ترجمة : د. محمد عبدالكريم أحمد
باحث بمعهد الدراسات المستقبلية – بيروت
تحضر إفريقيا في أجندة اهتمامات القوى الآسيوية المختلفة كساحة مهمَّة لتعزيز علاقات هذه القُوَى الثنائية مع دول العالم، إضافة إلى تلبية حاجاتها للهيمنة والنفوذ وتوسيع إمكانات وصولها للأسواق العالمية. ويمكن تلمُّس ذلك في الأدوار الهندية والصينية على وجه التحديد، وبدرجة أقل في أدوار بقية القوى الآسيوية المهمة مثل تايوان على سبيل المثال، الأمر الذي يتصاعد راهنًا مع قرب انعقاد قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي في سبتمبر 2021م.
وفيما صعّدت الهند في الأسابيع الأخيرة دبلوماسية إعادة الانخراط في الشؤون الإفريقية عبر بوابتها الأثيرة: كينيا، فإن ذلك التصعيد يظل بحاجة إلى مضاعفة جهود الهند الاقتصادية والعسكرية داخل القارة الإفريقية حتى تتمكّن من منافسة التأثير الصيني الذي فاق كافة أدوار شركاء القارة في السنوات الأخيرة.
وتعوّل الهند في مقاربتها تلك على علاقات وطيدة للغاية مع دولتين إفريقيتين في المرحلة الحالية، وهما كينيا وجنوب إفريقيا، بينما تُحقّق اختراقًا تكنولوجيًّا ناجحًا في كبرى دول القارة عددًا في السكان: نيجيريا. وتعزّز الهند ميزانها التجاري مع القارة ككل؛ حيث بلغت صادرات الهند لإفريقيا في العام 2019-2020م نحو 14 ضعف إجمالي وارداتها من دول القارة، في مؤشّر واضح على طبيعة العلاقات الهندية- الإفريقية التي يقع في قلبها هيمنة اقتصادية وعدم تكافؤ في التجارة وعدم تطور العلاقات التاريخية الممتدة بين الطرفين إلى علاقات شراكة حقيقية تعود بالفائدة "المتوقعة" على الدول الإفريقية.
أما الصين فإن نفوذها في القارة يشهد تحولات مهمة منها فرض مشروطيات سياسية لسياسة الاستثمارات والقروض الصينية، إلى جانب المخاطر المتزايدة للقروض الصينية وبدء تعثّر العديد من الدول الإفريقية (أبرزها حاليًا زامبيا بعد أنجولا وزيمبابوي في الفترة السابقة).
وتتبلور طبيعة المقاربات "الآسيوية" للقارة الإفريقية في أزمة "الحرب الباردة" بين الصين وتايوان في القارة، وفي حالة دولة "إيسواتيني" (سوازيلاند السابقة)؛ حيث تضاعف الصين ضغوطها عليها لقطع علاقاتها مع تايوان، وتضمنت هذه الضغوط فرض عزلة سياسية متزايدة على ملكها مسواتي الثالث عشية انعقاد قمة "منتدى التعاون الصيني- الإفريقي" المقررة في سبتمبر المقبل.
انخراط الهند المتصاعد في إفريقيا([1]) :
شهدت الشهور القليلة الماضية تصاعد الاهتمام الهندي بالعديد من دول القارة الإفريقية، وقام عدد كبير من المسؤولين الهنود رفيعي المستوى بزيارات رسمية في محاولة لتمهيد الطرق أمام الحضور الهندي في القارة، مع انخراط ثنائي دائم واتفاقات شراكة قائمة بالفعل، أو آخذة في التطور. ويمكن تلمُّس ذلك في الزيارة الأخيرة لوزير الشؤون الخارجية سوبرامنيام جاي شانكار S. Jaishankar للترأس المشترك لاجتماع "المفوضية الهندية الكينية المشتركة" India- Kenya Joint Commission في يونيو من العام الجاري.
وباعتبار كينيا موطنًا لنحو 80 ألف شخص يُصنّفون على أنهم "أشخاص من أصل هندي" و20 ألف مواطن هندي، فإنها تُعَدّ (بالنسبة للهند) على نطاق كبير البوابة إلى القارة الإفريقية. وفي أعقاب الزيارة ناقش ممثلو كينيا والهند مجموعة من القضايا محل الاهتمام الثنائي والإقليمي والعالمي. وتضمَّنت هذه المناقشات الشراكات التنموية في نموذج نجحت الهند من خلاله –حسب كاتب المقال- في تعزيز صورتها كأحد أبرز شركاء إفريقيا في مجال التنمية.
وبمقتضى مبادرة الهند المعروفة باسم Vaccine Maitri فإنها منحت نحو 150 طنًّا متريًّا من الإمدادات الطبية لخمسة وعشرين دولة إفريقية. إضافة إلى ذلك قدّمت الهند 25 مليون جرعة من التطعيمات، تم إنتاجها محليًّا في الهند إلى 42 دولة في إفريقيا. بأيّ حال فإن الموجة الثانية من كوفيد-19 التي كانت قد ضربت الهند بقوة في شهري أبريل ومايو قد مثَّلت –في واقع الأمر- ضربة قاصمة لبرامج التطعيمات في الدول الإفريقية التي اعتمدت في الغالب على إمدادات من مبادرة "كوفاكس" COVAX للمشاركة في التطعيمات. ورغم هذه التراجعات والتحديات الأخرى على جبهات عدة، فإنَّ الهند أقدمت بالشراكة مع جنوب إفريقيا على تقديم دعم هائل لتوفير براءة اختراع إنتاج المصل محليًّا من منظمة التجارة العالمية.
ويمكن أن يوفّر هذا الجهد على الدول الإفريقية بلايين الدولارات، ويعمّق قدرة الدول النامية على تصنيع الأمصال والمنتجات الطبية المهمة الأخرى. كما فتح مبادرة الهند- جنوب إفريقيا المشتركة إمكانات متنوِّعة أمام دول نامية أخرى للاستكشاف، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالإمدادات الطبية المهمة.
وإضافة إلى الاعتبارات التاريخية والجغرافية الحاكمة للعلاقات الهندية الإفريقية فإن هناك نموًّا غير مسبوق في العلاقات التجارية والاستثمارية للهند مع إفريقيا. ونمت تجارة الهند مع إفريقيا من 52 بليون دولار قبل نحو عقد بمسار سريع للغاية بنسبة 29.5% لتصل إلى 68 بليون دولار. وفي نفس الفترة ما بين أعوام 2010-2011، و2019-2020م، ارتفعت الصادرات الإفريقية للهند بنحو 5 بلايين دولار، ممَّا مثَّل تكوين سوق جديدة أمام السلع الإفريقية في الهند. وفي فترة زمنية وجيزة كان هناك 1 من كل 10 سلع تصل إفريقيا من الخارج تأتي من الهند. كما نجحت الهند، رغم الصعوبات، في أن تصبح ثامن أكبر مستثمر في إفريقيا عبر مشروعاتها المشتركة في القطاعين العام والخاص.
وتركز الهند بشكل واضح على الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا؛ حيث تمكنت من تثبيت حضورها القويّ في هذا القطاع. وعلى سبيل المثال: عندما حجبت الحكومة النيجيرية مؤخرًا "تويتر" عملت شركة هندية صغيرة بادئة في مجال شبكات المدونات blogging network start-up، وهي شركة كوو Koo، على نيل متابعة كبيرة وقاعدة مستخدمين نشطة في أكبر دول القارة الإفريقية سكانًا، بل وانضمت الحكومة النيجيرية رسميًّا للشبكة مع استخدام اللغات الإفريقية المحلية التي أُضيفت للمنصة، وقاد هذا التوسع إلى ارتفاع قيمة "كوو" السوقية خمسة أضعاف لتبلغ مائة مليون دولار أمريكي في غضون شهور قليلة من تكوينها. غير أن المقاربة الهندية لإفريقيا تظل رهنًا بمقاربة الصين وتحركاتها في ضوء طبيعة التنافس بين البلدين الآسيويتين.
مخاطر الإقراض الصيني لإفريقيا([2]):
شغلت أحجية لماذا توجد دول أغنى من دول رجال الاقتصاد منذ فجر هذا العلم. ومن عوامل فهم هذه الأحجية عامل الوصول لرأس المال. إن لم تستطع دولة ما تمويل بناء البنية الأساسية فكيف لها أن تأمل في ازدهار تجارتها؟ وفي حالة المناطق الأكثر فقرًا في إفريقيا وأماكن أخرى تكون الإجابة في الأغلب السعي للحصول على دعم الحكومات الأجنبية ومن بينها الصين.
وتعني مبادرة الحزام والطريق Belt and Road Initiative، المصحوبة بالقروض من بنوك التنمية الصينية، أن الصين تفوقت على الدول الغربية باعتبارها أكبر مقرض حكومي للقارة الإفريقية. ويظهر بحث أعدّه كل من ستيفاني جريفيث-جونز Stephaney Griffith-Jones من جامعة كولومبيا وماركو كاريراس M. Carreras من جامعة سوسيكس Sussex أن الصين مسؤولة عن 13% من إجمالي حجم الإقراض الثنائي منذ العام 2015م. ويليها الولايات المتحدة التي تستحوذ على 4% فقط من حجم هذه الديون.
وأعلن بعض الاقتصاديين الغربيين عن مخاوفهم إزاء طبيعة ممارسات الإقراض الصينية. وحتى وقت قريب فإنَّ شروط هذه القروض -مثل حالة القروض الحكومية الثنائية بشكل عام- اكتنفتها السرية. لكنَّ تعاونًا بحثيًّا مدهشًا من معهد بيترسون للاقتصادات الدولية Peterson Institute for International Economics، ومعهد كيل للاقتصاد العالمي Kiel Institute for the World Economy، وأيداتا AidData، ومركز التنمية العالمية Center for Global Development يُظْهِر الكثيرَ عن كيفية إقراض الصين للدول الإفريقية.
وهناك مكاسب للإقراض الصيني؛ "إذ تضع مزيدًا من الضغط على الولايات المتحدة والأوروبيين لتقديم مزيد من الائتمانات"؛ حسب جريفيث-جونز، "كما أن مدة القروض التي تقدمها ليست قصيرة المدى في العادة. ففيما لا تشارك الصين في "نادي باريس"، الذي تستخدمه الحكومات الغربية للتفاوض على إعفاءات الديون السيادية؛ فإن المقرضين الصينيين أعادوا هيكلة القروض في الماضي، ويبدو أنهم مستعدون حاليًّا للتفاوض حول ترتيبات السماح للمقترضين بتأخير المدفوعات المستحقة. ومع تراجع الحكومات الغربية فإنه لا يوجد لدى بعض الدول سوى خيارات قليلة للغاية حال استبعاد الصين.
وقد ارتفعت مخصَّصات الديون متعددة الأطراف التي يقدمها البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي لكن بمستويات غير كافية. والآن فإن الدول الإفريقية ربما تكون أكثر قلقًا إزاء رغبة بكين في تحجيم الاستثمار الخارجي من شروط تقديمها للدعم.
ومن اللافت أنه عندما أصبحت زامبيا أول دول إفريقية تتعثر في الوفاء بالتزاماتها إزاء ديونها السيادية خلال فترة جائحة كوفيد-19 بعد تفويت مدفوعات مستحقة على سندات باليورو في نوفمبر 2020م؛ فإن المقرضين طلبوا مزيدًا من المعلومات حول التزامات زامبيا للمقرضين الصينيين. ولا يرجّح أن تكون زامبيا آخر دولة إفريقية تدخل في مشكلات من هذا القبيل. وأبرز صندوق النقد الدولي الخطر المرتفع للتعثر في السداد في العديد من الدول الفقيرة، مع دعوة المدير التنفيذي للصندوق كريستالينا جورجييفا Kristalina Georgieva جميع المقرضين –بمن فيهم من الصين- بالعمل على الإعفاء من الديون.
إنَّ حلّ الأحجية وتضييق الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة سيتطلب مزيدًا مما يتم القيام به فعليًّا في الوقت الراهن. وهناك حاجة للعمل الجماعي والشفافية ليس فحسب لعملية الإعفاء من الديون، ولكن لتمديد الائتمان.
"إن إقراض الاقتصاديات الفقيرة مخاطرة مرتفعة للغاية، وربما تكون بحاجة للتعهد بأصولها،" حسب متخصصين. لكنَّ المقرضين يحتاجون لمعرفة كيف يمكنهم القيام بذلك بطريق منسقة، ومِنْ ثَمَّ لا نرهن جميع موارد الدول المعنية قبل أن تكون لها فرصة للوقوف على قدميها.
إيسواتيني: آخر شركاء تايوان في إفريقيا([3]):
وضعت المظاهرات المؤيدة للديمقراطية في إيسواتيني البلاد على مسار غير مؤكّد، وتبقى بكين مراقبة لصيقة لهذه الدولة في ضوء إبقاء تايوان على صلات وثيقة مع الدولة الصغيرة في إفريقيا الجنوبية عبر حاكمها المطلق الملك مسواتي الثالث Mswati III.
والآن هناك احتمال حقيقي بإمكان أن تُغيّر الاحتجاجات التي يقودها الشباب، وهي احتجاجات غير مسبوقة من حيث حجمها وكثافتها، الأمور بالنسبة للملك مسواتي الثالث وانضمام إسواتيني (المعروفة سابقًا باسم سوازيلاند) للدول الثلاث والخمسين في القارة الإفريقية التي تقيم علاقات مع الصين. ومنذ عودة سفير الصين السابق في جنوب إفريقيا المجاورة، المفوه لين سونجشيان Lin Songtian إلى بكين في العام الماضي 2020م، يبدو أن الصين قد عادت لمواقفها التي ذكرها مبعوث الصين الخاص لإفريقيا زو جينجهو Xu Jinghu في قمة "منتدى تعاون الصين- إفريقيا" Forum for China-Africa Cooperation في بكين 2018م بأن "الصين لن تمارس أيّ ضغوط" على إيسواتيني لقطع علاقاتها مع تايوان... بل سننتظر الوقت الملائم" لذلك.
وفي القمة ذاتها قال مسؤول آخر: إنه رغم اتهام تايبيه لبكين بتقديم مساعدات سخية وحزم قروض لتحفيز بعض الدول على تغيير تحالفاتها، فإن ذلك كان في النهاية قرارًا سياسيًّا وليس اتفاقًا ماليًّا. لكنَّ أكبر اقتصاد في العالم يملك عضلات قوية، وحتى لو لم يضخ المال لدى حلفاء محتملين، فإنه لا يزال يملك سياسة الجزرة والعصا التجارية. وقبل شهرين من رحيله وبعد وقت قصير من إعادة انتخاب إدارة تساي Tsai المناهضة للصين في تايبيه، أصدر السفير لين بيانًا قويًّا للغاية استهدف حكومة إيسواتيني ورد به "طالما أنه ليست هناك علاقات دبلوماسية، فلن تكون ثمة مزيد من مكاسب الأعمال"، ويضطر المواطنون السوازي Swazi الآن التوجُّه عبر طريق إلى بريتوريا بجنوب إفريقيا لمدة أربعة ساعات بالسيارات للحصول على تأشيرات دخول الصين من سفارتها هناك. كما تضغط الصين على دول إفريقية أخرى لعزل إيسواتيني دبلوماسيًّا واقتصاديًّا.
ولا تقبل الصين وتايوان أي علاقات دبلوماسية مع دولة تقر بإحداهما، وحوّلت أغلب الدول بمرور السنوات، منذ انقسام الصين وتايوان في العام 1949م، دعمها نحو الصين بعد قبول الأمم المتحدة حكومة الجمهورية الشعبية في بكين في العام 1971م. وأصبحت بوركينا فاسو ثاني آخر دولة إفريقية تقطع صلاتها مع تايوان قبل أربعة أشهر من قمة منتدى تعاون الصين- إفريقيا في العام 2018م. وهناك حاليًا 15 دولة فقط أغلبها دول صغيرة تُبْقِي علاقات مع تايوان، وكذلك إقليم "أرض الصومال".
ورغم أنه من غير المرجَّح أن تشارك إيسواتيني في قمة منتدى تعاون الصين إفريقيا في السنغال في سبتمبر المقبل، فإن سياسة الترقب الصينية يمكن أن تحقّق مردودها بأن يجد مسواتي نفسه منعزلاً على نحو متزايد في الاتحاد الإفريقي وفي الجماعة الإنمائية لجنوب إفريقيا Southern African Development Community (SADC).
وبالرغم من وجود سفارة أمريكية ضخمة في العاصمة مبابين Mbabane وضخ واشنطن ملايين الدولارات كمساعدات للمملكة الفقيرة، فإنه تفقد صبرها إزاء نظام الملك مسواتي الذي أطلق جنوده مجموعات من القذائف الحية على عربة دبلوماسية أمريكية وفتشوها في نقطة تفتيش وسط الفوضى التي عمَّت البلاد في يوليو الماضي.
وبالفعل دخلت الصين بقوّتها لتغيير المعادلة في يوليو الفائت؛ حيث بادر الناطق باسم وزارة الشؤون الخارجية الصينية وانج وينبين Wang Wenbin بتأكيد أن بلاده تشعر بعميق القلق إزاء الفوضى في إيسواتيني، وأنها مستعدة لتقديم مساعدات لها لمواجهة تداعيات كوفيد-19، بما في ذلك تقديم تطعيمات. وفي نهاية يوليو لم تقدّم الصين للمملكة سوى 65 ألف جرعة من التطعيمات فيما يتجاوز عدد سكان المملكة نحو 1.4 ملايين نسمة. كما لمح "وانج" لعدم رضا الصين عن سماح الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لتايوان بالانضمام لهم في بيانهم الأولي في يوليو للتعبير عن القلق إزاء الاحتجاجات.
[1] Dipanjan Roy Chaudhury, India’s burgeoning engagements with Africa, The Economics Times, August 7, 2021 https://economictimes.indiatimes.com/news/india/indias-burgeoning-engagements-with-africa/articleshow/85121299.cms
[3] Carien du Plessis, Eswatini, Taiwan’s Last Partner in Africa, the Diplomat, August 10, 2021 https://thediplomat.com/2021/08/eswatini-taiwans-last-partner-in-africa/