“إيمي سيزار” (1913-2008م) Aimé Césaire؛ هو كاتب مارتينيكي وزعيم سياسي من أصول إفريقية؛ دفعته ثقته بنفسه إلى التحلِّي بقدرٍ كبير من الشجاعة لمطالبة الآخرين باحترام العرق الأسود. فكان لعمله الغزير المُترجَم إلى العديد من اللغات تأثيره الأدبي والسياسي الواسع في سياقات مختلفة. وهو -على نحو متناقض- ثمرة التزامه الراسخ بوطنه المارتنيك؛ وبجذوره الإفريقية. فبينما يَعتبره الكثيرون مثقفًا وشاعرًا وكاتبًا، فإن أفكاره السياسية لا يتم تناولها بشكل كبير. ومع ذلك، فاعتبارًا من منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، كان “إيمي سيزار” أحد الدافعين الرئيسيين لحركة “الزنوجة” إلى جانب مناهضته طوال حياته لكلّ أشكال الاستعمار. وهو ما سيتم تناوله في السطور القليلة التالية:
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية لـ”سيزار”:
وُلِدَ “إيمي فيرناند ديفيد سيزار” Aimé Fernand David Césaire في 26 يونيو من عام 1913م، بمدينة “باس بوانت” Basse-Pointe في جزيرة “مارتينيك” Martinique الكاريبية الصغيرة، والتي ظلت لعدة قرون مستعمرة فرنسية.
كان والده مسؤولًا حكوميًّا اعتاد أن يجتمع بأسرته حول مائدة العشاء ليقرأ لهم بعض الكلاسيكيات الفرنسية، وقد كان جده مدرسًا للغة الفرنسية بإحدى المدارس في “فرنسا”، أما عن والدته فكانت تمارس مهنة الخياطة. ويعتقد “سيزار” أن أصوله تعود إلى شعب “الإيجبو”؛ إحدى أكبر المجموعات الإثنية في إفريقيا.
وقد انتقلت عائلته فيما بعد إلى “فورت دي فرانس” Fort-de-France عاصمة المارتينيك لكي يلتحق “سيزار” بالمدرسة الوحيدة بالجزيرة وقتها؛ وهي مدرسة “ليسه سولشير” Lycée Schoelcher.
وعند الانتهاء من دراسته الثانوية سافر “سيزار” البالغ من العمر 18 عامًا إلى “باريس”؛ وهناك شَغَله ما كان يشغل السود في بداية القرن العشرين؛ حيث كانت دراسته بأكثر المدارس المعرفية شهرة في “فرنسا” في ذلك الوقت، مثل “مدرسة لويس الكبير الثانوية” Lycée Louis-Le-Grand و”مدرسة المعلمين العليا”l’Ecole Normale Supérieure.
وفي “باريس” وجد “سيزار” نفسه جزءًا من الحياة الثقافية والفنية والفكرية المكثفة التي اشتهرت بها “باريس” في ثلاثينيات القرن العشرين؛ لكنه ما بين الحربين العالميتين تبنَّى في “باريس” فلسفته الخاصة عن “الزنوجة” معتزًّا بهويته الزنجية، وقد ساعده في تلك الظروف الخصبة للتعاون الفكري وجودُ طليعة أدبية وفنية وحركات اجتماعية عبر وطنية تشكلت للدفاع عن حقوق السود، مثل “البروليتاريا الدولية” وتيار “الجامعة الإفريقية” Pan-Africanism.
وعند عودته إلى “المارتينيك”، كتب “سيزار” في عام 1939م أحد أشهر أعماله الشعرية: “دفتر ملاحظات العودة إلى الوطن” Cahier d’un retour au pays natal، والتي اعتبرها “أندريه بريتون” (1896-1966م) André Breton رائد “السوريالية” الأوربية أنها “أعظم قيثارة غنائية في ذلك الوقت”.
وفي أواخر عام 1945م، عاد “سيزار” إلى “باريس” كنائب للحزب الشيوعي الفرنسي French Communist Party؛ حيث أعطاه منصبه الفرصة للدفاع عن تقسيم “المارتينيك” إلى جانب ثلاث مستعمرات فرنسية أخرى؛ “جوادلوب” Guadeloupe و”جويانا” Guyana وجزيرة “ريونيون” Reunion Island، وبالفعل تمكَّن من تمرير قانون يعالج هذه القضية في 19 مارس 1946م. وخلال هذه الفترة المليئة بالأحداث في أعقاب الدمار الذي خلَّفته الحرب العالمية الثانية، كتب “سيزار” بلا انقطاع بين عامي 1946م و1950م؛ حيث قام بنشر أربعة كتب؛ أهمّها من الناحية السياسية: “خطاب عن الاستعمار” Discourse on Colonialism.
وبعد قطع علاقاته مع الحزب الشيوعي الفرنسي، أسَّس “سيزار” في عام 1958م “الحزب التقدمي المارتيني” Martinican Progressive Party، الذي سيطر طوال النصف الأخير المتبقي من القرن العشرين على المشهد السياسي للجزيرة، ومنذ هذه اللحظة كرَّس “سيزار” نفسه للحياة السياسية في “المارتينيك”؛ حيث نشأته. وفي عام 1993م، رفَض “سيزار” تجديد ولايته كنائب في “الجمعية الوطنية” National Assembly بعد أن قضى بها 47 عامًا متواصلة للخدمة العامة. ليمكث بعد ذلك في “المارتينيك” حتى وافته المنية في أبريل عام 2008م.
ثانيًا: السياق الفكري والثقافي المعاصر لـ”سيزار”:
قبل ميلاد “سيزار” سيطرت على الأدب الأمريكي والثقافة الشعبية موضوعات نالت من الأمريكيين من أصل إفريقي عن طريق التشويه والسخرية. فوفقًا لـلدكتورة “هيلدبراند” Jennifer Hildebrand، فإن شخصيات مثل “سامبو” Sambo (صورة العبد السعيد القانع)، و”مامي” Mammy stereotype (الصورة النمطية للخادمة السوداء المُحبَّة لخدمة سيدها وزوجته وأولاده) كانت شائعة، “وأعطت انطباعًا عن طبيعة المحتوى الحياتي للأمريكيين الأفارقة في الجنوب”.
وتصف ” ليليان كيستيلوت” Lilyan Kesteloot المِنَح الدراسية الأمريكية التي تلت الحرب الأهلية (1861-1865م) بأنها كانت تُروِّج “لسلسلة جديدة من الأفكار الخاطئة المبنية على الحجج العلمية الزائفة، مثل النظريات العرقية والبدائية المتأصلة والنظرية الدارونية التي أشارت إلى أن الزنجي لم يكن سوى رابط بين القرد والإنسان الحقيقي، مما يُبرِّر الاستغلال والقتل العشوائي للسود”. كما وَفَّر التعليم والترفيه السائدان الأسس اللازمة للقمع الاجتماعي والسياسي للأمريكيين الأفارقة. ونادرًا ما كانت هناك محاولة لتصوير الحياة الجنوبية بشكل واقعي ودقيق، أو وصف واقع السود المضطهد في أمريكا.
لذا كان من الطبيعي أن تشكّل فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي فترة مهمة في تاريخ السود الثقافي؛ والتي تميزت بإرثها من العمل الإبداعي الذي ركّز على حياة واهتمامات الأمريكيين الأفارقة. ويُشار إلى ازدهار الفن والأدب على اختلاف أشكاله في أمريكا خلال هذه الفترة باسم “نهضة هارلم” Harlem Renaissance، أو “حركة الزنوج الجديدة” New Negro Movement، أو “العصر الجديد للنهضة الزنجية” New Negro Renaissance، حيث ظهر خلالها العديد من الكُتّاب السود البارزين أمثال “لانجستون هيوز” (1901-1967م) Langston Hughes، و”كونتي كولين” (1903-1946م) Countee Cullen، و”جورجيا دوجلاس جونسون” (1880-1966م) Georgia Douglas Johnson، و”كلود مكاي” (1889-1948م) Claude McKay، و”زورا نيل هيرستون” (1891-1960م) Zora Neale Hurston. وقد دفعت القيمة الدائمة للأعمال التي أنتجها فنانون سود خلال هذه الحقبة علماء الأدب إلى الاعتراف بـ”نهضة هارلم”، ووصفها بأنها “فترة مميزة كُتِبَتْ بأحرف سوداء بارزة متخطيةً ما قبلها”.
وفي هذه الأثناء، رأى السود في المستعمرات الفرنسية داخل إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي أن ثقافتهم الإفريقية قد ذابت، وباتت مُهدّدة بالذبول بسبب سياسة الاستيعاب التي انتهجها الاستعمار الفرنسي. فوفقًا لـ”كولينز” Robert O. Collins و”بيرنز” Collins James M. Burns: “سعى الفرنسيون إلى تأسيس إمبراطورية قوامها مائة مليون فرنسي في إفريقيا، لذا تم إجبار الأفارقة على تبنّي الثقافة والأفكار الفرنسية على حساب قِيَمهم الإفريقية الأصلية. ونتيجة لذلك، تطوّر التملق للثقافة الفرنسية بين الأفارقة والأفارقة الكاريبيين في المستعمرات الفرنسية، والذين تم السماح لهم بالسفر باعتبارهم ماهرين بما يكفي إلى فرنسا، وهناك تلقوا تعليمهم في المدارس الفرنسية من أجل شغل مناصب إدارية في المستعمرات التابعة لفرنسا”، فكان من بينهم “إيمي سيزار”.
وردًّا على تحريف الحقائق السوداء، والتشويه الممنهج للثقافة الإفريقية في أمريكا ومنطقة البحر الكاريبي والداخل الإفريقي، انبرى مجموعة من العلماء والفنانين السود للتصدّي لمثل هذه الروايات المكذوبة. لتظهر في المستعمرات الفرنسية نهضة أدبية وفنية إلى جانب نشاط ملحوظ بين الشعراء والكُتَّاب؛ حيث قاموا بالبناء على المساهمات الثقافية لجيل ما بعد الحرب من الأمريكيين في “هارلم”. آملين من مساهماتهم استعادة هوية السود وكرامتهم بعد سنوات من العبودية والقمع، وهو ما وجد صدًى له في المجتمع الفرانكفوني الأسود داخل “باريس”. ومن خلال ما اصطُلِحَ عليه باسم “الزنوجة” Négritude، والتي ابتكرها علماء مثل “إيمي سيزير” Aimé Césaire من المارتينيك، و”ليون داماس” (1912-1978م) Léon Damas من “جويانا” الفرنسية و”ليوبولد سيدار سنجور” (1906-2001م) Léopold Sédar Senghor من السنغال، وعلى الرغم من خلفياتهم المختلفة، فقد اجتمعوا واتحدوا من خلال قواسمهم المشتركة لمواجهة القمع العنصري والاغتراب الثقافي، فخورين بتراثهم الإفريقي. الذي لا يزال من المفيد التحفيز على إحيائه من أجل التغيير الاجتماعي في عالم اليوم.
ثالثًا: منطلقات وإسهامات “سيزار” الفكرية:
في حين ظهر تيار “الجامعة الإفريقية” بين الأنجلوفين في العالم الجديد وجاميكا، بقيادة المحامي الترندادي “هنري سيلفستر ويليامز” (1869-1911م) Henry Sylvester Williams، ظهر تيار آخر موازٍ بين الأفارقة الفرانكوفيين وهو تيار “الزنوجة”، والذي يُنسب اختراعه إلى “إيمي سيزار” ذي الأصول الإفريقية.
ويُعدّ الفارق الجوهري بين “الجامعة الإفريقية” و”الزنوجة”؛ هو أن “الجامعة الإفريقية” تيار له جوانب سياسية تتمثل في الدعوة إلى الحكم الذاتي، وعودة الشعوب السوداء إلى إفريقيا، بينما تيار “الزنوجة” له مضامين ثقافية وحضارية.
وفي حين طالب تيار “الجامعة الإفريقية” بالاستقلال كردّ فعل على الفصل العنصري، يأتي تيار “الزنوجة” كرد فعل على الاستيعاب الحضاري والاستيعاب اللغوي للاستعمار الفرنسي، لذا كانت “الزنوجة” هي خط الدفاع الأول عن الحضارة الإفريقية واللغات الإفريقية، ومن هنا يصبح معناها ثقافيًّا بالأساس.
وفي محاولة لإعادة الاعتبار للثقافة والتاريخ الأسود والنفوذ الإفريقي قام تيار “الزنوجة” بتبنّي قضية إنهاء الاستعمار؛ حيث اختلط الفكر السياسي بالثقافة في سياق الكفاح من أجل التحرر. وهو ما سيتم إيضاحه من خلال التعريف بالزنوجة، وخطاب “سيزار” عن الاستعمار.
1- الزنوجة
الزنوجة هي فلسفة أو أيديولوجيا ثقافية وسياسية طوّرها المفكرون السياسيون والفلاسقة الأفارقة الفرانكوفونيون. وتستمد كلمة Negritude جذورها من الكلمة اللاتينية Niger، والتي تم استخدامها حصريًّا في سياق عنصري داخل فرنسا، للإشارة إلى السود على أنهم “زنوج”. وفي سياقه الحالي، “الزنوجة”، استُخدم المصطلح لأول مرة مِن قِبَل الشاعر المارتنيكي “إيمي سيزار” في قصيدته: “دفتر ملاحظات العودة إلى الوطن”، والذي نُشر بالفرنسية في عام 1939م. والذي من خلال هذا المصطلح أعاد اكتشاف جذوره الإفريقية من جديد.
كحركةٍ، بدأت “الزنوجة” في ثلاثينيات القرن العشرين مِن قِبَل مجموعة من الطلاب والعلماء السود الشباب بشكل أساسيّ في مستعمرات وأقاليم فرنسا، مثل “سيزار”، و”سنجور” و”داماس”. والذين يُطلق عليهم عادةً “آباء الزنوجة الثلاثة”؛ حيث شكّل لقاؤهم مع بعضهم البعض في عام 1931م في “باريس” بداية استكشاف هوياتهم الثقافية المعقَّدة التي تعود بالجذور إلى إفريقيا.
وفي عام 1934م، أطلق الثلاثي المجلة الرائدة “الطالب الأسود” L’Etudiant noir، مستهدفين من خلالها كَسْر الحواجز القومية بين الطلاب السود في “فرنسا”. فقد كانوا جميعًا غير راضين، وشاعرين بالاشمئزاز، من سياسات الاستيعاب التي تمارسها “فرنسا” مع السود، في الوقت الذي يُعامل فيه الأسود داخل فرنسا بعنصرية شديدة، إلى جانب الظلم الاستعماري الذي أثر على الشعوب الإفريقية. لقد جادلوا بضرورة أن يتجمع الأفارقة معًا من يمكن أجل هدف واحدٍ مشترك، وبالتالي القول: إن حركتهم ترجع جذورها بالأساس إلى الاشتراكية الإفريقية.
إلى جانب ذلك، استخدم الثوار الثلاثة أسلوبًا أدبيًّا واقعيًّا احتضن الأفكار الماركسية في كتاباتهم إلى جانب اختراع “الزنوجة” لمقاومة الاستعمار الفرنسي ومعارضته.
كان مفهوم “سيزار” للزنوجة يقوم على تأكيد الهوية من خلال الانتماء للسواد؛ من منطلق حقيقة كونك أسود، والقبول بهذه الحقيقة، تقديرًا لتاريخ وثقافة الشعب الأسود. فبالنسبة له، كان التركيز على حقيقة “السواد” هو الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها مواجهة الإمبريالية الغربية، ورفض استعمار العقل الإفريقي. في ملاحظة مماثلة، حاول “سنجور” تحقيق وتعزيز الرغبة الإفريقية بالاعتراف بعرقٍ متساوٍ من خلال التبشير بضرورة استعادة الثقافة الإفريقية، والمشاعية، والهوية، والفخر. وبالفعل أدرك “سنجور”، مثل زملائه الآخرين، قوة وفعالية الوحدة والمشاعية الإفريقية. ولفهم قوة وفعالية المشاعية الإفريقية يمكن الاستشهاد بكلمات “فرانكن” (1969) Bernard Franken عندما يلاحظ أنه “كانت المشاعية هي فلسفة الحياة للشعوب الإفريقية؛ حيث يعيش الناس في مجتمعات صغيرة. مما جعلهم بحاجة لبعضهم البعض. ولم يكن بوسع النساء الذهاب بمفردهن لجلب الخشب والماء من الغابة، أو العشب للسقوف. كما لا يمكن للصياد الذهاب بمفرده لتوفير الطعام لعائلته. لذا كان عليهم أن يتَّحدوا ويعيشوا معًا. من هذه الحاجة الطبيعية نمت فلسفة معينة للحياة. فقبل الجميع واجب العمل، وساهم الجميع في نموّ ونهضة المجتمع”.
وهكذا أدرك الثوار الثلاثة كيف أثر الاستعمار سلبًا على القِيَم الإفريقية، لذا كان من المناسب مقاومته من خلال حركتهم المشكلة حديثًا، معتبرين أن أفضل استراتيجية لمقاومة الاستعمار هي تشجيع الهوية العرقية المشتركة للأفارقة السود في جميع أنحاء العالم، أي استعادة حق تقرير المصير الإفريقي، والاعتماد على الذات واحترامها.
ومن خلال حركة “الزنوجة” يمكن التنصُّل من الاستيعاب الثقافي الذي مارسه الاستعمار كاستراتيجية لتشجيع الأفارقة على الانسلاخ من حضارتهم وآمالهم وحيويتهم الروحية وقِيَمهم الثقافية. كما شجبوا افتقار أوروبا للإنسانية المزعومة، رافضين هَيْمنتها وأفكارها القمعيَّة.
كان الهدف العام لحركة “الزنوجة” هو أن يحصل السود على مكانهم الحقيقي في العالم؛ وهو المكان الذي حرص الاستعمار الأوروبي حرمان العرق الأسود منه. لذا فقد أكَّدت الحركة على حقيقة مفادها أن شعوب إفريقيا لديهم ثقافة وتاريخ جديرين بالفخر، ويمكن مقارنتهما بالثقافات الأخرى مثل تلك الموجودة في أوروبا. هذا هو السبب في أن “جان بول سارتر” Jean-Paul Sartre في كتابه “الوجودية والإنسانية” (1948) وصف الزنوجة بأنها نقيض العنصرية الاستعمارية في الجدلية الهيجلية Hegelian dialectic. بالنسبة لـ”سارتر” كانت “الزنوجة هي عنصرية مناهضة للعنصرية، استراتيجيتها النهائية هو الوحدة العرقية.
ومع ذلك، تم انتقاد “الزنوجة” في وقت لاحق مِن قِبَل بعض العلماء السود خلال الستينيات من القرن الماضي باعتبارها نضالاً منقوصًا. فعلى سبيل المثال انتقد الشاعر والكاتب المسرحي والروائي النيجيري “وولي سوينكا” Wole Soyinka الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1986م الزنوجة؛ لكونها عاطفية للغاية وصريحة ودفاعية.
وانتقد الشاعر والصحفي والسياسي “كيورابيتسي كوسيتسيل” Keorapetse Kgositsile أيضًا “الزنوجة” لكونها تعتمد كثيرًا على السواد. وهذا الاعتماد المفرط على السواد بالنسبة لـ” كوسيتسيل” جعل من المستحيل على “الزنوجة” تحديد نوع جديد من الإدراك للإفريقية Africanness الذي من شأنه أن يُحرّر السود وفنّهم من المفاهيم القوقازية.
هذا ما قصده “سيزار” عندما حث الشعوب الإفريقية على العودة إلى جذورهم إلى أبعد نقطة، وإعادة تأسيس أو استعادة هويتها المشوهة كشعب. ويشير “سيزار” إلى أن التشويه الذي أحدثه عدوان المستعمرين والإمبريالية الاجتماعية والثقافية، لا يمكن إزاحته إلا من خلال مقاومة القيم الاستعمارية والصمود أمامها، وكذلك تصميم الشعب الإفريقي على مواجهة إرث الكراهية الذاتية الاستعمارية ونقاهة قيمهم الخاصة لإعادة تأسيس هويتهم كشعب.
ويخلص “سيزار” إلى أنه لتجاوز هوياتهم السلبية؛ يجب على السود قبول أصلهم المشترك. وأن مواجهة ماضيهم الاستعماري من شأنه أن يوحدهم، ويمكّنهم من الارتقاء فوق اضطهادهم. أدَّى هذا الإدراك إلى ولادة حركة “الزنوجة” نفسها.
2- خطاب عن الاستعمار:
يتيح لنا الرسم الموجز للسيرة الذاتية لـ”إيمي سيزار” أن أهمّ لحظات حياته السياسية حدثت إبَّان الفترة الأخيرة للإمبراطوريات الاستعمارية، وخلال فترة الزخم الكبير لحركات التحرُّر الوطنيّ التي أثارت تساؤلات حول المساواة والسيادة الوطنية والهوية والمُثُل العليا المجردة. وهي الفترة التي صاغ فيها كتابه “خطابٌ عنْ الاستعمارِ”، والذي يُعتبر -من منظور سياسي- أهم أعماله على الإطلاق. فقد ابتعد في صياغته عن أسلوبه المميز في قصائده السريالية؛ مُتبنيًا لهجةً أكثر رصانة وعقلانية وجدلية، لكنها لم تكن أقل حماسة وقوة مما قدمه من نقدٍ بناءٍ ومستنير في كتاباته الشعرية.
فيبدأ حديثه عن الاستعمار بتشخيص صارخ للآثار المدمرة له على المستعمَرين؛ حيث كتب: “إن الحضارة التي يَثبُت عدم قدرتها على حل المشاكل التي تخلقها؛ هي حضارة مُنحلة”. وأضاف أن: “الحضارة التي تختار أن تُغلق أعينها عن مشاكلها الأكثر أهمية؛ هي حضارة منكوبة”. وأن: “الحضارة التي تستخدم مبادئها للخداع والتضليل هي حضارة تحتضر”.
ورأى “أن ما يُسمَّى بالحضارة الأوروبية -الحضارة الغربية- التي تشكَّلت على مدى قرنين من حكم الطبقة البرجوازية؛ هي حضارة عاجزة عن حلّ المشكلتين الرئيسيتين اللتين تسببت فيه وجودهما: مشكلة البروليتاريا، ومشكلة الاستعمار، الأمر الذي جعل أوروبا غير قادرة على إيجاد المبررات التي تدفع بها عن نفسها أمام أحكام العقل والضمير؛ وهو ما جعلها تلجأ إلى النفاق الذي هو أكثر قُبحًا؛ نظرًا لعجزه وفشله في خداع الآخرين”.
ورأى أن هذا الخداع يعود بالأساس إلى: “التحذلق المسيحي؛ الذي أرسى المعادلات غير النزيهة؛ حين جعل المسيحية هي الحضارة، والوحشية من نصيب غيرهم، والتي لا يمكن إلا أن يترتب عليها عواقب استعمارية وعنصرية بغيضة، ضحاياها الهنود والشعوب الصفراء في آسيا والزنوج في إفريقيا”. الأمر الذي جعل “سيزار” يخلُص إلى أن “أوروبا لا يمكن الدفاع عنها”، لذا علينا “في البداية دراسة كيف يعمل الاستعمار على نزع حضارة المستعمَر لقمعه، وإهانته، وإيقاظ غرائزه”. وعلينا ألا نصدق أن “هدفه التبشير بالمسيحية؛ أو جاء بمشروع خيري في إفريقيا، أو بهدف اجتثاث حدود الجهل والمرض والاستبداد، أو يستهدف إعلاء كلمة الله، أو توسيع قاعدة تطبيق القانون”.
ويعقب بقوله: “الحقيقة التي يجب أن نصارح أنفسنا بها دون خوف أو جزع؛ هو أن الاستعمار جاء بالأساس بهدف السلب والنهب والاستغلال على يد مغامرٍ أو تاجرٍ أو قرصان أو مالك سفينة حالمًا بالتنقيب عن الذهب، ومدفوعًا بوهم الحضارة التي أخفي ورائها مشروعه الاقتصادي القائم على النهب والسلب لمقدرات الشعوب”.
ورفض “سيزار” التعريف الغربي للحضارة، واختصارها في المسيحية؛ وقال: “لقد تميزت أوروبا بكونها مفترق طرق بين القارات، بزغت منها شمس الأفكار، فنمت وترعرعت فيها جميع الفلسفات، حتى باتت ملتقى لشتى أنواع المشاعر على اختلافها، فأصبحت بحقّ أفضل مركز لإعادة توزيع الطاقات”. لذا فإن الحضارة “لا يجب أن تنسحب على نفسها؛ بل من الجيد لها أن تتواصل مع الحضارات الأخرى، وأن تندمج مع عوالم مختلفة”. فتفاعلها مع الحضارات الأخرى كالأكسجين الذي يضمن بقاءها على قيد الحياة”.
وبناءً على هذه المقدمات، استنتج “سيزار” أن “النازية” التي تفاجأت بها أوروبا هي نتيجة حتمية لكل “الكبرياء العنصري الذي تم التباهي به في السابق، فانغرس كالسم في عروقها ببط، لتمضى القارة نحو الوحشية بثبات”؛ حتى ذاقت وبال أمرها”.
وبهذا الربط استطاع “سيزار” أن يجد تشابهًا كبيرًا بين “النازية” والتوسُّع الاستعماريّ الغربيّ؛ حتى جعل من “مسألة الاستعمار المتأصل في النظام العالمي الرأسمالي في مركز تفسير النازية”؛ حيث قال: “إن النازية ليست حدثًا استثنائيًّا في التاريخ الأوروبي، ولكنها التأثير النهائي للحضارة التي بررت الاستعمار دون إدراكٍ للمخاطر التي ينطوي عليها المضي قدمًا نحو ما وصلت إليه من وحشية”.
ثم أشار إلى أن التاريخ الأوروبي الذي اعتبر “النازية” عارًا وجريمة في حقّ البشرية، امتنع عن فعل الشيء نفسه تجاه البربرية الاستعمارية التي مارسها في إفريقيا. وشارك “سيزار” أقرانه من الأمريكيين والكاريبيين الآخرين أمثال “ديبوا” WEB Du Bois، و”جيمس” CLR James الرأي بأن “الفاشية” و”النازية” هي صورة أخرى للأساليب الاستعمارية الأوروبية مع الفارق بأنها كانت داخل القارة.
ويسخر “سيزار” من تفاجئ أوروبا بالنازية؛ ويعقِّب على ذلك بقوله: “يتفاجأ الناس ويصبحون ساخطين… إنها نازية، ويأملون مرورها سريعًا. لكنَّهم في الحقيقة يُخْفُون الحقيقة عن أنفسهم؛ وهي أن النازية هي نفسها الهمجية -الهمجية في أعلى منازلها- التي كانوا مارسوها في إفريقيا وباقي المستعمرات. إنها النازية التي قبل أن يكونوا ضحاياها كانوا شركاء لها حين تسامحوا معها وقاموا بالتبرير لها، وغضُّوا الطرف عنها، وسنُّوا لها التشريعات، يوم أن كانت تُطبق فقط على الشعوب غير الأوروبية؛ فزرعوا بذلك بذرتها الأولى، وقاموا على رعايتها حتى حتى باتت تنضح وتتسرب وتقطُر مياهها الحمراء من كل أنحاء أوروبا”.
ويعتقد “سيزار” أن “هتلر” لا يمثل نفسه بل هو نموذج للرجل الغربي؛ الذي “يمثل طبقة البرجوازيين المتميزين، والمسيحيين الإنسانيين في القرن العشرين؛ فالرجل الغربي من حيث لا يدري لديه هتلر بداخله يسكنه، وآخر يعمل على أن يكون شيطانه. لكن الحقيقة أن هتلر طبق الإجراءات الاستعمارية نفسها على الأوروبيين، والتي كانت حتى ذلك الحين مخصَّصة حصريًا لعرب الجزائر، وهنود أمريكا والسود في إفريقيا”.
وتأكيدًا على هذا المعنى يحاول “سيزار” أن يقدّم مزيدًا من الدلائل على فكرته؛ من خلال تأكيده على أن هتلر ليس حالة عابرة في التاريخ الأوروبي، لكنه نموذج حقيقي ومُعبّر عن المجتمع الرأسمالي في مرحلته الحالية، وعجزه عن تأسيس مفهوم شامل للحقوق يصلح لجميع البشر. فهتلر نفسه يقول: “لا نطمح إلى المساواة بل إلى الهيمنة”. وهو ما اعتبره “سيزار” يشير بوضوح “إلى الغطرسة والوحشية التي تذهب بنا مباشرة إلى عواء الوحشية”.
ثم ينتقل “سيزار” إلى نموذج آخر لتأكيد مسألة الغطرسة الغربية، لكن هذه المرة يضرب مثالًا لشخصية مثقفة؛ حي يقول “سيزار”: “أشعر بالخجل حين أنقل عن مثقف غربي اسمه [ارنست رينان] Ernest Renan الفيلسوف المثالي مقطعًا مأخوذًا من كتابه [الإصلاح الفكري والأخلاقي] La Réforme intellectuelle et morale، ينبئنا من خلاله عن الكثير من أخلاقيات البرجوازية”؛ حيث يقول “رينان”: ” إن الارتقاء بالأعراق الدونية أو المنحطة مِن قِبَل الأعراق المتفوقة هو جزء من التدبير الإلهي لأمور للبشرية. فالرجل الأبيض العامي خُلِقَ ليكون نبيلًا، ويده الثقيلة خُلقت لمقبض السيف الذي هو أكثر ملاءمة له من القيام بأعمال دونية”.
وعلى المستوى الأخلاقي أشار “سيزار” إلى أن أحد القساوسة -ويدعى “باردي” Barde- ادَّعى “أن الاستعمار هو إرادة الله وحكمته العادلة، والذي لولاه لبقيت ثروات العالم في يد مَن لا يستحقها”. ثم ذكر تصريحًا لزميله الآخر القس “مولر” Muller والذي يقول: “يجب على الإنسانية ألا تسمح لعجز الشعوب غير المتحضرة بسبب إهمالها وكسلها أن تُهْدِر الثروة التي حباها الله بها، لكن على العالم المُتحضِّر أن يُجنّيها ويستخلصها لخدمة المصلحة العامة”.
ثم يذهب “سيزار” إلى ذِكْر المجازر البشعة للاستعمار في الهند وإفريقيا ويعدِّد لها، ثم يعقّب على ذلك بقوله: “إنهم يُثبتون أن الاستعمار ينزع الصفة الإنسانية حتى عن أكثر الرجال تحضُّرًا؛ نظرًا لأن هذا النشاط الاستعماري، أو المشروع الاستعماري، أو الغزو الاستعماري يقوم على احتقار المواطن الأصلي، ثم يُبرِّر ذلك الازدراء، حتى تتغير مشاعر المستعمر الداخلية، حتى يُصبح مستريح الضمير، وهو يعتاد على معاملة الآخر كالحيوان، ومِن ثَم تتبدل مشاعر الخاضع للاستعمار فيعتاد هو الآخر على هذه المعاملة، حتى يترسخ شعور الدونية بداخله. لتكون في النهاية هذه هي النتيجة للتأثير العكسي للاستعمار الذي أردت أن أشير إليه”.
ويؤكد “سيزار” أن الغرب لا يزال يفخر بهذه التصرفات، ويبرّر لها؛ حيث يقول “كارل سيجر” Carl Siger في كتابه “مقال عن الاستعمار” Essai sur la Colonization: “يمكن أن تعمل المستعمرات إلى حدّ ما كصمام أمان للمجتمع الحديث. حتى لو كانت هذه هي قيمتها الوحيدة”.
ثم يشير “سيزار” بوضوح إلى التدمير الذي تركه الاستعمار للحضارات في الهند وإفريقيا؛ ويرى أن الاستعمار أسّس لمبدأ الخراب، وأدخله ليكون واقعًا في الدول الإفريقية. ثم بعد ذلك يعود المستعمر ويدعي زورًا أنه جاء بالحضارة والعمران وسيادة القانون، ويعقّب على ذلك بقوله: “وحين أنظر حولي حيثما يوجد مستعمِرون ومستعمَرون وجهًا لوجه، لا أرى إلا القوَّة والوحشية والقسوة والسادية والصراع”.
ويستطرد: “إنهم يتحدثون عن التقدم، وعن الإنجازات، وعلاج الأمراض، وتحسين مستويات المعيشة، لكنني أتحدث هنا عن مجتمعات أُزْهِقَتْ وطُمست أرواحها، وثقافات سُحقت بالأقدام، ومؤسسات تم تقويضها، إلى جانب مصادرة أراضٍ، وتشويه أديان، وتدمير إبداعات فنية رائعة، وإبادة إمكانيات غير عادية”.
لكن الغرب من وجهة نظر “سيزار” يحاول “صياغة وبثّ ما يدعون أنه حقائق في رؤوسنا، فيتحدثون عن إحصاءات لطرق مهّدوها، وقنوات شقوها، وخطوط لسكك حديدية بين المدن أنشأوها”. لكن “سيزار” يرى أن التكلفة البشرية كانت هائلة: “أنا أتحدث هنا عن آلاف الرجال الذين تمت التضحية بهم في نهر الكونغو. وعن أولئك الذين -وأنا أكتب هذا الخطاب- يحفرون بأيديهم ميناء أبيدجان، وعن ملايين الرجال الذين حُرموا من ممارسة شعائرهم الدينية، وانتُزعوا من أراضيهم، وعاداتهم، وإبداعاتهم الفنية الرائعة”.
ثم يتحول “سيزار” في خطابه للحديث عما سماه “الحالة الذهنية للبرجوازية الغربية”؛ التي من وجهة نظره جعلت من “الأمة ظاهرة برجوازية”؛ مفسرًا ذلك بأن المشروع الاستعماري في العالم الحديث يتطابق تمامًا مع الإمبريالية الرومانية في العالم القديم؛ حيث “أقدم المشروع الاستعماري على ذبح الهنود، واستنزف العالم الإسلامي، والقضاء على الحِرف الصينية طيلة قرن كامل، كما أنه حوّل الزنوج إلى أشخاص غير مؤهلين؛ حين أسكت أصواتهم؛ وجعل أوطانهم في مهبّ الريح”.
وبناءً عليه؛ اعتبر “سيزار” أن هذه السياسة لا تؤدي لشيء إلا إلى خراب أوروبا نفسها، وأن أوروبا، إذا لم تكن حذرة، ستهلك من الفراغ الحضاري الذي أوجدته حول نفسها؛ حين قامت بذبح الهنود، أو الهندوس، أو سكان جزر بحر الجنوب، أو الأفارقة. لقد أطاحوا في حقيقة الأمر بالأسوار التي كان من الممكن أن تتطور خلفها الحضارة الأوروبية بحرية. فحينما دمرت روما -في مسيرتها الظافرة المزعومة نحو حضارة واحدة-قرطاج ومصر واليونان وبلاد فارس… هي في الحقيقة أزالت بيدها سدودًا كانت من المفترض أن تحميها من طوفان البشرية الهائل الذي قد يُهلكها”.
ثم تساءل “سيزار”: “ماذا فعلت أوروبا البرجوازية أيضًا؟ لقد قوَّضت الحضارات، ودمرت البلدان، وأفسدت القوميات، واستأصلت جذور التنوع. فلا مزيد من السدود، ولا مزيد من الحصون المنيعة. حتى ظهر البربري الحديث، ظهرت أمريكا؛ وظهر معها العنف، والإفراط، والإهدار، والمذهب التجاري، والخداع، والغباء، والابتذال، والفوضى”.
ثم ينهي “سيزار” خطابه بالحديث عن الاستعمار الحديث: “ألا ترون كيف قام هؤلاء السادة برفع راية مناهضة الاستعمار للتوّ متباهيًا يقول [ترومان] Truman بأنهم جاءوا بهدف [مساعدة الدول المحرومة]”. ويقول “سيزار”: “لقد ولى زمن الاستعمار القديم. وجاء الاستعمار الحديث متمثلًا في التمويل الأمريكي؛ يا لها من هبة من السماء، فحين تنخدع باستثمارات رؤوس الأموال الضخمة، وبناء الطرق، والموانئ. ولا تدري أنه فقط تم استبدال استعمار بآخر وقوة غاشمة بأخرى مهيمنة؛ لكن في الحقيقة إن الهيمنة الأمريكية هي الهيمنة الوحيدة التي لا يتعافى المرء منها أبدًا.
ويختم “سيزار” خطابه بقوله: “ما لم تنتهج أوروبا وأمريكا في إفريقيا سياسة جديدة تقوم على احترام الشعوب والثقافات، فسوف تتحول يقظة الدول والحضارات نحو ثقافة المقاومة كما في فيتنام، والتجمع الديمقراطي الإفريقي، وقتها ستكون أوروبا قد حرمت نفسها من فرصتها الأخيرة، وينتهي بها الحال إلى ظلمة قاتلة. وأضاف: “إن خلاص أوروبا ليس مسألة ثورة في الأساليب؛ إنها مسألة تتعلق بثورة من نوع آخر؛ إنها ثورة لإزاحة الطبقية والاستبداد الضيق للبرجوازية المجردة من الإنسانية”.
رابعًا: دلالات “سيزار” الفكرية:
لم يكن “إيمي سيزار” مجرد مؤلف لسبعة مجلدات من الشعر الغنائي، وأربعة أعمال رئيسية للمسرح، وثلاث مجموعات من المقالات، ولكنه كذلك كان رجل دولة تحدَّت رؤيته الاجتماعية والسياسية المتميزة باستمرار المشهد السياسي الفرنسي في فترة ما بعد الحرب؛ من خلال خطابه عن إنهاء الاستعمار. بالإضافة إلى بلاغته النقدية المتميزة طيلة حياته المهنية في وصف التأثير النفسي للاستعمار على الشعوب الخاضعة له، فعلى غرار “داماس” و”سنجور” طور “سيزار” نهجًا ذا شقين؛ الأول سياسي والثاني شعري، راديكالي لنقد الاستعمار والمساهمة في إنهائه.
وقد حظي عمله الشعري باحترام كبير بين الفرانكفونيين، إلى جانب عمله السياسي المناهض للاستعمار والامبريالية المتمثل في: “خطاب عن الاستعمار”؛ والذي تم تصنيفه كأحد أفضل الكلاسيكيات الفرنسية الداعية لإنهاء الاستعمار. وقد أشار “ريتشارد واتس” Richard J. Watts إلى ذلك بقوله: “إن قدرة سيزار على دمج الوعي العرقي بالسياسة مع تجنُّب المزالق التي يعاني منها العديد من نظرائه الأفارقة والكاريبيين أكسبته احترام معاصريه”.
لذا فإن الإسهام الفكري الذي قدَّمه “إيمي سيزار” من خلال أعماله يتميز بعمق تجربته في المنفى والترحيل وبالوجود الإفريقي في العالم المولود من رحم تجارة الرقيق والاستعباد. الأمر الذي جعل “سيزار” يقوم بتفكيك المكتبة الاستعمارية حين طرح تساؤلاته في مواجهة السرد الأوروبي المهيمن من مكانه الفريد؛ حيث جزيرة المارتينيك، إحدى المستعمرات الفرنسية التي عانت من العبودية لمدة قرنين من الزمان. لينتهي بها الحال بالتبعية الفرنسية في عام 1946م.
لكن سرعان ما ظهرت حركات المقاومة التي رفضت سجن العبودية وازدراء العرق وطالبت بالمساوة والجنسية. وهو ما أيده “سيزار” حين قال “إن التحرر أُفقًا يمكن التفاوض بشأنه على الدوام، فلا يمكن احتواؤه بالتفرد ولا تخفيفه بالشمولية. لكنه مرحلة بين هذين النقيضين”. وهنا تأتي “الزنوجة” كتحدٍّ للواقع وتبعاته، والذي من ضمن إفرزاته العولمة التي ربطت بين قارات العالم بأنظمة قانونية وثقافية واقتصادية وسياسية مختلفة واستمرت إلى ما يقرب من أربعة قرون، وهو ما استدعى إيجاد واقع ثقافي يحمل في داخله تجربة تأسيسية تتحدى العالمية القائمة على الهيمنة.
وفي هذا الصدد يمكن إعادة قراءة “سيزار” من جديد، ليس كمجرد شاهد على مرحلة تاريخية بعينها، ولكن كصوت نقدي رافض للعولمة باعتبارها صورة جديدة للاستعمار الحضاري الغربي لإفريقيا. فقد استطاع “سيزار” اكتشاف إفريقيا من خلال نصوصه الشعرية المتناسقة، وكأنها عالم مثالي متناغم، مع اقتصاد قائم على المساواة والمقايضة والتبادل، وبلدانٍ خالية من النزاعات والحروب. وهي الصورة التي تناقض العولمة تمامًا.
وفي كتابه “خطاب عن الاستعمار” يقدم “سيزار” تساؤلات حقيقية للحضارة الأوروبية تشبه إلى حد كبير المحاكمة لحضارة أدت إلى نشر الموت والدمار تحت ستار تقديم رسالة حضارية إلى العالم. وهو الأمر الذي أصبح جليًّا في نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث بات تفوق الحضارة الأوروبية محل نزاع جذري مرة أخرى. فهل لا يزال بإمكانها أن تطلق على نفسها اسم المتفوقة بعد أن ثبت مدى همجيتها وشغفها بالقسوة؟
الأمر الذي جعل “سيزار” يفخر بقوميته السوداء، إلى جانب التزامه الكبير بمشروع استعادة “الكبرياء الأسود”. لذا فإن مفتاح الوصول إلى نظرة شاملة لموقف “سيزار” الأيديولوجي يمكن العثور عليه، ليس فقط في اعتناقه “الزنوجة”، ولكن أيضًا في سعيه لتحقيق “إنهاء الاستعمار” بشكل حقيقي.
وختامًا:
مات “سيزار” تاركًا خلفه إرثًا مزدوجًا استثنائيًّا كشاعر بارز وزعيم سياسي. وهو ما جعل العديد من النقاد يعتقدون وجود تناقض بين موقفه العنيف المناهض للاستعمار الذي عبّر عنه في كتاباته وممارسته السياسية؛ وبين دعمه لقانون “التقسيم الإداري” (الذي ضم جزر الأنتيل الفرنسية، إلى جانب أقاليم ما وراء البحار الأخرى، باعتبارها “تقسيمات” إدارية داخل الجمهورية الفرنسية)، وإحجامه عن قيادة بلاده نحو الاستقلال السياسي. ومع ذلك، فإن هذا التصوُّر عن التناقض مضلل؛ حيث إنَّ القراءة الدقيقة لمجموعته الشعرية ومقالاته المنشورة تشير إلى عكس ذلك تمامًا، إلى جانب كتابه الشهير “خطاب عن الاستعمار”، والذي قدّم من خلاله رؤية متكاملة لفكره الاجتماعي وممارسته السياسية. ليبقى “إيمي سيزار” الكاتب الكاريبي الفرنكوفوني هو الأكثر تأثيرًا في جيله، فهو أحد الآباء المؤسِّسين للزنوجة، وحركة الوعي الأسود التي سعت إلى تأكيد الفخر بالقِيَم الثقافية الإفريقية لموازنة المكانة المتدنية الممنوحة لهم في الفكر الأوروبي الاستعماري.
______________________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Kesteloot, L. (1974). Black writers in French: A literary history of Négritude. Temple University Press.
Collins, R. O., & Burns, J. M. (2007). A history of Sub-Saharan Africa. Cambridge University Press.
Césaire, Aimé. Discourse on colonialism. NYU Press, 2001
Camara, Gamby Diagne. “Faces of Blackness: The creation of the New Negro and Négritude Movements in Harlem and Paris.” Journal of Black Studies 51.8 (2020): 846-864
Jack, Belinda Elizabeth. Negritude and literary criticism: the history and theory of” Negro-African” literature in French. No. 178. Greenwood Publishing Group, 1996
Leising, Gary. “Aimé Césaire and Gestures toward the Universal.” CLCWeb: Comparative Literature and Culture 3.4 (2001): 4
Davis, Gregson. Aimé Césaire. Vol. 5. Cambridge University Press, 1997