مثَّل انقلابُ مالي الأخيرُ الذي وقع في شهر أغسطس الجاري 2020م حلقةً جديدةً في سلسلة ممتدة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه الدولة في غرب إفريقيا خلال العقود الأخيرة؛ فمنذ عام 1968م وقعت أربعة انقلابات عسكرية، كلها كانت في سياق الفشل في إدارة الدولة وزعم ثُلَّة من العسكريين بفشل السياسيين في إدارة شؤون البلاد، بالرغم من أن مشكلة مالي الرئيسية يمكن عَزْوها إلى أبعاد أمنيَّة أكثر من كونها سياسية، ويمكن إرجاعها بصورة كبيرة إلى فشل القوات الأمنية في السيطرة على شمال البلاد التي شهدت الكثير من حالات التمرد ضد الحكومات المحلية، وكذلك ضد التدخلات الأجنبية، ممثلة في الوجود الفرنسي في البلاد.
فمنذ آخر تدخُّل للجيش في السياسة عام 2012م وتحريضه على انقلاب عسكري؛ تدخلت فرنسا، والتي تُعَدّ القوة الاستعمارية الأساسية في البلاد والمهيمنة على سياساتها، من أجل استعادة التوازن، ومنع انتشار الفوضى والعنف، وكذلك مَنْع وصول الطوارق إلى العاصمة باماكو، بعد أن ازدادوا قوَّةً في الشمال، ولكنَّ فرنسا بالرغم من ذلك فشلت في التصدِّي إلى تلك المشكلات الأمنية، بل وأدَّى التدخل الفرنسي إلى تفاقمها وازديادها، وازداد حنَق السكان المحليين من ذلك الاستعمار المغلَّف بتدخُّلٍ إنسانيّ؛ حيث إن القضايا العِرْقِيَّة والدينية في البلاد لا تزال حاضرةً وبقوة لا يزيدها التدخل الفرنسي إلا اشتعالاً، كما أنَّ الحكومة التي كانت تحظى بدعم فرنسا والاتحاد الأوروبي لم تستطع هي الأخرى أن تَحُلَّ مشكلات البلاد بذلك الدعم الخارجي.
كما يُعَدّ الجيش أحد عوامل عدم الاستقرار؛ حيث إنه سمح في ظل وجوده بانتشار العمليات العسكرية، والجريمة المنظَّمَة، وتجارة المخدرات والأسلحة، وكذلك الاتِّجار بالبشر حسب تقارير أُمَمية، وذلك في ظل تصاعُد التنافس كذلك بين تنظيمي داعش والقاعدة على أراضيها، ومن ثَمَّ فإن ذلك يُمثّل فشلاً ذريعًا على الصعيد الأمني قبل حسابه بمقاييس السياسة والاقتصاد والتنمية في البلاد.
فهذا الانقلاب العسكري الذي شنَّته ثُلَّة من النُّخَب الوسيطة في الجيش يأتي انطلاقًا من تململ تلك الرُّتَب، والتي يقع على عاتقها معظم العمل الميداني، من فشل الجيش كذلك وقادته في السيطرة على الأوضاع الأمنية، واستنزافهم في حروب طويلة الأمد في صحراء مالي القاحلة ضد جماعات وعناصر تنتشر انتشارًا واسعًا وعلى قدرة كبيرة من المناورة وإجهاد الجيش المالي وآلياته ومعداته وأفراده على حدّ سواء.
وفي انقلاب عام 2012م عندما انقلب الجيش وأطاح بالرئيس توماني توري، كانت الاتهامات ذاتها للرئيس الذي اتَّهمه الانقلابيون -الذين كانوا من حرسه الرئاسي- بالفشل في التصدّي لتمرُّد الطوارق والجماعات المسلَّحة شمال البلاد، وهي المطالب ذاتها التي يطالب بها الانقلاب الحالي، والذي يسير على خطى سابقيه بالرغبة في تشكيل لجنة عسكرية لحكم البلاد قبل إجراء انتخابات عامَّة من أجل "استعادة الديمقراطية"، وهي الشعارات التي رفعتها كلّ الانقلابات العسكرية السابقة، والتي فشلت كذلك في أن تقيم الديمقراطية أو تستعيدها، كما أنَّها أدَّت إلى مزيد من التدهور على الصعيد الأمني، وهو المهمة المنوط بتحقيقها قادة الجيش وليس السياسيين، فقد قُتِلَ في العام الماضي وحده 1800 شخص على أيدي الجماعات المسلحة، فيما يُمثّل فشلاً ذريعًا لقوات الجيش في السيطرة على الأوضاع الأمنية في البلاد، أو التخطيط لتأمين السكان المحليين، فضلاً عن عجزهم عن اقتحام مناطق المتمردين أو الجماعات الإرهابية، بما يمكن عَزْوه إلى الجيش وقياداته العليا على وجه الخصوص.
كما تتكشف الدوافع الشخصية لقادة الانقلاب، والذين يترأسهم العقيد جويتا الذي كان يعمل في المناطق الأمامية للصراع مع المتمردين والجماعات المسلحة، والذي شهد ضعف الجيش أمام تلك الجماعات، وأوردت الواشنطن بوست في تقرير لها أنه كان مستاءً للغاية من إدارة الجيش للصراع، وكان ينشر على مجموعات "واتساب" صورًا للقرى المحروقة مُعبِّرًا عن إحباطه من تصاعد العنف في البلاد.
ولكن، في ظل الأوضاع الاقتصادية الكارثية، وكذلك الأمنية المتدهورة، وفي ظل انتشار وباء كورونا، فإنَّ آخر ما تحتاجه البلاد هو أزمة سياسية مفتعَلة مِن قِبَل ثُلَّة من ذوي الرتب المتوسطة من الجيش، وقد ترأس العقيد آسيمي جويتا ما أسماه "اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب"؛ بعد أن قام باعتقال الرئيس وعدد من كبار الوزراء في البلاد، وردت المؤسسات الإفريقية بتجميد عضوية مالي فيها، وعلى رأسها الاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس).
وبالرغم من التعاون الكبير بين الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا مع مالي، إلا أن القطاع الأكبر من ذلك التعاون يأتي في مجال "مكافحة الإرهاب"؛ فيما فشلت تلك الدول في النظر إلى البُعْد التنمويّ فيها، وهو ما دأبت القوى الاستعمارية على عمله في القارة السمراء؛ حيث إنَّ الهدف الأسمى لتلك الدول هو القضاء على التهديدات الأمنية التي يمكن أن تتطور وتصبح سلاحًا في وجوهها، ولا تنظر إلى الأبعاد التنموية والاقتصادية والسياسية في تلك البلدان، بما يمكن اعتبارها شريكًا أساسيًّا في كلّ حالات الفشل التي تشهدها دول إفريقيا وتكرار الانقلابات العسكرية فيها، وعدم اتخاذها قرارات حاسمة تؤدي إلى منع تلك الانقلابات، بل في معظم تلك الأحوال يمكن تحميل القوى الكبرى والمجتمع الدولي مسؤولية تكرار تلك الانقلابات بعدم اتخاذها إجراءات حاسمة ضد قادته واستهدافهم في المحاكم الدولية باعتبار اقتران الانقلابات دومًا بجرائم حرب وفظائع ضد الإنسانية.
إن قادة الانقلابات عبر القارة الإفريقية يعلمون تمامًا أن كل إجراءاتهم تمرّ بدون عقاب؛ فالإجراءات المتَّبعة في تلك الحالات هي وقف عضوية الدولة في الاتحادات القارية حتى يتم استعادة الديمقراطية، ومن ثَمَّ فإن تلك الحركات الانقلابية حتى وإن خرجت من السلطة تقوم بعمل إجراءات سياسية صورية من أجل استمرار سيطرتها على البلاد بدون أن ينالوا عقابهم، حيث إنَّ في السياسة دومًا إجراءات بديلة لعمليات الإطاحة بالرؤساء عن طريق تفعيل مواد الدستور وقيام البرلمان بدوره في مساءلة السلطة التنفيذية، وهذا هو المسار الذي يجب على الدول الكبرى تشجيعه في إفريقيا، وكذلك الاتحادات القارية.
إن المشكلة الرئيسية في مالي، وفي معظم دول القارة السمراء، تتعلق بالأساس بالتنمية الاقتصادية وبالحكم الرشيد، فالأمن يتحقق بالعدالة الاجتماعية وبالمساواة بين مختلف الأعراق والأجناس في ظل الدولة الوطنية، وكذلك بالحكم الرشيد وتفعيل دور مؤسسات الدول في المساءلة والمراقبة والحساب والفصل بين السلطات، وهو الدور الذي يجب أن تقوم به الدول الكبرى، وخاصةً في مناطق الصراعات، ولكنَّ اهتمام تلك الدول بمصالحها واعتباراتها الخاصة دون القِيَم التي تزعم الترويج لها؛ فإنه سيؤدي إلى مزيدٍ من المآسي والمذابح والصراعات، لا سيما في الدول الفقيرة، والتي تنشب فيها الصراعات على أدنى متطلبات الحياة؛ من مسكن ومأكل ومشرب وصراع على المياه ومناطق الرعي، ومن ثَمَّ فإن تلك القضايا يجب أن تكون على أولويات الاتحادات القارية والمنظمات الدولية، بدلاً من النمط الراهن، والذي يعمل في حقيقة الأمر على التشجيع غير المباشر على الانقلابات العسكرية وزيادة معاناة الشعوب في كل مكان.