مصطفى شفيق علام (*)
يبدو أن حالة التفاؤل التي سادت أوساط المراقبين والمعنيين بالشأن الصومالي مع اختيار محمد عبد الله فرماجو رئيسًا جديدًا للبلاد خلفًا للرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود، في فبراير الماضي، باتت ضربًا من التقديرات الزائفة القائمة على أمنيات طيبة ربما لا تدعمها سياقات الواقع الصومالي الصعبة، والتي تعد المعضلة الأمنية إحدى تجلياتها الرئيسة.
فمع إعلان الشرطة الصومالية في 14 أكتوبر الجاري عن مقتل 20 شخصًا على الأقل إثر انفجار شاحنة مفخخة أمام أحد الفنادق عند تقاطع طرق مكتظ في العاصمة الصومالية مقديشو حيث تسبب الانفجار في أضرار مادية جسيمة بحسب ما أفاد شهود عيان، يبدو أننا بصدد موجة ارتدادية جديدة من موجات العنف في بلد لطالما ظل عنوانًا للفوضى وغياب الدولة على مدى العقود الثلاث الماضية.
وتكمن إشكالية تلك العملية الإرهابية الجديدة التي تشير طريقتها إلى بصمة حركة الشباب المجاهدين، الوكيل الحصري لتنظيم القاعدة في منطقة القرن الإفريقي، أنها جاءت بعد يومين من استقالة وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة الصوماليين دون توضيح الأسباب، فيما اعتبره محللون ضربة للمواجهة التي تخوضها الحكومة مع مقاتلي حركة الشباب، حيث تأتي تلك الاستقالات في حين تحاول قوات الأمن الصومالية جاهدة وضع حد للاعتداءات التي تشنها الحركة المرتبطة بتنظيم القاعدة.
إرهاب متجذر وسياق أمني هش
تأتي تلك الواقعة في سياق ظاهرة "إرهاب الفنادق" باعتبارها أهدافًا أمنية رخوة، شهدت الصومال إحدى حلقاتها في فبراير 2016، حين أعلن المتحدث العسكري باسم حركة الشباب الصومالية لـ"رويترز"، مسؤولية الحركة عن هجوم استهدف فندق "رابطة الشباب الصومالية"، SYL، بالعاصمة مقديشو، ما أسفر عن مقتل 12 شخصًا على الأقل.
فوفقًا للتقارير الدولية المعنية بمؤشرات ومخاطر الإرهاب فإن الصومال تعد من الدول الأعلى تأثرًا بالإرهاب، حيث تنشط حركة شباب المجاهدين الذراع الإقليمية لتنظيم القاعدة في البلاد. وتتبوأ الصومال مراتب متدنية للغاية في المؤشرات الدولية المعنية بالأمن والاستقرار الأمني حول العالم.
فقد صنف مؤشر الإرهاب العالمي، الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام للعام 2016؛ صنَّف الصومال ضمن فئة "الدول الأعلى تأثرًا بالإرهاب"، حيث احتلت المرتبة الـ7 عالميًا من بين 160 دولة على مستوى العالم شملها التقرير. في حين أدرج مؤشر السلام العالمي، الصادر عن ذات المؤسسة، الصومال في "فئة الدول المنخفضة جدًا على صعيد الاستقرار والسلام الداخلي" للعام 2016، حيث احتلت المرتبة الـ159 عالميًا من إجمالي 163 دولة شملها التقرير.
وتعاني البلاد من صراع مسلح مستمر في وسط الصومال وجنوبه بين قوات الحكومة الصومالية الاتحادية وقوات حفظ السلام في الصومال التابعة للاتحاد الإفريقي من جانب، وجماعة "حركة الشباب المجاهين" المسلحة من جانب آخر، ووفقًا لمنظمة العفو الدولية فإن أكثر من 50 ألف مدني قتلوا أو جرحوا أو نزحوا عن ديارهم نتيجة للصراع المسلح والعنف الدائر في البلاد خلال العام 2016/2017.
وعادة ما تعاني الصومال من هجمات عشوائية وقاتلة، تشمل تفجيرات بقنابل وسيارات مفخخة، تشنها "حركة الشباب" في المناطق الخاضعة لحراسة مشددة من مقديشو وبلدات أخرى، وخاصة الفنادق، الأمر الذي أسفر عن مقتل أو جرح المئات من المدنيين، من الصعب تحديد عددهم الكلي بسبب عدم وجود نظام موثوق به لتتبع الضحايا، وفقًا لتقديرات منظمة العفو الدولية.
وكثيرًا ما تطال تلك الهجمات الإرهابية شخصيات سياسية وأمنية، كان آخرها في 17 سبتمبر 2017، حيث قُتل ضابط بارز بجهاز الاستخبارات الصومالي، وأصيب طاقم حراسته في إطلاق نار بالعاصمة مقديشو.
كما تعاني الصومال من ظاهرة تجنيد الأطفال في الصراعات المسلحة، وقد أعلنت اليونيسيف في يونيو 2016، أنها تعتقد بوجود ما قد يصل إلى 5 آلاف جندي طفل في الصومال، معظمهم تم تجنيده من قبل "حركة الشباب" والميليشيات القبلية المسلحة المنتشرة على امتداد رقعة البلاد الجغرافية.
وفي سياق متصل، تعتبر القرصنة البحرية من أخطر المعضلات الأمنية في الصومال، حيث تقع دائرة عمليات القرصنة في المنطقة المحاذية لساحل بونتلاند، شرق الصومال، نتيجة لغياب الدولة وتردي الأوضاع الاقتصادية، وعلى الرغم من تراجع عمليات القرصنة مؤخرًا بسبب الجهود الدولية ودوريات المتابعة للقوات متعددة الجنسيات بالمنطقة، إلا أن الأسباب السياسية والاقتصادية والأمنية التي أدت إلى تنامي ظاهرة القرصنة لا تزال قائمة.
في حين تبقى معضلة النازحين واللاجئين الداخليين في الصومال إحدى أبرز التهديدات الأمنية في البلاد، ووفقًا لمنظمة العفو الدولية، فإن عدد الصوماليين الذين نزحوا داخليًا بلغ نحو 1.3 مليون شخص عام 2015، حيث يواجهون ظروفًا معيشية مزرية تجعلهم فريسة للتجنيد على يد التنظيمات الإرهابية وعصابات القرصنة والجريمة المنظمة.
أما ما يتعلق بالجرائم الجنائية، فإنها تمثل امتدادًا لمناخ العنف والحالة العامة لانعدام الأمن في الصومال، وتنتشر الجرائم الخطيرة والوحشية، بما فيها جرائم القتل، وتمثل جرائم الاختطاف والسطو معضلة أمنية خاصة في مقديشو ومناطق أخرى من البلاد.
وإلى جانب التهديدات الإرهابية تعاني البلاد من موجات جفاف ومجاعة تلقي بظلالها الأمنية على الوضع المضطرب في الصومال، كان آخرها ما شهده مطلع العام 2017 من مجاعة شديدة أدت إلى مصرع العشرات جوعًا ومعاناة أكثر من 3 ملايين شخص بالصومال من أزمة نقص الغذاء. وفي مارس 2017، أعلنت الأمم المتحدة الصومال واحدة من أربع دول على وشك مواجهة مخاطر مجاعة حادة إلى جانب نيجيريا وجنوب السودان واليمن.
هياكل أمنية بلا فاعلية
هذا الوضع الأمني المضطرب يقابله غياب شبه كامل لمؤسسات الدولة الأمنية، التي تعتبر مجرد هياكل إدارية فارغة من المضمون، تتمثل في جهاز الشرطة الذي يتولى، اسميًا، مسؤولية حفظ الأمن في الصومال، ويندرج تحت سلطة وزارة الداخلية والأمن الوطني، إلى جانب جهاز الاستخبارات الصومالية.
هيكليًا يبلغ عدد عناصر قوات الشرطة في الصومال 6 آلاف فرد، غالبيتهم في العاصمة مقديشو. وقد خدم البعض منهم في الشرطة قبل عام 1991 وتم التحري عنهم قبل السماح لهم بإعادة الانضمام إلى قوة الشرطة، ويتم دفع رواتبهم من قبل المجتمع الدولي.
ووفقًا للتقديرات الدولية المعنية فإن الشرطة الصومالية، وكذلك جهاز الاستخبارات، تعاني من نقص كامل في عدد الموظفين، وهي كيانات شكلية غير مجهزة، ولا يتلقى عناصرها تدريبًا يتناسب مع المعايير الأمنية المعتمدة عالميًا، حيث تكافح من أجل توفير الخدمات الأساسية لإنفاذ القوانين. ومن ثم، فإن إنفاذ القانون الجنائي يعتبر عشوائيًا وغير موجود فعليًا.
لذلك فلا غرو أن يصنف مؤشر الدول الهشة، الصادر عن صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي في عام 2017، الصومال ضمن فئة "دول الإنذار العالي الأقل استقرارًا على صعيد الأمن الداخلي"، حيث احتلت المرتبة الثانية من إجمالي 178 دولة على مستوى العالم، بإجمالي 113.4 درجة من 120 درجة على مقياس المؤشر.
وحتى الجيش الصومالي، الذي يفترض أن يدعم جهود الأجهزة الأمنية في الحرب على الإرهاب، فإنه يعد من أضعف الجيوش في العالم، إذ يحتل المرتبة الـ128 من إجمالي 133 في تصنيف أقوى جيوش العالم، وفقًا لمؤشر Global Fire Power لعام 2017. حيث يبلغ عدد أفراد الجيش في الصومال 15,900 فرد، بدون قوات احتياط، فيما لا تتجاوز ميزانيته 58 مليونًا و960 ألف دولار أمريكي سنويًا، وهي ميزانية هزيلة للغاية ولا تفي بالاحتياجات الأساسية للعناصر والمنشآت.
وتفيد فعاليات بحثية صومالية مطلعة، بأنه على الرغم من إحداث الرئاسة والحكومة الصومالية خلال السنوات الماضية تغييرات جوهرية في قيادة الجيش والشرطة والأمن الوطني إلا أنه ليس ثمة تحسن ملموس في الوضع الأمني في البلاد.
فالحواجز غير القانونية لا تزال منتشرة خاصة في معظم المناطق التي تبعد عن المؤسسات الرسمية في قلب العاصمة وخارجها، بل إن أفرادًا من الجيش والشرطة بدورهم يشاركون على تردي الأوضاع الأمنية في البلاد بانخراطهم في أعمل غير مشروعة، مستغلين وظائفهم، لتعويض مرتبات الدولة الهزيلة التي يحصلون عليها جراء خدمتهم في الأجهزة الأمنية.
فبينما يتلقى أفراد قوات بعثة السلام الإفريقية في الصومال رواتب عالية من هيئات وحكومات أجنبية، فإن الجندي الصومالي لا يتلقى من الدولة راتبًا منتظمًا فضلاً عن كونه هزيلاً، ومن ثم يحاول تعويض ذلك من خلال النهب غير المباشر وأخذ الرشاوى والتواطؤ مع المجرمين، كما لم تستطع الأجهزة الأمنية إيقاف التفجيرات الدموية والاغتيالات المنظمة في مقديشو وخارجها، والتي طالت أماكن شديدة التحصين مثل الفنادق الكبرى التي يرتادها مسؤولون حكوميون، ما أودى بحياة العشرات من مواطنين ومسؤولين حكوميين وصحفيين وأفراد من قوات الأمن.
يأتي ذلك في سياق عام من انتشار الفساد بالبلاد، حيث تصدرت الصومال دول العالم وفقًا لتقارير منظمة الشفافية الدولية الخاصة بقياس درجة الفساد خلال الفترة 2007-2016، مع اتهامات موثقة للمسؤولين وأصحاب المناصب العامة في الصومال باستغلال مواقعهم كوسيلة لتحقيق الثروات والمكاسب غير المشروعة.
وإذا أضيف إلى ذلك غياب الاستقرار والنظر إلى الصومال دائمًا باعتبارها نموذجًا للفوضى وغياب الدولة منذ أكثر من ربع قرن، وتحديدًا منذ انهيار الدولة المركزية في عام 1991، فإن هذا يضيف إلى المعضلة الأمنية الصومالية بعدًا آخر، وفي هذا الإطار فقد منحت مؤسسة Country Watch الدولية في تقاريرها المعنية للعام 2017، الصومال درجتين فقط في مؤشري الاستقرار السياسي والمخاطر السياسية من 10 درجات ما جعلها تتموضع في أسفل سلم الدول المستقرة على الصعيد العالمي.
كما لا تزال الانشقاقات السياسية تمثل عقبات أمام بناء استقرار وسلام ومناخ أمني مستدام فى الصومال، وخاصة مع عدم قدرة النظام السياسى على تجاوز الصراعات القبلية والجهوية في البلاد، وبسط نفوذه على كامل الأراضي الصومالية، وخاصة في ظل إعلان شمال الصومال الانفصال من جانب واحد فيما يعرف بجمهورية أرض الصومال، ووجود إقليم بونت لاند الذي يتمتع بنظام شبه حكم ذاتي شرقي البلاد.
وأخيرًا، فإذا كان تفجير مقديشو الجديد هو الأعنف في البلاد منذ العام 2007، فإن ثمة مخاوف متزايدة من سقوط البلاد مجددًا في مستنقع الحرب الأهلية، بعد فترة من الاستقرار النسبي بفعل العملية السياسية الانتقالية المدعومة بشكل كبير من القوى الخارجية، التي على الرغم من تصارع أجنداتها، إلا أنها في الأخير ترغب في دولة صومالية مستقرة وآمنة لتحقيق مصالحها في منطقة القرن الإفريقي الاستراتيجية، لكن تردي الأوضاع الأمنية المتزايد في البلاد قد ينهي أي أمل للخروج بالصومال؛ شعبًا ودولة، من نفق الدولة الفاشلة الذي وصمها طوال عقود خلت.
(*) كاتب ومحلل سياسي – باحث في العلاقات الدولية