محمد كريم الخاقاني
أكاديمي وباحث في الشأن السياسي
تُعدّ عمليات بناء السلام من القضايا التي تستحوذ على اهتمام المنظمات الدولية وغيرها من الفاعلين في المجتمع الدولي، لا سيما في الدول الخارجة من صراعاتٍ بين مكوّناتها؛ لذا يُعدّ هدف بناء السلام بعد مرحلة الصراع من الثوابت الرئيسة لتعزيز التعايش السلمي بين الشعوب، وهو ما يتطلب بذل جهود كبيرة لنَبْذ العنف، والاستعاضة عنها بإحداث تغييرات أساسية للسلوك المهيمن على بعض الفئات داخل الدولة التي لا ترى سوى وسيلة العنف المسلح طريقًا لفرض سيطرتها على المكونات الأخرى، وهو ما يعني تغييرًا من أجل إحلال السلام وتحقيق حالة الوئام والتعايش السلمي والقبول بالآخر المختلف عنه داخل حدود الدولة الواحدة.
من جهة أخرى يُعدّ مفهوم بناء السلام من المفاهيم الجديدة التي ظهرت بعد مرحلة الحرب الباردة؛ بهدف معالجة الأسباب الجذرية للصراع، ومنع تجدُّدها، وإرساء السلام المستدام.
وفي تقرير للأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي والمعروف بـ(أجندة من أجل السلام)، تطرَّق فيه إلى بعض المفاهيم والمصطلحات المرتبطة ببناء السلام؛ إذ تم تكليفه مِن قِبَل مجلس الأمن بكتابة تقرير حول "سُبُل تعزيز وزيادة قدرة الأمم المتحدة"، في إطار ميثاق الأمم المتحدة، على الاضطلاع بمهام الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام([1]).
وينصرف مفهوم بناء السلام إلى نزع أسلحة المتنازعين، وفرض النظام، وإعادة توطين اللاجئين، والإشراف على الانتخابات وأي نشاطات مستحدثة تتلاءم مع متغيرات البيئة الدولية([2])، وقد ظهر هذا المفهوم في أدبيات الدراسات الدولية بشكل عام، ودراسات السلام خاصة قبل أكثر من أربعة عقود، وصاغه يوهان غاليتنغ عام ١٩٧٥م، وحصره في ضرورة إيجاد الآليات المناسبة التي تزيل أسباب الحروب([3]).
وتظهر الحاجة إلى بناء السلام بعد انتهاء الصراع، ومن هنا تكمن أهميته، وذلك من خلال توفير الدعم اللازم للهياكل الأساسية التي تعزّز السِّلم وتُعيد بناء الثقة والتفاعل بين أطراف النزاع([4]).
وهناك من يذهب إلى تعريف بناء السَّلام بأنه "برامج مصمَّمة لمعالجة أسباب النزاع، والتخلص من مظالم الماضي، وتعزيز العدالة والاستقرار على المدى الطويل، وهو عبارة عن مبادرة تقوم مختلف الجهات الفاعلة في الحكومة والمجتمع المدني بمعالجة الأسباب الجذرية للعنف،...، ولذا يشمل المفهوم جهود المؤسسات القانونية ومؤسسات حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة([5]).
وهناك نماذج عدة لمثل تلك العمليات، وسنتطرق هنا إلى عمليات صنع السلام في ليبيريا؛ إذ يعود تأريخ الحرب الأهلية في ليبيريا إلى ٢٤/١٢/١٩٨٩م عندما قام تشارلز تايلور بالتمرُّد على الرئيس "صاموئيل دو"، وذلك من خلال شنّ عمليات مسلحة انطلاقًا من ساحل العاج الدولة المجاورة لليبيريا، وهو ما مكَّنه من السيطرة على ٩٠٪ من المساحة الكلية لها، وسرعان ما انهار النظام السياسي نتيجة التركة التاريخية للبنية السياسية والاجتماعية لطبقات الشعب الليبيري؛ إذ اعتمد نظام "دو" على بعض الشخصيات المقرَّبة منه لإدارة البلاد، وهو ما عزَّز السيطرة الإثنية لجماعته عبر توليهم المناصب المهمة، ونتيجة للسيطرة المطلقة لـ"دو" على الدولة، تمردت بعض القوات العسكرية المنشقَّة عن تايلور وتمكَّنت من اغتيال "دو" في ٩ أيلول ١٩٩٠م، لتدخل البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة أسفرت عن مقتل أكثر من ١٥٠ ألف مواطن ليبيري وتشريد آلاف آخرين إلى خارج الحدود([6]).
ومن أجل وضع حلول واقعية للأزمة في ليبيريا، تم تشكيل لجنة من مجلس الكنائس الليبيري وبعض الرموز الإسلامية في شهر مارس ١٩٩٠م، والتي قامت بتقديم مبادرة لحل الأزمة، عبر الالتزام بوقف إطلاق النار، وتفعيل الجهود الرامية لإحلال السلام، ولكن لم تحقق النتائج المرجوة منها، وفشلت في إحراز أي تقدّم يُذْكر([7]).
وتعد الأزمة الليبيرية أنموذجًا لتنسيق مشترك بين منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الإيكواس (الاتحاد الإفريقي لدول غرب إفريقيا)؛ وذلك لكون النزاع الداخلي داخل الحدود الليبيرية بات نزاعًا إقليميًّا هدَّد السِّلم والأمن في المنطقة([8]).
وبما أن التدخل في الشؤون الداخلية للدُّول يتعارض مع أساسيات عمل الإيكواس، فهذا ما جعل الدول الإقليمية الداعمة لبعض الحركات المتمردة تقوم بتوجيه الانتقادات لها؛ بسبب كون النزاع نزاعًا داخليًّا، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، نرى بأن التدخل من قبل الإيكواس يتطلب تدخلًا عسكريًّا، وكانت فكرة التدخل ضد أي دولة من دول الجماعة الاقتصادية الإفريقية قد دخلت حيّز التنفيذ في عام ١٩٨٠م لتكون بمثابة أساس قيام المنظمة وأول نظام أمن جماعي إفريقي، وحسب النصوص المنظِّمة لعملها جعلت من الاعتداء على أي دولة من دول الإيكواس، بمثابة اعتداء على الكلّ، وبهذا الخصوص يتم وضع قوات مسلحة تحت تصرف المنظمة([9]).
وكانت منظمة الإيكواس قد طرحت مبادرة لتسوية الصراع في ليبيريا من خلال المفاوضات التي تم عقدها في باماكو في تشرين الثاني ١٩٩٠م، والتي أثمرت عن تشكيل حكومة مؤقتة، ولكن لم يتم الاعتراف بها مِن قِبَل تايلور الذي قام بتشكيل إدارة في المناطق الخاضعة لنفوذه، وهذا ما دفَع قوات الإيكوموج -وهي الذراع العسكري لمنظمة الإيكواس- بطرد القوات التابعة لتايلور إلى خارج العاصمة الليبيرية، وهو ما مكَّن الحكومة المؤقتة من السيطرة على العاصمة، وفي ذات الإطار، تم إصدار قرار من مجلس الأمن رقم ٧٨٨ في تشرين الثاني ١٩٩٢م، والذي دعم التدخل العسكري لمنظمة الإيكواس في الصراع الداخلي الليبيري، وتم فرض حظر على تصدير السلاح إلى ليبيريا([10]).
وبعد ذلك تم تشكيل بعثة مراقبي الأمم المتحدة في ليبيريا في آب ١٩٩٣م بموجب قرار مجلس الأمن رقم ٨٥٦، مع التنسيق الكامل مع فريق المراقبة التابع لمنظمة الإيكواس، وهي تُعد أول حالة تعاون بين منظمة الأمم المتحدة ومنظمة إقليمية فرعية([11]).
وكان الهدف من وراء هذا التعاون الدولي مع الإيكواس هو تنفيذ اتفاق كوتونو للسلام بين الفصائل المتصارعة في ليبيريا، والذي تم توقيعه في ٢٥/٧/١٩٩٣م، والذي تضمَّن في بنوده: وقف إطلاق النار، ونزع سلاح الفصائل المتصارعة وتسليمها لقوات الإيكوموج، وتشكيل حكومة انتقالية، وتنظيم انتخابات تشريعية. ومن أجل ذلك، تم تمديد مدة البعثة الدولية بموجب قرار مجلس الأمن رقم ٩١١ في نيسان ١٩٩٤م، من أجل تجاوز العراقيل التي رافقت تأخير تنفيذ اتفاق كوتونو؛ حيث تم توقيع اتفاق مكمّل له في مدينة اكوسومبو الغانية في أيلول ١٩٩٤م([12]).
وفي عام ١٩٩٥م تم توقيع اتفاق جديد في العاصمة النيجيرية أبوجا بعد إخفاق الفصائل المتصارعة في تنفيذ الاتفاقيات السابقة للسلام بينها، ومع انتهاء المدة المقررة للبعثة الدولية، فقد أدت المفاوضات إلى توقيع اتفاق يُمثّل الفرصة الأخيرة للجميع من أجل التوصل لاتفاق سلام، وبالفعل تم توقيع الاتفاق في آب ١٩٩٥م، والذي جاء بسبب الضغوطات الدولية. وأبرز ما تمخّض عنه هذا الاتفاق: قرار وقف إطلاق النار، والتمهيد لإقامة انتخابات بمدة زمنية لا تتعدى سنة واحدة من تاريخ توقيع الاتفاق، والعمل على إقامة مؤسسات تتولى عملية نزع سلاح الفصائل المتصارعة([13]).
وتم إجراء الانتخابات بموجب هذا الاتفاق، وأسفرت عن فوز تايلور وسيطرته المطلقة على مجلسي النواب والشيوخ([14])، وبعد تحقيقه للفوز في الانتخابات، طلب تايلور من قوات الإيكوموج مغادرة ليبيريا؛ بدعوى أن وجودها داخل البلاد يُضْعِف من قدرة قواته الأمنية على بَسْط سيطرتها الأمنية على البلاد، وفي عام ١٩٩٩م انسحبت القوات العسكرية لمنظمة الإيكواس، وبذلك بدأت المرحلة الثانية من الصراع بين الفصائل الليبيرية([15]).
وفي هذه المرحلة من الصراع، شهدت تعاونًا وتنسيقًا أفضل مما كان عليه الحال في مرحلة الصراع الأولى، بين قوات الأمم المتحدة وبين المنظمة الإقليمية الفرعية؛ وذلك من أجل تجاوز الصعوبات والعراقيل التي اعترضت عمل كليهما بشأن تسوية الصراع في ليبيريا، وحسب قرار مجلس الأمن رقم ١٥٠٩ في عام ٢٠٠٣م، والذي يقضي بتمديد وجود القوات الدولية لمدة عام واحد قابل للتمديد وحسب تطورات الأوضاع فيها، وتألفت القوات الدولية من ١٥ ألف مقاتل؛ فضلًا عن الأعداد المدنية الأخرى، والتي تحتاجها البعثة الدولية للقيام بواجباتها([16]).
ويمكن القول بأن هناك عددًا من العوامل التي تضافرت من أجل نجاح تجربة عمليات بناء السلام في الدول الخارجة من الصراعات كما في حالة ليبيريا، ومن أبرزها؛ إرادة أطراف الصراع في الوصول إلى تسوية مُرْضية، وهو يتعلق بقدرة الأطراف على تقبل دور المنظمات الدولية والإقليمية وترتيباتها للتسوية السلمية بينها، وهو ما لاحظناه في دور البعثة الدولية للأمم المتحدة ومنظمة الإيكواس، فضلًا عن إفساح المجال للمشاركة الشعبية للمساهمة في التوصل لحل الصراع، كما في حالة المبادرات الشعبية التي قامت بها الشخصيات الدينية من أجل تسوية الصراع بين الفصائل المتصارعة في بداية الحرب الأهلية، والأمر الأكثر أهمية في هذا الصدد يتعلق بإفساح المجال للمنظمات الإقليمية للمساهمة في الحل، وتسوية الصراع، وهو ما ظهر بشكل جلي بدور منظمة الإيكواس في تسوية الصراع الليبيري وبالاشتراك مع منظمة الأمم المتحدة، فهذا الحق في تسوية الصراع لم يَعُدّ حقًّا احتكاريًّا للمنظمة الدولية، بل أصبح التعاون بين تلك المنظمات منطلقًا لتحقيق الهدف الأسمى، بحسب ما نصت عليه بنود الميثاق الأممي.
([1]) بطرس بطرس غالي، الأمم المتحدة: الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام وحفظ السلم: تقرير الأمين العام المقدم عملًا بالبيان الذي اعتمده اجتماع القمة لمجلس الأمن في ٣١ كانون الأول ١٩٩٢م، مجلة السياسة الدولية، العدد ١١٠، مركز الأهرام للدراسات والبحوث الاستراتيجية، القاهرة، ١٩٩٢م، ص ص ٣١٨_٣٢٧.
([2]) خالد حامد شنيكات، عمليات حفظ السلام، دراسة في التطورات وسياقاتها المستقبلية، ط١، العدد١٤١، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، ٢٠٠٩م، ص٢٣.
([3]) مهدي سعداوي وفاروق بلخيري، دور التنمية الإنسانية في بناء السلام داخل مجتمعات ما بعد النزاع، مجلة الحقوق والعلوم السياسية، جامعة الجزائر ٣، العدد ١٠، ٢٠١٨م، ص ١٩٦.
([4]) سعد حقي توفيق، مبادئ العلاقات الدولية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مكتبة السنهوري، بغداد، ص٥٢٠.
([5]) تقرير الأمين العام، الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام وحفظ السلام، الجمعية العامة، ١٩٩٢م الدورة ٤٧، ص٧.
([6]) محمد كريم الخاقاني، صنع السلام؛ ثلاث عقود من الإنجاز العالمي، ط١، دار إنكي للنشر والتوزيع، بغداد، ٢٠٢٠م، ص١٧٥.
([7]) بدر حسن الشافعي، تسوية الصراعات في إفريقيا: نموذج الإيكواس، دار النشر للجامعات، القاهرة، ٢٠٠٩م، ص١٨٩.
([8]) محمد كريم الخاقاني، مصدر سبق ذكره، ص١٧٦.
([9]) بدر حسن الشافعي، الإيكواس وتسوية الصراعات المسلحة في غرب إفريقيا، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد ١٤٣، القاهرة، ٢٠٠١م، ص١٦٠.
([10]) بدر حسن الشافعي، تسوية الصراعات في إفريقيا: نموذج الإيكواس، مصدر سبق ذكره، ص ١٦٤.
([11]) محمد كريم الخاقاني، مصدر سبق ذكره، ص ١٧٨.
([12]) بطرس بطرس غالي، في مواجهة التحديات الجديدة، التقرير السنوي عن أعمال المنظمة، من الدورة ٤٩ إلى الدور٥٠ للجمعية العامة، نيويورك، ١٩٩٥م، ص ص٢٦٩_٢٧٠.
([13]) محمد كريم الخاقاني، مصدر سبق ذكره، ص ١٧٩.
([14]) جمال طه علي، دور المنظمات الإقليمية الإفريقية في حل وتسوية العنف السياسي في الدول الإفريقية، مجلة السياسية والدولية، الجامعة المستنصرية، العدد ٢٣، بغداد، ٢٠١٣م، ص ٢٧٠.
([15]) المصدر نفسه، ص ٢٧٠.
([16]) بدر حسن الشافعي، تسوية الصراعات في افريقيا: نموذج الإيكواس، مصدر سبق ذكره، ص ٢٢٥.