يبدو هذا مهزلة وكذب واستهزاء؟"
وبهذا سار "جارفي" على خطى مضطهديه بأن استخدم الدين –المسيحية- لتبرير أفكاره؛ حيث بشَّر بأن استعباد السود كان فداءً لإفريقيا، وأن عودة السود إلى إفريقيا هي نبوءة إلهية. وقد وفَّرت هذه التفسيرات ضمانة وحماية لتوجهاته القومية.
رابعًا: الدلالات الفكرية لـ"جارفي":
في كل عمل تقريبًا عن القومية الإفريقية تجد إشارة إلى تأثير "جارفي" على نمو الوعي العرقي داخل وخارج إفريقيا. فغالبًا ما يتم التأكيد على طبيعة هذا التأثير أكثر من تحليله. فقد أخبر ملك "سوازيلاند" زوجة "جارفي" أن الرجلين الأسودين الوحيدين اللذين يعرفهما في العالم الغربي هما "جاك جونسون" Jack Johnson، بطل الملاكمة، و"ماركوس جارفي". ويذكره الرئيس الغاني الأسبق "كوامي نكروما" Kwame Nkrumah بقوله: "كان لفلسفة [جارفي] وآرائه تأثير عميق على أفكاري خلال أيام الدراسة في أمريكا"، فعادة ما يتم الاستشهاد به وبأفكاره في حقل الفكر السياسي والقومية الإفريقية.
وقد أشار البروفيسور "إيسيان أودوم" E.U. Essien-Udom في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب "آراء وفلسفة ماركوس جارفي" Philosophy and Opinions of Marcus Garvey، إلى مدى "تأثير [جارفي] على الحركات الزنجية داخل الولايات المتحدة وفي إفريقيا". ويمكن الآن مع توفر المواد والمصادر الكافية إجراء تقييم أولي حول مدى وأهمية هذا التأثير؛ والذي يحتاج إلى دراسة أوسع وأكبر بطبيعة الحال.
وتعطينا دراسة أفكار وتوجهات "ماركوس جارفي" نافذة مباشرة على مرحلة مهمة لتاريخ السود في الشتات وتوجهاتهم نحو إفريقيا. كان هذا واضحًا من خلال معالجته لإنشاء أمة سوداء متطورة، تفخر بعرقها، وتسعى إلى تحرير إفريقيا من الاستعمار واستغلال مواردها لتنمية السود، ومراعاة صراع الأعراق والدور الروحي والديني في هذا الصراع، وكلها شروط أساسية لتحقيق قوميته السوداء.
فمع أيديولوجية حظيت بجاذبية عالمية، اكتسب "جارفي" مؤيدين له في الشتات وداخل القارة الإفريقية. ويعود ذلك جزئيًّا إلى منظمته وصحيفته "العالم الزنجي". هذه الصحيفة التي ساعد في انتشارها البحارة العاملون في شركته إلى جانب السود الآخرين بشكل غير قانوني في كثير من الأحيان، الأمر الذي منح "جارفي" رفاهية مخاطبة السود في أماكن لم يقم يومًا بزيارتها، ولا سيما قارة إفريقيا. واستطاع من خلال كلماته وبمهاراته الخطابية أن يقدم صياغة مقبولة لموضوعات ساعدت في تغذية مشاعر القومية السوداء في أماكن متنوعة من العالم.
وختامًا:
في كتابه "أزمة المثقف الزنجي" (1967م) The Crisis of the Negro Intellectual، جادل "هارولد كروز" Harold Cruse بمقولته الشهيرة: بأن "التاريخ الزنجي الأمريكي هو في الأساس تاريخ للصراع بين القوى التكاملية من ناحية والقوى القومية من ناحية أخرى في السياسة والاقتصاد والثقافة، بغضّ النظر عن القادة المشاركين في هذا الصراع، وما هي الشعارات المُستخدمة".
فالحقيقة أن دعاة الاندماج والمطالبين بالقومية كلاهما فشل في تقديم إجابات واضحة لهذه التساؤلات: هل البيض بالفعل كانوا يمتلكون الإرادة الحقيقية لتقديم التضحيات اللازمة لتحقيق المساواة العرقية؟ وهل إقناع البيض بالسير في هذا الاتجاه أفضل لتحقيق المساواة العرقية أم أنه تفكير البلهاء؟ وهل النظام العالمي الذي شيَّدته العبودية والعنصرية والرأسمالية قابل للتكيُّف بما يكفي لتحقيق خطابها الكوني؟ أم يجب تصميم مركزية جديدة -مركزية إفريقية– لتكون بمثابة قوة موازنة؟ وهل هناك مسار لإنهاء الاستغلال والاستعمار المباشر وغير المباشر الذي لا يزال يسيطر على القارة منذ زمن طويل، أم يجب الإطاحة بهذا التسلُّط بشكل جذري؟ وهل مثل هذه الثورة يمكن لها النجاح؟
هنا يمكن الاستفادة من أفكار "جارفي" وحركته الجماهيرية في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى؛ فقد أعادت الفكر القومي إلى الحياة بعد أن عانى أصحابه من التهميش والإبعاد. فخلال الحرب، أمر القادة السود والمثقفين وأشهرهم "وليم ديبوا" الأمريكيين الأفارقة بـ"توحيد الصفوف"، وتقديم الدعم للجهود الحربية كجزء من حسابات استراتيجية مفادها أن اللحظة التاريخية تفرض على الجميع تبنّي أجندة وطنية.
هذه الجهود التكاملية لم تفلح في منع العنصرية وإيقاف "مذبحة سان لويس" East Winch Common، الأمر الذي دفع "جارفي" إلى قيادة حركة زنجية جديدة تبنَّت شعار "إفريقيا للإفريقيين"، والدعوة إلى عودة السود إلى إفريقيا. واستند في ذلك إلى أن النساء والرجال السود لن يحققوا أبدًا الحرية إذا عملوا ضمن متاهة النظام العالمي الذي يقوده الغرب، ولكن يجب عليهم إنشاء مركز تنافسي للسلطة والقوة كشرط مسبق لعلاقات المساواة الحقيقية، واعتمد في ذلك على تاريخ طويل وغني أطلق عليه "سيدريك روبنسون" Cedric Robinson اسم "التقليد الراديكالي الأسود" Black Radical Tradition والذي حاربه الغرب بشدة، ورفضه بشكل جذري، لكنه يظل خيارًا مطروحًا يظهر بين الحين والآخر.
_________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Campbell, Clifford C. Between the Lines: Marcus Garvey's Black Nationalism and His Negro World Editorials. Diss. West Chester University, 2005
Cronan, E. David. The Story of Marcus Garvey and the Universal Negro Improvement Association. Madison University of Wisconsin Press, 1969
Dagnini, Jérémie Kroubo. "Marcus Garvey: A Controversial Figure in the History of Pan-Africanism." Journal of pan African studies 2.3 (2008)
Ewing, Adam. "The Challenge of Garveyism Studies." Modern American History 1.3 (2018): pp. 399-418
Garvey, Marcus. Message to the people: The course of African philosophy. No. 7. The Majority Press, 1986
Grant, Colin. Negro with a hat: The rise and fall of Marcus Garvey. Oxford University Press, 2008
Hart, Richard. "The life and resurrection of Marcus Garvey." Race 9.2 (1967): pp. 217-237
Langley, Jabez Ayodele. "Garveyism and African nationalism." Race 11.2 (1969): pp. 157-172
Lawler, Mary, and John Davenport. Marcus Garvey: Black Nationalist Leader. Infobase Publishing, 2009
MCGUIRE III, ROBERT GRAYSON. Continuity in Black Political Protest: The Thought of Booker T. Washington, WEB DuBois, Marcus Garvey, Malcolm X, Joseph Casely Hayford, Joseph B. Danquah and Kwame Nkrumah. Columbia University, 1974
Schluter, Nancy Hurd. Marcus Garvey as theologian. Drew University, 2001