أثيوبيا أنجولا أوغندا إريتريا اسواتيني  افريقيا الوسطى الجابون الجزائر الرأس الأخضر السنغال السودان الصومال الكاميرون الكونغو الكونغو الديمقراطية المغرب النيجر بنين بوتسوانا بوركينا فاسو بوروندي تشاد تنزانيا توغو تونس جزر القمر جنوب أفريقيا جنوب السودان جيبوتي رواندا زامبيا زيمبابوي ساو تومي وبرينسيبي سيراليون غامبيا غانا غينيا غينيا الاستوائية غينيا بيساو كوت ديفوار كينيا ليبيا ليبيريا ليسوتو مالاوي مالي مدغشقر مصر موريتانيا موريشيوس موزمبيق ناميبيا نيجيريا

بنية الشخصية في الروايات النيجيرية العربية .. "ادفع بالتي هي أحسن" لجميل عبد الله الكنوي نموذجًا

 

علي إسحاق نمدي (*)

تسعى هذه الدراسة إلى النظر في كيفية بناء الشخصية "Characterization" في الروايات النيجيرية المكتوبة باللغة العربية، ويشمل ذلك استكشاف الطرق الفنية التي يتبعها كُتَّاب الروايات النيجيرية العربية في رسم الشخصيات، وبناء أبعادها الخارجية، والظاهرية، والاجتماعية؛ فالشخصيات الروائية هي العمدة التي يَنبني عليها العمل الفني الروائي، وعن طريقها يتمكن الأديب من إرسال أفكاره، وبيان مواقفه، وتوضيح أيديولوجياته، مختفيًا وراء الستار الفني. وقد اخترنا في هذا المقام رواية "ادفع بالتي هي أحسن" التي ألفها الدكتور جميل عبد الله الكنوي لتكون نموذجًا لدراستنا؛ فهي إحدى الروايات النيجيرية العربية التي حظيت بالقبول والرواج في نيجيريا وغيرها من البلاد الإفريقية المهتمة باللغة العربية والثقافة الإسلامية، وقد وضعت ضمن النصوص الأدبية المقررة(1) للحصول على الشهادة الثانوية في مادة اللغة العربية في نيجيريا وفي غرب إفريقيا.

 

الشخصية الروائية  

 الشخصية مشتقة من الشخص وهو الإنسان وغيره مما له جسم، قال ابن منظور "الشَّخْص: كلُّ جِسْمٍ لَهُ ارْتِفَاعٌ وَظُهُورٌ، وكل ما رأيت جسمانه فقد رأيت شخصه"(2) ، والشخصية "Character" في الأدب الحديث هي "أحد الأفراد الخياليّين أو الواقعيّين الذين تدور حولهم أحداث القصّة أو المسرحيّة"(3). ويُرَاد بها في علم النفس "Personality" "مجموعة الصِّفات التي تُميِّز الشَّخص عن غيره"(4).

ويقول زيتوني عن الشخصية الروائية إنها: "كلّ مشارك في أحداث الحكاية، سلبًا أو إيجابًا، أما مَن لا يشارك في الحدث فلا ينتمي إلى الشخصيات، بل يكون جزءًا من الوصف"(5).

"والشخصية الروائية هي، غالبًا، كائن مصنوع من صفات بشرية وأعمال بشرية. لهذا تتشابه الشخصية الروائية والكائن البشري، ولهذا أيضًا تختلف الشخصيات الروائية الواحدة عن الأخرى في الصفات والأعمال والأدوار والأهمية كما يختلف أفراد البشر"(6).

وعَدَّ رولان بارت (R. Barthes) الشخصية الروائية كائنات من ورق تتخذ شكلاً دالاً من خلال اللغة، وأنها نتاج عمل تأليفي، فهي ليست كائنًا جاهزًا ولا ذاتًا نفسية، بل هي بمنزلة دليل (sign) له وجهان: دال (signifier)، ومدلول (signified)(7).       

وأما بنية الشخصية فهو مصطلح يستعمله النقاد للدلالة على تصوُّر افتراضي مُستنتَج من المظاهر السلوكية المستكشَفَة عن تصرُّفات البطل أو الشخصية الموجودة في القصة أو الرواية(8) ، وتتميز الشخصيات عن سواها من حيث تلك البنية، فهي كالبصمة الوجهية التي يمتاز بها الشخص عن غيره.

 

أنواع الشخصية الروائية:

تتنوع الشخصية الروائية عند النقاد إلى أنواع عديدة، ولكن تصنيفها يرجع إلى أطوارها عبر العمل الروائي، ولذلك توجد ضروب مختلفة للشخصيات كالشخصية المدورة التي تصاديها الشخصية المسطحة، وكالشخصية المركزية التي تصاديها الشخصية الثانوية والشخصية الخالية من الاعتبار، وكالشخصية الإيجابية التي تصاديها الشخصية السلبية(9) ، وكالشخصية النامية التي تصاديها الشخصية الثابتة، وغير ذلك.

تلك من المصطلحات التي يصادفها قارئ النصوص النقدية التي تعالج الكتابات الروائية، وإن كانت تلك المصطلحات تكاد تعطي معنًى واحدًا، إلا أن لكلِّ ناقد سببه في استخدام مصطلح دون غيره، وهناك منظور دلالي حمله على اختيار ذلك المصطلح. وبالتالي تكون تلك المصطلحات متقاربة في دلالاتها، ومتفرقة في بعض ما تشير إليه، وما تحمله من المعاني.

فالشخصية المدوَّرة أو المستديرة كما يشير اسمها هي: الشخصية المركبة المعقدة التي لا تستقر على حال، ولا تصطلي لها نار، ولا يستطيع المتلقي أن يعلم مسبقًا ماذا سيؤول إليه أمرها؛ لأنها متغيرة الأحوال، ومتبدلة الأطوار، فهي في كل موقف على شأن(10).

وأما الشخصية المسطحَّة فهي "البسيطة التي تمضي على حال لا تكاد تتغير ولا تتبدل في عواطفها ومواقفها وأطوار حياتها بعامة"(11).

وأما الشخصية النامية والإيجابية فتعادل "الشخصية المدورة" كما أن الشخصية الثابتة والسلبية تعادل الشخصية المسطحة(12).

وهكذا، فالروائيون يختلفون في خلق الشخصيات، وفي توزيعها في الرواية لتقوم بأدوارها المختلفة، وهي التي تقوم بتنفيذ ما يمليه خيال الروائي من الأحداث، فهي التي تتحرك في الرواية، وتتقبل ما يُفرَض عليها من الأحكام.

 

الروايات النيجيرية العربية

يُقْصد بها الروايات التي يكتبها أدباء نيجيريا الذين تثقفوا بالثقافة العربية ممن درسوا داخل البلاد أو خارجها؛ فهي روايات إفريقية من حيث موطنها، ونيجيرية من حيث جنسيتها، وعربية من حيث لغتها، فمن كان يبحث عن خصائص الحياة الأدبية والاجتماعية والثقافية والسياسية في نيجيريا خاصة، وفي إفريقيا عامة، فله أن يراجع تلك الروايات إضافة إلى أخرى مكتوبة باللغات المحلية والأوروبية، كما يَحْسُن بمن يبحث عن الأدب العربي في إفريقيا أن يراجعها ليكتشف مدى تمكُّن الأفارقة من الكتابة باللغة العربية التي يعتقدون أنها لغتهم بما أنهم مسلمون، وقد أصبحت من ثقافتهم بعد دخولها في إفريقيا منذ ما يربو على ألف سنة.

ومن الروايات النيجيرية المكتوبة باللغة العربية: رواية "مذكرات إمام وخطيب في مناخ جامعي" للأستاذ الدكتور محمد أول أبوبكر عام 1994م، ورواية "لماذا يكرهوننا؟" للأستاذ ثالث مَيْ أُنْغُوَا دُرُمِنْ إِيَا عام 2003م، ورواية "ادفع بالتي هي أحسن" للأستاذ جميل عبد الله الكنوي عام 2004م، ورواية "خادم الوطن" للأستاذ حامد محمود إبراهيم الهجري عام 2008م، ورواية "أهل القرى" للأستاذ أحمد أبوبكر عبدالله عام 2014م، وغيرها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس كل ما يُطلَق عليه "رواية" مما كُتِبَ باللغة العربية في نيجيريا يستحق تلك التسمية؛ فبعضها عبارة عن قصص قصيرة، أو سِيَر ذاتية، أو مقالات أدبية لا تتصف بالخصائص الفنية الروائية، وفي هذا نشر الأستاذ حسين لون بللو مقالة في موقع مجلة "قراءات إفريقية" ليبرز ما ينقص بعض ما يطلق عليه اسم الرواية من الخصائص الفنية من بين السرديات النيجيرية؛ بناء على معطيات النقد الأدبي الحديث(13).

كما يرى باحث آخر أن غالب تلك الروايات يتَّسم بالضعف؛ من حيث التهافت في العبارات، والتكلف في المُحَسِّنات، والركاكة في الأساليب، والأخطاء الإملائية والنحوية والمطبعية(14). ولكنه أشار إلى أن هناك نماذج حية من تلك الأعمال الروائية، ويفسر وجودها ببشرى بمستقبل زاهر للرواية النيجيرية المكتوبة باللغة العربية(15). 

ومهما يكن من أمر فالروايات النيجيرية تقوم بدور فعَّال في نشر الثقافة العربية والإسلامية في نيجيريا، وفي غيرها من البلاد الإفريقية أمثال النيجير، ومالي، وبركينا فاسو، وغيرها، وهي تتميز بمميزاتها الفنية من حيث استخدام اللغة والفضاء الروائي ورسم الشخصيات وغير ذلك، كما تقدم صورة واقعية عن المجتمع النيجيري بما يجري فيه من العادات والتقاليد، والحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.  

    

رواية "ادفع بالتي هي أحسن"

رواية نيجيرية عربية، تحكي قصة خِرِّيج من جامعة بَايَرُو بكَنُو (بشير)، له خطيبة يحبها وتحبه (سارة)، ففرض عليهما الزمان أن يفترقا عن بعضهما لسنة كاملة، يقضيها بشير للخدمة الوطنية اللازمة في مدينة إِبَادَن، وبعد سفره خانته خطيبته فتركته وتزوجت من صديقه تاجو (Tajo)، وبعد فراغ بشير من الخدمة الوطنية انخرط في التجارة، فأعطاه أحد زبائنه شيكًا يحتوي على مبلغ كبير من المال ليوصله إلى تاجو، فرأى بشير أن تلك الفرصة السانحة لينتقم من تاجو وسارة؛ وهو يعلم أنهما يعيشان في ضنك؛ لأن الفقر المدقع كان يشدد وطأته عليهما، ولكنه سمع نصيحة من خطيب جمعة بأحد الجوامع يذكر أهمية أداء الأمانة، ويوضح أنه يجب على الإنسان أن يؤدِّي أمانةَ مَن ائتمنه، ولا يجوز أن يخون مَن خانه، فبعد سماع النصيحة أوصل المال إلى تاجو، وسامحه وزوجه، فعادت الحياة بينهما كما كانت، وتزوج من فتاة أخرى من إبادن (نبيلة) تحبه من كل قلبها، بل هي التي صرحت له بحبه بنفسها، وهي أجمل وأعلم وأفضل من سارة، فتزوجها، وبذلك كان بشير قد دفع السيئة الصادرة عن تاجو وسارة بالتي هي أحسن، فأصبح بعدما كانت بينه وبينهما عداوة كأنه وَلِيُّهما الحميم، وهذا وفق قوله تعالى: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"(16).  

 

نبذة عن ترجمة المؤلف:

مؤلف هذه الرواية هو الدكتور جميل عبدالله الكنوي، من مواليد السبعينيات في القرن العشرين الميلادي، ولد بقرية تسمى لمبو ((Lambu تحت حكومة توفا (Tofa) المحلية بولاية كنو (Kano) في شمال نيجيريا(17).

بدأ حياته العلمية على يد أبويه في سن الصغر ثم أُلحق بالمدارس النظامية على النحو التالي:

أولاً: المرحلة الابتدائية في مدرسة آدم نمأجي، بحارة واروري، كنو.

ثانيًا: المرحلة الإعدادية والثانوية في كلية إعداد معلمي اللغة العربية بغوالي، كنو.

ثالثًا: مرحلة الدبلوم في جامعة بايرو، كنو.

رابعًا: المرحلة الجامعية في الجامعة الإسلامية بالنيجر.

خامسًا: مرحلة الماجستير في جامعة بايرو، كنو.

سادسًا: الدكتوراه في جامعة بايرو، كنو(18).

وعمل في الحقل الأكاديمي على النحو التالي:

أولاً: مدرسًا للغة العربية في محافظة بثي (Bichi) تحت مشروع الخدمة الوطنية.

ثانيًا: مدرسًا للغة العربية تحت وزارة التربية والتعليم، بولاية كنو.

ثالثًا: محاضرًا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب والدراسات الإسلامية، جامعة بايرو، كنو.

وله مؤلفات كثيرة، منها: رواية "ادفع بالتي هي أحسن"، الديوان الشعري، مسرحية "عالم الشهادة" وغيرها، وما زال يحاضر بجامعة بايرو، ويخرج مؤلفات من حين لآخر في اللغة العربية وآدابها.  

 

الشخصيات في رواية "ادفع بالتي هي أحسن":

يمكن النظر في شخصيات هذه الرواية عبر النقاط التالية:

أولاً: من حيث الكمية:

تذخر رواية "ادفع بالتي هي أحسن" بعددٍ كبير من الشخصيات، فعدد شخصياتها يزيد على عشرين، مثل: بشير، وعلي، والسنوسي، وتاجو، وسارة، ونبيلة، ومريم، وغالي، والحاج نمدي، والحاج إيلو، والخولي، وفنمي، ومالم إيدي، وعباس (الغلام)، وتندي، وكولاولي، وسودة، ومامي آمنة، والحاج عبد الهادي طن سالو، والحاج عيسى، والحاج إبراهيم، والحاج عبد الكريم، وغيرها.

ويلاحظ على شخصيات هذه الرواية أنها كثيرة فوق اللازم؛ لأن أغلبها تظهر لتؤدي دورًا واحدًا ثم تختفي، ولا يوجد لها أثر بعد ذلك، أمثال شخصيات: الحاج إدريس، والخولي، ومالم إيدي Mallam Idi، وعباس (الغلام)، وتندي Tunde، وكولاولي Kolawole، وسودة، كل هذه الشخصيات ظهرت مرة واحدة في الرواية، ثم لم يجد القارئ لها أثرًا بعد ذلك. فمثلاً شخصية مالم إيدي لم تقم بشيء سوى فتح البوابة لبشير، وعباس لم يفعل شيئًا غير دعوة سارة لتخرج من البيت حين زارها بشير، وهكذا.

 

ثانيًا: من حيث التعريف:

تضم هذه الرواية شخصيات معروفة بأسمائها، وتقوم بأدوارها كما أرادها الروائي أن تقوم بتلك الأدوار، ولا يكاد القارئ يجد شخصية ذكرت من غير أن تعيَّنَ بالاسم سوى شخصية الخولي.

وهناك شخصيات موجودة بأسمائها في هذه الرواية ولكن لا تقوم بأدوار ملموسة، أمثال شخصية: مستر مي (Mr. Mai)، وثندو (Chindo)، أوكونكو (Okwonko)، وفيدلس (Fidelis)، وأوديلي (Odili)، وثاني فنتوا (Funtua)، ومستر طن أريوا (Mr. Dan'arewa). فكل أولئك الشخوص ذكروا على أنهم زملاء لبشير أثناء دراسته في الجامعة، وسيلتقي بهم في ملتقى الخريجين، ثم لم يُذْكروا بعد ذلك كما لم يمر لهم ذكر من قبل، ولكن ذكر أسمائهم يشير إلى أنواع زملاء بشير في الدراسة، فهم من مختلف القبائل النيجيرية، اليوربا، وإيبو، وكانوري، وغيرها.

ثالثًا: من حيث النوع:

تحتوي هذه الرواية على شخصيات مدورة ومسطحة كما يأتي:

فأما الشخصية المدورة، فتتمثل في شخصية بشير، الخريج الجامعي الذي أُرْسِلَ إلى إبادن للخدمة الوطنية، فذهب تاركًا وراءه حبيبته التي يحلم بالعيش معها طوال عمره، ثم تخونه فتتزوج من صديقه.

وكان الراوي يسرد ما كان يجري حول هذه الشخصية، ويُحدّث المسرود له بِما له علاقة بها، وأما الأحداث التي لا تتصل بهذه الشخصية، فقد يهملها ولا يُطلع عليها المسرود له، ويجد القارئ أن السارد يترك الأماكن التي لا تعيش فيها هذه الشخصية، أو يترك الأماكن التي لا علاقة لِمَا يجري فيها بهذه الشخصية. فمثلاً منذ أن غادر بشير مدينة كنو إلى إبادن للخدمة الوطنية، وكان ذلك في الصفحة الواحدة والثلاثين " وانطلقت السيارة، ولكن سارة لم تنطلق، بل وقفت ترقب أشعة السيارة الخلفية الحمراء من بعيد..(19) " ، تحول خط السرد إلى الحديث عن إبادن، وما جاورها؛ لأن بشيرًا صار يعيش هنالك :" تأقلم بمدينة إبادن – أصبح يجول أعزل من كل سلاح يواجه به جيوش الأمطار والعواصف والبرد، بدأت الخدمة تسير المسار المرجو، فلم يواجه مقدمه تلك المشاكل اللوجستية التي كثيرًا ما يعانيها الخادم في مبدأ خدمته، فقد نزل ببيت صديق أسرته، ورفيق أبيه بجامعة أكسفورد الحاج عبد الكريم..."(20) ، فلم يعد السارد إلى الحديث عن مدينة كنو وما يجري فيها إلا في الصفحة الستين، وذلك حين اتصل بشير بأسرته من إبادن، فتحدث مع مامي آمنة:

"- السلام عليكم من المتحدث؟ ... بشير

انبسطت أسارير وجهها

- كيف حالكم؟ أرجو كل شيء على ما يرام... كيف الحاج عبد الكريم وحاجيا لامي؟...(21)".

والباحث في السمات التي تثبت كون شخصية بشير شخصية مدورة، يجد ذلك في كونه يحب التطلع في أمور كثيرة، أو الفضول؛ فلم يمكث كثيرًا في إبادن حتى ذهب إلى جامعة إبادن كي تطأ قدماه تراب أولى جامعة في نيجيريا، وكذلك في ذهابه إلى " بهو مافو الذي كان بمثابة دار البلدية من عهد المستعمر البريطاني"(22) ، وكذلك ذهابه إلى دار "كاوكاو"، وكل ذلك لإشباع فضوله.

وكذلك تظهر سمة الشخصية المدورة في شخصية بشير عندما اضطرب اضطرابًا شديدًا قبل اتخاذ قراره في نبيلة؛ تلك الفتاة الجميلة المثقفة التي أظهرت له الحب بكل إخلاص، فكان ينظر في جمالها وثقافتها وثراء أهلها، ثم يتذكر سارة حبيبته الأولى وما قدمت له من تضحيات، وما أظهرت له من حب خالص، ولكنه أخيرًا، فضَّل الوفاء على الخيانة، فتمسك بسارة وترك نبيلة وجمالها وثقافتها " إذا به يندفع مسوقًا بالعواطف ليمد الجمال بأسلحة فتاكة كاد يقضي بها على الحب، لولا تدخل وسيط الضمير زاجرًا "العهد يا بشير! أين المواثيق؟!"(23).

وبلغ كون هذه الشخصية مدورة حدّ أن المتلقي لا يستطيع أن يخمن ما تقوم به مستقبلاً، كما أنه لا يحيط بأطوارها وأمزجتها، فبشير الذي تخرج من الجامعة في كنو، وذهب إلى إبادن للخدمة الوطنية، ينتهي من الخدمة ثم يتزوج من فتاة في إبادن بعدما انخرط في الشؤون التجارية، ولم يَسْعَ إلى طلب الوظيفة الحكومية أو ما شابهها، وكذلك تظهر تلك السمة في كونه يُقَرِّبُ صديقه الذي خانه وتزوج من حبيبته "سارة" فيصيِّرَه صديقًا حميمًا.  

وأما الشخصيات المسطحة في هذه الرواية، فكثيرة جدًّا، فكل من شخصية: السنوسي صديق بشير، وغالي صاحبه في إبادن، ونبيلة حبيبته الثانية، والحاج عبد الكريم الذي نزل عنده في إبادن، وغير أولئك كانوا ضمن الشخصيات المسطحة؛ لأن الأحداث التي كانت تصدر منهم لم يصبها شيء من التطور أو التحول منذ بداية الرواية حتى نهايتها.

فمثلاً السنوسي كان صديقًا لبشير منذ بداية الحكاية، حتى " بلغ ترابطهما أن تَوَهَّمَ معظم الناس أنهما ابنا عمومة..."(24) ، وظل هكذا وفيًّا لصديقه مطلعًا له على ما يفيده أثناء غيابه عن بلده، بل هو الذي أخبره بخيانة حبيبته الأولى سارة، وصديقه تاجو. فهو لم يتحول عما عهده عليه القارئ.

رابعًا: من حيث التقديم:

يمكن القول بأن الروائي لم يهتم بتقديم الشخصيات في هذه الرواية، فحين كان بعض الروائيين يبذلون جهدًا كبيرًا في وصف الشخصيات، وشرح أحوالها، ويملؤون صفحات في ذلك قبل الخوض في حكي ما تقوم به من الأدوار، يجد قارئ هذه الرواية أن الراوي يدخل مباشرة في الحكي، ويهمل تقديم وشرح حال الشخصية، بل إنما يدرك المتلقي أحوال الشخصيات في هذه الرواية عن طريق ما يصدر عنها من الأدوار.

ويرى بعض الدارسين أن تقديم الشخصيات مهم جدًّا في الحكي؛ "لأن استجابة المتلقي للشخصية الروائية وتقبله لها، يتوقف –بالدرجة الأولى– على تقديم الشخصية تقديمًا مشوقًا"(25).

ولكن بعضًا يسيرًا من الشخصيات قد حصل على شيء من التقديم في هذه الرواية، مثل شخصية الحاج عبد الكريم، فقال عنه الراوي: " كان من مشاهير أثرياء مدينة إبادن، يسكن حي سابو، ويمتلك عقارات في أحياء أخرى، رجل رحب الصدر، حلو الحديث، طليق الوجه واليد، لا يمايز بين بشير وغالي، يجالسهما في أوقات فراغه، ويحادثهما في أمور الحياة وتجاربها، ويفيض بهما في معاطف التاريخ، وتقلبات الحياة، وانقلاب موازين العصر"(26) ، فهذا وصف وتحليل نفسي وفكري واجتماعي لهذه الشخصية، ولكن يلاحظ على الروائي أن هذا ليس تقديمًا فنيًّا كافيًا لهذه الشخصية؛ كما أنها لا تقوم بأدوار أساسية في الرواية، بل ربما لا يشعر المتلقي بعدم وجودها لو حُذِفَتْ من الرواية.

فيلاحظ على هذه الرواية عدم الاهتمام الكافي بتقديم الشخصيات الأساسية كشخصية بشير وتاجو وسارة وغيرها، فلا يكاد القارئ يكتشف عن أبعادها الفسيولوجية، والنفسية، والاجتماعية إلا شيئًا يسيرًا.

خامسًا: من حيث الطبقة:

تحتوي هذه الرواية على شخصيات مختلفة ومتباينة طبقيًّا، فبعضها ينتمي إلى الطبقة العليا أمثال والد بشير وصديقه الحاج عبد الكريم اللذين درسا في جامعة أُكْسْفُورْدَ بإنجلترا، ثم صارا تاجرين على المستوى الوطني، ويبدو من خلال هذه الرواية أن أصحاب الطبقة العليا يتمتعون برغد العيش والتعليم المتميز في نيجيريا، ولم يدرس بشير خارج البلاد وهو بطل الرواية، وذلك ليتمكن من معرفة بلاده، وليتكيف مع بني جلدته، وهذا ما مهَّد له الطريق ليصبح تاجرًا على مستوى الدولة.

وتوجد كذلك شخصيات تنتمي إلى الطبقة الدنيا في الرواية، مثل مالم إيدي (الحارس)، وفنمي السكرتيرة، وغيرهما. واستخدم الكاتب العلاقة بين أبناء الطبقتين العليا والدنيا ليوضح ما ينبغي أن يكون من احترام متبادل، وعيشة بالمعروف، ويبرز ذلك فيما كان بين بشير وبين الخولي، وما كان بين مالم إيدي وأهل أسرة بشير، وغير ذلك.

 

خاتمة:

من خلال هذه الجولة القصيرة تبيَّن أن لبنية الشخصيات الروائية أهمية كبيرة، وأن لها تقنيات متعددة ينظر الكاتب فيما يساعده منها في إيصال فكرته فيستخدمه في روايته، وتبين كذلك أن للشخصيات مواقع متباينة في البناء الروائي، فبعضها محورية تدور حولها الحكاية، كما أن بعضها ثانوية لا تؤثر كثيرًا في سير الحدث.

ويبدو من خلال هذه الجولة أيضًا أن الروايات النيجيرية العربية تختلف اختلافًا واضحًا من حيث احتوائها على العناصر الفنية الروائية، وإن كان اسم أو مصطلح الرواية يُستخدم في كافتها إلا أن بعضًا منها لا يتَّسم بالمكونات الروائية الفنية، ومع ذلك فهي تقوم بدور فعَّال في تقدم اللغة العربية وآدابها في هذه البلاد.

وتمتاز رواية "ادفع بالتي هي أحسن" بطريقتها السردية في رصد الشخصيات من حيث الكمية، والتعريف، والنوع، والتقديم، والانتماء إلى الطبقة الاجتماعية، وهي تقدم صورة فنية واقعية للمجتمع النيجيري بجوانبه المختلفة.

 

الاحالات والهوامش:

(*) أكاديمية الشيخ أبي بكر جومي، أسوكورو، أبوجا

(1) ينظر، منهج مجلس غرب إفريقيا للامتحانات 2016م (West African Examination Council Syllabus 2016)، ومنهج المجلس الوطني للامتحانات 2016م (Nigerian Examination Council Syllabus 2016)، مادة اللغة العربية  

(2) ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي الإفريقي، لسان العرب، ط3، دار – صادر، بيروت، 1414هـ، ج7، ص:45

(3) أحمد، مختار عبد الحميد عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، 1429هـ - 2008م، ج2، ص1174.

(4) المرجع السابق نفسه والصفحة.

(5) زيتوني، لطيف، معجم مصطلحات نقد الرواية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 2002م، ص:113.

(6) المرجع السابق نفسه، ص:100

(7) المرجع نفسه، ص:107.

(8) ينظر، حجازي، سمير سعيد (دكتور)، قاموس مصطلحات النقد الأدبي المعاصر، الطبعة الأولى، دار الآفاق العربية، القاهرة، 1421هـ/2001م، ص:124.

(9) مرتاض، عبد الملك، في نظرية الرواية – بحث في تقنيات السرد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد:240، 1998م، ص:99.

(10) المرجع السابق نفسه، ص:101.

(11) المرجع نفسه، ص:99.

(12) ينظر، المرجع نفسه، ص:101-102.

(13) بللو، حسين لون، إشكاليات تجنيس السرديات العربية النيجيرية، مقالة منشورة في موقع مجلة قراءات إفريقية، www.qiraatafrican.com

(14) بلاربي، أبوبكر صديق، قضايا الشكل والمضمون في رواية "مذكرات إمام وخطيب في مناخ جامعي ورواية "السيد الرئيس" لحامد محمود الهجري – دراسة نقدية -، بحث تكميلي مقدم إلى كلية اللغة العربية والعلوم الإنسانية، بالجامعة الإسلامية بالنيجر، للحصول على درجة الماجستير، 2016م، ص:36.

(15) المرجع السابق، ص:36.

(16) سورة فصلت، الآية:34.

(17) آدم، جميل بلا، التناص الإسلامي في شعر جميل عبد الله الكنوي، رسالة ماجستير مقدمة إلى قسم اللغة العربية بكلية العلوم الإنسانية، جامعة عمر موسى يَرْأَدُوَا، كشنه، عام 2016م، ص:35.

(18) المصدر السابق، ص:35.

(19) الكنوي، ادفع بالتي هي أحسن، ص:31.

(20) المصدر السابق نفسه، ص:32.

(21) المصدر نفسه، ص:60.

(22) المصدر نفسه، ص:35.

(23) المصدر نفسه، ص:73.

(24) المصدر السابق نفسه، ص:2.

(25) عبد العزيز، ربيع، مرايا السرد، مكتبة الآداب، القاهرة، 1431هـ - 2010م، ص:9.

(26) الكنوي، ادفع بالتي هي أحسن، ص:32.

 

كتاب الموقع