أطلقت مؤسسة "مراسلون بلا حدود" المعنية بحرية الصحافة حول العالم، تقريرها السنوي عن حرية الإعلام، ومنها مؤشرات لدول إفريقيا جنوب الصحراء، والتي جاءت صادمة كما هو معتاد في السنوات السابقة؛ حيث لا تزال الصحافة لا تتمتع بحرية في معظم دول القارة السوداء.
وللصحافة أهمية كبرى ليس في دول العالم المتقدم فقط، ولكن كذلك في الدول التي تشهد عمليات التحول الديمقراطي؛ فلا يمكن عزل الصحافة عن منظومة القيم الممهّدة للديمقراطية وآلياتها، باعتبار أنها جزء لا يتجزأ من أركانها المتمثلة في حرية التعبير والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات، والشفافية والرقابة على مؤسسات الدولة.
وإفريقيا جنوب الصحراء طالما عانت من مشكلات متعلقة بسلطوية ما بعد حقبة التحرر من الاستعمار، بالنظر إلى أن معظم الحكومات في القارة استقت شرعيتها من تجربة التحرر من الاستعمار، وكذلك إلى شيوع الانقلابات العسكرية، وهو ما أفرز حكومات سلطوية عمدت إلى تغييب الرقابة الشعبية عليها، بالنظر إلى التركيبة الموروثة في الحكم العسكري بنظرته الدونية إلى المدنيين فيما يتعلق بعملية صنع واتخاذ القرار.
والآن تخوض إفريقيا عملية صعبة من الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم الديمقراطي في معظم بلدانها؛ مدعومة بتطلعات الشعوب إلى الحرية والديمقراطية، ومعززة كذلك بآليات الاتحاد الإفريقي التي تدين الانقلابات العسكرية عن طريق ذراعها مجلس السلم والأمن (PSC) التابع له، وكذلك في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والثورة التقنية في العالم، والتي جعلت المواطن الإفريقي يعقد مقارنات منطقية وموضوعية فيما يتعلق بأوضاعه السياسية والمعيشية، طبقًا لما يعرف في أدبيات العلوم السياسية بنظرية الحرمان النسبي Relative Deprivation، والذي يُعد مقدمة لعملية الفعل الجماعي Collective Action وظهور النشطاء المطالبين بالحريات والديمقراطية حول العالم.
وفي ذلك السياق، فإن حرية الصحافة تعد أساسية فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي، وفي مساعدة الشعوب على إتمام تطلعاتها إلى الحكم الرشيد؛ حيث إنها تقدم المعلومات والبيانات، وتفجّر القضايا التي تساعد على الفعل الجماعي والتحرك السلمي للضغط على الحكومات باستخدام الوسائل والآليات الجديدة؛ مثل مواقع التواصل الاجتماعي، وتوثيق الانتهاكات وعرضها على تلك المواقع، مما يزيد الزخم والضغط على الحكومات الفاسدة، ومن ثم فإن حرية الصحافة -بالإضافة إلى وسائل التواصل الجماعي، وكذلك الفعل الجماعي- تعد جميعها حلقة متصلة من الضغط الشعبي على الحكومات للإصلاح السياسي، ومن ثم فإن الحكومات السلطوية بدورها تريد قطع تلك الحلقة ومنعها من الاستمرار، بالسيطرة على وسائل الإعلام، وكذلك فرض الرقابة على الإنترنت، ومن ثم تقييد حركة النشطاء في كل مكان.
وحتى الآن فإن آخر مؤشرات حرية الصحافة، وفقًا للتقرير الذي صدر لعام 2019م من منظمة "مراسلون بلا حدود"، فإن القارة السمراء يُخيّم على معظمها انعدام حرية الصحافة، سوى من بعض النقاط المضيئة في بعض الدول التي استطاعت أن تحقق إنجازًا على مختلف المؤشرات من بينها: الشفافية والفساد، والحكم الرشيد والديمقراطية، مثل ناميبيا وبوركينافاسو والسنغال، وغيرها. فيقول التقرير إنه "لم تُستثن إفريقيا جنوب الصحراء من التراجع الدولي لحرية الصحافة. وقد ساهمت عوامل عدّة في إضعاف إمكانية إنتاج إعلام حرّ ومستقل وجيّد في قارة عرفت تطوّرات مهمّة سنة 2018م، وتتمثل هذه العوامل في كراهية الصحفيين، والهجمات على الصحفيين الاستقصائيين، وفرض الرقابة خاصة على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك الضغوطات الاقتصادية والقضائية"(1)
كما يشير التقرير إلى الدول ذات الأداء الأسوأ على الإطلاق؛ وعلى رأسها إريتريا (في المرتبة 178 على العالم) وجيبوتي (173)؛ حيث لا يُسمح لأيّ وسيلة إعلام مستقلة بالعمل. وكما في سنة 2017م، فإنّ 22 بلدًا من بين 48 مصنفة في المنطقة الحمراء (وضع صعب) أو المنطقة السوداء (وضعية خطيرة) هي من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء.
ولكن يظل هناك نقاط مضيئة، فقد استطاعت إثيوبيا أن تحقّق قفزات في مؤشر حرية الصحافة بالتزامن مع تغير الحكم هناك؛ حيث استطاعت حكومة آبي أحمد، مع انفتاحها مع معظم مكونات الدولة الإثيوبية وكذلك مع دول الجوار، أن تحقق قفزة في الحكم ومحاسبة الفاسدين السابقين، بالتوازي مع انفتاحها على حرية الإعلام، بعدما كانت تقبع لفترة طويلة في قاع الدول الإفريقية من حيث حرية الصحافة، فقد قفزت 40 مرتبة بعد تغيير النظام في البلاد، الذي أطلق سراح الصحفيين والمدونين ورفع الحظر عن المئات من المواقع الإلكترونية. كما تقدّمت غامبيا (92) 30 مرتبة بعد التغيرات المهمّة التي حصلت منذ رحيل يحيى جامع، بعد أن تم إنشاء وسائل إعلام جديدة، وعاد صحفيون من المهجر، واعتُبر القذف فعلًا غير دستوري. كما شهدت أنغولا (109) تحولًا في نظام الحكم سنة 2017م، واعترف القضاء بحق الإعلام بعد أن أُفرج عن صحفيين كانا محلّ متابعة من الجهات الحكومية.
وتلك المؤشرات والتصنيفات تؤكد على توازي عملية الإصلاح السياسي مع إطلاق الحريات - وخاصة الصحافة - وأثرها على طموحات الشعوب في الوصول إلى الحكم الرشيد، كما أن الأحداث في كل من الجزائر والسودان تؤكد على أن الشعوب لا تترك حقوقها على المدى الطويل، فبالرغم من عدم انضمامهم لتظاهرات الربيع العربي التي اندلعت في عام 2011، إلا أن موجات التغيير هبَّت أخيرًا على تلك الدول، بما يعني أن الواقع قد تغير كما تغيرت الأدوات، ومعهما تغير وعي الشعوب وإدراكهم لمطالبهم ولذاتهم، وكذلك تصوراتهم لدورهم كمواطنين لهم حقوق في دولهم وأن شرعية التحرر من الاستعمار لا يمكن أن تبرر الفساد والاستبداد تحت أيّ ذريعة، وأن تطلُّع تلك الشعوب إلى المقارنة بين الشعوب الأخرى يُعزّز طموحاتهم باتجاه الحكم الرشيد.
وفي إفريقيا جنوب الصحراء فإن الأوضاع تتغير رويدًا رويدًا، كما أن مؤشرات تلك القارة تتحسن ولو بصورة طفيفة في مختلف الإحصاءات، وذلك يتزامن بالضرورة مع تطوّر التقنيات ووصولها إلى مناطق كانت معتمة في السابق في تلك القارة المنكوبة منذ عقود بالاستعمار والاستبداد.
وبالرغم من بعض الانتكاسات التي تعرّضت لها بعض الدول فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أن التاريخ القريب يثبت أن المعرفة باتت تتخطى الحدود مع التطور التقني الذي بات ينتشر ويحمل معه تلك التحركات الجماعية، ومع اقتلاع حكومات ظلت متجذرة لعقود في القارة السمراء، فإن المستقبل يبشر بمزيد من الأمل لأبناء القارة السمراء.
[1] التصنيف العالمي لمراسلون بلا حدود 2019: حرية الصحافة زمن التحولات الكُبرى في إفريقيا جنوب الصحراء، مراسلون بلا حدود، على: https://rsf.org/ar/ltsnyf-llmy-lmrslwn-bl-hdwd-2019-hry-lshf-zmn-lthwlt-lkubr-fy-fryqy-jnwb-lshr