بعد مرور خمسة وثلاثين عامًا على اغتيال “توماس سانكارا” في 15 أكتوبر عام 1987م في انقلاب عسكري، لا يزال الرئيس الراحل لبوركينا فاسو بطلًا شبه أسطوري للعديد من الشباب في بلاده وفي جميع أنحاء إفريقيا.
فهو صورة مثالية لثوريٍّ ضحَّى بنفسه، وسعى خلال أربع سنوات كزعيم لدولة صغيرة فقيرة في منطقة الساحل إلى تحسين حياة الفقراء من بني شَعْبه، وفي الوقت نفسه استطاع إبراز اسم “بوركينا فاسو” على الساحة الدولية.
والسؤال الآن: لماذا لا يزال “سانكارا” يحظى باهتمام شعبي حتى الآن، على الرغم من انهيار مشروعه الثوري قصير العمر؟
لهذا سأحاول من خلال هذه الدراسة المختصرة تقديم بعض التأملات التي تُعيد فحص سمات عصر “سانكارا” الثوري التي لا تزال تلقى صدًى لدى العديد من المواطنين اليوم، وكذلك أولئك الذين تخلفوا عن ركب “سانكارا”.
مقدمة:
قبل أسبوعين من نهاية عام 2011م، وهو عام مضطرب بشكل استثنائي في الحياة السياسية في “بوركينا فاسو”، سيطر الشباب الغاضب على طريق رئيسي في حي “زوجونا” Zogona في العاصمة “واجادوجو” Ouagadougou. حيث كانوا يمارسون لعبة كرة القدم في الشارع للتعبير عن معارضتهم لأعمال بناء فندق على أرضٍ كانوا يستخدمونها كميدان رياضي، والتي كانت آخر منطقة مفتوحة في “زوجونا” يتم الاستيلاء عليها من أجل التطوير التجاري.
وبينما كانت المظاهرات تعمُّ المكان، وتراقبها شرطة مكافحة الشَّغب؛ هتف المتظاهرون بشعاراتٍ تُندِّد بمصادرة أراضيهم. ومن بين هذه الشعارات: (ويل لمن يخنقون شعوبهم!!). لم يكن هناك أيّ ذِكْر صريح لـ”توماس سانكارا”، الذي استخدم هذه العبارة قبل عقودٍ للتنديد بنظام استبدادي. ومع ذلك، كان المحتجّون يعرفون جيدًا أن معظم سكان “بوركينا فاسو” سيفهمون أصل الكلمات وأهميتها؛ من خلال توجيه الشعار إلى سلطات البلدية. ومن المحتمل أن الشباب كانوا يقصدون التحذير العام، بالإضافة إلى تذكير محدّد بأن المكان قد تم تخصيصه في البداية لشباب “زوجونا” في عام 1984م، أي أثناء رئاسة “سانكارا”. وبعد أن وعد رئيس البلدية بتخصيص نصف الأرض لمجمع رياضي جديد، وافق المتظاهرون على رفع الحصار عن الأرض.
من هنا وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسة وثلاثين عامًا على اغتياله، لا يزال “سانكارا” يُمثِّل وجودًا سياسيًّا بارزًا في بلاده.
والأهم من ذلك، أنه غالبًا ما يتم طرح أفكار من عصر “سانكارا” كحلول بديلة في أوقات الأزمات الحادة. وهي تُقدّم ليس فقط مِن قِبَل أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أتباعًا للتقاليد السانكارية، ولكن أيضًا مِن قِبَل الليبراليين والقوميين وغيرهم من الحانقين والرافضين لما آلت إليه الأوضاع في بلادهم.
لماذا هذا الإرث الدائم؟ لماذا يواصل الشباب المعارضون في بوركينا فاسو -وفي أماكن أخرى في إفريقيا- تذكُّر “سانكارا” وإثارة أفكاره؟ مما لا شك فيه أن الكثير من التفسير يكمن في عدم رضائهم عن الطريقة التي تسير بها الأمور اليوم: الجوع والفقر والانتهاكات والفساد على نطاق واسع، و”الديمقراطيات” الانتخابية التي لا تحدث سوى القليل من التغيير الحقيقي، والنُّخَب التي تميل نحو العواصم الغربية أكثر من مواطنيها. بالنسبة للبعض في جميع أنحاء المنطقة؛ فإن ترديد الأغاني التي تمدح “سانكارا” أو ارتداء قميص عليه صورته يمكن أن يرمز إلى اغترابهم وتحديهم، وهو تعبير سياسي ثقافي يمكن مقارنته بتبنّي صور “تشي جيفارا” Che Guevara و”بوب مارلي” Bob Marley المنتشرة في كل مكان.
في “بوركينا فاسو” على وجه التحديد، تكون الرسالة المنقولة من خلال التلويح باسم “سانكارا” أو صورته محددة بشكل خاص. فهو لم يكن فقط بطلًا محليًّا، ولكنه كان رمزًا للتحدّي ومثالًا عمليًّا على تحقيق ما كان يَصِفه البعض بكونه مستحيلًا.
وفي الواقع لا تقيم هذه المقالة شؤون البلاد في “بوركينا فاسو” بعد “سانكارا”. كما أنها لا تُحلّل أنشطة أولئك الذين يزعمون أنهم يسيرون على خطى “سانكارا”، باستثناء الإشارة إلى كيفية تبنّيهم لبعض مبادراته وأفكاره.
بشكل أساسي، تلقي هذه المقالة نظرة على جوانب معينة من التجربة الثورية في “بوركينا فاسو”، ودور قائدها الأكثر شهرة. هذا الجهد هو جهد انتقائي؛ فالثورات هي شؤون معقّدة، وتثير دائمًا ردود فِعْل متباينة من المنتقدين والمعجبين على حدّ سواء. وحتى المؤيدين المخلصين عمومًا لا يمكنهم الاتفاق على الميزات الأكثر أهمية، أو المبتكرة أو الناجحة، أو التي فشلت، والتي يجب تذكُّرها أو نسيانها.
نقطة تحول تاريخية:
لا يمكن تقدير خصوصية التجربة الثورية في الفترة 1983-1987م بشكل كامل إلا من خلال مراعاة الظروف الاجتماعية والسياسية للبلاد في ذلك الوقت. ففي الحقبة الاستعمارية، كان يُنظَر إلى “فولتا العليا” Upper Volta، على أنها أرض لا سواحل لها، مع القليل من الموارد التي تعتبر جديرة بالاستغلال، باستثناء احتياطي العمالة الذي كان معظمه من الشباب أصحاب البنية الجسدية المتميزة. نتيجة لذلك، شهدت “فولتا العليا” استثمارات أقل بكثير، وندرة في تطوير البنية التحتية، أو اختراق السوق أو التقسيم الطبقي مقارنة بالعديد من المستعمرات الإفريقية في المناطق السَّاحلية. كما لم يكن لدى شعوب المستعمرة المختلفة، أو نُخَبهم، الكثير من الفرص لتطوير “مجتمع متخيل” يتجاوز مجموعاتهم العرقية المحددة.
لم تُظهِر “فولتا العليا” سوى معارضة محدودة للحكم الاستعماري بعد سَحْق آخر مقاومة مسلحة للغزو الفرنسي في عام 1916م. وقد تغلَّبت القوى الأكثر محافظة على حفنة من الشخصيات القومية أو اليسارية التي ظهرت عندما تنازلت فرنسا أخيرًا عن سيادتها في عام 1960م، وسلمت زمام الأمور إلى السياسي “موريس ياميوجو” Maurice Yame´ogo، الذي كان قد عارض الاستقلال بالفعل قبل عام. حيث كانت النقابات العمالية والحركات الطلابية منظَّمة بشكل جيد ومتشددة؛ حيث قادت تمردًا ضد “ياميجو” في يناير 1966م. لكنهم كانوا أضعف من أن يتمكنوا من تنصيب حكومة أكثر شعبية، ورحَّبوا بدلًا من ذلك باستيلاء قائد الجيش على السلطة. كانت هذه هي المرة الأولى والتي تحوَّلت إلى سلسلة من عمليات الاستحواذ العسكرية، ولعب التحريض النقابي دورًا في تقويض اثنين من الأنظمة اللاحقة أيضًا.
نظرًا لندرة “الأبطال الوطنيين” البارزين في حقبة الاستقلال، فمن المرجَّح أن ظهور أيّ زعيم “يساري” إلى حد ما، أو أي زعيم قومي كان سيترك بصمة بارزة في كتب التاريخ. ومع ذلك، لم يكن “سانكارا” معتدلًا على الإطلاق. في وقت مبكر، حافَظ ضابط الجيش الشابّ على اتصالات سرية مع العديد من المجموعات المستوحاة من الماركسية، وكان قريبًا بشكل خاص من صديق الطفولة “سوماني توري” Soumane Toure، الذي كان زعيم اتحاد النقابات الأكثر نضالية، حتى اكتسب “سانكارا” وغيره من الضباط اليساريين شعبية تدريجية بين صفوف المبتدئين في الجيش.
وفي أواخر عام 1981م، أدَّى النظام العسكري الهشّ الذي كان يسعى إلى تعزيز مصداقيته إلى تعيين “سانكارا” وزيرًا للإعلام. لكن هذا التحرك جاء بنتائج عكسية؛ حيث دعم “سانكارا” وسائل الإعلام المحلية في فَضْح الفساد في الطبقة الحاكمة والمقربين منها، وعندما أصبح النظام أكثر قمعية، استقال وشجب النظام علنًا مستخدمًا العبارة الشهيرة: “ويل لمن يخنق شعبه!!”. تلا ذلك احتجازه ووضعه تحت الإقامة الجبرية.
ومع ذلك، فإن انقلابًا آخر، يعكس هذه المرة جزئيًّا القوة المتزايدة للضباط الشباب ذوي الميول اليسارية؛ حيث تم إعادة “سانكارا” في يناير 1983م كرئيس للوزراء. ومرة أخرى، استخدم منصبه للتحريض من أجل التغيير، وذلك من خلال دعم التحركات العمالية، وإدانة الفساد، وانتقاد النفوذ الذي يتمتع به الزعماء التقليديون، واعتناق مواقف سياسية خارجية مناهضة للإمبريالية؛ والتي بالطبع دقَّت أجراس الإنذار في باريس، وتم تشجيع كبار الضباط المحافظين في النظام على القيام بانقلاب داخلي في مايو 1983م لعزل واعتقال “سانكارا” وأقرب زملائه.
لم ينجح هذا الانقلاب كما كان مخططًا له. وخرجت مظاهرات كبيرة في “واجادوجو” شارك فيها طلاب المدارس الثانوية وشباب من الأحياء الفقيرة وبعض النقابيين. وهتف المتظاهرون “حرروا سانكارا!”، ورددوا هتافات مناهضة لفرنسا. وتشكلت لجان سرية من المدنيين لمعارضة الانقلاب، وتداولت المناورات المناهضة للحكومة في الثكنات. والأخطر من ذلك، أن حامية المظليين في “بوي” Pô ظلت تحت سيطرة النقيب “بليز كومباوري” Blaise Compaoré، الذي كان وقتها من الموالين لـ”سانكارا”. حتى سيطرت حالة من الجمود الهش بين المركزين المتنافسين على السلطة العسكرية، “واجادوجو” و”بوي”.
وأخيرًا، في 4 أغسطس 1983م، قاد “كومباوري” حوالي 250 جنديًّا مظليًّا إلى “واجادوجو” للاستيلاء على منشآت رئيسية، بالتنسيق مع “سانكارا”، وأفراد عسكريين آخرين ووحدات من المؤيدين المدنيين. وبحلول ذلك المساء، كان “سانكارا” على الهواء لإعلان الإطاحة بالحكومة وإنشاء مجلس وطني جديد للثورة.
ورأى البعض في وسائل الإعلام والمنتقدين السياسيين زي “سانكارا” وزملائه الضباط وسرعان ما وصفوا الاستيلاء على أنه “انقلاب” وبوصف الحكومة بـ”النظام العسكري”. وعلى عكس التدخلات العسكرية السابقة للبلاد، تم الاستيلاء على السلطة عام 1983م بالتعاون المباشر مع العديد من الجماعات المدنية اليسارية، التي شغل قادتها أيضًا مناصب حكومية بارزة. كانت لجنة المصالحة الوطنية والحكومة عبارة عن تشكيلات عسكرية-مدنية مختلطة، لكنَّ التأثير الأكبر كان يمارسه كل من “سانكارا” و”كومباوري” والكابتن “هنري زونجو” Henri Zongo والقائد “جان بابتيست لينجاني” Jean-Baptiste Lingani، القادة الأربعة “التاريخيين” للاستيلاء على السلطة في أغسطس 1983م.
ومن الأفضل ألَّا نخوض في وصف التجربة التي قادها “المجلس الوطني للثورة” The National Council for the Revolution (CNR) بقيادة “سانكارا” بأنها “ثورة” أم “انقلاب”. فمن خلال التعريفات التي تركز على التحولات في النظام السياسي، فهي ثورة. ومع ذلك، فمن الواضح أنها لم تستلزم نوع التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي ميزت “الثورات الكبرى” لفرنسا أو روسيا أو الصين، أو حتى تلك التي نتجت عن التمردات المناهضة للاستعمار في إفريقيا كما في (الجزائر، وغينيا بيساو، وأنجولا، وموزمبيق) أو الإطاحة بالنظام الملكي الإقطاعي في إثيوبيا. ومع ذلك، مهما كانت التسمية التي يمكن أن نطلقها على التحرك، فقد كان من الواضح للعديد من المراقبين المعاصرين أن “المجلس الوطني للثورة” جلب معه تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية إلى البلاد في سنواته الأربع القصيرة أكثر مما حدث خلال الـ35 عامًا الماضية.
الأيديولوجيا:
بالنسبة للعديد من المراقبين الخارجيين -ومواطني الدولة نفسها- لم يكن من السهل تحديد وجهة نظر القيادة. حيث أطلق “سانكارا” وزملاؤه على ثورتهم “ثورة ديمقراطية وشعبية”. أدَّى ذلك ببعض المحللين الأكاديميين إلى تطبيق تسمية “الشعبوية”. لقد فعلوا ذلك أحيانًا عن طريق إقران “سانكارا” مع الغاني “جيري رولينجز” Jerry Rawlings، وهو ضابط شابّ آخر بدا أنه في سنواته الأولى في السلطة يتناسب مع التوصيف الشعبوي. كما وصف بعض المعلقين الإعلاميين “سانكارا” بأنه من أتباع “معمر القذافي”. ففي خلال إحدى زياراته إلى ليبيا، يبدو أن “القذافي” ضَغَط على “سانكارا” لكي يتبنَّى منهج “الكتاب الأخضر”، لكنَّ “سانكارا” ردَّ: “نحن لسنا عذارى في ممارسة السياسة؛ نعم خبرتك تهمّنا، لكننا نريد أن نعيش تجربتنا الخاصة”.
وقد عرف “سانكارا” نفسه ببساطة على أنه ماركسي، على الرغم من أنه حرص على عدم فرض هذه التسمية على العملية الثورية نفسها. ويتجلى تأثير الأفكار الماركسية في خطاباته، وخاصة “خطاب التوجه السياسي” Political orientation speech الشهير في أكتوبر 1983م، والذي قدَّم تحليلًا مفصلًا للقوى الطبقية واستراتيجية التحالف بين البعض ومعارضة الآخرين. كذلك في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة استشهد بإلهام الثورة الفرنسية والثورة الروسية. ويعتقد كُتَّاب السيرة الذاتية لـ”توماس سانكارا”، وهي المجموعة الأكثر شمولًا من أعماله، أن هذا التوجه الأيديولوجي هو العنصر المحدّد لإرثه السياسي، يقول أحدهم: “برز سانكارا من بين قادة النضال من أجل التحرر الوطني في إفريقيا في النصف الأخير من القرن العشرين؛ لأنه كان شيوعيًّا”.
ويعكس موقف “سانكارا” القوي ضد الفساد والمعيشة المرتفعة للمسؤولين الحكوميين جانبًا آخر من نظرته المستقبلية. في مثل هذا البلد الفقير، كان التوفير والنزاهة كلمات السر الجديدة. حيث أدت المحاكمات العلنية إلى سجن عشرات الشخصيات المرموقة بتهمة الفساد أو الاحتيال. وكان على وزراء الحكومة قيادة سيارات رينو أو بيجو الصغيرة وغير المكلفة. واحتفظ “سانكارا” بتعليم أطفاله في المدارس العامة، ورفض تعيين أقاربه الذين سعوا للحصول على وظائف حكومية.
وبعد مرور خمسة وثلاثين عامًا على وفاة “سانكارا”، أشار “ماكسيم نيكيما” Maxime Nikiema -وهو شخصية بارزة في “الشبكة الوطنية لمكافحة الفساد” (REN-LAC) Réseau national de lutte، وهي المنظمة المدنية الرئيسية لمكافحة الفساد- إلى أنه في ظل “المجلس الوطني الانتقالي” كانت هناك “إرادة سياسية قوية” لمكافحة الفساد؛ على عكس ما يحدث اليوم.
ومع انتشار الفساد والسرقة والمحسوبية في جميع أنحاء إفريقيا، جذبت حملات “سانكارا” لمكافحة الفساد اهتمامًا واسعًا. في جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، استندت مجموعة مستوحاة من الوعي الأسود صراحة إلى أفكار “سانكارا” لمطالبة الرئيس “جاكوب زوما” Jacob Zuma وغيره من قادة “المؤتمر الوطني الإفريقي” African National Congress الحاكم بالتخلّي عن قصورهم والعيش بنفس معايير غالبية الشعب.
ولهذا فإن جميع التوجهات الفكرية مثل الجامعة الإفريقية، ومناهضة الإمبريالية، والشيوعية، ومكافحة الفساد، جميعها كانت تناسب “سانكارا” بدرجات متفاوتة وفي أوقات مختلفة. فأولئك الذين يستشهدون به اليوم يميلون إلى إبراز أحد هذه الأوجه حسبما اقتدت المناسبة.
بناء الأمة:
كان “سانكارا” يتحدث بين الحين والآخر عن الحاجة إلى “الوطنية” patriotism للدفاع عن بلاده وبنائها وتحديثها. ومع ذلك، فقد تجنَّب عمومًا الدعوات التي كانت تدعو إلى تبنّي “القومية” nationalism بالمعنى الضَّيِّق للمصطلح. إلى جانب دعوات أخرى في ولاية “فولتا العليا” القديمة “الاستعمارية”، وهي دعوات قليلة لم تكن تستحق الالتفاف حولها. ومن المؤكد أن الجهد الثوري كان يتكشف داخل حدود معينة، لكنَّ “سانكارا” أصرَّ مرارًا على أن هذا الجهد كان أيضًا جزءًا من صراع إقليمي وقاريّ وعالميّ أوسع.
ومع ذلك، فإن عملية التغيير التي تم إطلاقها في عهد “سانكارا” شهدت جهودًا أكبر في بناء الأمة أكثر من أي محاولات سابقة، أو حتى متوقعة. كان هذا عنصرًا أساسيًّا في الأجندة الثورية؛ حيث تُعدّ محاولة لتشكيل مظهر من مظاهر القومية بين القوميات المتباينة في المنطقة الجغرافية التي كانت تُعرف سابقًا باسم “فولتا العليا”، بينما تسعى في الوقت نفسه إلى تحدّي المعايير الضيقة للهيمنة الخارجية التي ورّثها الماضي الاستعماري.
وبصفته شخصًا يرتكز على أساليب التحليل الماركسي؛ فهم “سانكارا” جيدًا أن شخصية وإمكانات الثورة تحددها إلى حدّ كبير الحقائق القائمة، “الظروف الموضوعية”. واعترف “سانكارا” بأن الثورة حدثت “في بلد زراعي متخلف مثقل بالتقاليد والأيديولوجيا المنبثقة عن تنظيم اجتماعي إقطاعي متسلط على غالبية الشعب”، وحيث لم يكن هناك بعد “طبقة عاملة منظمة” أدرك “سانكارا” مهمته التاريخية.
ومن هنا يتضح أن بناء نظام الاشتراكية، والذي كان يُنظَر إليه على أنه مستقبل مرغوب فيه، لم يكن على جدول أعماله المباشر. ونظرًا لحالة التخلف القصوى في “فولتا العليا” آنذاك، كانت الأسبقية عند “سانكارا” تتمثل في المهام الأساسية.
وفي الذكرى الأولى لاستيلاء “المجلس الوطني للثورة” على عام 1983م، أعاد المجلس تسمية الدولة “بوركينا فاسو”، والتي تُترجم تقريبًا إلى “أرض الشرفاء”. وقد تم رسمها باللغتين المحليتين الكبيرتين “موسي” و”ديولا”، لتُؤكد الحكومة من خلال هذه التسمية الهوية الإفريقية للدولة الجديدة التي كانت تحاول تشكيلها، وهي دولة ترفض أن تستمد شرعيتها من تسمية جغرافية استعمارية؛ بل تريد أن تستمدها من مختلف الشعوب التي تعيش فيها.
كما لم تعد الأخبار التلفزيونية تُنقل بالفرنسية فقط، ولكن أيضًا بلغات “المور”، وأحيانًا بلغات أخرى. لكن نظرًا لأن القليل جدًّا من مواطني “بوركينا فاسو” يمكنهم الوصول إلى التلفزيون، ظلت الإذاعة هي الوسيلة الرئيسية للاتصال؛ حيث كانت تُبثّ بإحدى عشرة لغة أصلية. كما بدأت حملة محو أمية للكبار في عام 1986م. وكثيرًا ما كانت التجمعات والمؤتمرات الرئيسية تتميز بالرقص والعروض الموسيقية مِن قِبَل فِرَق من مجموعات عرقية مختلفة.
وفي خلال هذه الحقبة الثورية، اكتسب العديد من المواطنين إحساسًا قويًّا بالفخر بهويتهم الإفريقية وبالثراء الثقافي لبلدهم. وبعد سنوات من زوال “المجلس الوطني للثورة”، يبدو أن قطاعات كبيرة من السكان، بما في ذلك الشخصيات البارزة التي كانت معادية سياسيًّا لحكومة “سانكارا”، لا زالت تقبل تسمية “بوركينا فاسو”، بل ويرفضون التفريط فيما اكتسبوه من هوية وطنية تشكلت في عهد “سانكارا”.
إعادة التوجيه الاقتصادي والاجتماعي:
في سعيها لبناء اقتصاد وطني يرتكز أكثر على الأسواق والمصالح المحلية؛ واجهت حكومة “سانكارا” وضعًا متناقضًا. نظرًا لأن معظم الاقتصاد لا يزال يهيمن عليه زراعة المحاصيل الأساسية، وكان هناك القليل جدًّا من الصناعة. لم تكن “بوركينا فاسو” متورطة بعمق في علاقات السوق الخارجية مثل بعض جيرانها، وبالتالي شكّلت عقبات أقل أمام عمليات إعادة توجيه السياسات الرئيسية. ومع ذلك، نظرًا لأن القوى المنتجة كانت بدائية جدًّا؛ حيث لم يكن لدى البلاد سوى القليل من الموارد الخاصة بها للاستفادة منها.
بعبارات شاملة إلى حدٍّ ما، جاء في إعلان الخطة الخمسية للحكومة أن الهدف النهائي للدولة هو التوجه نحو “اقتصاد وطني مستقل ومكتفٍ ذاتيًّا ومُخطّط لخدمة مجتمع ديمقراطي وشعبي”. كان على الدولة أن تلعب الدور المركزي؛ حيث لا يمكن لأي قوة أخرى، بما في ذلك القطاع الخاص ضئيل الحجم، حشد رأس المال اللازم لبناء البنية التحتية الأساسية وتحفيز الأنشطة الإنتاجية. صحيح أن الحكومة ما زالت تعتمد على المساعدات الخارجية؛ ومع ذلك، فإن مستويات المساعدات الإجمالية ظلت ثابتة من حيث القيمة الحقيقية بين عامي 1984م و1987م، كان الكثير منها مرتبطًا بمشاريع محددة كانت قيد التنفيذ بالفعل. أوقفت فرنسا، أكبر مانح، كل دعم للموازنة العامة بعد عام 1983م، كما فعل البنك الدولي بعد عام 1984م.
ولذلك أصبح لا يمكن تمويل الاستثمارات الحكومية الجديدة إلا من خلال الاقتصاد الجاد في العمليات القائمة؛ حيث تم تجميد رواتب الخدمة المدنية، واضطر وزراء الحكومة إلى التخلي عن البدلات. وفي المقابل أنفقت الميزانيات المتتالية أكثر بكثير على الصحة والتعليم والبرامج الاجتماعية الأخرى، وخصصت استثمارات أكبر بكثير للبنية التحتية والمشاريع الإنتاجية.
كان الأمر الأكثر لفتًا للانتباه هو التحول العام بعيدًا عن المدن والتَّوجُّه نحو الريف؛ حيث قدمت الحكومة للمزارعين الفقراء ورعاة الماشية خدمات عامة أكثر اتساعًا، ومدخلات إنتاجية، وحوافز في الأسعار، ومساعدات تسويقية، وري، وحماية البيئة، وغير ذلك من أشكال الدعم. ففي الخطة الخمسية، تم تخصيص 71٪ من الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية للزراعة والثروة الحيوانية ومصايد الأسماك والحياة البرية والغابات.
كما استفاد القرويون من زيادة فرص الحصول على الصحة والتعليم؛ فبحلول يناير 1986م، تم إنشاء أكثر من 7460 مركزًا صحيًّا أوليًّا، بمعدل مركز واحد لكل قرية تقريبًا. وقد تم تطعيم حوالي مليوني طفل ضد أمراض الطفولة الرئيسية، وتم تعليم حوالي 36000 قرويّ في برنامج محو الأمية الأساسية؛ وقد كانت هذه المبادرات جزءًا من حملة أوسع لتوسيع الخدمات الاجتماعية. وبين عامي 1983م و1987م، زاد الإنفاق على الصحة العامة بنسبة 27٪، وزادت نفقات التعليم بنسبة 42٪. كما تم اتخاذ مبادرات جديدة مهمة في مجالات أخرى حيوية للرعاية الاجتماعية، بما في ذلك الإسكان والنقل ومساعدة الأطفال، وخلق فرص العمل والمياه وتنظيم الأسرة.
كما رحبت الحكومة بأيّ مساعدة خارجية يمكن أن تحصل عليها؛ ومع ذلك، أصرَّ وزير التخطيط “يوسف ويدراوجو” Youssouf Ouedraogo على أن مثل هذه المساعدات لن تكون “العامل الحاسم” في أولويات الحكومة. كما رفض “المجلس الوطني للثورة” صراحةً برامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى وصفات السياسة النيوليبرالية؛ وهو توجُّه “سانكارا” كمعارض متشدد للنيوليبرالية. وقد جادل الأكاديميون والناشطون في ندوة دولية في “واجادوجو” في الذكرى العشرين لوفاته أن “سانكارا” يمكن اعتباره مقدمة لـ “تغيير الليبرالية”، أي أولئك الذين يدافعون اليوم عن البدائل للعولمة الرأسمالية. وقد ركز آخرون على مبادرات “سانكارا” المختلفة لدمج حماية البيئة في استراتيجيات التنمية الاقتصادية، والتي تبناها “سانكارا” قبل سنوات من قيام قمة الأرض عام 1992م في “ريو” Rio بترويج مثل هذا الارتباط.
التعبئة الشعبية:
من السمات البارزة بشكل خاص لنهج حكومة “سانكارا” في التنمية اعتمادها على التعبئة الاجتماعية ومشاريع المساعدة الذاتية المحلية؛ حيث كان للمفهوم الأساسي للمساعدة الذاتية للمجتمع جذور اجتماعية عميقة. فعلى الرغم من ضعف الروابط والالتزامات العرفية، إلا أن مفاهيم التضامن الاجتماعي والعمل الجماعي والمعاملة بالمثل والرفاهية العامة لا تزال تتمتع ببعض الحيوية. كما كان يوجد في البلاد العديد من الجمعيات القروية ومجموعات المزارعين والتعاونيات وجمعيات الشباب والمنظمات المدنية الأخرى.
النهوض بالمرأة:
إلى حد أقل، وجدت النساء أيضًا سبلًا للتغييرمن خلال سجلات الإنماء والإعمار؛ فقد كانوا يميلون إلى أن يكونوا أكثر نشاطًا في حركات المساعدة الذاتية المجتمعية، ونادرًا ما يشاركون في أنشطة أخرى، على الرغم من أن نظام الحصص لانتخابات مكاتب لجان الدفاع عن الثورة يضمن الارتقاء بمجموعة غير قليلة من النساء إلى مناصب قيادية.
ومن البداية، شدّد “سانكارا” على “النهوض بالمرأة” كأحد أهدافه الاجتماعية والسياسية المركزية؛ وهو أمر نادر بالنسبة لأيّ رئيس في إفريقيا في ذلك الوقت. وقد احتلَّ النهوض بالمرأة المرتبة الثانية في قائمة الأولويات الوطنية بعد إصلاح الجيش في خطابه حول التوجه السياسي، ولكن قبل إعادة البناء الاقتصادي. لم تكن دعوته مجرد كلام؛ حيث تم تضمين تدابير “مؤيدة للمرأة” في العديد من البرامج، من فصول محو الأمية الموجهة نحو النساء، وإلى إنشاء وحدات صحية أولية في كل قرية، لدعم التعاونيات النسائية وجمعيات السوق. كما حدد قانون الأسرة الجديد الحد الأدنى لسن الزواج، وقرر الطلاق بالتراضي، واعترف بحق الأرملة في الميراث، وحظر مهر العروس. كما شُنَّت حملات عامة قوية ضد الزواج القسري، وتعدد الزوجات. ومع ذلك، كان التغيير في هذه المجالات بطيئًا.
عيّن “سانكارا” العديد من النساء في المناصب الوزارية، بما في ذلك وزيرة العمل وشؤون الأسرة والثقافة والصحة. على الرغم من كونها لفتة أكثر من كونها تحولًا حقيقيًّا، إلا أن مثل هذه التعيينات أرسلت مع ذلك إشارة قوية لتشجيع النساء على جميع المستويات. وفي سبتمبر 1985م، تم إنشاء “اتحاد نساء بوركينا” (UFB) من قبل الأمانة الوطنية للجان الدفاع عن الثورة. هذا الدور الذي اكتسب صورة أكثر تميزًا، اختفى بعد عامين من انقلاب عام 1987م.
إضفاء الطابع الديمقراطي وقوته:
عندما استولى “سانكارا” وزملاؤه الثوار على السلطة في عام 1983م، كان من أوائل الإجراءات التي قاموا بها: حظر الأحزاب السياسية القائمة، التي يُنظَر إليها على أنها أدوات للنُّخَب القديمة. وعلى الرغم من السماح لمجموعة متنوعة من المجموعات اليسارية الصغيرة بالعمل علنًا -طالما أنها تدعم المجلس الوطني الانتقالي-؛ لم يتم التفكير في أيّ خطط لانتخابات تمثيلية للهيئة التشريعية الوطنية أو هيئة مماثلة. وبدلًا من ذلك، قدَّمت حكومة “سانكارا” أفكارًا شبيهة بتلك الخاصة بالديمقراطية التشاركية. كما هو الحال مع الحركات الاجتماعية، كما اعتُبرت مجالس الإنماء والإعمار وسيلة رئيسية لإدخال عناصر المشاركة الشعبية.
ووفقًا لـ”سانكارا”، كان أحد الأهداف الرئيسية للجان الدفاع عن الثورة هو “إضفاء الطابع الديمقراطي على السلطة”، حتى يتمكنوا من العمل “كممثلين للسلطة الثورية في القرى والأحياء الحضرية وأماكن العمل”. على المستوى المحلي –هناك فقط- كانت لجان الدفاع عن الثورة عبارة عن هياكل ديمقراطية نسبيًّا؛ حيث يتم انتخاب أعضاء المكتب بشكل مباشر في مجالس عامة مفتوحة.
وفوق هذه اللجان المحلية، كان هناك تسلسل هرمي للقيادة توج بأمانة عامة وطنية معينة، برئاسة ضابطين عسكريين. وتتمتع الأمانة، وفقًا لقوانين لجان الدفاع عن الثورة، بسلطة فصل مكاتب لجان الدفاع عن الثورة “المتعثرة”، في إطار عمل يُخْضِع الهيئات الأدنى للهيئات الأعلى. وبرَّر الأمين العام للجان الدفاع عن الثورة، الكابتن “بيير أويدراوجو” Capt. Pierre Ouedraogo، هذا التبعية على أساس أنه قد يكون “من الخطير للغاية إعطاء كل السلطة للجماهير على الفور، في حين أن البعض منهم لا يفهم حتى ماهية الثورة”. لذلك ظل اتخاذ القرار بشكل أساسي من أعلى إلى أسفل.
التجاوزات والقمع:
على الرغم من أنه يمكن أن تُنسب إلى “لجان الدفاع عن الثورة” بعض الإنجازات، فإن صورتها، في الذاكرة التاريخية، ملطخة إلى حد كبير. أكثر ما يميل الناس إلى تذكره هو الانتهاكات العديدة والمتكررة التي يرتكبها الشباب -وأحيانًا المسلحين- مناضلي لجان الدفاع عن الثورة. في ذكريات الحقبة الثورية، حتى الأشخاص المؤيدين عمومًا لمبادرات “سانكارا” غالبًا ما يرون في سجلات تفاصيل المكالمات الهاتفية كاستثناء مؤسف ومحزن.
عمل بعض قادة “لجان الدفاع عن الثورة” بطريقة قيادية، اعتمدوا فيها على التوجيهات أكثر من الإقناع. من خلال تسيير دوريات مسلحة مِن قِبَل شبان غير منضبطين في ألوية اليقظة التابعة للجان الدفاع والذين انخرطوا في عمليات الابتزاز والاستلاب والسطو المسلح. وعلى الرغم من اتهامهم بالكشف عن موظفي الدولة الفاسدين، فقد اختلس بعض النشطاء أنفسهم الأموال واقتحموا المنازل لجمع “الضرائب” و”المساهمات”. وقد تم إحالة عدد قليل منهم للمثول أمام المحاكم الثورية الشعبية، التي فتحت محاضر خاصة مكرَّسة لـ”عصابات لجان الدفاع عن الثورة”.
وقد شهد المؤتمر الوطني الأول للجان الدفاع عن الثورة في مارس-أبريل عام 1986م انتقادات عديدة صريحة وحادة. وقد تم تحذير كوادر لجان الدفاع عن الثورة من الانخراط في “الثأر والتخريب”. فقد أعطت الإجراءات “غير المبررة والمثيرة” لبعض أعضاء لجان الدفاع عن الثورة صورة سيئة للثورة وساهمت في “تسريح الجماهير”. وفي الخطاب الختامي للزعيم “سانكارا”، لاذعًا بشكل خاص؛ “نصب بعض قادة لجان الدفاع عن الثورة أنفسهم على أنهم طغاة حقيقيون في المقاطعات المحلية والقرى والمحافظات… وللحكم والسيطرة مثل أمراء الحرب… لا يجب أن يكون مكتب لجان الدفاع عن الثورة مكانًا للجلادين بل على العكس تمامًا: مكتب تجد فيه أشخاصًا يقودون وينظمون ويحشدون ويعلمون ويكافحون كثوار”.
وقد تلا هذا المؤتمر حملات لتطهير لجان الدفاع عن الثورة، وتخفيض وظائفها الأمنية. ومع ذلك، فإن المشكلة الأساسية لم تكن تكمن فقط في بعض النشطاء المحليين عديمي الخبرة وغير المنضبطين؛ لكنها كانت في أعلى هرم السلطة.
وفي حين أن مبادرات لجنة المصالحة الوطنية قد أثارت بعض الدعم، فقد أثارت أيضًا الاستياء والعصيان السلبي وفي بعض الأحيان المقاومة الصريحة. وقد أدى ذلك إلى زيادة تركيز السلطات على الإكراه والرد بطرق قمعية مفرطة لمواجهة التحديات العلنية.
وكما يحدث في كثير من الأحيان مع الحكومات التي تأتي من خلال القوة المسلحة، تم اعتقال كبار المسؤولين في النظام المخلوع -والعديد من أسلافه- على الفور. وتمت محاكمة العشرات أمام محاكم الثورة الشعبية بتهم الفساد والاختلاس وإساءة استخدام الأموال العامة ومخالفات اقتصادية أخرى، وحُكم عليهم بالسجن إلى جانب عقوبات مالية. وعلى الرغم من وجود الأدلة القوية على أن الكثير ربما كانوا مذنبين بالتُّهَم الموجَّهة إليهم، لكنَّ المحاكمات مع ذلك كانت لها دلالات سياسية قوية؛ حيث تمَّ فصل العديد من الموظفين العموميين الآخرين بإجراءات موجزة من وظائفهم بسبب انتماءاتهم السياسية السابقة.
في وقت مبكر جدًّا، توترت العلاقات بين المجلس الوطني للثورة وعدد من النقابات العمالية، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الميول السياسية لبعض قادة النقابات. ففي نفس يوم ثورة 4 أغسطس 1983م، تم التنصل من المجلس الوطني للثورة مِن قِبَل مؤتمر نقابة معلمي المدارس الابتدائية الرئيسية، التي دعمت نظامًا عسكريًّا سابقًا. وفي مارس 1984م، ألقت قوات الأمن القبض على العديد من قادة النقابة، مما أدى إلى إضراب لمدة ثلاثة أيام لاحظه العديد من المعلمين في جميع أنحاء البلاد. ورد المجلس الوطني للثورة بإطلاق النار على حوالي 1300 مهاجم. كان هذا العمل صادمًا للعديد من قوى الشعب. وبعد عقود، لا يزال “عيسى تيندريوبوجو” Issa Tiendrebeogo، وزير التعليم العالي في عهد “سانكارا”، يعتبر قرار إقالة المعلمين في وقتها “خطأ فادحًا”.
وقد شهد العامان التاليان، 1986م و1987م، بعض التحولات في نهج حكومة “سانكارا”. على الجبهتين السياسية والاجتماعية، كان هناك جهد واضح لتخفيف التوترات؛ حيث تم إطلاق سراح العديد من المسؤولين المسجونين في الحكومات السابقة؛ كما تم إعادة بضع مئات من المعلمين الذين تم فصلهم من العمل بعد إضراب عام 1984م. وفي أغسطس 1987م، أرسل “سانكارا” مذكرة إلى جميع وزراء الحكومة تطلب منهم دراسة طرق إعادة دمج المزيد من المعلمين المفصولين، وكذلك الموظفين المدنيين الذين تم فصلهم لأسباب سياسية.
خلافات في القيادة:
وبينما كانت هذه الجهود جارية للتخفيف من حدة التعامل مع موظفي الخدمة المدنية من الرتب الدنيا، صَعّدَ “سانكارا” في الوقت نفسه مكافحة الفساد في القيادة؛ فبحلول عام 1987م، تمَّت بالفعل محاكمة العديد من المسؤولين في الأنظمة السابقة، لكن الاهتمام تحول إلى أصحاب المناصب الحاليين. بدأت اللجنة الشعبية الجديدة لمنع الفساد جلسات الاستماع العامة التي اضطر فيها “سانكارا” وغيره من كبار المسؤولين إلى الإعلان علنًا عن ممتلكاتهم ودخل عائلاتهم (كانت أصول عائلة “سانكارا” متواضعة جدًّا). في آخر اجتماع لمجلس الوزراء في اليوم السابق للانقلاب، دفع “سانكارا” من أجل تبنّي مدونة سلوك لكل مَن يشغل منصبًا رفيعًا في الدولة.
إلى جانب عدم ارتياح “كومباوريتش” Blaise Compaoré وآخرين بشأن حملة مكافحة الفساد، ظهرت خلافات خطيرة حول قضايا القيادة، بما في ذلك استخدام القمع. تم التعبير عن عدد قليل من هذه الاختلافات علنًا في ذلك الوقت، لكن لم يخرج الكثير منها إلا بعد انقلاب عام 1987م؛ حيث قدم العديد من الأعضاء السابقين في المجلس الوطني للإنقاذ وآخرين روايات عن الانقسامات القيادية التي ساهمت في ذلك. باستثناء اعتذار Martens (1989م) عن الانقلاب، فإن معظم الروايات سعى فيها المؤيدون إلى تصوير “سانكارا” على أنه مستبدّ أراد الحكم بمفرده، وكان ضد توحيد المنظمات السياسية الثورية.
في خطاب رئيسي في أغسطس 1987م، أفصح عن توجُّهه بأن ما تحتاجه “بوركينا فاسو” هي أمور من شأنها أن تكون “تعبيرًا متعددًا ومتنوعًا ومُنتجًا للعديد من الأفكار المختلفة والأنشطة المتنوعة والأفكار والأنشطة الغنية بآلاف الفروق الدقيقة”. في حين أن الثورة، كما قال: “تعني مقاومة وازدراء مستغلينا وأعدائنا، وخلق الوعي الحازم بين عموم الجماهير بهذا التوجه”.
تجرُّؤه على ابتكار المستقبل:
في أعقاب الانقلاب مباشرة، كان هناك لوم متكرر وُجِّه إلى “سانكارا”: مفاده “أنه كان طوباويًّا ميئوسًا منه؛ فشل في الالتفات إلى القيود الموضوعية لبلاده، وبالتالي تجاوزها؛ ورأى البعض أن هذه سمة نموذجية للقادة الكاريزمايين؛ الذين يكونون من أصحاب الرؤى العظيمة، لكنهم غالبًا ما يجدون صعوبة في استيعاب الإجراءات البيروقراطية الروتينية التي تعتبر ضرورية للتوحيد”. واشتكى عدد من أنصار “سانكارا” من أنه يميل إلى الإعلان عن مبادرات شاملة دون التفكير بشكل كامل في كيفية تنفيذها.
ومن المؤكد كذلك أن تصريحات “سانكارا” كانت مليئة بأهداف بعيدة المدى ورؤى عظيمة؛ وهو ما جعلها في نهاية المطاف، نهجًا ثوريًّا، وليس محاولة إصلاح تدريجي. وقد أعرب “سانكارا” عن نفاد صبره الشديد مع أولئك الذين أصروا على أن بلدًا فقيرًا لا ينبغي أن يضع قادته نصب أعينهم أهدافًا كبيرة تفوق إمكانات هذا البلد. لكنَّ “سانكارا” على العكس من ذلك، كان مغرمًا بتكرار المقولة: “ما يتخيله الإنسان يمكنه تحقيقه”. أو كما قال لصحفي سويسري: “لا يمكنك إجراء تغيير جوهري دون قدر معين من الجنون… علينا أن نتجرأ إذا أردنا ابتكار المستقبل”.
ومع ذلك، لم يكن مسعى “سانكارا” خياليًّا؛ فخلال السنوات الأربع التي قضاها رئيسًا، أظهر مرارًا وتكرارًا أن المبادرات التي لم يكن من الممكن تصورها في السابق يمكن على الأقل البدء في تنفيذها. لقد فعل ذلك من خلال إقناع العديد من الناس العاديين بأن لديهم القدرة على التصرُّف. كانت لديه مهارات استثنائية كخطيب، وكان قادرًا على الوصول إلى الجماهير من خلال الخطابات العاطفية والعبارات المبتكرة، إلى جانب ذكائه الحاد وحضوره الواضح؛ كما تعززت كلماته بسلوك شخصي أظهر الإخلاص والانفتاح والتواضع، والذي استطاع نقله من خلال إيماءات بسيطة مثل ركوب الدراجة في الشوارع، أو لعب كرة القدم وهو يرتدي سروالاً قصيرًا وقميصًا، أو من خلال الاختلاط بالقرويين بطريقة مقبولة وبأسلوب محفوف بالبساطة والتواضع.
واستطاع “سانكارا” أن ينقل رسائله من خلال إجراءات رمزية وحتى مسرحية؛ لإزالة الغموض عن مهام الدولة العليا؛ حيث كانت تُناقش ميزانيات الحكومة المركزية في مجالس عامة جماهيرية، ويتم عرض المسؤولين التنفيذيين في مؤسسات الدولة لاستجوابات عامة.
وغالبًا ما كان يُطلَب من موظفي الخدمة المدنية ارتداء أزياء “فاسو دان فاني” Faso dan Fani المصمَّمة والمنسوجة بشكل تقليدي بدلًا من بدلات النمط الغربي؛ وذلك لتعزيز الثقافة الأصلية، وإنشاء سوق محلي للملابس المصنوعة من القطن المحلي. في يوم المرأة العالم، تم تشجيع الرجال على الذهاب إلى السوق بدلًا من زوجاتهم أو لزراعة الأشجار تكريمًا لهم. وقد أثارت هذه الإجراءات السخرية في بعض الأحيان، لكن العديد منها غرس أفكارًا أساسية ظلت عالقة في الأذهان لفترة طويلة.
ومن الملاحظ أن بعض نتائج الإلهام الشعبي قد تكون رائعة جدًّا أحيانًا؛ ففي سبتمبر 1984م، أعلنت حكومة “سانكارا” أنها ستشنّ حملة على غرار حملات الكوماندوز لتطعيم معظم الأطفال ضد الأمراض القاتلة للأطفال (الحصبة، والتهاب السحايا، والحمى الصفراء) في غضون أسبوعين فقط. وحذَّر المانحون الخارجيون من أنه لا يمكن القيام بذلك، وحثُّوا على وتيرة أكثر حذرًا. ومع ذلك، استمرت الحكومة في استخدام وسائل الإعلام الحكومية للترويج للحملة ولجان الدفاع عن الثورة لتعبئة العاملين الصحيين المحليين ونشطاء القرية لتنفيذها. وبحلول نهاية الأسبوعين، تم تطعيم حوالي مليوني طفل، مما رفع معدل التحصين ضد الأمراض الثلاثة من 11-19٪ بين جميع الأطفال إلى 60-75٪. نتيجة لذلك، فلم تحدث الأوبئة المعتادة للحصبة والتهاب السحايا في العام التالي، مما منع ما بين 18000 و50000 حالة وفاة بين الأطفال.
وكما توضح هذه الأمثلة، لم يكن “سانكارا” قادرًا فقط على إقناع الآخرين بمشاركة حُلمه، لكنه استطاع أن يخلق الوعي لديهم بأن العمل الجاد والالتزام يمكن أن يحوّل الحُلم إلى حقيقة. وقد اختتم “بوريما ويدراوجو” Boureima Ouedraogo، محرر صحيفة Le Reporter التي تصدر في “بوركينا فاسو” كل أسبوعين حديثه عن “سانكارا” بأن: “سانكارا بالتأكيد لم يكن ملاكًا أو قديسًا؛ لكنه كان رجلًا، له عيوبه وله مميزاته؛ وأهم ما يميزه نجاحه في جعل جيل كامل من الأفارقة يحلمون”.
_________________
المراجع: ترجمة
Harsch, Ernest. “The legacies of Thomas Sankara: a revolutionary experience in retrospect.” Review of African Political Economy 40.137 (2013): pp. 358-374.