شهدت نهاية العام الجاري وفاة “ديزموند توتو” (1931-2021م)، الذي عُدَّ واحدًا من أبرز الفاعلين في تاريخ جنوب إفريقيا ونضالها ضد العنصرية ومرحلة “الانتقال الديمقراطي” التي انتهت بإجراء انتخابات ديمقراطية للمرة الأولى في تاريخ الدولة الإفريقية المهمة، ووصول حزب المؤتمر الوطني الإفريقي للسلطة (1994م) بالتحالف مع الحزب الشيوعي الجنوب إفريقي، ودعم سياسي وحركي أساسي من مجموعات النقابات الإفريقية.
سيرة مختصرة:
وُلِدَ ديزموند توتو في 7 أكتوبر 1931م في كليركسدروب Klerksdrop غرب جوهانسبرج، وعمل مدرسًا قبل التحاقه بكلية سان بيتر اللاهوتية St. Peter’s Theological College في روسيتنفيل في العام 1958م. وكان “توتو” زعيمًا طلابيًّا في مطلع الخمسينيات، وانتقل في العام 1951م مع تلاميذه إلى مدرسة جان هوفماير للخدمة الاجتماعية Jan Hofmeyr School of Social Work في جوهانسبرج؛ حيث التقى هناك للمرة الأولى بنيلسون مانديلا الذي كان وقتها حَكَمًا للمسابقات الطلابية.
ورُسِّمَ توتو في العام 1961م وأصبح بعد ستة أعوام قسيسًا في جامعة فورت هير Forte Hare. ثم انتقل إلى مملكة ليسوتو، ومنها لاحقًا إلى بريطانيا، ثم عاد لجنوب إفريقيا في العام 1975م. وأصبح أسقف ليسوتو؛ ورئيس مجلس الكنائس الجنوب إفريقية في العام 1985م؛ وكان أول أسقف إنجيلكاني أسود لجوهانسبرج. كما حدد توتو في العام 1986م كأول مطران أسود لكيب تاون([1]).
واشتبك “توتو” مع النضال السياسي للسود في بلاده؛ وقُبِضَ عليه في العام 1980م على خلفية مشاركته في احتجاجات، وتمت مصادرة جواز سفره للمرة الأولى، غير أنه أُعيد إليه، بضغوط أمريكية وأوروبية واضحة لا سيما من الهيئات الكنسية.
وتزامن علو شأن توتو مع دخول جنوب إفريقيا في الثمانينيات مرحلة عنف مكثَّف للدفع نحو نَيْل الأفارقة حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وانخرط توتو بالفعل في فعاليات هذا النضال حتى حصل على جائزة نوبل للسلام في العام 1984م؛ مما أبرز مكانته كأحد أهم دعاة حقوق السود في جنوب إفريقيا، مما أهَّله لاحقًا لتولي عمل بعثة الحقيقة والمصالحة (1998م) Truth and Reconciliation Commission لتقصّي حقائق عهد الأبارتهيد، التي مثَّلت مخرجاتها حلًا توفيقيًّا يتسق مع رؤى “توتو” بشكل كبير.
الولع بستيف بيكو:
لم يكن ديزموند توتو رجل دين تقليديًّا، وربما يرجع ذلك في المقام الأول إلى طبيعة الحكم العنصري وممارساته في جنوب إفريقيا، وكذلك لنُمُوّ قوة المؤسسات الكنسية فيها.
وقد كرر توتو في مؤلفاته وخطاباته الاستشهاد بفكر الزعيم الطلابي ستيف بيكو Steve Biko (1977م) مُؤسِّس حركة الوعي الأسود Black Consciousness Movement. وأرجع بعض الباحثين بدء ظهور “توتو” في ساحة النضال الجنوب إفريقي بشكل واضح، ومن ثَم تحوُّله لهدف مهم لدى نظام الأبارتهيد، إلى مبادرته السريعة بالانتقال من ليسوتو إلى جنوب إفريقيا للمشاركة في جنازة “بيكو” وخطابه أمام قرابة 30 ألف إفريقي حضروا الجنازة المهيبة رغم الإجراءات العنصرية، وقارن خلالها بين بيكو والمسيح([2]).
فقد قدَّم توتو بالفعل سردًا شاعريًّا حزينًا لوقائع قتل بيكو، ونقله في عربة شرطة مجردًا تمامًا من ملابسه لمسافة تتجاوز 1500 كم قبل تصفيته في بريتوريا.
وبالفعل فقد ضغطت مجموعات كنسية فاعلة عقب حضور “توتو” المهيب في جنازة بيكو من أجل تعيينه أمينًا عامًا لمجلس الكنائس الجنوب إفريقيا South African Council of Churches (SACC)، الذي تمتع بمكانة هي الأبرز في المؤسسات الدينية السياسية وسط الجنوب أفارقة، وهو المسعى الذي تحقق بسهولة كبيرة بتعيين توتو بالفعل أمينًا للمجلس في مارس 1978م.
كما لاحظ جوني هيل في مُؤلَّف مهم قارن فيه بين ديزموند توتو ومارتن لوثر كينج (2007م) تأثير “اللاهوت الأسود” Black Theology (وهو التيار الذي أصبح توتو فاعلًا فيه بمرور السنوات) على حركة الوعي الأسود بقيادة ستيف بيكو، الأمر الذي يتضح في تشابك موضوعات الوعي والقوة واللاهوت الأسود داخل هذه الحركة مشكلة تيارها الرئيس([3]).
ويتضح أن فكر “توتو” السياسي ظل ثابتًا بشكل واضح، وإن تضمن تنويعات استثنائية، مثل التعاطف مع بيكو، تجعله متسقًا مع ذاته بشكل كبير، ويتطلب أكبر قدر ممكن بتفهم السياقات والتحولات التاريخية المستمرة طوال مسيرته منذ مطلع الخمسينيات حتى وفاته في رحلة عملية وفكرية دامت قرابة سبعة عقود كاملة.
نقد تاريخي لسياسات “المؤتمر الوطني الإفريقي”:
كشفت تحيزات “توتو” -المطلقة في واقع الأمر- لنضال الشعب الجنوب إفريقي عن توجُّه سياسي أصيل في فكره، وقدر كبير من القدرة على نقد التجربة التاريخية لهذا النضال بقيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (المؤسس في العام 1912م). ويتضح هذا النقد المهم فيما تضمنه تقرير “بعثة الحقيقة والمصالحة” (1998م)، بإشراف توتو نفسه، من اتهامات خطيرة “للمؤتمر” بارتكاب عمليات تعذيب وإعدام للمنشقين عن الحزب في معسكراته في أنجولا، الأمر الذي دفع الرئيس الجنوب إفريقي وقتها تابو مبيكي لإدانة تقرير البعثة الواقع في خمسة مجلدات “دون قراءته”، بل وتحرك بشكل عاجل لدى القضاء الجنوب إفريقي لمنع “نشر تقرير البعثة”.
لكن اللافت أن الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا (الذي أمضى ليلته الأولى عقب خروجه من السجن في منزل “توتو” في كيب تاون) بادر وقتها بقبول نتائج التقرير، وإعلانه الدعم التام لعمل “توتو”، بعد ملاحظة مهمة للغاية بتوضيح أمر مهم للشعب الجنوب إفريقي أنه لم يختر “مبيكي” لخلافته في رئاسة البلاد، لكنَّ “الأمر كله كان في يد المؤتمر (الوطني)([4]).
وهكذا يبدو أن فكر “توتو” السياسي تبلور حول فكرة مصالح اللعب الجنوب إفريقي دون ارتهان أيديولوجي بالأحزاب أو المؤسسات السياسية القائمة (إذا استثنينا انتماءه الكنسي والذي يحتاج إلى تفصيل أكبر لا يتسع له هذا المقام).
توتو وجنوب إفريقيا الديمقراطية: “لا مستقبل دون مغفرة”:
بارك “توتو” إنجاز الشعب الجنوب إفريقي، الذي وصفه بتفاؤل كبير بأمة “قوس قزح”، في التحول الديمقراطي، واتضح ذلك في مواقفه التي تلت هذا الحدث المهم. وبعد صدور تقرير بعثة الحقيقة والمصالحة (1998م) نشر “توتو” كتابًا بعنوانٍ دالّ على مقارباته السلمية للتحول الديموقراطي: “لا مستقبل دون مغفرة”([5])، تضمَّن الفصل الثاني منه، الذي حمل عنوان “نورمبرج أم العفو الوطني؟ طريق ثالث”، تبنّيه خيار “المصالحة”. واعتبر “توتو” أن 27 أبريل 1994م يمثل بداية عهد جديد تحلّ فيه الديمقراطية محل القمع والظلم. وبعد سرد “أدبي” لمآسي الأبارتهيد وانتهاكاته لحقوق سود وملوني جنوب إفريقيا، مختتمًا سرده بحادث ارتكبه عنصران من المؤتمر الأفريقاني Pan Africanist Congress (المنشق عن “المؤتمر الوطني الإفريقي” منذ 1959م) عرف بمذبحة “كنيسة سان جيمس” (يوليو 1993م) بمدينة كيب تاون، للدلالة على رؤيته بتورط جميع الأطراف في مآسي الماضي؛ مما يستدعي غفرانًا من الجميع من أجل المستقبل.
ووصف “توتو” المطالب الشعبية بمحاكمات شاملة بنمط محاكم نورمبرج التي تلت هزيمة قوات الحلفاء للنازيين في الحرب العالمية الثانية كتجسيد لفكرة “عدالة المنتصر”، وأنها خيار غير قائم في جنوب إفريقيا.
وإن برَّر “توتو” فكرته بغطاء براجماتي متمثلًا فيما أورده عن الموقف من قوات أمن “النظام العنصري”، وأنها لم تكن تدعم أي تسوية تفاوضية بالأساس “التي قادت إلى إمكان تحقق “معجزة” انتقالنا السلمي النسبي من القمع إلى الديمقراطية”، حسب نص “توتو”، ومن ثَم فإن الضغط الشعبي لمحاكمة جميع العناصر المتورطة في انتهاكات يمثل قفزة كبيرة كان يمكن أن تثير من “لا يزالون يتحكمون في البنادق ولديهم القدرة على تخريب العملية برمتها” حينذاك.
ورأى “توتو” أن مفاوضي بلاده رفضوا –وقتها- خيارين متطرفين (محاكمات على نمط نورمبرج، وعفوًا شعبيًّا عامًّا)، وانحازوا “لطريق ثالث” منح العفو للأفراد مقابل الكشف الكامل عن الجريمة التي سعوا لنيل العفو عنها. وكانت “جزرة الحرية الممكنة” مقابل الحرية، وكانت العصا، لمن في السجن فعلًا، هي ترقُّب فترات سجن مطولة، ولمن خارج السجن احتمالية القبض عليهم ومحاكمتهم وسجنهم، ورأى أن مقاربة بعثة الحقيقة والمصالحة تقوم على المفهوم الإفريقي “Ubuntu” ذي الأبعاد الإنسانية (ورأى صعوبة ترجمته للغة غربية) الذي يعني عند وصف شخص به أنه كريم ومضياف وصديق ومهتم ومتعاطف.
خلاصة:
تمثل وفاة ديزموند توتو نهاية واحد من قادة حقبة مهمة في تاريخ جنوب إفريقيا وتجربتها النضالية المهمة في سبيل نيل الأغلبية السوداء حقوقها المشروعة، ورغم أن مجريات الأمور بعد العام 1994م لم تَمْضِ كما كان متوقعًا، حتى في حدّه الأدنى من التفاؤل، واستمرت حكومة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في مواجهة انتقادات خطيرة وصلت إلى حد الوقوع في براثن فساد مؤسساتي؛ فإن رؤية “توتو” لإنجاز الانتقال الديمقراطي تظل وجيهة للغاية في سياق طبيعة الانتقال من عهد الأبارتهيد بحزمة قوانينه العتيدة التي اعتدت على كافة جوانب الحياة الشخصية والمجتمعية للمواطن الإفريقي، والدعم الدولي الذي ظل يتمتع به حتى لحظاته الأخيرة، وربما في ترتيبات الانتقال الديمقراطي لضمان المصالح الاقتصادية “للأقلية البيضاء”.
[1] Andrew Meldrum, Desmond Tutu, South Africa’s moral conscience, dies at 90, Associated Press News, December 26, 2021 https://apnews.com/article/desmond-tutu-dead-a0cec6cddaa5cf2a996df8550a72479c
[2] Chris Kanyane, Desmond Tutu, A Lifetime of Universal Peace, News 24, October 6, 2015 https://www.news24.com/news24/xArchive/Voices/desmond-tutu-a-lifetime-of-universal-peace-20180719
[3] Johnny Bernard Hill, The Theology of Martin Luther King, Jr. and Desmond Mpilo Tutu, Palgrave Macmillan, New York, 2007, p. 155.
[4] William Mervin Gumede, Thabo Mbeki and the Battle for the Soul of the ANC, Zed Books, London, 2007, p. 75.
[5] Desmond Tutu, No Future Without Forgiveness, Doubleday (Random House Inc), New York, 1999