ما من شكّ في أنَّ أزمة فيروس كوفيد19 قد غيَّرت رؤية العالم للمخاطر والتهديدات؛ حيث بات هذا الفيروس يمثّل فاصلاً بين عهدين؛ حيث يشير الكثير من الخبراء إلى أنَّ العالم بعد أزمة كوفيد19 لن يصبح هو العالم ذاته قبل انتشار ذلك الوباء؛ فقد غيَّر ذلك الفيروس تصوُّرات ومعاني "التهديد" عند أجهزة الأمن القومي العالمية، فما من سلاح في العقود الأخيرة استطاع أن يقتل ذلك العدد من البشر، وأن يتخطَّى الحدود والحُجُب بتلك السهولة مثل فيروس كوفيد19، والذي فشلت كلّ الأنظمة الدفاعية والوقائية حول العالم في إيقافه، كما عجزت مختلف الأنظمة الصحية حول العالم عن احتوائه أو إيجاد علاجٍ فعَّال له؛ ممَّا يؤكّد على مدى خطورة الفيروسات والأوبئة على الأمن العالميّ، والذي اجتاح البلدان بدون تفرقة بين عِرْق أو لون ولم يعرف الحدود الجغرافية أو تقسيمات العالم بين دُوَل نامية ودول متحضّرة.
ولا شكَّ أنَّ ذلك التهديد يجب أن يدقّ جرس الإنذار أمام المنظمات العالمية والإقليمية على حدّ سواء؛ فهذا الوباء أكبر من أن تتصدى له دولة واحدة بمفردها، ومن ثَمَّ فإن منظمات العمل الجماعي حول العالم يجب أن تضع في حسبانها كيفية مواجهة ذلك الوباء بصورة جماعية، لا سيما في الأقاليم ذات البنية التحتية غير المؤهَّلة لمواجهة مثل تلك التحديات، كما أن المنظمات الإقليمية باتت معنية بمواجهة ذلك التهديد الذي لا يمكن أن تتصدَّى له المنظمات الصحية العالمية أو الإقليمية وحدها، ولكنه بات بحاجة إلى تضافر الجهود الجماعية من المؤسسات ذات التخصصات المتعددة، لا سيما تلك المعنية بالتنسيق على مستوى الحكومات إقليميًّا ودوليًّا.
ومن ثَمَّ فهناك عدة مسارات محتملة يمكن أن تسير فيها القارة الإفريقية، على مستوى الحكومات الوطنية والمنظمات الإقليمية الدولية على حدّ سواء؛ وذلك من أجل مواكبة تحولات عالم ما بعد كوفيد19، من تلك المسارات ما يلي:
التنسيق بين القطاعات الأكثر تضرُّرًا:
من المتوقع أن يتعاظم التَّنْسِيق بين القطاعات الأكثر تضرُّرًا من أزمة كوفيد19؛ من أجل الضغط على الحكومات لإيجاد بدائل وتعويضات لتلك القطاعات، ومن ثَمَّ رفع تلك الضغوط إلى المنظمات الإقليمية من أجل المزيد من التعاون الإقليمي في قطاعات، مثل السياحة والتجارة والتعليم، فقد كشفت الأزمة عن ضرورة تعاضد قوَى القطاع الخاص في مواجهة الحكومات من أجل إيجاد سُبُل للتعويضات والإنفاق العام الحكومي على تلك الخدمات، وتخصيص رواتب للمتضرِّرين في مثل تلك الكوارث، كنوعٍ من أنواع الأمن الإنساني، كما أنَّ تطوُّر التقنيات في مجالات التعليم عن بُعْد على سبيل المثال يمكن أن تُمثِّل خبرات متبادَلَة بين مختلَف الدُّوَل، وهو ما يفتح الباب أمام التساؤل عن مدى استعداد البنية التحتية الإفريقية لتلك التحوُّلات، والتي من المتوقَّع أن تستغرق وقتًا ليس بقليل في ظل جائحة كوفيد19، كما أنَّ التجارة الإلكترونيَّة شهدت نموًّا في الفترة الماضية نظرًا لفرض حظر التجوال والإغلاق التامّ في العديد من الدول، وهو ما يُمثِّل تحديًا كذلك للبنية التحتية الإفريقية في مجالات النقل والتحوُّل إلى التقنيات الجديدة التي تعتمد في بعض الأحيان على الطائرات المُسَيَّرَة لتوصيل البضائع.
تطوُّر المنظومات التأمينية والضريبية:
ما من شكّ في أن التأمين على الكوارث والجوائح العامَّة سيصبح جزءًا أساسيًّا من منظومات التأمين المستقبلية؛ حيث كشفت جائحة كوفيد19 عن وجود مخاطر وُجودية على حركة التجارة والصناعة والزراعة والخدمات، وتأثرها بذلك بصورة كبيرة، ومن ثَمَّ فإن تطوير منظومة تعويضات مناسبة من تلك الشركات لا بد أن يُوضَع على جدول أعمالها، وربما تساهم المنظومات الدولية والإقليمية في تطوير آليَّات للتعويض في تلك الحالات من أجل تغطية الخسائر والعجز في الموارد، وحالات تسريح العمالة، وانتشال القطاعات الأكثر تضرُّرًا في مثل تلك الأزمات، لا سيما تلك التي تعتمد على التنقل وحركة المواطنين والأجانب على حدّ سواء مثل القطاع السياحي، ومن ثَمَّ قد نشهد أيضًا تطورًا في المنظومات الضريبية التي يمكن أن تفرض بدورها على القطاعات الأكثر ربحًا من تلك الأزمات، مثل قطاعات التجارة الإلكترونية، وقطاعات المستلزمات الطبية التي شهدت هي الأخرى رواجًا منقطع النظير فيما يتعلّق بتصنيع الكمامات والقفازات والألبسة الطبية وأدوات التعقيم، وهو ما يستلزم بدوره عقد اجتماعات موسَّعة من أجل تقنين تلك الإجراءات؛ بحيث يصبح لها دور إيجابي في وقت الأزمات، ولا تؤثر سلبًا من ناحية أخرى على حركة التجارة.
الأمن والضمان الاجتماعي:
من المؤكَّد أن الأفراد الأكثر تضررًا من تلك الأزمة كانت تلك العمالة غير المغطاة؛ سواء برواتب ثابتة أو مشمولة ضمن القطاع التأميني، والذين تعرَّضُوا للتسريح، لا سيما العمالة المهاجرة التي حصرت في دول أجنبية تعمل فيها بصورة مؤقتة، ولم تستطع العودة إلى بلدانها، ومن ثَمَّ فإنه يجب تطوير شبكات الأمان الاجتماعي لتشمل أولئك الفقراء والمحتاجين والعمالة المؤقتة والمهاجرة، وأن يتمَّ فرض مخصَّصات لهم بصورة دولية أو إقليمية، بعمل منظمات تُغطِّي نفقات تلك العمالة في حالات الكوارث المماثلة، لا سيما في القارة الإفريقية التي تشهد بالفعل مُعدَّلات فقر أعلى من غيرها، وكذلك وجود عمالة موسمية تعمل في مجالات الزراعة والري في غير فترات الأمطار على سبيل المثال، ومن ثَمَّ فإن منظمات الزراعة والغذاء العالمية والإقليمية يجب أن تعمل على تضافر جهودها من أجل تأمين العيش الكريم لتلك العمالة، وأن يتم تخصيص أجزاء من الأرباح في صورةٍ تعويضات في حالات الكوارث المشابهة.
تحديات البنية التحتية الصحية:
من المؤكَّد أن تلك الأزمة كشفت كذلك عن وجود عَوَارٍ كبيرٍ في البنية التحتية الصحية في القارة السمراء، فلم تَعُدْ أرقام الأسرة ونصيب الفرد في غُرَف الإنعاش وأجهزة التنفس رفاهيةً كما كان ذلك في الماضي، بل إن تلك العناصر باتت مهمَّة للغاية في المنظومات الصحيَّة، ومن ثَمَّ لجأت الكثير من الدُّوَل إلى مضاعفة عدد مستشفياتها في الآونة الأخيرة بعد جائحة كوفيد19، وقد نرى انتعاشة كبيرة في الصناعات الطبية في الأيام القادمة لا سيما فيما يتعلق بالمستشفيات الجاهزة أو سهلة التركيب والنشر في مناطق الأوبئة، ويمكن أن تقود دول مثل الصين ذلك الاتجاه لا سيما في ظلّ تزايد نفوذها في إفريقيا، فقد أثبتت بكين كفاءة في إدارة الأزمة وقدرتها على بناء المستشفيات في أوقات قياسية، وكذلك وجود بنية تحتية صناعية متكاملة تستطيع أن تعمل على إنتاج مثل تلك المستشفيات سريعة التجهيز والتركيب، وقد يُمثّل ذلك قطاعًا جديدًا للصين يمكن أن تغزوه في القارة السمراء، لا سيما بعد توقُّع ازدياد الطلب الشعبي على بناء مثل تلك التجهيزات الطبية في ظل تلك الأزمة، ما قد يُمثّل نقطة نفوذ جديدة للتنين الصيني في القارة السمراء.
كما أن تلك الأزمة أدت إلى زيادة الوعي الطبي لدى المواطنين العاديين الذين باتوا أكثر إدراكًا للمأكولات التي تزيد المناعة، ومن ثَمَّ فإن تلك الأزمة أدَّت أيضًا إلى انتشار ممارسات الطب البديل الذي يعتمد على الأعشاب، لا سيما في إفريقيا المعروفة بعلاجاتها الشعبية التقليدية، والتي أثبت البعض منها كفاءته في تقوية المناعة، ومن ثَمَّ فإنَّ ذلك القطاع قد يشهد هو الآخر نموًّا كبيرًا في مقابل الطب التقليدي، والذي عجزت أدويته المُصنَّعة والتي تحتكرها الشركات العالمية الكبرى ذات الميزانيات الضخمة في أن تواجه ذلك الوباء، ومن ثَمَّ قد نشهد صعودًا لممارسات الطب الشعبي البديل وصعوده مرة ثانية، والاعتماد على التداوي العشبي وانتعاش تجارة الأعشاب في القارة السمراء، بما يحمله ذلك من تداعيات على طبيعة الإنفاق على الأدوية التقليدية، وما تتكبّده الدُّوَل الفقيرة نظير احتكار الشركات الكبرى للأدوية غالية التكاليف.
التحوُّل الرقمي والعمل عن بُعد:
كما كشفت تلك الأزمة عن الحاجة الماسَّة إلى التحوُّل إلى الحكومات الرقميَّة، وتقديم الشركات المختلفة لخدماتها عن بُعد، ومن ثَمَّ يجب على القارة الإفريقية أن تُنسِّق الجهود من أجل تعظيم ذلك القطاع والذي أثبت في الجائحة الحالية تأثيراته الإيجابيَّة على البيئة وتقليل الانبعاثات الملوثة، وكذلك تكلفة حركة الأفراد والازدحام المروري، كما أنه يعمل على تقليل تكلفة العمالة التي يمكن أن تقبل برواتب أقل نظير عدم تكبُّدها لنفقات ومشقات التنقل اليومي.
كما أصبحت هناك حاجة ماسَّة كذلك لتطوير آليات التعليم عن بُعد، بما يمكن وصفه بالفصول الافتراضية التي تستطيع أن تجمع ما بين المعلم وطلابه في فصلٍ افتراضيّ يشتمل على كافة أدوات التعليم والعرض والتفاعل، وهو ما يجب أن يدفع القارة السمراء بدورها أيضًا إلى النظر في تلك الآليات التي سيتبعها حتمية توسيع البنية التحتية الرقمية، وتوصيل خدمات الإنترنت والحواسب إلى القرى النائية والفقيرة في جنبات القارة، فالأزمة الحالية يتوقع لها الكثير من الخبراء الاستمرار لفترة لا تقلّ عن عامّ، كما أنه من غير المستبعَد تكرار تلك الجائحة بصورةٍ أو بأخرى، ومن ثَمَّ فإن العالم في ظل تلك الجائحة يجب أن يعدّ العُدَّة بصورةٍ جماعيةٍ وعلى مستوى المنظمات الدولية والإقليمية وبالتنسيق مع الحكومات من أجل التأقلم مع تلك التحديات غير المسبوقة في عالمنا المعاصر.