أثيوبيا أنجولا أوغندا إريتريا اسواتيني  افريقيا الوسطى الجابون الجزائر الرأس الأخضر السنغال السودان الصومال الكاميرون الكونغو الكونغو الديمقراطية المغرب النيجر بنين بوتسوانا بوركينا فاسو بوروندي تشاد تنزانيا توغو تونس جزر القمر جنوب أفريقيا جنوب السودان جيبوتي رواندا زامبيا زيمبابوي ساو تومي وبرينسيبي سيراليون غامبيا غانا غينيا غينيا الاستوائية غينيا بيساو كوت ديفوار كينيا ليبيا ليبيريا ليسوتو مالاوي مالي مدغشقر مصر موريتانيا موريشيوس موزمبيق ناميبيا نيجيريا

سياسة جنوب إفريقيا الخارجية: هل تنجح بريتوريا في استعادة لحظتها التاريخية؟

برزت جمهورية جنوب إفريقيا عقب اكتمال "الانتقال الديمقراطي"، ونهاية نظام الفصل العنصري 1993-1994م كدولة إفريقية قوية مجسِّدة لطموحات القارة الإفريقية دوليًّا؛ بظهور فاعل إقليمي- دولي مُهِمّ، ومسلَّح باقتصاد قويّ، ومندمج في اقتصادات "العالم الحرّ" عقب نهاية الحرب الباردة وتداعياتها.

لكن سرعان ما استنزفت الملفات الداخلية المعقَّدة والمتشابكة للغاية جهود حكومات "المؤتمر الوطني الإفريقي" على نحو غير متوقع (ودون تحقيق اختراقات طموحة كانت متوقَّعة في واقع الأمر)، وتوارت دبلوماسية بريتوريا القيادية إفريقيًّا خلف الانخراط في ملفات محددة للغاية في القارة، وعلى نحو من الاتساق مع المقاربات "الغربية" بالأساس (مثل السودان وبوروندي)، كما تقاطعت هذه الملفات مع رؤية جنوب إفريقيا "بعد الأبارتيد" لنفسها كجسر محتمل لإعادة موازنة العلاقات المتغيرة بين "الجنوب العالمي" والشمال الغنيّ؛ بحكم قاعدتها الاقتصادية القائمة على استثمارات حكومات وشركات غربية كبرى وشركائها المحليين (من بينهم الرئيس الجنوب إفريقي نفسه سيريل رامافوسا وعائلة زوجته)، كما تباينت مع ما عُرِفَ بـ"المبادئ الستة" الحاكمة لسياسات بريتوريا الخارجية التي بادر بإعلانها الزعيم التاريخي للبلاد نيلسون مانديلا (1993م)؛ وقوامها محورية مسألة حقوق الإنسان، وتعزيز الديمقراطية، والعلاقات العادلة القائمة على حكم القانون، والتسوية السلمية للنزاعات بين الدول، ومركزية إفريقيا في سياسة جنوب إفريقيا الخارجية، وتعاون إقليمي ودولي أكبر لدعم التنمية الاقتصادية. وتجلّى قَدْر من التباين في حالة قيادة جنوب إفريقيا لوساطة الاتحاد الإفريقي في حلّ مشكلة جزر القمر بعد 2003م، ثم معارضتها (مارس 2008م) تدخلًا عسكريًّا بقوات الاتحاد الإفريقي (لاستعادة حكم القانون)؛ رغم تمتع التدخل بدعم إفريقي واضح وقتها([1]).

وخفتت بالتدريج لحظة جنوب إفريقيا "التاريخية" في إفريقيا كقوة ممثلة للقارة في المشهد الدولي وفاعلة في القارة نفسها، حتى أصدرت حكومة جنوب إفريقيا مطلع أغسطس 2022م ورقة مهمة توضّح بجلاء سياسة البلاد الخارجية "الجديدة" بعنوان إطار حول مصلحة جنوب إفريقيا الوطنية وتقدُّمها في بيئة عالمية Framework on South Africa’s National Interest and it’s a Global  ومحاولتها استعادة الزخم الذي كانت تتمتع به جنوب إفريقيا عند لحظة التحول الديمقراطي، مع ملاحظة أن هذه الوثيقة هي الأولى من نوعها لحكومة جنوب إفريقيا منذ نهاية الفصل العنصري.

سياسة جنوب إفريقيا الخارجية: رؤية عامة للإطار ومحدداته الخارجية

جاء "الإطار" فيما يشهد العالم تحولات ملموسة في بناء "النظام الدولي"، وضوابط العلاقات الدولية، وهي بالعموم وثيقةً مهمةً رغم بعض التحفظات الأولية عليها من قبيل فكرتها كعرض "للمصلحة الوطنية"، وليس "المصالح"، وعدم وضوح الهدف من إصدار الوثيقة، الصادرة عن إدارة العلاقات والتعاون الدوليين Department of International Relations and Cooperation، سواء توجيه سياسة الحكومة نحو جذب الاستثمارات الدولية لجنوب إفريقيا، أم إعلام حلفاء البلاد وأصدقائها([2]).

على أيّ حال فإن الوثيقة، التي أكدت وزيرة الخارجية ناليدي باندور عند إطلاقها أنها حصيلة عدة سنوات من الجهد، وأنها إضافة لورقة السياسة الخارجية البيضاء 2015م  Foreign Policy White Paper، توفّر بالأساس رؤية جنوب إفريقية حول "التحديات التي تواجه إفريقيا اليوم"، وأنه رغم التقدم الذي شهدته القارة في العقدين الفائتين؛ "فإنّ مشكلاتها المزمنة مثل عدم الأمن، والصراع السياسي، وضعف التقدم في أولويات التنمية الرئيسة؛ لا تزال قائمة"، وترى الوثيقة أن مصلحة جنوب إفريقيا الوطنية تتشابك عن كثب مع هدف تحقيق التقدم في إفريقيا، وبالأساس -حسب الوثيقة- تطبيق أجندة إفريقيا 2063م (التي صِيغَت جنوب إفريقيًّا بالأساس وَفْق أدبيات "نيوليبرالية" مباشرة، وتجاهلت بشكل واضح سمات واختلافات مهمة قائمة في الشمال الإفريقي أو "إفريقيا العربية")، وتحقيق صلات تنموية أقوى مع مجموعة أكبر من الدول الإفريقية ومضاعفة جهود تقدم التكامل الإقليمي والاقتصادي في "الجماعة التنموية للجنوب الإفريقي" Southern African Development Community(SADC) .

أما على المستوى الدولي؛ فإن الوثيقة جنحت إلى "التأكيد على الإمكانات التي يُوفّرها التضامن الدولي التقدمي رغم الإقرار بجهود مكثفة (بعد جائحة كوفيد-19)؛ لتقسيم الدول النامية، وأن سحر باندونج قد تداعى بفضل المصالح الوطنية التي تُركّز على المكسب السيادي sovereign gain. لذا فإنه رغم تعزيزنا لعلاقة الجنوب- الجنوب؛ فإننا منتبهون لحقيقة أن المصلحة قد لا تكون متآلفة دومًا". كما لفتت الوثيقة إلى استمرار نهج "حركة التحرر الوطني الجنوب إفريقية" ودعوتها "للأصدقاء في فلسطين" بعمل المزيد لتكوين صلات مشابهة (لما نجحت فيه حركة التحرر الجنوب إفريقية)، مع الحركات العالمية المعنية (بدعم التحرر الفلسطيني)"([3]).

وتناولت  الوثيقة([4]) ما أطلقت عليه "السياق العالمي" Global Context وعرضت فيها لعدة محددات خارجية مهمة لسياسات جنوب إفريقيا الخارجية، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر. ومن أبرز هذه المحددات: تغيير مراكز القوة (عالميًّا)، مع تعاظم دور القوى الصاعدة وتأثيرها المتنامي الذي يقود إلى توازن جديد في القوى في العلاقات الدولية، مع ملاحظة أن "هذا العالم متعدد الأقطاب لم يتَّخذ شكلًا واضحًا بعدُ، وأن العالم يشهد استقواء مراكز جديدة للتنمية والقوة الاقتصادية، وتشمل بعض هذه العوامل صعود الصين، وبريكس BRICS، وأوروبا بعد البريكست، وجهود الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها العالمية. واختتمت الوثيقة هذا المحدد بالتأكيد على ما يشهده العالم من صعود أدوار الفاعلين من غير الدول واعتباره تطورًا "إيجابيًّا وسلبيًّا" يؤدي إلى محاسبة الدول عن أفعالها، ويؤثر على الأجندة العالمية المعنية بشؤون تهم مصالح الغالبية العظمى من شعوب العالم، مع تخوُّف من استخدام هؤلاء الفاعلين كوكلاء في مناطق الصراعات المختلفة والتعدي على حقوق الإنسان.

ومثّلت "التغيرات في مؤسسات الحوكمة والتحالفات العالمية" محدِّدًا خارجيًّا ثانيًا استهلت بملاحظة مثيرة للجدل بأن "نظامًا دوليًّا قائمًا على القواعد يُفضّل الدول صغيرة القوى أو المتوسطة لسبب بسيط؛ لأنها تحاول تحجيم تجاوزات السياسة الواقعية التي تعزّز السياسات الخارجية للقوى العظمى". ولفتت الوثيقة إلى أن الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز ومنظمة التجارة العالمية هي المؤسسات الدولية الرئيسة التي تحتاج لإصلاحات كبيرة للتوافق مع المصالح المتنوعة للمجتمع الدولي، وأن الوضع القائم حاليًا يعكس طبيعة غير تمثيلية ومنحازة لهذه المؤسسات؛ حيث تحظى مصالح الدول النامية بالاهتمام الإيجابي الأدنى.

وبرز تهديد "التغيرات الاقتصادية النشطة" ضمن هذه المحددات، مع ما يشهده العالم من توازن متغير للقوى في العلاقات الاقتصادية العالمية، وفسّرت الوثيقة هذا التغير بعوامل عدة؛ بينها ارتفاع مساهمة القوى النامية في ناتج الاقتصاد العالمي (من 42.8% إلى 59.3% في العقدين الفائتين حسب الوثيقة)، وأن الصين كانت صاحبة الإسهام الأكبر في هذه المحصلة (باتت تسهم من 6.6% من الناتج العالمي إلى 18.7% خلال نفس الفترة المذكورة)، مما عُدّ تهديدًا "للقوى الاقتصادية الفاعلة التي هيمنت على الناتج العالمي طوال قرون".

كما عرضت الوثيقة لحزمة أخرى من المحدّدات الخارجية، وهي أثر التغير البيئي، والتكنولوجيا والابتكار، وقضية الصحة العالمية.

برنامج عمل سياسة جنوب إفريقيا الخارجية؟

تناول القسم العاشر من الوثيقة مسألة مقاربة جنوب إفريقيا في سياساتها الخارجية "الماضي، والحاضر، والمستقبل"، قام في أغلبه على فكرة الربط الوثيق بين جنوب إفريقيا والقارة الإفريقية، واستعراض إسهام جنوب إفريقيا في العمل الجماعي القاري، وتعزيزها العلاقات مع "الجنوب العالمي" عبر العديد من منظماته، "والحفاظ في الوقت نفسه على علاقات جيدة مع القوى العالمية القائمة" عبر مبادرات مع مجموعة الثمانية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، عِوَضًا عن كون جنوب إفريقيا الدولة الإفريقية الوحيدة في مجموعة العشرين.

ووضعت الوثيقة عددًا من القضايا التي ستواجه جنوب إفريقيا مستقبلًا، وستكون بحاجة لاهتمام أكبر من الأخيرة، وتشمل: الاتحاد الإفريقي وأجندة 2063م (التي تقوم بالأساس على فكرة البان أفريكانيزم)؛ حيث تظل جنوب إفريقيا بحاجة إلى الاهتمام الأكبر بالتحالفات الناشئة داخل القارة، والتحالفات الإفريقية مع دول الشمال والجنوب العالمي، وما وصفته الوثيقة بالبعد التنافسي المرتقب بين الدول الإفريقية في سبيل تطبيق الأجندة؛ كما شملت التحديات مسألة الجنوب الصاعد Rising South لا سيما مع بدء دول "الشمال الغني" في السعي لشراكات مع دول الجنوب، وملاحظة أن علاقات بريتوريا بدول الجنوب تعزّز مصلحتها الوطنية بشكل كبير.

وتظل "بريكس" إحدى أقوى الشراكات التي ستستخدمها جنوب إفريقيا كرافعة "لتقوية صوت إفريقيا والجنوب"؛ وجاءت "الدبلوماسية الاقتصادية" لتمثل فرصة كبيرة لسياسات جنوب إفريقيا ضمن توقعات التكامل الاقتصادي الإفريقي، مما سيمثل أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، وسيؤدي إلى خلق سلاسل قيمة جديدة في القارة "بمساعدة القوى العالمية" (في إشارة ملتبسة للصين)، وإن على جنوب إفريقيا "توقع منافسة أكبر بين الدول الإفريقية، مع السعي للتعويل على الفرص لتقوية سلاسل القيمة الإقليمية التي لن تفيد جنوب إفريقيا وحدها بل الإقليم ككل. وجاءت شواغل أخرى للسياسة الخارجية الجنوب إفريقية مستقبلًا، وهي التكنولوجيا والقضايا البيئية والصحة العالمية.  

ثم جاء القسم الحادي عشر من الوثيقة تحت عنوان فضفاض للغاية: "العالم الذي نريده" (وهو مشابه لعنوان أجندة إفريقيا 2063م)؛ ليعرض تطلُّع جنوب إفريقيا لنظام عالمي يملك فيه الجميع فرصًا عادلة ومستقبلًا أفضل دون جوع ومرض أو حروب؛ ويتضح من هذه الافتتاحية مدى سطحية طرح فكرته أو على الأقل تطبيقها على الأرض، لا سيما في الواقع الإفريقي. ويتضح من قراءة الوثيقة أنها تمثل بالأساس مبادئ عامة، ويغلب عليها ما يمكن وصفه بالخطاب "الدعائي"؛ كما اتضح في أجزاء متفرقة من الوثيقة، وأنها لم تضع برنامجًا واضحًا للعمل، وهو ما ستكشف عنه -صوابه أو تفنيده- ممارسات السياسة الخارجية الجنوب إفريقية إقليميًّا ودوليًّا.

من قضايا السياسة الخارجية الجنوب إفريقية: الشعارات في خدمة "السياسة الواقعية"

تأتي السياسة الخارجية الجنوب إفريقية بطبيعة الحال دون التقيد الحرفي بالإطار أو السياسات التي أعلن عنها؛ سواء في العام 2015م أو أغسطس 2022م؛ لاعتبارات واقعية ومفهومة. ويمكن استعراض أهم قضايا سياسة بريتوريا الخارجية في الآونة الأخيرة على النحو التالي:

1- العلاقات مع الولايات المتحدة

ظلت الولايات المتحدة حليفًا استراتيجيًّا رئيسًا لنظام "المؤتمر الوطني الإفريقي"؛ سواء في شكل العلاقات الثنائية المباشرة، أم في حجم تنسيق سياسات بريتوريا وواشنطن الخارجية، لا سيما في القارة الإفريقية بعد 1994م. لكن تراجعت هذه الصلات -حسب عدد كبير من المراقبين- لمستوياتها الدنيا منذ العام 2022م، ولم تسفر زيارة وزيرة الخزانة المريكية جانيت ل. يلين لجنوب إفريقيا نهاية يناير 2023م (في ختام جولتها الإفريقية) عن تحسُّن ملموس في هذه العلاقات المتدهورة، مع ملاحظة أن زيارة يلين هي الأولى من نوعها لوزير خزانة أمريكي لبريتوريا منذ العام 2014م، وأن محادثاتها في بريترويا لم تنجح في إزالة الجمود الذي التبس علاقات البلدين الاقتصادية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، أو إصلاح الضرر في مجمل العلاقات بعد غياب لافت ومؤثر للرئيس سيريل رامافوسا عن القمة الأمريكية الإفريقية (ديسمبر 2022م)([5]).

وكشفت تقارير أمريكية مهمة، مطلع العام الجاري، عن عدم ثقة قادة حزب المؤتمر الوطني (الحاكم منذ نحو ثلاثة عقود) في واشنطن، رغم استثمار الأخيرة بقوة في علاقاتها مع بريتوريا، والنظر لها كزعيم قاري مهم وبوابة (غربية) لإفريقيا (رغم أن فكرة قيادة جنوب إفريقيا للقارة لم تكن محل ترحيب إفريقي على النحو الذي تصوّرته واشنطن). ورأت هذه التقارير وجوب خفض واشنطن لتوقعاتها مما يمكن تحقيقه من العلاقات مع بريتوريا([6]). وتمثل صلات جنوب إفريقيا المتنامية مع الصين تهديدًا لمكانة علاقات الأولى مع الولايات المتحدة باعتبارها الشريك التجاري الأول لها (وصلت التجارة المتبادلة بين البلدين إلى 21 بليون دولار في العام 2021م، وتعمل في جنوب إفريقيا أكثر من 600 شركة أمريكية([7]))، مع ملاحظة أن هذا الوضع المتفوّق لجنوب إفريقيا في سياسات واشنطن الإفريقية اقتصاديًّا يتضاءل أمام العلاقات بين بريتوريا وبكين؛ حيث تجاوزت التجارة بينهما في العام 2021م حاجز 40 بليون دولار مع وجود توازن تجاري نادر في علاقات الصين بالدول الإفريقية بشكل عام (صادرات صينية بقيمة 20,5 بليون دولار أغلبها في معدات صناعية مقابل واردات بقيمة 20,6 بليون دولار تتركز أغلبها في الذهب الذي يستحوذ بمفرده على خمسة بلايين دولار)([8])

2-بريتوريا والجنوب العالمي: البوابة الصينية

قبل أسابيع قليلة من انعقاد القمة الأمريكية الإفريقية في واشنطن ديسمبر الماضي التقى الرئيس رامافوسا بنظيره الصيني منتصف نوفمبر في بكين، وقبل الاحتفال بمرور 25 عامًا على العلاقات بين البلدين (تأسست في يناير 1998م). ووصف الرئيس الصيني علاقات بلاده بجنوب إفريقيا بأنها صداقة خاصة "للرفاق والإخوة"، وأن البلدين من كبار الدول النامية في العالم، وأنه بمقدورهما معًا دعم عدالة النظام الدولي والمصالح المشتركة للدول النامية([9]).  

وإلى جانب العلاقات الاقتصادية القوية بين البلدين؛ نمت العلاقات العسكرية والأمنية بشكل كبير بعد تدريبات عسكرية مشتركة مطلع العام الجاري، تلتها في أبريل؛ تعميقًا لهذا التعاون العسكري برسو سفينة التجسس الصينية Yuan Wang5 في ميناء ديربان الجنوب إفريقي([10])؛ في مؤشر على تعزيز هذه العلاقات بمستويات متصاعدة، وانتهاج بريتوريا نهجًا أكثر حسمًا تجاه تعميق حضورها في الجنوب العالمي (مع ملاحظة سماحها لسفن إيرانية بالرسو في موانئها مؤخرًا)، بالاعتماد على صلة وثيقة للغاية مع بكين؛ كما يتضح من استقراء المؤشرات الاقتصادية والسياسية المختلفة في الشهور الأخيرة.

ويتضح من تصاعد التنسيق مع الصين اهتمام جنوب إفريقيا الواضح بمسألة "الجنوب العالمي"، كما ورد في وثيقة السياسة الخارجية 2022م، من البوابة الصينية بالأساس.

3-بريتوريا وإفريقيا:

برزت جنوب إفريقيا في مختلف جوانب العمل الإفريقي الجماعي منذ العام 1994م، كما اتضح بدءًا من الإسهام الأكبر في صياغة وثائق الاتحاد الإفريقي المهمة، واضطلاع بريتوريا بجهود الوساطة في أزمات إفريقية ملحّة طوال العقود الثلاثة الفائتة، وكذلك في قيادة واحدة من أهم المنظمات الاقتصادية في القارة "سادك".

ويتضح -على سبيل المثال والإيجاز هنا- من إحصاءات التبادل التجاري الجنوب إفريقي مع بقية دول العالم هامشية صادراتها إلى القارة الإفريقية، واستئثار دول جوارها (لا سيما موزمبيق وبوتسوانا وناميبيا وليسوتو وسوازيلاند وزيمبابوي)، بأغلب هذه الصادرات في مؤشر على طبيعة توجهات جنوب إفريقيا الحقيقية في القارة الإفريقية، وتركزها في مناطق النفوذ التقليدي للنظام العنصري السابق في إفريقيا؛ إذ بينما تستحوذ الصين على نحو 10% من صادرات بريتوريا (والتي باتت تحتل المرتبة الأولى في العام 2023م في قائمة الدول الإفريقية المصدرة للصين)؛ تستحوذ دول الجوار المذكورة على ما نسبته 30% تقريبًا من هذه الصادرات، ما يعني عدم قدرة بريتوريا طوال العقود الثلاثة الماضية على الإسهام الحقيقي في تغيير مجمل بناء التجارة البينية الإفريقية، ويثير تساؤلات حول الجهود المبذولة لتطبيق اتفاق منطقة التجارة الحرة الإفريقية.

على أيّ حال؛ فإن طموح بريتوريا في وثيقة السياسة الخارجية والمصلحة الوطنية في قيادة القارة الإفريقية ضمن مشروع الجنوب العالمي لا يبدو مدعومًا بقدرات حقيقية لجنوب إفريقيا في ترجمة هذا الطموح إلى سياسات عملية على الأرض مع أغلب الدول الإفريقية، لا سيما الكبيرة منها؛ وذلك ضمن أسباب أخرى من بينها ما يتعلق بهذه الدول بطبيعة الحال.

خلاصة:

تكشف توجهات جنوب إفريقيا؛ باعتبارها واحدة من أكبر دول القارة اقتصاديًّا، وأكثرها نشاطًا في دبلوماسية المجتمع الدولي، عن مساعٍ حثيثة لاستعادة لحظة تاريخية بعد خفوت ملحوظ وسط القارة الإفريقية، وهي إعادة طرح البلاد نفسها كقائدة لمشروع تحرُّري إفريقي للانعتاق من استقطابات النظام الدولي التقليدي هذه المرة.

لكنَّ التباين بين وثائق مثل هذه السياسات والتجارب الملموسة في الواقع (سواء بعد 1994م مباشرة أم في الوقت الراهن)؛ تكشف عن صعوبات جمَّة تعوق اضطلاع جنوب إفريقيا بالدور القيادي الحقيقي، أو استعادة نفس زخم لحظتها التاريخية السابقة، لصالح توقُّعات أكثر واقعية بتحقيق بريتوريا توازنًا في "مصلحتها الوطنية" وجهودها للاستفادة من الوضع الدولي المضطرب حاليًا من بوابة حماية المصالح الوطنية الإفريقية؛ وهو نَهْج يتوقع أن يُحقّق نجاحًا كبيرًا في ظل مقبولية بريتوريا لدى الصين، وأهميتها المستدامة لدى واشنطن والاتحاد الأوروبي، ودورها المهم -رغم تفاوت قوته- في القارة الإفريقية؛ لا سيما في مناطقها الجنوبية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:


[1] Paterson, Mark and Virk, Kudrat, Two Decades of South Africa’s Foreign Policy (Report: Post-Apartheid South Africa’s Foreign Policy After Two Decades, Centre for Conflict Resolution (2014), pp. 89.  

[2] Abel Esterhuyse, South Africa’s foreign policy: new paper sets the scene, but falls short on specifics, The Conversation, August 18, 2022 https://theconversation.com/south-africas-foreign-policy-new-paper-sets-the-scene-but-falls-short-on-specifics-188253

[3] Minister Naledi Pandor: Symposium on the Framework Document on South Africa’s National Interest, south African Government, August 1, 2022 https://www.gov.za/speeches/ministe-naledi-pandor-symposium-framework-document-south-africa%E2%80%99s-national-interest-1-aug

[4] Framework Document on South Africa’s National Interest and Its Advancement in a Global Environment, The Department of International Relations and Cooperation, Republic of South Africa, August 2022 https://www.dirco.gov.za/national-interest-framework-doc/

[5] Mushtak Parker, Foreign relations – is Pretoria playing with fire? New African, March 23, 2023 https://newafricanmagazine.com/29343/

[6] Michelle Gavin, The Limits of the U.S.-South Africa Relationship, Council on Foreign Relations, February 1, 2023 https://www.cfr.org/blog/limits-us-south-africa-relationship

[7] The United States and the Republic of South Africa, U. S. department of State, August 8, 2022 https://www.state.gov/the-united-states-and-the-republic-of-south-africa/

[9] President Xi Jinping Meets with South African President Cyril Ramaphosa, Ministry of Foreign Affairs of the People’s Republic of China, November 15, 2022 https://www.fmprc.gov.cn/mfa_eng/zxxx_662805/202211/t20221115_10975688.html

[10] Chinese Naval Surveillance Ship Docks in South African Port, Bloomberg, April 5, 2023 https://www.bloomberg.com/news/articles/2023-04-05/chinese-naval-surveillance-ship-docks-in-south-african-port

 

كتاب الموقع