يمكن قراءاة الورقة في العدد 3 من المجلة
عاصم محمد حسن محمد (*)
غرب إفريقيا.. تلك المساحة التي تضم ست عشرة دولة، والتي شهدت على مرّ التاريخ ازدهاراً لممالك عديدة، وثنية وإسلامية ونصرانية. وقد عُرفت هذه المناطق وانتقلت ثقافاتها لتنتشر على مستوى العالم القديم والحديث؛ بسبب الهجرات المطردة، والرحلات التعسفية لتجارة الرقيق التي كان الغرب الإفريقي فيها مضماراً لسباق محموم بين تجار النخاسة البيض في كل من أوروبا الأمريكتين الشمالية والجنوبية، كما يبين ذلك التاريخ المرير لتلك الجرائم التي ارتكبت في حق الأفارقة في تلك المحقب.
وقد اصطحب السود المجلوبون من غرب إفريقيا إلى أمريكا الشمالية والجنوبية والدومنيكان وجزر البحر الكاريبي قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم؛ إسلاميةً كانت (كأفراد قبائل المندنكا المسلمة)، أو وثنية (كأفراد قبائل السواحل الغانية ومملكة داهومي), وشكلت تلك القيم والمعتقدات والأفكار عقول كثير من الأجيال السوداء التي استوطنت فيما بعد في تلك المناطق.
والغرب الإفريقي منطقة غنية بالديانات والعقائد المختلفة في مظاهرها والمتشابهة أحياناً في جذورها وأصولها, كما تتسم الأعراق بسلطة قبلية فائقة نادراً ما ينعتق الفرد من ربقتها وما تستلزمه من أعراف ومعتقدات معينة. كما يتسم الفرد في القبيلة ببساطة شديدة كمردود طبيعي لنسبة الأمية العالية، وصعوبة التعليم النظامي، وقلة موارد الدعم الحكومي والدولي له، ثم كان لكثافة الدغل الإفريقي وصعوبة التغلغل الجغرافي أثر بالغ في انحسار التبشير بديانات ذات وحي منزل بين أفراد تلك المناطق.
أدت تلك العوامل وغيرها إلى أن تظل كثير من القبائل على وثنيتها وارتباطها العبادي بالطبيعة وأرواح الأجداد, ولما كان الإنسان مفطوراً بالطبع على التوجه نحو وجهة عليا تفوقه في هذا الكون، ولافتقاره الطبعي لقوة تحميه من تغول الطبيعة؛ ثم لما لم يكن ثمة نور هادٍ أو وحي دال؛ فقد لجأ إنسان تلك المناطق إلى ما أسماه (الأرواح) أو (الوسائط) أو الفتيش (السحر)، كبدائل للدين الحق.
محاور الدراسة:
تقدم هذه الدراسة صورة للديانات التقليدية في غرب إفريقيا بصورة عامّة، وظاهرة الفودو (Voodoo, Vodun) على وجـه الخصوص، وهي ظاهرة عبادية وديـانة تقليدية لقرابة عشرة ملايين شخص هناك، كنموذج للعقائد المنتشرة في المنطقة، حيث تُمارس في أربع دول من دول الغرب الإفريقي (بنين، توغو، غانا، نيجيريا)؛ وهي ظاهرة عالجتها شخصياً، وعاينت مجرياتها رأي العين خلال وجودي بجمهورية توغو، وواجهت فيها مواقف متفاوتة ما بين غريب وطريف ومخيف، فهذه الدراسة شهادة حاضر، وليس من رأى كمن سمع.
المحور الأول: تاريخ دراسة الأديان الإفريقية، ومسمياتها.
المحور الثاني: أساسيات معتقد وثنيي الغرب الإفريقي.
المحور الثالث: طرق دعوة الوثنيين إلى الإسلام.
وغرضي من هذا البحث تبصير الدعاة والحريصين على نشر الإسلام في هذه المناطق؛ ليواجهوا هذه العقائد بعلم، ويجابهوا حججهم الواهية بحجج تستمد نورها من مشكاة الشرع، والله الموفق وعليه التكلان.
المحور الأول: تاريخ دراسة الأديان الإفريقية، ومسمياتها:
بدأت دراسة الأديان الإفريقية قبل قرن تقريباً، قام بها علماء السلالات البشرية anthrobologists والمبشرون الكنسيون، ولم تكن كلمة (دين) أو (عقيدة) تطلق من قبل على الشعائر الممارسة في إفريقيا، بل جاء وصفها بهذه العبارات متأخراً, ولا يزال محصوراً في نطاق ضيق، والشائع في وسائل الإعلام الغربية والأوساط الثقافية استخدام تلك العبارة التي أطلقها الرواد الأوائل من علمـاء السـلالات وغيرهم: Animism ؛ لوصـف الطقوس والشعائر الإفريقية(1).
يقول Mbiti(2): إن المسميات الغربية للديانات الإفريقية قد تأثرت جداً بتلك الأوصاف الانتقاصية التي أطلقها أولئك الذين لفّـقوا ونسجوا قصصاً خيالية عن الديانات والمثيولوجيا الإفريقية، فهم بهذا ينشرون ويذيعون ما سيطر على عقول أولئك الأوائل الذين قدموا إلى هذه المناطق ووضعوا أفكاراً وأوصافاً خيالية دون ما تمحيص دقيق.
وعبارة (Animism) التي يستخدمها الغربيون لوصف الطقوس الإفريقية مشتقة من كلمة (Anima) اللاتينية التي تعني (الروح) أو (النفس)، ويعد عالم السلالات البشرية الإنجليزي E.B.Taylor (1866م – 1943م) أول من أطلق هذا الاسم على تلك الشعائر(3).
يقول تايلور: (الروح anima عند أصحاب المعتقدات الإفريقية قابلة لمغادرة الجسد, ومن ثم الدخول في جسد آخر… إنساناً كان أو حيواناً, ثم تواصل مسيرتها في هذا الكون بعد موت الجسد الآخر بالانتقال إلى جسد ثالث؛ وهكذا يعتقد أولئك بوجود ما لا يُحصى من الأنفس في الكون)(4).
فعلى هذا، ووفق تحليله يخلص تايلور إلى أن الأديان الإفريقية وثنيـة؛ بمعنى أن الأفارقة يخدمون ويعبدون عدة آلهة، وهو الأمر الذي يعده مثقفو القارة الإفريقية وعلماء سلالاتها محض افتراء!
يُطلق أحياناً على الشعائر الطقوسية الإفريقية عبارة (Paganism)(5)، وهو الاسم الذي يراه كذلك عدد من الباحثين الإفريقيين مجرد اتهام.. يقول Kofi: (Pagan أصلاً اسم يُطلق على أولئك الذين ليسوا بيهود أو مسيحيين أو مسلمين، ومع مرور الزمن صارت العبارة تُستخدم لألئـك الذين ليس لهم دين.. وبالطبع؛ فإن إفريقيا لها دين، ووصفُ الديانات الإفريقية بهذا الوصف يُعدّ تحقيراً وانتقاصاً لها وإنكاراً لميراثها الديني الكبير)(6).
(Fitishism)(7): من العبارات التي تطلق وصفاً لديانات الغرب الإفريقي، وهي مشتقة من اللغة البرتغالية من كلمة Fetico، التي تُطلق عموماً على (أي عمل منحوت يصنعه الإنسان لغرض ديني كالتعوايذ الجالبة للحظ والتمائم)(8)، والتي شاهدها البرتغاليون في رحلاتهم إلى إفريقيا على صدور وجذوع الأفارقة، ولاحقاً صارت العبارة مستخدمة لوصف أديان الغرب الإفريقي، حيث تقول Mary Kingsley: (عندما أقول Fitish أو Juju أعني بذلك الدين التقليدي لغرب إفريقيا).
(Polytheism)(9): وهو من المصطلحات المستعملة لوصف الديانات الإفريقية، ويعني: (الاعتقاد في أكثر من إله)، ويرى E.G.Parrinder في كتابه أديان إفريقيا أن الأديان عديدة الآلهة (Polytheism) متسامحة في عقائدها، يمكنها بسهولة قبول أديان وعقائد أخرى، ولا يوجد فيها آلهة غيورة تجاه الشرك؛ ما دامت لم تهاجم المعتقدات القديمة لهم، لذا أخذت هذا الوصف(10).
ويُعد المصطلح الأكثر قبولاً بين الباحثين الأنثروبولوجيين الأفارقة هو ذلك الذي أطلقه هاربرت سبنسر Herbert Spencer عام 1885م في كتابه Principles of Sociology (مبادئ علم الاجتماع)، وهو مصطلح: عبادة الأسلاف (ancestor worship)، استخدم سبنسر المصطلح بناءً على تأمله الخاص لعقائد الغرب الإفريقي، وصار المصطلح ذائعاً؛ شائع الاستخدام بين الكتاب الأفارقة لوصف أديان المنطقة.
لكن يعترض بعض باحثي الغرب الإفريقي على هذه التسمية، ويرون أن الأمر ليس عبادة بالمعنى المعروف، يقول Kofi: (بلا شك، يلعب الأسلاف دوراً كبيراً في المعتقدات التقليدية الإفريقية، ولكن تسمية الديانات الإفريقية بهذا الاسم يعد إفراطاً في التبسيط للمصطلح.. نعم للأجداد احترام خاص، فالأبناء يحرصون على إطعامهم، واستشارة أرواحهم في أغراض علاجية روحية, ولكن ليس الأمر عبادة محضة كما اصطلح)(11).
ويبدو واضحاً أن الفلاسفة وعلماء الأديان (سماوية كانت أو تقليدية) لم يستطيعوا اختيار اسم جامع يرضى عنه معتنقو هذه النِّحل. وتخضع معظم التسميات لثقافة المجموعة أو القبيلة المعتنقة لديانة معينة, بل يشجع بعضهم على التسميات المتخصصة حسب المناطق أو الأعراق (الإثنيات)، مع جعـل اسم واحد يصـنف كـل الأديان تحـتها بمسمى (الديانات الإفريقية التقليدية) (African Traditional Religions).
في خمسينيات القرن المنصرم بدأ المثقفون الغربيون في إطلاق عبارات إيجابية (وفق تعبير البحاثة الأفارقة) تجاه الطقوس والمعتقدات الإفريقية، ومنها عبارة دين Religion، وقد أسهم في هذا التحول مجموعة من علماء السلالات البشرية مثل(12) Edward.E.Evans وMercel Griaule و Victor Turner ، والأنثروبولوجييْن الإفريقييْن: E.Bolaji ldo و John Mbiti اللذين جَهِدا في إثبات معرفة إنسان إفريقيا الأول للإله قبل أن يعرفه المبشرون أنفسهم! يقـول Mbiti : (المبشرون الذين جلبوا الأناجيل إلى إفريقـيا قبـل مائتي سنة فقط؛ لم يكونوا هم الذين أتوا بالرب إلى قارتنا، ولكن (الربّ) هو من أتى بهم! إنهم يستخدمون اسم: (الربّ) الذي عرفه إنسان إفريقيا قبلهم فهو Nagi, Katonda, Mulungu, Mungu , Jok, Rohanga, Asis , Olodumare , Modimo, و Unkulunkulu.. وآلاف الأسماء الأخرى التي تشير إلى الإله الواحد خالق هذا الكون..!)(13).
يصعب جداً الفصل بين الشعائر التعبدية ومسالك الحياة اليومية عند أصحاب الديانات التقليدية الإفريقية؛ حيث تجد الأفكار والمفهومات الطقسية تتغلغل في ثقافة القبيلة؛ في قصصها وأساطيرها، طقوسها العلاجية والجنائزية، أعيادها واحتفالاتها.. يقول Ray: (إن كلمة دين Religion بمفهومها الغربي (مفصولاً عن الحياة) لا توجد في التصور الإفريقي، بل لا توجد تلك العبارة في لغاتهم؛ لأن الدين يتغلغل في حياة الإفريقي اليومية كسلوك مباشر).
وهو المفهوم الذي حدا بـ Idowu: أن يقول عن الأفارقة أنهم (أولئك الناس الذين يستخدمون الدين في كل حياتهم)(14)، وأن يقول Iwuoha: (الدين أمر يدور حول البشر وحياتهم في إفريقيا)(15).
ويقـول Mbonu Ojike: (إذا كان الدين هو ما يُتاح قبوله لكل البشر فإفريقيا ليست لها دين، أما إن كان الدين يعني: العمل أكثر من الكلام؛ فإن إفريقيا متدينة)(16).
كما يقول Mbiti: (الأفارقة متدينون للغاية، ولكل شعب منظومته الدينية الخاصة مع سلسلة معتقدات وممارسات, ينفذ الدين إلى كل مؤسسات الحياة بصورة من الاكتمال يصعب أو يستحيل معه عزلها. دراسة مثل تلك المنظومات الدينية بالتالي؛ هي في نهاية الأمر دراسة الناس أنفسهم في كل تعقيدات الحياة التقليدية والحديثة…
ولأن الديانات التقليدية تنفذ إلى كل مؤسسات الحياة؛ فلا وجود لتمييز شكلي بين جوانب الحياة المقدسة والدنيوية، بين الدينية وغير الدينية، بين الروحية والمادية. أينما حل الإفريقي، هناك توجد ديانته, إنه يحملها إلى الحقول حيث يزرع البذور, أو يحصد محصولاً جديداً, يحملها معه إلى احتفالات الجعة, أو لحضور مراسم جنازة, وإذا كان متعلماً فإنه يأخذ ديانته معه إلى قاعة الامتحان في المدرسة أو في الجامعة؛ وإذا كان سياسياً فإنه يأخذها معه إلى البرلمان. رغم أن العديد من اللغات الإفريقية ليس فيها كلمة «ديانة» صرفة؛ فإنها ترافق مع ذلك الفرد منذ أزمان سابقة لمولده حتى أزمان طويلة تعقب وفاته الجسدية. عن طريق التغير الحديث فإن تلك الديانات التقليدية لا يمكنها أن تظل غير متبدلة، لكنها ليست منقرضة بحال من الأحوال. في أوقات الأزمات تطفو تلك الديانات إلى السطح، أو أن الناس يعودون إليها سراً)(17).
إذن فالدين والعلائق الروحيّة أمر أصيل في المجتمع الإفريقي، حتى يظهر ذلك في نظام التسمية للمواليد الجدد، حيث يشيع في كثير من القبائل الإفريقية تسمية المولودين الجدد بناء على أحداث، ظروف، أو مناسبات أو أيام ميلادهم، وإن كانت الأخيرة هي الأكثر شيوعاً, ونجدها مرتبطة في مجملها بالقيم الدينية.
الجدول الآتي يوضح أمثلة لقبائل الإيفي- الفون- الأكان في غرب إفريقيا في نظام تسميتهم وفق الأيام:
المؤلفات السابقة:
كتب عدة باحثين حول هذه الأديان والنحل الإفريقية، وكان للقساوسة والأنثروبولوجيين النصارى قصب السبق في الكتابة والبحث، مثل القس الكاثوليكي البلجيكي Placide Tempels الذي كتب كتابه Bantu Philosophy عام 1945م (الطبعة الأولى بفرنسا, وخرجت الطبعة الإنجليزية الأولى عام 1959م)، حول ديانة الـبالوبا (Baluba) في زائير، وهو أول من أطلق مصطلح (القوة الحيوية) للتعبير عن الفلسفة الأساسية لإيمان البالوبا، وقد استخدم هذا المصطلح أيضاً في دراسات أخرى تالية له(18).
وكذلك E.G.Parrinder في كتابه African Traditional Religion ، وهو تعريف عام ومحاولات تصنيفية لأديان المنطقة الإفريقية، وأيضاً Evan Pretchard في كتابه Nuer Religion الذي يتناول عقائد قبيلة النوير بجنوب السودان، وGeoffrey Lienhard في كتابه Divinity and Experience الذي يتناول عقائد وعبادات قبيلة الدينكا بجنوب السودان كذلك.
ومن بين الكتّاب الأفارقة نجد Jomo Kenyatta الرئيس الأسبق لكينيا ومؤلف كتاب Facing Mount Kenya (1938م)، و الكاتب J.B.Danquah في كتابيه Akan Doctrine of God (معتقد الأكان حول الربّ) (1944م)، و Akan Laws and Customs (قوانين وأعراف قبيلة الأكان) (1928م)، والكاتب Mbonu Ojike في كتابه: My Africa (1946م)، و Archdeacon J.Olumide Laucas في كتابيه The Religion of Yoruba (دين اليوروبا) (1948م)، و Religions in West Africa and Ancient Egypt (أديان الغرب الإفريقي ومصر القديمة) (1970م)، والكاتب:E.Bolaji Idowu في كتابيه: Olodumare: God in Yoruba Belief (1962م)، وAfrican Traditional Religion: A Definition (الأديان التقليدية الإفريقية: تعريف) (1973م)، والكاتب: Kofi Antubam في كتابه Ghanas Heritage of Culture (1963م).
المحور الثاني: أساسيات معتقد وثنيي الغرب الإفريقي:
أولاً: (الرب) في معتقد وثنيي الغرب الإفريقي:
الفكرة الرئيسة حول هذا المعتقد هي: الإيقان بإله واحد خالق لهذا الكون؛ يُعرف بأسماء عديدة وهو روح عليا سامية لا توجد له تجليات صورية مرئية, وهو المصدر الرئيس لكل قوة وطاقة في هذا الكون, وهو المعني أساساً بعملية الإماتة والإحياء.
ويوضح الجدول الآتي بعض هذه الأسماء ومعانيها للخالق الأسمى عند بعض المجموعات في غرب إفريقيا(19)، وهناك كثير غيرها:
يتضح من الأسماء والأوصاف السابقة ذلك التقدير وتلك المكانة التي يعطيها أصحاب الديانات الوثنية للإله الأسمى، وأنه ذو فوقية وعلو على المحسوسات فلا يتجسد فيها، ولا يمكن تصور هيئته بوصفه روحاً سامية، وهذا يتضح جلياً من تسمية يطلقها عليه أهل نيجيريا معناها (الذي لا يدرك كنهه أحد), ويعبر الـ Akan maxim عن هذا الأمر بقولهم (إذا أردت أن تتحدث مع الرب فأخبر الريح – يعني تنقل حديثك -)(20).
1 – الرب الخالق:
الإيمان بأن الله هو خالق هذا الكون أمر راسخ وأساسي في معتقد وثنيي الغرب الإفريقي، وتختلف قصصهم وفق المثيولوجيا المتبعة في كل قبيلة أو عرقية، فمثلاً قبيلة Tiv في نيجيريا يطلقون اسـم النجار على الخالق عز وجل (Ando Gbe Tar)؛ أي الرب النجـار، ويتخيلونه – تعالى وتقدّس – نجاراً يصنع المنحوتات، وقبيلة الـ Lodagaa يتخيلون عملية خلقه – تعالى وتنزه – للخلق كصانع القدور مع قدوره، أما قبيلة الفون في بنين فيعتقدون أن الكون قد تكون بمشيئة الرب (Mawu-Lissa)، ويعبرون عن الخلق بأنه قد قام وتكوّن بكلمة Fa (كن).
كما تجد عند بعض القبائل الأخرى في غرب إفريقيا تصورات أسطورية للخلق بناء على بساطة العقول واستحكام قوة الطبيعة بغير توجيهات من الوحي؛ كقبيلة الميندي Mende في تصورهم للإله داخل كهف ومعه مجموعة من الكائنات، يأمرهم بألا يأكلوا طعامه – تعالى وتنزه -، فتقترب بعض الكائنات فيمسخها إلى الصور المعروفة حالياً من الكائنات، كائناً بعد آخر(21).
أما عند اليوروبا ففي اعتقادهم أن الأرض كانت في الأصل مستنقعات سبخة, ويسكن Olodumare (الاسم الذي يطلقونه على الله عز وجل) في السماوات، مع الآلهة الأخرى (الأقل منه شأناً) – تعالى وتنزه سبحانه الواحد -، وأرادت هذه الآلهة زيارة الأرض لّلعب والصيد، ونزلوا من السماوات على شبكة العنكبوت، وشاء Olodumare أن يحول الأرض المائية إلى صورة صلبة، فاستدعى رئيس الآلهة Orisha-nla، وعهد إليه بالمهمة، وأعطاه تربة في صدفة حلزون (وفي بعض الروايات في حقيبة صغيرة من أوراق الشجر) جمعتها دجاجة وحمامة، فنزل Orisha-nla وسكب التربة على الأرض السبخة، وغطت التربة مساحة ضخمة شكلت فيما بعد اليابسة. ورجع Orisha ليخبر Olodumare بما حدث، فأرسل Olodumare رسوله الحرباء ليتأكد من الأمر، فذهبت الحرباء المرة الأولى وعادت قائلة: الأرض واسعة ولكنها ليست جافة بما فيه الكفاية. ثم ذهبت المرة الثانية وعادت قائلة: الأرض الآن واسعة وجافة(22).
تعتقد قبيلة الفون Fon، في جنوب بنين (مملكة داهومي سابقاً)، أن الخالق (سبحانه) قد سلك مسلكاً خاصاً في خلقه للعالم الذي استغرق أربعة أيام، في اليوم الأول أمر Mawu-Lissa بكلمته Fa الكون بالتكون وخلق الإنسان، في اليوم الثاني أرسل رسولاً خاصاً ليهيئ الأرض ويجعلها صالحة لسكنى الإنسان، وفي اليوم الثالث أعطى الربّ الإنسان نعمتي البصر والكلام ليتعلم ويعرف، وفي اليوم الرابع والأخير أعطى الربّ الإنسان المهارات والحِـرف التي تمكّنه من الاستفادة من البيئة والكون المحيط به(23).
يُعتقد أن كل ما خلقه الله صالح، ولقبيلة الـAkan في غانا حكمة سائرة حول هذه القضية (صلاح الخلق)، حيث يجعلونها في فم الصقر (Ksansa) الذي يقول: (كل ما خلقه الله جيد)، ولهم كذلك تعبير مختصر عن عملية الخلق يسردونه بلغة الطبول(24): (Kdomankoma (الرب) خلق أولاً Esen (حاجب المحكمة)، ثم Kyrema (الطبال) ثم أخيراً Kwawu Kwabrafo (الموت) ).
Esen يقوم بمهمته، وهي الإعلان عن القرارات التي يتخذها رئيس المحكمة (الرب)، Kyrema يرمز إلى العلم، حيث أنه يعرف تاريخ القبيلة وحكمة المجتمع، ويستطيع ترجمتها عبر الطبل، Kwawu Kwabrafo (الموت) هو المنفذ للحكم.
إذن يلخص الـAkan عملية الخلق بلغة الطبول إلى: الأمر بالخلق، ثم خلق العلم، وأخيراً الموت(25).
تشترك كل الأساطير المبينة للخلق عند قبائل الغرب الإفريقي في بيان عملية انفصال الخلق عن الخالق، وفي الأغلب الأعم يؤمنون بأن الخالق والبشر كانا في مكان واحد، في علاقة قوية أشبه ما تكون بعلاقة الأب مع أطفاله، ثم حدث شيء غيّر هذه الوضعية. إحدى أساطير الخلق الموجودة عند قبيلة Mende التي تذكر قصة الخالق مع الخلق في كهف واحد، حيث منعهم من الاقتراب من طعام معين، فلما أكلوه انفصلوا عنه. لهم رواية أخرى تذكر سبباً آخر عن انفصال الخالق عن الخلق وإعطائه اسم: Leve (الأعلى)، حيث يعتقدون أنه: في زمان سحيق خلق الرب الكون ثم ختمه بخلق الرجل والمرأة، ولم يكن هذان (الرجل والمرأة) يعرفان اسم الربّ الحقيقي فقط كانا ينادينه بـ:Maada-le (الجدّ).
في يوم من الأيام خاطبهم الرّب قائلاً: (كل ما تسألوني أعطيكموه)، فكانا كلما أرادا شيئاً أو طعاماً ذهبا إليه وقالا: Maada أعطنا كذا.. فيعطيهما قائلاً: In-ngee (نعم، خذا)، ولأجل هذه الكلمة ولأنه دائماً ما كان يقولها لهما ظنا أن اسمه هو Maadagee (الجد: خذ). ولما كانا يكثران من التردد عليه قال الرب في نفسه (تعالى وتنزه عن قولهم): لو بقيت قريباً منهم سيضجرونني بأسئلتهم المتكررة، سأجعل مكاناً لنفسي بعيداً عنهم. وفي يوم ما أصبح الناس وما وجدوا الرب في مكانه، فرفعوا رؤوسهم لأعلى فرأوه فوقهم عظيماً وكبيراً جداً فقالوا: Ngeewklanga-waa-le (خذ! ما أكبره وأوسعه وأعظمه) من أجل هذا – حتى اللحظة – يقولـون: Ngewcwaa (الرب عظيم).
عند Akan كان الرب والبشر في مكان واحد معاً؛ حيث كانوا يمسونه ويشعرون به (تعالى وتنزه سبحانه)، وبدأت امرأة بطحن الـ :Fufu بانتظام باستخدام الهاون، وكانت يد الهاون ترتطم بالرب (تعالى عما يقولون) كلما دقت الفوفو ففارق البشر إلى السماوات، وعندما أدرك البشر ما حدث حاولوا البحث عن طريقة تُرجع الرب مرة أخرى إلى وسطهم، اقترحت تلك المرأة العجوز أن يأتي كل واحد منهم بهاونه ويضعوها فوق بعضها ليكوّنوا ما يشبه السلّم ليصلوا إليه.. طبقوا الأمر واكتشفوا أنهم في حاجة إلى هاون واحد فقط ليكملوا السلم، عندها اقترحت المرأة العجوز مرة أخرى أن يسحبوا الهاون الذي في قاعدة السلم ويضعوه في الأعلى، فلما سحبوه انهار كل البناء وقُـتل كثيرون(26).
ولليوروبا أكثر من قصة تروي هذا الانفصال، يقول (Idowu): تقول الروايات الشفهية إن السماء كانت قريبة من الأرض، وكان من الممكن لكل واحد أن يصعد إلى السماء ويرجع وقتما يريد، وكان هناك علاقة مباشرة مع Olodumare، وكان إذا مد واحد يده استطاع أن يدرك بها السماء، وكان بلا شك ثمة وقت كان الاتصال بين السماء والأرض بغير حدود أو حواجز، كانت فترة ذهبية من عمر الكون. وحدث شيء أحدث هذه المسافة بين السماوات والأرض، وهناك قصص كثيرة جداً حول ما حدث، إحداها أن هناك شخصاً شرها أخذ طعاماً كثيراً جداً من السماء لذا انفصلت، وأخرى تروي أن امرأة لمست السماء (غير الصلبة) بيد متسخة فانفصلت(27)، وقصة أخرى عندهم تذكر إنزالOduduwa – وهو الإنسان الأول وسلف اليوروبا – من السماء إلى الأرض، وقد نزل متعلقاً بسلسلة من حديد(28).
كل هذه القصص المأخوذة من الفو واليوروبا والمندي في غرب إفريقيا؛ مؤداها ونتيجتها أن الإنسان كان في وقت ما قرب الرب في مكان ما، ثم حدث شيء ما جعل الإنسان بعيداً عن الربّ، ولعل هذه القصص – في روحها – تشي بوجود قديم للمعتقد الكتابي عن آدم وحواء عليهما السلام في جنة عدن، وربما كان ثمة نور هاد من قبل في المنطقة انطمس بمرور الزمن.
وفي دراسة عن عقائد القبائل الوثنية في إفريقيا يقول القس جاك ماندلسون: (إن فكرة الله الأعلى، تكاد تكون موجودة لدى جميع القبائل، بل إن مفهوم الذات الإلهية الكلية الحضور، والذاتية الاكتفاء والشاملة القدرة، نجده بين كثير من القبائل، كالزولو بجنوب إفريقيا، والبايراوندا والاشانتي بغانا وساحل العاج، والآكان بغانا، واليروبا بنيجريا والبكونجو بأنجولا، والنجومية بالكونغو.
ويجب ألا يفوتنا هنا أن نذكر أن لدى الأقزام(29) – وهم أقدم سلالات إفريقيا – كائناً يُطلقون عليه اسم (مونجو)؛ وإلى هذا الكائن العلي يعزو الأقزام، أيضاً، خلق جميع الأشياء، وأنها ترجع إليه، كما أن هناك أسطورة بين قبائل لشاجا (بتنزانيا) تروي أن الله قد غضب من أعمال البشر فأهلكم فيما عدا قلة، وجليّ مدى التشابه بين هذه الأسطورة وقصة سيدنا نوح.
ويروي البامبوتي والتشاجا والميروكيف(30) أن الرب حرّم أكل ثمار شجرة معينة على الإنسان، وكيف أنه حينما عصى الإنسان الأمر وأكل منها جاء الموت إلى الأرض.
وفي جميع الأديان الإفريقية التقليدية اعتقاد فيما وراء الموت بشكل أو بآخر، كما تعتقد أن المتوفى تستمر حياته في عالم الأرواح… ومفاهيم الخير والشر موجودة أيضاً في هذه الديانات، بل لعلها عميقة الجذور فيها إلى حد لا يتصور الكثير من الناس. وتعتقد قبائل التوركانا من كينيا مثلاً إن الله، مع أنه يشفي من المرض، قد يصيب به أولئك الذين يغشون المحارم ويخالفون الطقوس الهامة)(31).
2 – الرب الجد:
تسود في غرب إفريقيا عند القبائل الوثنية تسمية الربّ (سبحانه وتعالى) بالجد، إضافة للاسم الرئيس الذي يطلقونه عليه سبحانه، والجدول الآتي يوضح ذلك:
يقول Kofi: (إن للجدّ عند قبائل غرب إفريقيا تقدير خاص، وتسمية الربّ بالجد توافق ذلك التقدير والتعظيم الذي يعطونه للرب، ولا يلزم من التسمية جعله بشرياً. ويُعد الجد عندهم رأس العائلة، وهو الشخص الذي ترجع إليه كل القضايا ليحكم فيها، ويحظى باحترام وتقدير كبيرين جداً، ويرسخ رؤساء القبائل وبقية الكبار فيها لهذه المفاهيم بنفس القدر، فإن تسمية الربّ بالجد الأكبر، أو السلف الأعظم منبثقة من الدور الذي يؤديه كرئيس وقائد أعلى للمجتمع)(32).
3 – عبادة الرب:
بصورة عامة، وعلى النمط المعروف للشرك عبر القرون، لا توجد أية عبادات تُصرف لله سبحانه وتعالى مباشرة عند وثنيي غرب إفريقيا؛ بالرغم من الأسماء المشعرة بالتقديس والتعظيم لله عز وجل مما تنضح بها أدبياتهم.
ولا يجد المرء هيكلاً أو مبنى مخصصاً لعبادة الله وحده (على كثرة الهياكل والمباني العبادية)، كما لا يوجد بينهم كهنة أو سدنة مخصصون للإرشاد إلى عبادة الله سبحانه، مثل أولئك المكرسون للدلالة على كيفية عبادة الآلهة وأرواح الأسلاف، ولهم في ذلك فلسفة ليست بالغريبة على المسلم المتمعن في كتاب الله سبحانه، يقولون: (الربّ دائماً خيّر، لا يؤذي ولا يضرُّ ولا يحتاج إلى استرضاء كما الأرواح والآلهة التي يخشى غضبها وإيذائها)(33).
وهذا شبيه بما ذكره المولى سبحانه في كتابه العزيز عن مشركي مكة؛ إذ كانوا يقدّمون القرابين والهدي لآلهتهم بمزاعم شبيهة بما يزعم هؤلاء، ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْث وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الأنعام : 136]، قال أبو محمد بن عطية الأندلسي في تفسير هذه الآية: (وسبب نزول هذه الآية أنّ العرب كانت تجعل من غلاتها وزرعها وثمارها ومن أنعامها جزءاً تسمّيه لله وجزءاً تسمّيه لأصنامها، وكانت عادتها التحفّي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله؛ إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله، فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم أقرّوه، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الله ردّوه، وإذا تفجّر من سقي ما جعلوه لله في نصيب شركائهم تركوه، وإن بالعكس سدّوه، وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئاً قالوا: لا بدّ للآلهة من نفقة. فيجعلون نصيب الله تعالى في ذلك، قال هذا المعنى ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد، والسدي وغيرهم؛ أنهم كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل، وكذلك في الأنعام، وكانوا إذا أصابتهم السّنة أكلوا من نصيب الله وتحاملوا نصيب شركائهم)(34).
وكذلك ثمة مزعم آخر منهم، وهو أنّه لا يُتصوّر أن يرتبط الإنسان بالكائن الأسمى مباشرة إلا عبر وسائط تُسترضى من البشر لترضي بدورها الربّ.
ثانياً: الأسلاف:
يكنّ معتنقو التقاليد الإفريقية في غرب إفريقيا لأرواح الأسلاف احتراماً وتبجيلاً كبيرين جداً، يقول فرانسوا لا بلانتين: (إن بانتيون الأجداد ليس نسخة طبق الأصل لعالم الأحياء على غرار ما نجده في نظرية أفلاطون الأولى… فالأجداد الذين يتم ذكرهم وتمجيدهم مرات عديدة في اليوم هم بالأحرى قوة حافظة تمنح الحيوية، وتقوي القرية، وتضمن تناغمها، وتتيح تحييد قوى أخرى وإبعادها)(35).
يؤمن وثنيو الغرب الإفريقي بتجوّل أرواح الأجداد في الكون الفسيح، ويعتقدون أن علاقتهم مع أسلافهم علاقة قوية، ويشعرون برقابتهم المستمرة عليهم لاعتقادهم بوجودها حولهم وفيما بينهم، يقول Paris: (من وجهة نظر هؤلاء: لا يوجد موت بالمعنى الشائع، بل يؤمنون بخلود النفس (الروح)، وأن هذه الوضعية التي اتخذتها الروح تجاه هذا الشخص بخروجها منه ليست إلا بداية لدورة جديدة خارج جسده المادي، وتسمية هذه الأحوال موتاً يعد أمراً مغلوطاً، بل هو تحول من الحالة الفيزيائية للحياة إلى الحالة الروحية الخالدة)(36).
إن الإيمان بمواصلة الأسلاف لحياتهم بعد الانتقال (الموت) أمر شائع، والأموات عند بعض القبائل موجودون وسط الأبناء؛ فمثلاً عند قبيلة اليوروبا يظل الأب الذي توفي يُسمّى Baba si (أبي)، والأم المتوفاة Iya mi (أمّي)، ويُعاملون كأنهما لا يزالا على قيد الحياة، فالموتى قد انتقلوا فقط من عالم مادي إلى عالم روحي دون أن يقطعوا الوشائج مع الأحياء(37).
ويعبّر عن إيمانهم بهذا الأمر الشاعر السنغالي المشهور Birago Diop في قصيدة له قائلاً(38):
الذين ماتوا لم يذهبوا أبداً..
إنهم هناك.. في الظلال الكثيفة..
الموتى ليسوا تحت الأرض..
إنهم في الأشجار حين تصدر حفيفاً..
إنهم في الأخشاب حين تصدر أنيناً..
إنهم في تلك المياه الجارية..
إنهم في الأكواخ.. إنهم وسط الحشود. …
ويعتقد وثنيو الغرب الإفريقي أن الأسلاف يسكنون (أرض الأرواح) (إذا حققوا أموراً معينة في حياتهم)، ويعتقدون أن الحال التي مات عليها الشخص هي التي تحدد درجته ورتبته في هيكل الأسلاف، مثلاً تعتقد قبيلة الأكان بغانا أن المرء لكي يصير سلفاً لا بدّ له من حياة سابقة ذات قيمة وشرف، وأن يكون قدوة حسنة خلال سني حياته، ويموت عن عمر كبير وأبناء وأحفاد(39). وكذلك اليوروبا؛ يعتقدون أن الموتى الأحداث غير مؤهلين للدخول في منظومة الأسلاف، وأن على المرء أن يموت ميتة (جيدة), فلا يدخل في الأسلاف من مات بحادث، أو انتحار أو شكل آخر من أشكال الموت العنيف. وكذلك ألا تكون الميتة لسبب مجهول، أو بسبب الجنون، الاستسقاء، الجذام أو الصرع. وتتشابه تقريباً الشروط التي تحددها مجموعات الغرب الإفريقي ليدخل الميت في نسق الأسلاف.
يحظى كبار السن باحترام وتبجيل كبيرين في مجتمع غرب إفريقيا عموماً، وعند القبائل المؤمنة بقوة الأسلاف الروحية خصوصاً، فهم يعتقدون أن كبير السنّ قد مرّ بمراحل عديدة في هذه الحياة تؤهله لنيل درجة رفيعة من الحكمة والخبرة، وبالتالي القرب من الله؛ مما يؤهله أن يكون بعد مماته (وفق الشروط) سلفاً يحيا مع الربّ في مكان واحد! وعلى سبيل المثال يعتقد وثنيو الميندي Mendeفي سيراليون أنّ الأسلاف ذهبوا ليستريحوا مع الربّ، ووثنيو الكونكومبا Konkomba في شمال غانا؛ يقولون إن أسلافهم قد ذهبوا إلى Uumbwardo (بيت الربّ).
ويقول J.B.Danquah عن معتقد قبيلة الأكان – في غانا – حول الأسلاف: (يعملون كوسائط بين البشر والكائن الأسمى، وتستجاب الصلوات المرفوعة للربّ بسرعة إذا مرّت عبر الأسلاف)(40).
يسود اعتقاد بأن الأسلاف يمارسون حياتهم ويستكملونها، ويفتقرون إلى المقومات الأساسية للعيش (الماء والطعام). تقول Margaret Greel: (يحتفظ الأسلاف بكل انفعالاتهم ورغباتهم كما كانوا من قبل، فهم يشعرون بالجوع والعطش، يغضبون ويسرون؛ وينتقمون إذا ما أُهملوا، ويرضون إذا ما عوملوا بالاحترام اللائق، ووفاء الأبناء تجاه الأسلاف هو الذي يقيهم من الجوع والعطش إذا قُدمت القرابين بصورة منتظمة)(41).
لذا يحرص وثنيو الغرب الإفريقي على التواصل كلما أحسوا برغبة الأسلاف في شيء من الاهتمام، والذي غالباً ما يعرفونه من خلال الأحلام وتكهّـن العرافين.
والطريقة الشائعة بين القبائل الوثنية في الاتصال بالأسلاف هي طقوس الإراقة(42) Libation التي قد تشتمل أحياناً على تقديم قرابين من طعام وخمر، ويمارس هذا الطقس فردياً وجماعياً، فقبل أن يشرب المرء منهم خمراً أو ماءً فإنه يريق بعضاً منه على الأرض، ويعتقد أنه بهذا قد أعطى سلفه ما يحتاج من ماء أو خمر، وقبل الأكل يلقي بلقمة من طعام على الأرض للأسلاف، ويشيع كذلك سلوك بين وثنيي الغرب الإفريقي، وبخاصة بين وثنيي قبيلة الأكان، وهو التأكد قبل النوم من أن خزانات المياه بالبيت تحتوي على شيء من الماء، فالأسلاف سيتجولون ليلاً، ويحبون أن يرتووا من بيوت أقربائهم.
يلخص لنا Kofi Opuko أسس الاعتقاد في الأسلاف كما يأتي(43):
1 – الاعتقاد في استمرارية حياة الأسلاف وعدم انقطاعها بالموت.
2 – الاعتقاد في أن للأجداد عهد (وهو حماية العائلة أو القبيلة أو الأسرة)، وأن هذا العهد صار منوطاً بهم منذ أن دخلوا في هيكل الأسلاف، وهم يعطون أحفادهم مزيداً من القوة والحماية.
3 – يعد الأسلاف (ضابطين) للحركة الروحية (غير المرئية) للمجتمع، فبتذكر الفرد منهم للأسلاف، وبالتزامه بقوانينهم وأحكامهم الناجزة؛ تصير حياته أكثر ضبطاً والتزاماً.
4 – الإيمان بتناسخ الأرواح وعودة أرواح الأسلاف في أجساد أبنائهم مرة أخرى.
1 – طقوس الأسلاف:
معظم الاحتفالات الطقوسية الوثنية في غرب إفريقيا تحتوي على فقرات خاصّة بإطعام الأسلاف، وعند قبيلة الإيفي والأكان والأشانتي يوجد تقدير خاص لما يُسمى (كرسي الأسلاف)، وهو لا يستعمل للجلوس فقط، لكن له دلالة رمزية للأسلاف والرؤساء في الأسرة.
كرسي الأسلاف:
عند قبيلة الأكان مهرجان خاص بكرسي الأسلاف يسمونه Adae، حيث يُحتفل بكراسي الأسلاف العظماء (يعتقدون أن موت الجد على هذا الكرسي يجعل له مكاناً خاصاً في هيكل الأسلاف)، حيث تسوّد الكراسي, وتجعل في بيت الكراسي الخاص بالرؤساء. وكل رئيس لقبيلة الأكان ينحت لنفسه كرسيّاً من شـجرة (Funtumia africana) أو شـجرة الأومنيا (Alstonia bonei)، وعندما يموت، يوضع على كرسيّه ثم يغسل قبل دفنه، ثم يحفظ الكرسيّ في مكان آمن حتى يأتي ميعاد طقوس التسويد.
يحتل طقس التسويد مكانة مهمة في الاحتفال الجنائزي للرئيس السابق للقبيلة، ويقوم عليه حامل كراسي الأجداد، والذي يعين بدوره من قبل بقيّة الحمّالين. وتقام طقوس التسويد ليلاً حيث يؤتي بجميع الكراسي السابقة ليسوّد الجديد في حضرتها (عند الأشانتي يتم التسويد في حضور الكرسي الذهبيّ).
قبل التسويد يُغسل الكرسي جيداً بالماء (عند بعض بطون الأكان: يؤتى بالكراسي القديمة، وتغسل في طست نحاسي كبير، ثم بفضلة الماء يغسل الكرسي الجديد ليندمج الكرسي الجديد كلياً في سلفه), بعد الغسل يسوّد الكرسي الجديد بتلطيخه بمادة سوداء مخلوطة بمحّ البيض، ثم يلطّخ لاحقاً بدم شاة، وقطعة من شحم حيواني، بعد الاحتفال تؤخذ كل الكراسي إلى بيت الكراسي مرّة أخرى.
ويُحتفل بهذا العيد مرتان كل 42 يوماً، يقع أحد الأعياد في يوم الأحد (Akwasida)، والثاني في يوم الأربعاء (Wukudae)، ورئيس القبيلة هو المسؤول المباشر عن هذا العيد وطقوسه، حيث أنّه الوريث الشرعي للأسلاف والأجداد، وهو يرى أنّ هذا العيد من أعياده الخاصّة التي يرتبط بها روحياً مع أسلافه؛ لذا يبدي أحوالاً غاية في الاحترام والتخشّع لأرواح الأسلاف؛ بدءاً بخلع نعليه دلالة على الاحترام(44).
في الصباح الباكر ليوم Adae يخرج رئيس القبيلة برفقة شيوخها ليدخل بيت الكراسي، يطرق حامل الكراسي الباب أولاً، ثم يدخل، يعقبه رئيس القبيلة ثم الشيوخ، خالعين نعالهم وكاشفين صدورهم دلالة على الاحترام الفائق، ثم يبدأ الرئيس بتحية الأسلاف قائلاً: Nananom,mema mo akye o (صباح الخير أيها الأسلاف!)، ثم يقوم بطقس الإراقة، وينادي كلّ واحد منهم باسمه، بدءاً بأكبرهم, تُذبح بعد ذلك الشاة التي يلطّخ بدمها الكرسيّ الجديد ويُجهز الطعام الخاص بهذا الاحتفال، ويسمّى nsamannuane، ويعده حمالو الكراسي تحت الإشراف المباشر من الرئيس، في غضون ذلك يغادر الرئيس بيت الكراسي ويتوجه إلى عرشه، ليبايعه أتباعه بيعة رسمية.
عندما ينتهي تجهيز الطعام يرجع الرئيس إلى بيت الكراسي مرّة أخرى ليقدم الطعام لأرواح الأسلاف، وقبل أن يضع الطعام في المنضدة الخاصّة بهذا الطقس؛ يضع ماء ليغسل الأسلاف أيديهم، ويغسل هو أيضاً يده من الماء نفسه، ثم يتذوق من الطعام، ويقدم بعضه للحاضرين معه داخل الغرفة، ثم يخرج تاركاً الطعام للأسلاف، يعتقد أنه بهذا الطقس تحتفظ كراسي الأسلاف بأرواحها، ويرتبط الرئيس الجديد بصورة مباشرة مع أسلافه(45).
عند قبيلة الأشانتي في غانا يسوّد الكرسي الجديد بدم بشري بالكيفية الآتية: عندما يموت الملك السابق تجتمع أخواته وأبناؤهن لاختيار الملك القادم، فنظام التوريث يتم بالخؤولة (نظام طوطمي)، ويطرح الخيار، وتكون التي تقدم دم أحد أبنائها ليغسل به كرسي الأجداد الذهبي هي المؤهّلة لتكون الخلافة في بيتها. عندما يتقلد الملك الجديد يأمر بذبح مجموعة من الناس ليرافقوا أخاه الذي ذبح فداءً للكرسي- كعبيد – في حياته الأخرى، ويتحول المذبوح بدوره إلى سلف مبجّل(46).
2 – الأسلاف عند المجموعات القبلية في غرب إفريقيا، وطقوس تعظيمهم:
أ – الأسلاف عند قبيلة الإيفي Ewe في توغو:
يعتقد وثنيو قبيلة الإيفي في توغو بسلطة الأجداد الفائقة، وبوساطتهم بينهم وبين الربّ، وفلسفتهم في ذلك أن الميت أقرب إلى الربّ من الحي، لكونه قد انتقل إلى بعد آخر يقرّبه من ربّه أكثر فأكثر، ويتوسل بالجد السابق فالسابق، فمثلاً عند حدوث مصيبة من مرض أو قحط فإنهم يصلّون للأجداد بالكيفية الآتية: (أيها الجد – Tobbeأو Togbui – فلان – يسمى باسمه – انقل دعواتنا إلى الجد فلان – الذي يليه تصاعدياً – ثم إلى الجدّ فلان، ثم إلى الجدّ فلان، وصولاً إلى الرب (الذي يُطلقون عليه اسم ماوو).
يستشار الأسلاف عند الإيفي في كل القضايا والحوادث، فمثلاً عند الزواج تشتري قبيلة البنت خموراً غالية جداً، ويُقام طقس الإراقة قائلين: أيها الجدّ فلان. ثم يذكر الأجداد تتابعاً إلى أن يصلوا إلى والد البنت الذي إن كان حياً يقال لهم: إن بنت ابنكم فلان تريد الزواج. وإن كان ميتاً فإنه يحسب ضمن الأسلاف، ويقال: إن حفيدتكم فلانة تريد الزواج، وليكن هذا في علمكم(47).
توضع أحياناً أنصاب ممثلة للأسلاف داخل البيوت، وترسم صورهم على جدران المعابد ليتذكرهم أحفادهم.
ب – الأسلاف عند قبيلة المندي في سيراليون:
يمثل الأسلاف عند الميندي دور الوسائط الروحيين، عند حدوث أية ملّمة أو قضية ذات بعد روحي؛ يشعر الأسلاف بها قبل خمسة أو ستة أيام قبل إقامة الاحتفال الطقوسي الخاص بتلك القضيّة.
من أهم المواسم التي تقوم قبيلة المندي فيها باستدعاء الأسلاف موسم الحصاد، حيث يتكون الاحتفال من قسمين، يبدأ أولهما في بدء الموسم: شهر سبتمبر، والجزء الثاني في ديسمبر. حينما تحصد أول الحبوب، يذهب بها المسؤول عن الطقس إلى التلّ المختصّ بالاحتفال بالأسلاف معلماً إياهم ببدء الحصاد، منادياً كلّ واحد منهم باسمه، واضعاً الحبوب في ذلك المكان، في اليوم التالي يعود إلى المكان نفسه حاملاً معه زهرة الأرز (مصنوعة من أوراق أرز محصودة حديثاً) موضوعة على ورقة موز، قائلاً: (لقد جلبنا لكم زهرة الأرز، لتراعوا وتحموا لنا أرزنا في مزارعنا من الطيور والهوام والحيوانات لئلا تفسده، نريد أن نبدأ حصاد الأرز فرجاؤنا أن تحموا مزارعنا، لا تأكلوا هذه الزهرة لأنها حلوة؛ بل كلوها لتهتموا وتراعوا حياتنا)(48).
بعد هذا الطقس تتوجه مجموعة منهم لصيد بعض الحيوانات لتقديمها كقرابين للأجداد, وفي يوم محدد يُطبخ أرز مع زيت النخيل ولحوم الحيوانات المصيدة وتقرب كتقدمة لأرواح الأجداد، ولا ينسى القوم أن يسكبوا بعض الماء على الأرض ليشرب الأسلاف ويغسلوا أيديهم قبل الأكل، ثم يوضع الطعام على ورقة موز، ويوضع على الحجر المقدّس المخصص لهذا الأمر.
ج – الأسلاف عند الفون Fon في بنين:
يعتقد وثنيو الفون أن أرواح أجدادهم تعيش داخل أو قرب المياه، ويذهب السادن (أو السادنة) قرب النهر عند بداية طقوس الأجداد سنوياً في شهر مايو أو يونيو، حاملاً القِدر والحصير المخصصين لهذه الطقوس الاحتفالية إلى جرف النهر أو شلال المياه، ثم يبدأ السادن بدعاء الأسلاف إلى الخروج من أعماق المياه والدخول في القِدر، وبعد هذا النداء يعتقد السادن أن الأرواح قد حلّت داخل هذه القدور، ويعرف دخولها فيها بهزات عنيفة تعتري حملتها، ثمّ يرجع بها إلى القرية لإكمال الطقوس هناك.
توضع القدور في المذبح المخصص للقرابين داخل المعبد، ويتولى السادن نقل الصلوات بين الجمهور وأجدادهم، والتي تبدأ في الغالب بشكر الأجداد على حمايتهم للقرية في العام الماضي، وسؤالهم حفظها وحمايتها في هذا العام أيضاً. تُخرج كراسي الأجداد من أماكنها، وفوق كل كرسي مظلة ملونة بألوان عديدة، وهذه الطقوس لبيان العلاقة القوية – والودّية جداً – بين أفراد القبيلة وأسلافهم.
د – الأسلاف عند الإيقو Egun(49) في بنين:
يسلك وثنيو هذه القبيلة مسلكاً غريباً جداً في تعظيم الأسلاف، حيث ينبشون قبورهم بعد موتهم لإخراج جماجمهم بعد سبعة أو تسعة أشهر من الدفن (تنبش قبور النساء بعد سبعة أشهر وقبور الرجال بعد تسعة أشهر)، تغسل الجماجم جيداً، وترش عليها دماء قرابين من الديوك الصغار، ثم تحفظ الجماجم في مكان معين انتظاراً ليوم الاحتفال الكبير (يوم تشريف وتذكر الموتى).
في ذلك اليوم تُجلب كل الجماجم إلى وسط ميدان الاحتفال، موضوعة في أوعية ومغطاة بقماش أبيض نظيف، يوضع على الآنية التي تحتوى على جماجم الرجال قبعة وسيفين، وتلك التي تحتوي جماجم نسائية يوضع عليها حلي وزينات نسائية. وفي اليوم التالي تؤخذ الآنية في موكب مهيب يقوده السدنة إلى حفرة كبيرة تسمى حفرة المحيط (Ocean Pit)، ثم تبدأ مراسم الدفن للجماجم.
طقس آخر عند نفس القبيلة يسمى Ago، يُقام بعد عام من دفن الجماجم، حيث ينصب الوثنيون خياماً قرب المحيط (أو النهر)، ويذبحون عدداً من القرابين، ويطبخون الطعام ويجعلونه داخل الخيام، ويدعون الأسلاف ليدخلوا إليها ويتناولوا الطعام الذي صنع لهم خصوصاً! يُنادى كلّ جد بالاسم، ويدخل السادن داخل الخيام، ويمكث – حسب اعتقادهم- مع أرواح الأجداد، ويخرج لينقل لقومه مقدار فرح الأجداد واستمتاعهم بالطعام الذي أُعدّ لهم، وهو خبر يستقبله القوم بفرح وابتهاج كبيرين. في اليوم التالي يقرب الشيوخ قرابين الطيور، ويقطعوا أمعاءها إلى قطع صغيرة, وتوضع على الزوائد المعدنية في الخيام التي نُصبت للأجداد؛ كدلالة خاصة على الاحترام والتبجيل.
ثالثاً: الآلهة والأرواح:
هناك عدد كبير جداً من الآلهة التي تُعبد في غرب إفريقيا كوسائط بين الخلق والربّ، فيوجد على سبيل المثال عند قبيلة الإيفي وحدها، في توغو وغانا، ما يقرب من 600 إله(50)!
والاعتقاد السائد عند وثنيي الغرب الإفريقي أن الآلهة (الأرواح المعبودة) قد خلقها الإله الأكبر لأداء أمور معيّنة، يعني هذا أنهم لم يأتوا باختيارهم، وهم يشتركون مع سائر مخلوقات الأخرى في المحدودية والقصور أمام القوة العظمى للخالق، حيث يستمدّون قوتهم وفعاليتهم من الربّ(51).
يعتقد بعض الوثنيين أن هذه الآلهة أبناء للربّ ورسل له، وبعضهم يعتقد أنهم وكلاء له على الأرض. ويمكن أن تكون هذه الأرواح المعبودة إناث أو ذكور، أرواح خيّرة أو شرّيرة، وقد أعطيت هذه الآلهة مواضع للسكن حسب تصوّرهم، كالأشجار، المياه، الصخور, حتى بعض الحيوانات، ويعتقدون أن للأرواح قدرة غير محدودة على التنقّل من مكان لآخر ومغادرة أماكنها التي تسكن فيها.
كما يعتقدون أن لهذه الآلهة قوى خارقة، وأن لكل إله (أو إلهة) نطاقها الخاص، فيوجد عندهم آلهة للحرب، والخصب، والشفاء والأوبئة، والزراعة، والصيد، وبعض مظاهر الطبيعة كالرعد والبرق والصواعق وغيرها لكل مظهر منها إله, وفي نطاق أعمالها قد فوضها الربّ – بزعمهم – تفويضاً كاملاً للعمل والتأثير، ولهذه الآلهة سدنة وسادنات، ولا يدل جنس السادن (الذكورة أو الأنوثة) على جنس الإله الذي يخدمه أو تخدمه(52).
وتنقسم هذه الآلهة من حيث نطاق العمل والتأثير إلى قسمين:
قسم خاص بحماية المجتمع والقبيلة، يجوز لكل فرد أن يتملّكه، وهذه الآلهة يعتقد أنها أبناء للربّ – تعالى وتقدس -، وأنها تعبد من زمن بعيد جداً بأسمائها وأوضاعها الحالية، تُسمى عند الأكان في غانا – على سبيل المثال – Tete abosom، وعند الإيفي في توغو Togbuitrowo(53).
القسم الثاني آلهة حديثة، تُستخدم في الغالب لطلب الصحّة والأعمال السحرية، تُسمى عند الأكان في غانا Suman Brafo أو Bosom Brafo ، وعند الإيفي في توغو Dzositrowo.
رابعاً: السدانة:
السدنة(54) هم الوسطاء بين الآلهة وعابديهم، المترجمون لحاجياتهم، وقادة الطقوس والترانيم الاحتفالية. ويمارس السدنة في المجتمع غرب الإفريقي أدواراً أخرى غير العبادة وسدانة الأوثان، فهم يُعدون حكماء وأطباء شعبيون وقضاة لأقوامهم كذلك، يذكر Idowu حول السدنة في أرض اليوروبا بنيجيريا: (الوظيفة الرئيسية للسادن عند اليوروبا هي الوساطة بينهم وبين آلهتهم، هو الشخص الذي يرتبط بالبشر والآلهة في آن واحد، هو الذي بإمكانه أن يسمع كليهما (الآلهة والبشر)، وهو الذي يرفع للآلهة صلوات عابديهم ليقبلوها، ويبارك العبّاد نيابة عن الآلهة)(55).
السدانة أمر يجد احتراماً وتقديراً كبيرين جداً عند وثنيي الغرب الإفريقي، وهو أمر مفتوح للرجال والنساء، وبالرغم من أن السدانة تكون وراثية في بيت معيّن من القبيلة في بعض المجتمعات؛ فإن بعض الأشخاص يرشحون ليكونوا سدنة إن أثبتوا كفاءتهم لذلك، وثمة طريقة واحدة للإثبات، وهو أن يتلبس الإله أو الروح المعبود بالمرشّح في أثناء الطقوس، ويعد هذا التلبس (Possession) الإذن العملي باختيار الشخص المتلبّس ليكون ضمن سدنة الإله المعيّن.
يخضع السادن المختار بعد ذلك لتدريبات عديدة حول عمله الجديد، تتضمن دروساً في القانون الخاص بالإله، والمحرمات، وكيفية الرقص، ودلالة كل رقصة، والموسيقى ونغمات الطبول، كما يجب عليه أن يتعلم الحكمة الشعبية (العلاج بالأعشاب وأوراق الشجر)، والطبّ الروحي, وكيفية طرد الأرواح الشريرة من أجسام العبّاد، كما يجب عليهم أن يتعلموا تاريخ المجتمع وعاداته وتقاليده بتوسّع.
وكثير من الأمور الاجتماعية توكل للسدنة بوصفهم قادة روحيين للمجتمع، كما يؤدي بعضهم أدوار القادة السياسيين، كما حدث ذلك في قرى Rukuba في نيجيريا، ومناطق Guan في غانا (قبل أن يتبنى Guan نظام الأكان Akan في الرئاسة)(56).
ليست للديانات الإفريقية كتب مقدّسة كتلك التي للوثنيات المشهورة في شبه الجزيرة الهندية على سبيل المثال، أو طقوس جنائزية مكتوبة بلغة مقدّسة كتلك الموجودة في الوثنية المصرية، فالطقوس أمر متوارث، وغالباً ما يختار القائمون على سدانة الأوثان هناك بالوراثة أو بالتلبّس، وهو ما يجعل دراسة الأديان الإفريقية أمراً ليس باليسير، لذا تعتمد جلّ الدراسات على الملاحظة المباشرة للطقوس، يقـولMbiti : (واحدة من صعوبات دراسة الديانات والفلسفة الإفريقية تكمن في انعدام كتب مقدسة خاصة بها، الديانة في المجتمعات الإفريقية مدونة لا في ورق، لكنها مدونة في قلوب الناس، وعقولهم، وتاريخهم الشفهي، وطقوسهم، والشخصيات الدينية مثل الكهنة، وصنّاع المطر، والكبار القائمين بالمهام، حتى الملوك, كل فرد هو حامل ديني، بالتالي علينا دراسة ليس فحسب المعتقدات الخاصة بالإله والأرواح، لكن أيضاً الأشخاص المسؤولين عن الطقوس والاحتفالات الرسمية. ما يفعله الناس يتم تحت تحفيز ما يعتقدونه، وينبع ما يعتقدونه من ما يفعلونه ويجربونه، بالتالي الاعتقاد والممارسة في مجتمع إفريقي تقليدي لا يمكن الفصل بينهما: إنهما ينتميان إلى كلّ واحد)(57).
خامساً: اليوم الآخر:
لا يؤمن وثنيو الغرب الإفريقي، في الغالب، بالبعث بعد الموت، ولكن الإيمان بتأثير الأموات أمر حاضر على الدوام في فلسفاتهم، فهم يعتقدون أن هناك حياة من نمط آخر يحياها أولئك الذين دخلوا في هياكل الأجداد.
يقول القس جاك ماندلسون: (في جميع الأديان الإفريقية التقليدية اعتقاد فيما وراء الموت بشكل أو بآخر، كما تعتقد أن المتوفى تستمر حياته في عالم الأرواح… ومفاهيم الخير والشر موجودة أيضاً في هذه الديانات، بل لعلها عميقة الجذور فيها إلى حد لا يتصوره الكثير من الناس.. وتعتقد قبائل التوركانا من كينيا – مثلاً – أن الله، مع أنه يشفي من المرض، قد يصيب به أولئك الذين يغشون المحارم ويخالفون الطقوس الهامة)(58).
إن عدم الإيمان باليوم الآخر جعل مفهومهم للجزاء منصبّاً على الدنيا فقط، حيث لا يظنون وجود عقوبة أو ثواب في الآخرة، فالمجرم ينال جزاءه في حال حياته، والبارّ يلقى من السعة والرغد ما يكافئ برّه.
ينقـل لناMbiti هـذه الرؤيـة قائلاً: (ليست هناك لا جنة يتم التطلع إلى ولوجها، ولا نار تستوجب الخوف منها في العالم الآخر, لا تتطلع روح الإنسان إلى تخلص من الخطيئة، ولا إلى تواصل أوثق بالإله في العالم الآخر. إن هذه الحقيقة عنصر مهم في الديانات التقليدية، وهي حقيقة سوف تساعدنا في فهم تركيز التدين الإفريقي على الأمور الدنيوية، مع الإنسان في قلب هذا التدين. وهنا أيضاً تظهر أهمية المفهوم الإفريقي لمسألة الزمان, فالديانات والفلسفة التقليدية تعنى بالإنسان في الزمان الماضي والحاضر، يظهر الإله في الصورة كتفسير لصلة الإنسان بالزمان, ليس هناك أمل تبشيري أو نظرة رؤيوية مع الإله بارزاً في لحظة مستقبلية ما، جالباً تحولاً جذرياً في حياة الإنسان العادية. لا يصور الإله في علاقة أخلاقية، وروحية مع الإنسان. أفعال الإنسان التعبدية واللجوء إلى الإله هي براجماتية ونفعية أكثر منها روحية أو روحانية)(59).
سادساً: القضاء والقدر:
يعتقد الوثنيون أن كل الأحداث التي تطرأ على البشر إنما هي جزاء أعمالهم، خيراً أو شراً، فتراهم يؤمنون بأهمية الكسب في المصير، ولا يُرجعون تقدير هذه المسائل إلى الخالق سبحانه، بل ولا لآلهتهم الوثنية، إنما ينسبون قضية التقدير إلى ذواتهم، ويرون الجزاء نتيجة لتصرفاتهم.
وأخالف هنا ما ذهب إليه ب. س. لويد؛ إذ يذكر أن (شعوب إفريقيا لا تزال تؤمن بشكل ما بالقضاء والقدر، وأن الإنسان يمكنه تعديل قدره بالأعمال الصالحة)(60)، حيث تدل أنماط تعبدهم وإيقانهم بالجزاء ونمطهم في التحكيم إلى أن المسائل ترتبط بأعمالهم التي ترضي أو تغضب آلهتهم، لذا يسترضونها على الدوام بالقرابين؛ لأنها مظنة الغضب والثورة باستمرار، ويتعلقون بالتمائم والتعاويذ الطاردة للأرواح الشريرة التي تجلب غضب الآلهة، فلا يرجعون حادثة ما أو مرضاً أو ظاهرة من الظواهر الكونية أو توفيقاً أو خذلاناً إلا إلى أعمالهم المحضة، ومزاج آلهتهم.
المحور الثالث: طرق دعوة الوثنيين إلى الإسلام:
إذا صح تصنيف العقائد الوثنية إلى وثنيات بسيطة ووثنيات مركّبة أو معقّدة (بناء على إيمانهم بوجود إله كلي القدرة خالق للكون)؛ فإن وثنية الغرب الإفريقي تندرج تحت الصنف الأول (وثنيات بسيطة).
وكما سبق في هذا البحث؛ فإن وثنيي الغرب الإفريقي يؤمنون بوجود إله خالق سام يفوق الإدراك، ويقرّون بخلقه للسموات والأرض والأنهار والجبال، ويمكن تشبيه طريقتهم في تناول المعتقد بطريقة مشركي مكّة الذين كانوا يقرّون بخلق الله تعالى للسموات والأرض: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان : 25]، ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزمر : 38]، وبالقدر نفسه إن سُـئل أحد وثنيي الغرب الإفريقي: من خلق السموات والأرض؟ فلن يملك جواباً غير أن يقول: الله.
وإذا دار النقاش معهم حول سبب تعلقهم بالأوثان؛ جاءت الإجابة مماثلة تماماً لحجة مشركي مكة الواهية، والتي أجازوا بها تعلقهم بالأوثان، وهي اتخاذهم شفعاء عند الله، ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس : 18].
كما يتشابه معتقدهم في نقطة محورية، وهي إشراكهم الجنّ والملائكة (يسميها وثنيو الغرب الإفريقي: أرواحاً، أو فودو) مع الله سبحانه وتعالى، والزعم بأنهم أبناء لله وبنات له (تعالى عن قولهم)، وهو عين ما ذُكر عن مشركي مكة: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام : 100]، ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ﴾ [سبأ : 40 – 41].
وكما أشار القرآن إلى غلوّ مشركي مكة في تعظيم آبائهم؛ فإن لوثنيي الغرب الإفريقي غلوّاً مماثلاً، لكنه يفوق هذه الدرجة باتخاذ أرواح الأجداد وسائط إلى الله – سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً -.
وخلاصة الأمر أن شبهات الوثنيين في الغرب الإفريقي يمكن علاجها بطريقة القرآن الناجعة الناجحة المحكمة، وللمسلم بحمد الله ذخيرة وافرة من الحجج والبراهين والطرق الإلهيّة والنبويّة في علاج هؤلاء الذين ينتظرون من يخرجهم ﴿… مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم : 1].
وأورد في هذا المقام أهم أسباب الشرك وطريقة القرآن في علاجها:
لوثنيي الغرب الإفريقي إيمان عميق بسلطة الآباء الروحيّة، كما مرّ معنا في البحث، وهو أمر مشترك بينهم وبين المشركين الأوائل، ومعتقد أكثرهم أن هذه الآلهة التي يعبدونها قد ورثوها كابراً عن كابرٍ فلا يسوغ لهم تركها.
المناقشة:
يُنبّـه الوثني على أن الآباء والأجداد قد قضوا، وأنهم أفضوا إلى الله تعالى، وأنهم في هذه اللحظة لا يعقلون شيئاً مما يدعوهم به أبناؤهم، ولا أحد ذو علم كامل، وواحد من وثنيي هذا القرن يعرف آلاف المعلومات العلمية والتقنية والدينية أضعاف ما كان آباؤه يعرفونه، أفيتبع من يعلم جهلهم تجاه قضية ما وهو قد جاءه البيان؟
الحجة مأخوذة من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة : 104].
حتى لو ثبت عندهم أن الأجداد قد أمروا بعبادة ما، أو أرادوا شيئاً ما! هل ننظر لما يريده الأجداد أم لما يريده خالق السموات والأرض؛ وأنتم تقرون بإله عظيم كلي القدرة؟
الحجة مأخوذة من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف : 28].
ثم لو سمّى الأجداد هذه الأوثان آلهة، وأنتم تبعتموهم في التسمية على أنها آلهة تضر وتنفع، ولم ينزّل الإله الأعظم هذا الأمر عليكم ولا على آبائكم؛ فما الذي يجعلكم تعتقدون ألوهيتها وما جاءكم بيان من الله بذلك؛ أليس هذا مدعاة لوقوع الغضب والسخط عليكم من الله؟!
الحجة مأخوذة من قوله تعالى: ﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾ [الأعراف : 71]، ويمكن للداعية أن يذكر لهم قصص الأنبياء الذين جادلوا أقوامهم في عبادتهم لغير الله، فلما أبوا أخذهم الله بالعذاب.
يبين للوثنيين أن الله تعالى لما خلق آدم (وهو الأب الأول للكل، ولو كان ثمة أحد الأباء أحق بالاتباع فهو الحقيق بذلك لكونه السلف الأول)؛ أخرج من صلبه كل الذرية التي ستكون من بعده، بقدرته سبحانه، وأخذ عليهم العهد بالإقرار بوحدانيته، وأشهد كل واحد منا على نفسه ألست بربكم؟ فقلنا جميعاً: بلى شهدنا على أنفسنا بأنك الربّ المستحق للعبادة وحدك. ثم منعنا الله أن نأتيه مشركين ونقول له إنما تبعنا آباءنا. فعندها لن ينفع الآباء أبناءهم، بل ينشغل كل واحد بنفسه، وأنتم قد رأيتم هنا في الدنيا قبل الآخرة كيف أن الإنسان إذا أصابته مصيبة فإنه لا ينظر إلا إلى نفسه كيف يخلصها، فلو سقطت مجموعة من الآباء والأبناء في المحيط وكلهم لا يعرفون السباحة، فكل واحد منهم سينشغل بنفسه ومحاولة الخروج ولن يلتفت إلى الآخر! فكيف بيوم القيامة حين نقف أمام الله ونرى العذاب الشديد بأعيننا! كل واحد سيقول نفسي نفسي! ولن ينفع الآباء الأبناء!
الحجة مأخوذة من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ…﴾ الآيات [الأعراف : 172 – 173]، والمراد من هذا النقاش أن الله تعالى قد خلق الإنسان مستعداً بفطرته وبالأدلة الكونية للتوصل إلى الحق والاعتراف بخالق الكون.
ويبين الداعية لهم أن كثيراً من السدنة وأصحاب الأصنام وخدامها؛ إنما يبحثون عن العلو وطلب الرفعة بين أقوامهم بسبب هذه الآلهة، ولهذا يزعمون أنهم ورثوها من آبائهم، وأنهم لا يريدون أن يتركوا ميراثهم، فيضفون عليها قداسة وشرعية، والحقيقة أنهم يريدون العلوّ والاستخفاف بعقول البسطاء، وأخذ غلتهم وثمار أرضهم بهذه الحجة، ويرون أن في عقيدة التوحيد ونبذ الآباء منازعة لهم في سلطانهم.
الحجة مأخوذة من قوله تعالى: ﴿قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس : 78].
ويمكن للداعية أن يسأل الوثنيين: من أمركم بعبادة هذه الأصنام؟ فإن كان الجواب: وجدنا آباءنا يعبدونها ونحن نعبدها. يورد حجة إبراهيم عليه السلام: هل يسمعونكم إذ تدعون؟ أو ينفعونكم حين تعبدونهم؟ أو يضرونكم إن لم تعبدوهم؟ وإذا كانت لا تسمع ولا تضرّ ولا تنفع؛ فما الداعي إلى عبادتها؟ ألمجرد تمسك آبائكم القدماء بها؟
ويمكن للداعية أن يقتدي بشعيب عليه السلام مع قومه حين قالوا له: ﴿… أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود : 87]؛ قائلاً لهم: أخبروني يا قوم؛ إن كنت على بصيرة وبرهان قاطع من ربي فيما أدعوكم إليه (وأنتم ليس لكم البرهان القاطع على صدق الأجداد والآباء)، وقد رزقني الله هذا الرزق الحسن الذي ترونه (ويحبّذ أن يأتي الداعية إلى وثنيي القرى بهندام جيّد)(61)؛ فهل يُعقل أن أخالف أمر الله ونهيه وأعْظم أوامره أن نوحده، وأعْظم نواهيه أن نشرك به!
ويمكن للداعية أن يقتدي بيوسف عليه السلام وهو يدعو صاحبيه في السجن، من الأحسن أن تمارس هذه الطريقة عندما يجد الداعية قبولاً ولو مبدئياً من أهل القرية (أو الطائفة المدعوة)، قائلاً: يا قوم؛ أهذه الأوثان والمعبودات المتعددة في الذوات والصفات، التي لا تضرّ ولا تنفع خير للعبادة، أم الله الواحد المتفرّد بالألوهية والربوبية، المعبود بحق والغالب على كل شيء؟ ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأوثان ما هي إلا مجرد أسماء لا حقيقة لها، سميتموها آلهة أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم، ما أنزل الله بها من سلطان، أنتم من سميتم هيفيسو إلهاً للرعد، هل الله هو الذي قال لكم هذا؟ أنتم من سميتم ساكباتا إلهاً للأرض! من أين لكم هذه التسمية؟ هل أمركم الله بأن تسموه هكذا؟ أهذا هو الدين الذي يرتضيه الله؟ ويورد الداعية أسماء الآلهة المعبودة في المنطقة ويفندها اسماً اسماً، وهي جمادات لا تسمع ولا تُبصر، ولا تضرّ ولا تنفع، ما أوحى الله بعبادتها، وما أنزل بها من حجة أو برهان.
الحجة مأخوذة من قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ … الآيات [يوسف : 39 – 40].
يذكر الشيخ عبد الرحمن إدريس قصة واقعية حدثت معه وأحد عابدي هيفيسو، يقول: (كنا في قرية (فدبي) الذين يعبدون هيفيسو، وكنت في مجلس للوعظ والإرشاد في وسط القرية تحت شجرة، فإذا برجل ثمل يترنح الميمنة والميسرة إلى أن وقف أمام الجمع، يستهزئ بالمسلمين والضيوف الذين قدموا إليهم – يقصدنا -، وتعجب كل أهل القرية من تصرفه، ثم انتهى به الأمر إلى أن جلس بجانبنا يستمع إلى المواعظ التي كانت تدور حول الآيات الكونية، ووجوب إفراد المولى سبحانه بالعبادة، وعدم نفع الأوثان والنصب وزيادتها لأصحابها رهقاً وتعباً. واختتمنا مجلسنا ووعدناهم بالعودة غداً.
ثم لما جئنا فوجئنا بأن أول القوم حضوراً هو ذلك السكران، لكنه بدا لنا اليوم بحالة طيبة وذهن صاف قائلاً: لقد فهمت كل ما قلتموه بالأمس ووعيته، وأنا اليوم أريد أن أعلن إسلامي، وأن أخبركم عما أعرف حول هذه الأوثان. فمن العجب أنه أول من أسلم في القرية بأسرها، وأقمنا أول مصلى في القرية إلى جوار بيته، على قطعة أرض جادت بها نفسه في سبيل هذا الدين، فأسميناه أبا بكر).
الإحالات والهوامش:
(*) كاتب وباحث من السودان.
(1) (Ray 2000).
(2) انظر: Mbiti في كتابه (African Religions and Philosophy)، ص 7.
(3) (Mbiti,1969).
(4) اقترح تايلور أن الأحلام والرؤى والهلوسات، وكون الجثث بلا حياة، جعلت البدائيين يستنتجون أن نفساً (باللاتينية: anima) تسكن الجسد, واستناداً إلى هذه النظرية حلموا تكراراً بأحبائهم الأموات، وافترضوا أن نفساً تستمر في العيش بعد الموت، ولكنها تحل في الأشجار، الصخور، الأنهار.. وهلم جراً. وأخيراً؛ فإن الأموات والأشياء التي اعتقدوا أن الأنفس تسكنها صارت تُعبد كآلهة. وهناك أنثروبولوجي آخر وهو R.R.Marett (1866م – 1943م) له نظرية أخرى (محسنة لمذهب الروحانية) دعاه (مذهب حيوية المادة animatism)، فبعد دراسته لمعتقدات ميلانيزي جزر المحيط الهادي، والوطنيين في إفريقيا وأمريكا؛ استنتج مارت أنه بدلاً من حيازة فكرة نفس شخصية؛ آمن الناس البدائيون بأنه توجد قوة غير شخصية، أو قوة فوق طبيعية تحيي كل شيء؛ وهذا الاعتقاد قد ألهب مشاعر الرهبة والخوف عند الإنسان، فصارت فيما بعد ديناً (ويُسمى عنده: الدين البدائي). (بحث الجنس البشري عن الله، إصدارة برج المراقبة، شهود يهوة.).
(5) ترجمة كلمة Paganism في القواميس الانجليزية: دين وثني، رجز: عبادة الأوثان، وثنية.
(6) (Kofi 1978, p 4).
(7) تترجم كلمة Fitishism في القواميس الإنجليزية بالبدّية، البدائية، طقوس دينية قائمة على التعاويذ Atlas.engkish – Arabic talking Dictionary
(8) (1978 Kofi).
(9) ترجمة كلمة Polythism في القواميس الإنجليزية: الإيمان بعدّة آلهة أو عيادتها Atlas.engkish -Arabic talking Dictionary.
(10) (Epworth Press, London,1961, p11).
(11) (Kofi 1976).
(12) Paris 1984)).
(13) (Orita 1967).
(14) (Iwuoha 2002).
(15) (John Day 1946).
(16) (Mbiti 1969).
(17) (Mbiti 1969).
(18) (Mbiti, p 10).
(19) (Kofi 1978 ).
(20) (Kofi 1978).
(21) W.T.Harris) و H.Sawyerr / The Springs of Mende Belief and conduct ).
(22) (Kofi 1978).
(23) (Kofi).
(24) لغة خاصة تستخم في المجتمعات البدائية، حيث لم تتوفر وسائل المواصلات الحديثة، تعتمد هذه اللغة على السماع، وتعد لها طبول ضخمة من جذوع الأشجار المفرغة، ولها عدة إيقاعات للمناسبات المختلفة، للتحذير أو الحرب أو الزواج، كما لها مفرداتها الخاصة. (المؤلف).
(25) (Kofi).
(26) (Kofi).
(27) (Idowu).
(28) لويد 1980م، ص .36.
(29) قبائل الأقزام أو «البيغمي» هي القبائل التي تعيش في الغابات على صيد الحيوانات, وتنتشر هذه القبائل في وسط إفريقيا وغربها، وفي الكونغو برازافيل، والكاميرون، والغابون، وجمهورية إفريقيا الوسطى، ورواندا، وبوروندي، وأوغندا.
(30) مجموعة من قبائل الأقزام في الكونغو.
(31) الرب والله وجوجو.. الأديان في إفريقية المعاصرة، تأليف القس جاك مندلسون، من الكنائس التوحيدية (uniturian churches)، ترجمة إبراهيم أسعد، ص 108.
(32) (Kofi, 25).
(33) (Kofi, 30).
(34) المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، ص 665.
(35) أبحاث في السحر، مجموعة دراسات، ترجمة محمد أسليم، مكناس، مطبعة سندي 1995م.
(36) Paris 1995, 52)).
(37) (Chife).
(38) (Munto 1961, p. 108).
(39) (Kofi, 36).
(40) (Danquah).
(41) Paris 1995, 52)).
(42) (طقس الإراقة) طقس وثني، يعتمد على إراقة بعض الخمور على الأرض استرضاء للأرواح والآلهة، يُمارس في عدد من الديانات الوثنية، وانتقل إلى بعض الطوائف النصرانية.
(43) (Kofi.p,39).
(44) (Sarpong).
(45) (Kofi: 1967).
(46) (شيخ صالح).
(47) (شيخ صالح/ سوسا).
(48) (Harris, p.18).
(49) أصل الكلمة egun gun، ومعناها في لغة اليوروبا: الهيكل العظمي، حيث يعتقدون أن الميت قد رجع وقد يؤذي، ويُمثل الأمر في طقس يلبس فيه السدنة أزياء خاصة، تخيط باليد (مليونين فرنك تقريباً)، وعند خياطته تُجرى طقوس خاصة، ولا يُسمح لأحد برؤية السادن حين يلبس ذلك الثوب، ولا يمسه إنسان لاعتقاد سائد هناك بأن من يمسه يموت، وأن من بداخله إنسان ميّت. (أحمد محمود – بنين).
(50) (Alex / David 1995).
(51) (Kofi).
(52) (Dr. Peter 1967).
(53) (N.K. Dzobo 1971).
(54) يُسمّى السدنة Okomfo عند الأكان في غانا، Tronua عند الإيفي،Alufa عند اليوروبا (أو Olufa (أحمد محمود)، وEze-alusi عند الإيبو في نيجيريا Kofi)).
(55) (Idowu 1973: p130).
(56) (Kofi 1978: p 75).
(57) (Mbiti 1969).
(58) الأديان في إفريقية المعاصرة، جاك ماندلسون.
(59) (Mbiti 1969).
(60) لويد 1980م, ص .49.
(61) أذكر أنه في إحدى رحلاتنا الدعوية بإحدى القرى التي اهتدى بعض أفرادها؛ كانت هناك معارضة كبيرة من سدنة الصنم على وجودنا في المكان، وكان معنا الشيخ محمد آدم عرب (مدير مكتب المنتدى الإسلامي حالياً، وقد كان وقتها مسؤولاً من قسم الدعوة)، فدخل في نقاش مع السدنة حول عدم جدوى عبادة غير الله، فقال له أحد السدنة: هل إذا صرنا مسلمين سيزيد رزقنا؟ فقال لهم الشيخ محمد عرب: انظر إليّ الآن! (وكان الشيخ في حلة جميلة) هل تراني يبدو عليّ الفقر؟ فأسلم السادن من فوره