بالنسبة للمؤرخ الإفريقي العادي، قد يبدو اسم “كارل كريستيان ريندورف” (1834-1917م) Carl Christian Reindorf غير مألوف تمامًا. ومع ذلك، كان “ريندورف” مؤرخًا غانيًّا ومعاصرًا للقس “صمويل جونسون” (1846-1901م) Samuel Johnson مؤرخ “اليوروبا” المعروف.
أصدر “ريندورف” كتابه “تاريخ ساحل الذهب والأشانتي” The History of the Gold Coast and Asante سنة 1895م، وهو عمل كلاسيكي أكسبه شهرةً كواحد من روّاد التأريخ الحديث لغرب إفريقيا.
تركّز هذه الدراسة على التعريف بأحد المؤرخين وروّاد الفكر الإفريقي في القرن التاسع عشر، في محاولة لتبديد عباءة الجهل التي لا تزال تحيط بشخصه بين الكثير من الباحثين والدارسين المتخصصين في تاريخ إفريقيا. والأهم من ذلك، تحاول الدراسة إجراء تقييم نقديّ لمساهمات “ريندورف” في سياق تطوُّر الفكر والتأريخ الإفريقي الحديث لغرب إفريقيا.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشَّخصية لـ”ريندورف”:
قبل الشروع في تقييم مفصَّل لمساهمات “ريندورف”، من الضروريّ أن نذكر شيئًا ما عن حياته وخَلْفيته. وُلِدَ سنة 1834م في قرية “برامبرام” Prampram على بُعْد عشرين ميلاً شرق “أكرا” Accra. كان والده “كارل هاكينبيرج رايندورف” Carl Hackenburg Reindorf من أصل دنماركيّ، بينما كانت والدته من “جا” Ga people حيث جاءت من حي “أسير” Asere في “أكرا”.
بعد تعليمه المبكر في “مدرسة إرسالية بازل” Basel Mission school، أصبح “ريندورف” في سنة 1855م مدرّسًا للتعليم المسيحي في إطار “إرسالية بازل”، وهي مهنة تابعها حتى وفاته في الأول من يوليو سنة 1917م. بالإضافة إلى عمله الإرسالي، أصبح “ريندورف” أيضًا مُدرِّسًا في “مدرسة بازل اللاهوتية” Basel Theological Seminary في “أكروبونج” Akropong، وعندما أنشأت الإرسالية “مدرسة التدريب المتوسطة” Middle Training school في ستينيات القرن التاسع عشر، كان “ريندورف” واحدًا من أوائل معلّميها الأفارقة.
وهكذا جمع “ريندورف” بين واجبات المعلم وعمله بالتنصير. كما أدَّى نجاحه في الأخير إلى تعيينه وزيرًا لإرسالية بازل في سنة 1872م. وتأثر “ريندورف” بطبيعة الحال خلال فترة عمله بعددٍ من منصري بازل وخاصة القس “كريستالر” (1827-1895م) Johann Gottlieb Christaller.
بالإضافة إلى مسيرته المهنية مع “إرسالية بازل”، تأتي أحد العوامل المهمة الأخرى لخلفية “ريندورف” هي صلاته العائلية وتربيته؛ حيث ينتمي أسلافه من الأم إلى الطبقة الكهنوتية التقليدية. فعندما كان طفلاً -كما اعترف هو نفسه لاحقًا- كان من المقرَّر أن يتم تجهيزه لمهنة كهنوتية تقليدية؛ حيث عبَّر عن ذلك بقوله: “لولا أنني وُلِدْتُ خلاسيًّا، وأصبحت مسيحيًّا، لظللت على اتصالٍ بالتقاليد الدينية والاجتماعية لشعب [جا]”. كما سنرى لاحقًا، هذا الاتصال بتقاليد “جا” أصبح أحد أهم المؤثرات التي شكَّلت تصوراته التاريخية بجانب تدريبه.
كان لسماته الشخصية وخلفيته الاجتماعية والثقافية والدينية دور كبير في جَمْعه للتقاليد الشفوية لشعبه في “غانا”. لذا دفعه حرصه أثناء التدوين والبحث في تاريخه، إلى إجراء مقابلات مع أكثر من مائتي شخص من كلا الجنسين للتوصل إلى استنتاجات نهائية. وهكذا على الرغم من أن “ريندورف” كان منصرًا مسيحيًّا، إلا أنه لم ينفصل بأيّ حال عن تقاليد وثقافة شعبه. لذلك كان للوسط الثقافي الذي نشأ فيه تأثير مُهمّ للغاية على فكره، والذي انعكس ايجابًا وسلبًا في كتابه التاريخي.
ثانيًا: السياق التاريخي المعاصر لـ”ريندورف”:
على الرغم من أن غرب إفريقيا كان لها تقليد طويل جدًّا من الدراسات التاريخية، والذي يعود إلى ظهور الكتابة العربية منذ القرن التاسع الميلادي وما بعده، إلا أنه لا يمكن إرجاع أصول التأريخ الحديث لغرب إفريقيا إلا إلى القرن التاسع عشر؛ عندما برز جيل جديد تعلم القراءة والكتابة بالحروف اللاتينية، والتي تم التسويق لها باعتبارها متميزة وأكثر عصرية من الحروف العربية. ومع نموّ معرفة القراءة والكتابة باللغات الأوربية بين النُّخْبَة الإفريقية المتعلمة في أوروبا وبين المتحولين والمنصرين الإفريقيين، أصبح من الممكن عمليًّا للأشخاص الذين امتلكوا الوعي بالتاريخ في غرب إفريقيا أن يلتزموا بكتابة تاريخهم إمَّا باللغات الأوروبية أو باللغات المحلية. واستمر هذا الالتزام في كتابة التاريخ حتى الآن إلا ما ندر.
وعند النظر في تطور التأريخ الحديث لغرب إفريقيا، يجب التمييز بين التأريخ الذي قدَّمه الهواة من المؤرخين لفترة ما قبل سنة 1950م والتأريخ الأكاديمي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في حين أنتجت الفئة الثانية مؤرخين أكاديميين مثل ” صابوري بيوباكو” (1918-2001م) Saburi Oladeni Biobaku، و”ألبرت أدو بواهن” (1932-2006م) Albert Adu Boahen (على سبيل المثال لا الحصر)، وهؤلاء مارسوا كتابة وتدريس التاريخ كمسعى مهنيّ. بينما المؤرخون الهواة خلال القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين مارسوا كتابة التاريخ لخدمة أمور أخرى إلى حدّ كبير، ولأسباب وطنية في أحيان أخرى. وينتمي “ريندورف” إلى هذه الفئة من المؤرخين الهواة؛ نظرًا لأن عمله إلى حدّ كبير كان نابعًا من استجابة وطنية لمواجهة تحديات عصره، مما جعله مصدر إلهام للأجيال اللاحقة من المؤرخين. وقد أتم الانتهاء من تاريخه في سنة 1889م، لكن لم يتم نشره فعليًّا إلا في سنة 1895م.
وبحلول ذلك التاريخ، كان ضباب الاستعمار قد هبط بالفعل؛ ليس فقط على “ساحل الذهب”، ولكن أيضًا على إفريقيا بأكملها. فبين عامي 1880م و1900م، كان من المقرر أن تخضع غرب إفريقيا للشبكة الفولاذية للاستعمار، والتي استمرت حتى خمسينيات وستينيات القرن العشرين. حيث كانت البيئة الاستعمارية تميل إلى تثبيط التعبيرات القوية للوعي التاريخي والثقافي الإفريقي، وإن لم يكن ذلك بالضرورة ناجحًا.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر على وجه الخصوص، عندما كانت هناك ضرورة مُلِحَّة لتبرير فرض الاستعمار، تم التسويق بأن “السكان الأصليين” للمستعمرات ليس لهم تاريخ يستحق التدوين؛ حيث كان الافتراض التأريخي الكامن وراء هذه الفكرة الخاطئة هو عدم وجود تقنية لتدوين وكتابة التاريخ؛ نظرًا لأن “القارة المظلمة” لم تطوّر فن الكتابة قبل مجيء الرجل الأبيض، وكلها ادعاءات لا تنطلي على صغار الباحثين. لكن هذا الافتراض السلبي القائم على مفهوم خاطئ، انعكس طوال الفترة الاستعمارية بأكملها، ويمكن العثور عليه في كتابات وتصريحات الباحثين الغربيين الذين قاموا بتزوير الحقائق التاريخية، على غرار “هيو تريفور روبر” (1915-2003م) Hugh Trevor-Roper المؤرخ البريطاني الشهير وغيره. ضمن هذه الخلفية من التشاؤم حول آفاق التاريخ الإفريقي، نُشر كتاب “ريندورف” في سنة 1895م.
وفي الأخير، تجدر الإشارة إلى أن كامل فترة حياة “ريندورف”، شهدت تغييرات بالغة الأهمية في تاريخ “ساحل الذهب” آنذاك؛ حيث وُلِدَ خلال فترة حكم “جورج ماكلين” (1801-1847م) George Maclean، وهي الفترة التي كانت بمثابة البداية الحقيقية للهيمنة السياسية البريطانية داخل المستعمرة. وبحلول سنة 1872م، باعَ كلّ من الهولنديين والدنماركيين ممتلكاتهم وقلاعهم إلى البريطانيين الذين أعلنوا في سنة 1874م الحماية البريطانية على المناطق الساحلية لغانا الحديثة، بما في ذلك “أرض فانتي” Fanteland حتى “نهر برا” Pra River. ليكون “ريندورف” شاهد عيان على بعض هذه التغييرات الجسيمة، والتي حاول إدراجها على صفحات تاريخه من خلال عيون السكان المحليين.
ثالثًا: المنطلقات الفكرية لـ”ريندورف”:
في سنة 1895م، أي بعد خمسة وعشرين عامًا من البحث التاريخيّ والإثنولوجي، أنتج “كارل ريندورف” المبشّر الغاني في “إرسالية بازل”، عملاً هائلاً ومنهجيًّا حول سكان “ساحل اذهب” (جنوب غانا الحديثة)، واختار له عنوان “تاريخ ساحل الذهب والأشانتي”.
ويُعتبر “ريندورف” أول إفريقيّ ينشر تاريخًا كاملًا على النمط الغربي لمنطقة في إفريقيا؛ حيث لم تكن هناك دراسات للتاريخ الفكري لساحل الذهب، مثلها مثل معظم أنحاء إفريقيا. وقد يرجع ذلك إلى ندرة المصادر في تلك الفترة. ومع ذلك، ترك “ريندورف” من خلال كتابه التاريخي سجلاً أدبيًّا وتاريخيًّا فريدًا.
في بحثه ودراسته ومراجعته لكتابه التاريخي المنشور، استند “ريندورف” إلى تاريخه الوطني والوضع السياسي المعاصر له، إلى جانب التغيرات الاجتماعية والدينية بين أعضاء المجتمع. معتمدًا في ذلك على خلفيته الأيديولوجية المرتبطة بتعليمه وعمله بإرسالية بازل، والتي ساهمت في تشكل بعض أفكار “ريندورف” حول التاريخ واللغات الإفريقية والتقدم والأمة.
في مناقشة التأثير الأوروبي بشكل عام وإرسالية بازل على وجه الخصوص، تبنَّى “ريندورف” الأفكار بشكل انتقائي، فقد كانت لديه دوافعه وأجندته وأهدافه الأيديولوجية. لِمَ لا؟ وقد نشأ منذ نعومة أظافره في أجواء ساحل الذهب في القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أنه مشروط بأفكار عصره الأوروبية منها والإفريقية على حد سواء، لكنَّ تاريخه يكشف بوضوح عن تحرُّره واستقلاله الفكري.
ويُعتبر تاريخ “ريندورف” إنجازًا فكريًّا فريدًا؛ نظرًا لأنه يكشف عن استخدامه لأساليب مبتكرة باستقلال فكري ساعده على تكييف الأفكار بشكل انتقائي من التأريخ والفلسفة الغربية، إلى جانب انتقائيته للمفاهيم المحلية من خلال التاريخ والفلسفة واللغة. واستطاع “ريندورف” نسج كل هذه الخيوط لإخراج شيء مختلف وجديد تمامًا في ذلك الوقت.
واستطاع كذلك أن يتحرّر من جميع القيود التي كانت من الممكن أن تجعل من عمله نمطيًّا، لكنَّه في الأخير اتَّسم بـ”الابتكار” و”الاستقلال” و”التكيّف الانتقائي”. فغالبًا ما كان يتم وصف “ريندورف” بأنه “عنيد” أو “متشبث برأيه”، وهو مؤشّر واضح على شخصيته وثقته بنفسه التي أكسبته الروح النقدية، وهو ما ظهر من خلال رفضه الالتزام بقواعد وتعاليم “إرسالية بازل”.
والباحث في أيديولوجية “إرسالية بازل” يجد أنها كانت متجذرة في مذاهب الإصلاح البروتستانتي. فهي جمعية مسيحية تنصيرية مقرها “سويسرا” قامت بإحضار أفكارها وممارساتها إلى “ساحل الذهب”. واعترف “ريندورف” لاحقًا أنه تأثر كثيرًا بتوجه الإرسالية الساعي إلى تطوير مجتمعات حرفية وزراعية مسيحية قائمة على النظام الأبوي للمستوطنات الريفية في ساحل الذهب. وهو ما انعكس على أفكار “ريندورف” حول اقتصاد ساحل الذهب في أواخر القرن التاسع عشر، والذي عبّر عنه في كتابه التاريخي بقوله: “إن الطبقات التي تلقت تعليمًا أدبيًّا، عملت دون قصدٍ على إهمال الزراعة، هذا النشاط الذي بتطوره تتعاظم ثروات الدولة”.
وتساءل متعجبًا: “أليست الزراعة هي أمّ الحضارة؟ وهي العمود الفقري للثروة الوطنية، ونوع مختلف من فروع الصناعة البشرية التي ظهرت فيما بعد في العالم المتحضر؟ فإذا امتنع شعبنا عن هذا العمل بحجة التعليم، فهل هذا هو التحضر الذي نسعى للوصول إليه؟ وهل يمكن أن نتحدث عن الحضارة، في حين أن الثروات والموارد الحقيقية لمثل هذا البلد الغني الرائع لا تزال مدفونة في باطن الأرض؟ إلى جانب النيران التي تلتهم في كل عامٍ العشب الذي تبلغ مساحته آلاف الأفدنة من أراضينا العشبية، والذي قد يؤدي إلى فقدان ثرواتنا من الماشية؟ كل هذا وغيره يدفعنا إلى نقد الذات، والتخلي عن الفكرة الزائفة للحضارة التي تم تصدريها لنا، لذا فإن التحول إلى أرضنا الغنية، والعمل بأيدينا يجب أن يصبح غايتنا المنشودة”.
وفي السياق ذاته تركت “إرسالية بازل” أثرًا سلبيًّا على “ريندورف”، فقد كان الفصل العنصري والتوزيع غير المتكافئ للسلطة بين المنصرين الأوروبيين وشركائهم الأفارقة المرؤوسين محل نقاش منذ ستينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا. لذا فإن الدافع لاستقالة “ريندورف” من خدمة الإرسالية في سنة 1862م جزئيًّا هو إحباطه من الخضوع للمنصرين الأوروبيين الذين كانوا أصغر منه سنًّا وأقل خبرة.
وعندما اشتد الانقسام العِرْقِيّ، وانتقد الأوروبيون بشكل متزايد الزواج المختلط والتفاعل الاجتماعي بين الأفارقة والأوروبيين في ثمانينيات القرن التاسع عشر، علّق “ريندورف”: “حينما لم تكن السيدات الخلاسيات متعلمات بشكل صحيح في السنوات السابقة، قام آباؤهن ببيعهن إلى الرجال البيض؛ لكنهم في الوقت الحاضر أصبحوا يمتلكوا مقومات شخصية تجعلهم قادرين على اختيار رجال من بلدهم بدلاً من هؤلاء المستهزئين”.
هذا التوجه الفكري عند “ريندورف” كان سمة بارزة لمعاصريه من النُّخبة المثقفة من الأفارقة تجاه الموقف الأوروبي المتشدد للقِيَم الإفريقية؛ حيث أكدت النخبة على القيم الإفريقية بجانب تطوير وعي جديد للهوية والتاريخ الإفريقي.
في حين أن بعض المنصرين الأوروبيين، وإرسالية بازل، ومعظم المسؤولين البريطانيين نظروا إلى طريقة الحياة الإفريقية على أنها انعكاس للظلام الروحي الذي انغمس فيه السكان الأصليون ومارسوا العبودية فيما بينهم، وأرجعوا ذلك إلى نصوص توراتية تصف “السود بأبناء حام الملعونين”.
لكن تجدر الإشارة إلى أن الادعاء بأنَّ إفريقيا مارست العبودية قبل مجيء الرجل الأبيض هو ادّعاء صحيح، لكنّ الاحتجاج به باطل، فقد كانت العبودية المحلية أكثر اعتدالاً ومُورِسَتْ في شكل من أشكال الأبوية نسبيًّا، ولا يمكن مقارنتها بأهوال تجارة الرقيق الدولية عبر المحيط الأطلسي والعبودية الأمريكية، والتي ادعت باطلًا “بانحطاط ودونية العرق الأسود”.
وانطلاقًا من توجهات “ريندورف” الفكرية سيتم إلقاء الضوء على كتابه “تاريخ ساحل الذهب والأشانتي” للوقوف على طبيعته، وهدفه، وموضوعه، ومنهاجيته، وأوجه القصور فيه من خلال السطور التالية:
1- طبيعته وهدفه:
إن مفهوم “ريندورف” للتاريخ يتميز بالحداثة، فهو بالأساس نتاج عصره. لذا فهو يُعرّف التاريخ على أنه “سرد منهجي للأحداث التي أثَّرت على أمة أو شعب، وأنه اكتشاف، وجمع، وتنظيم، وعرض، وتفسير المعلومات حول هذه الأحداث، مما يساعد في فهم مسار التاريخ لأي أمة”.
لذلك، لم يكن التاريخ بالنسبة له مجرد وقائع للأحداث. لكنه ينطوي على معالجة “منهجية” لهذه الأحداث. كذلك لم يكن مجرد تمرين أو عمل أكاديمي يسعى لاستيفائه. ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال انتفاء نفعية الغرض بقدر ما يرتبط بمسعاه الحثيث بتطوُّر ونهضة الأمة التي ينتمي إليها. ومن هنا جادل بأن “الأمة التي لا تمتلك تاريخًا هي أمة ليس لها ممثلون حقيقيون يعبّرون عن مراحل تطوّرها، سواء كانت في حالة تقدّم أو تراجع”.
ويوسع هذه الحجة حين يصف التاريخ بذاكرة الأمة وسجلها الأرشيفي الذي يكشف عن شكلها الحقيق ومكانتها: “تاريخ الأمة هو ذاكرتها وسجلها الأرشيفي، والذي يمكن من خلاله استدعاء الماضى واستحضاره لتفسير كثير من الأمور الطارئة؛ بحيث يمكن مقارنة الماضي بالحاضر لمعرفة ما إذا ما كان هناك تقدّم أو تراجع قيد التنفيذ؛ وبوصفه وسيلة للحكم على أمتنا مِن قِبَل الآخرين، يمكن الاستفادة من دروس الماضي لاستشراف آفاق المستقبل. فالأمة التي لا تملك تاريخًا يحكي ماضيها، لن تستطيع التقدم والبناء نحو المستقبل”.
هذا المفهوم المحدّد بوضوح لطبيعة التاريخ والغرض منه، جاء نتاجًا لظروف عصره بهدف تبرير مقاربته الخاصة لتاريخ وطنه. في مواجهة التفسير السائد للنظرية الدارونية حول دونية ما يسمى بالأعراق المظلمة والتي وفقًا للخيال الشعبي الغربي ليس لها تاريخ. لذا شعر “ريندورف” بحاجة واعية ومُلِحَّة لكتابة تاريخ هادف وأصيل ومُعبِّر عن شعبه.
2- موضوع الكتاب
عبَّر “ريندورف” عن موضوع الكتاب في مقدمته؛ حيث أوضح اهتمامه بكتابة سرد وطني لتاريخ شعبه. وأعلن بشكل قاطع أن الهدف الوحيد من هذا المنشور: “هو لفت انتباه جميع أصدقائي وأبناء وطني، إلى دراسة وجَمْع تاريخنا، ووضع الأساس لمستقبل أكثر إشراقًا لوطننا”.
كما لفت الانتباه إلى الإهمال المزعج لتقاليد الشعب: “هذه التقاليد التي شعر أجدادنا أنهم ملزمون بالحفاظ عليها ونقلها من جيل إلى جيل”، في وقت ذهبت فيه جماعة من النُّخْبَة الإفريقية المثقفة إلى الاستهانة بالمؤسسات والثقافات التقليدية لشعوبها. ومن سمات “ريندورف” الشخصية يتضح أنه لم يتأثر فقط بالبيئة الثقافية التي نشأ فيها، بل كان على ما يبدو مُدْرِكًا للمفاهيم السلبية للدائرة الفكرية الأوروبية المتعلقة بالتاريخ الإفريقي الأصلي. وانطلاقًا من رغبته في مواجهة هذه التحديات إلى حدّ كبير، شرع في المهمة الوطنية التي فرضها على نفسه لإنتاج كتاب للتاريخ، والذي في رأيه من دونه تصبح أيّ أمة مُعرَّضة للتقلُّص والانكماش. وهكذا، مثل “صمويل جونسون”، كان دافع “ريندورف” للكتابة وطنيًّا بحتًا.
3- التأليف
فيما يتعلق بمسألة التأليف، كان “ريندورف” يؤيد بشدة الرأي القائل بأنَّ تاريخ بلاده لا يمكن كتابته بشكل صحيح إلا مِن قِبَل باحث من بين السكان الأصليين. مثل هذا الباحث يجب أن يكون على دراية جيدة بتقاليد الشعب، ليس هذا فحسب؛ بل يجب أن يكون مستعدًّا أيضًا للكتابة بروحٍ “وطنية حقيقية وصادقة”. وأكَّد أن الأجانب ليس لديهم معرفة وثيقة بالشعوب الإفريقية، ولا وسائل اكتسابها للعادات والتقاليد. لذا فإن هذه الإشكالية المنهجية التي تواجه المؤلفين الأجانب، بالإضافة إلى افتقارهم إلى فَهْم واضح للشعب ستجعل تقاريرهم عديمة القيمة: “كما هو الحال مع العديد من تقارير ساحل الذهب المنشورة بالفعل”.
فبحسب تقدير “ريندورف”: “لا يمكن توقُّع تاريخ حقيقي قام على تدوينه ثُلة من المؤلفين الأجانب”؛ حيث لا يستطيع كتابة تاريخ “حقيقي” سوى السكان الأصليين الذين انخرطوا في تقاليد الشعب، إلى جانب امتلاكهم فضيلة حب الوطن. هذا التركيز على الوطنية والإدراك القومي وليس السطحي للتقاليد المحلية، يُشكّل أساسًا نظريًّا رئيسيًّا لظهور جيل من الباحثين الإفريقيين بطروحات حديثة. يمكن اعتبار تاريخه تطبيقًا عمليًّا بوصفه أحد العوامل المسؤولة عن الثورة التاريخية لغرب إفريقيا التي بدأت مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث تم التركيز على كتابة الأفارقة للتاريخ الإفريقي من منظور إفريقي، وليس من منظور أجنبي، مع تقدير كامل لتطلعات وقِيَم الشعب.
ومع ذلك، فإن تأكيد “ريندورف” على الوطنية قد يواجه نقدًا؛ حيث إن الاتجاه الوطني في كتابة التاريخ يمكن أن يحجب “الموضوعية” ويؤدي إلى الشوفينية. لكن على المرء أن يتذكر أن مزالق التاريخ المكتوب من منظور الأجانب ليست مجرد تجربة بشرية متعددة الأوجه، بل هي أسوأ من “نقاط الضعف” المحتملة في كتاب من منظور وطني. على أيّ حال، كان “ريندورف” مدركًا تمامًا لضرورة أن يتبع المؤرخ إجراءات تحليل “منهجية” أو “علمية”.
4- المنهجية
تُعتَبر منهجية “ريندورف” في كتابه واحدة من أكثر الجوانب تميزًا في عمله؛ حيث ساهمت بشكل كبير في نمو التأريخ الحديث لغرب إفريقيا. وأكثر ما ميّز هذه المنهجية هي الدقة المتناهية؛ والتي تنوعت باستخدامه ثلاث فئات من المصادر: التقاليد الشفوية، وتقارير شهود العيان، والمواد المكتوبة.
ومع بداية العقد الثاني من القرن العشرين بدأت الأعمال التي تعتمد على التاريخ الشفوي تبرز بشكل كبير كمنهج لدراسة التاريخ، ثم سرعان ما وجدت صدًى لدى المؤرخين في خمسينيات وستينات القرن الماضي. حيث أصبحت مصدرًا مهمًّا بجانب المصادر الأخرى، بل وأكثر أهمية في بعض الحالات التي يغيب فيها المصدر المكتوب بشكل تامّ. لكن في النهاية يأتي “ريندورف” كرائد في استخدام التاريخ الشفوي الإفريقي؛ متأثرًا بشكل كبير بالبيئة الثقافية التي نشأ فيها.
أمضى “ريندورف” ما يقرب من ثلاثين عامًا في جمع مصادره التاريخية. حيث قضى اثنتين من هذه السنوات تحت أقدام جدتهCkako Asase ، والتي تلقَّى منها دروسًا في “التقاليد الأصلية” الحقيقية. وعملاً بسياسته المتمثلة في التقييم النقدي لمصادره، أجرى مقابلات مع أكثر من مائتي شخص آخر من كلا الجنسين: “قارن رواياتهم بعناية من أجل الوصول إلى الحقيقة”.
كان مدركًا تمامًا لضرورة الاسترشاد بجميع المصادر المكتوبة المتاحة، ليس أقلها التحقق من مسائل التواريخ والتسلسل الزمني. استرشد كذلك بجميع الصحف الدنماركية المتاحة التي تمت ترجمتها إلى الألمانية خصيصًا له مِن قِبَل القس “شتاينر” P. Steiner. بالاضافة إلى استفادته من أعمال الرحّالة الأوروبيين مثل “ويليام سوسمان” William Sosman و”توماس بوديتش” Thomas Bowdich، والتي اعترف بها جميعًا بسخاء. ومن اللافت للنظر أنه حُرم من الوصول إلى سجلات الحكومة الاستعمارية البريطانية التي قال عنها: “كانت ستزوّدني بالتواريخ الصحيحة والمعلومات الجوهرية”.
وبالتالي، من أجل الاستخدام الفعَّال للتقاليد الشفوية التي تم غربلتها بشكل كامل، ومقارنتها بعناية مع السجلات المكتوبة وتقارير شهود العيان، استطاع “ريندورف” إثبات نفسه كباحث جاد ورائدًا للتاريخ الشفوي في غرب إفريقيا. في وقت لاحق اكتسب “جان فانسينا” (1920-2017م) Jan Vansina سمعة باعتباره عالمًا متخصصًا في التأريخ الإفريقي، ويرجع ذلك إلى أنه استطاع أن يثبت للعلماء الغربيين الأهمية الحاسمة للتقاليد الشفوية كمصدر لا يُقدَّر بثمنٍ للتاريخ الإفريقي. لذلك، فإن “روبرت جولي” Robert July كان محقًّا تمامًا عندما رأى أن “ريندورف” استخدم التقاليد الشفوية والأساطير الإفريقية كواحدة من النقاط الرئيسية التي رسَّخته كأحد مؤسسي مدرسة إفريقية جديدة للدراسات التاريخية.
5- المنظور الإفريقي للتاريخ
من المؤكَّد أن أحد أهم الانطباعات التي يمكن أن يتركها كتاب “ريندورف” في ذهن القارئ هو جهد المؤلف المتعمد لتقديم منظور إفريقيّ للتاريخ. إنَّ مجرد إلقاء نظرة على جدول المحتويات يكشف بوضوح تام أن “ريندورف” كان مهتمًّا بشكل أساسي بكتابه بوصفه سجلًا أرشيفيًّا لذاكرة شعبه. واللافت أن التلاوة التقليدية لما فعلته أو لم تفعله بعض الوكالات الخارجية كان مفقودًا في تاريخه. فمن الواضح أنه كان يتعمد هذا النهج في كتابة تاريخه، فقد أوضح “ريندورف” أن أنشطة الحكومات الأوروبية وسياساتها المختلفة و”علاقاتها مع سكان ساحل الذهب” لم تكن موضوعًا لاهتمامه المباشر، بل لمزيد من التحقيق مِن قِبَل المؤرخين الآخرين.
ولا يمكن المبالغة في التأكيد على أهمية هذه السياسة المتعمدة للكتابة عن إفريقيا، بالنسبة للأفارقة ومن وجهة النظر الإفريقية، في تطور التأريخ لغرب إفريقيا في العصر الحديث. أكد معظم الباحثين الأجانب في حقبة ما بعد “ريندورف” بشكل عام على منظور “المركزية الأوروبية” للتاريخ الإفريقي. ومع ذلك، حاول الجيل الحالي من العلماء الأفارقة تصحيح هذا الخلل من خلال إعطاء الأهمية الواجبة لـ”المركزية الإفريقية” من خلال محاولة “إضفاء الطابع الأصلي” على التاريخ الإفريقي. وبذلك يتَّضح أن المؤرخين الأفارقة المعاصرين يتبعون المسار الذي رسمه “ريندورف”.
وتُظهر عدة أقسام من كتابه اهتمامه المتعمد بتصوير الأحداث من خلال عيون شعبه. كان أحد أكثر هذه المقاطع لفتًا للنظر هو وصف الاجتماع الأول للملك ” فايرمبونج” Firempong مع زائر أوروبي؛ حيث قام باقتباس كامل للحوار الذي دار بينهما. فعندما رأى “فريمبونج” ملك “أكيم كوتوكو” Akyem Kotoku أول زائر أوروبي له، “اعتقد أنه الشيطان”.
6- أوجه القصور
على الرغم من الفوائد الهائلة التي قدَّمها تاريخ “ريندورف”، يبقي هناك عدد من النواقص والقصور التي لم تكن متوقعة في عمل بحثي بقيمة هذا الكتاب. كان أكثرها وضوحًا، حتى بالنسبة للقارئ العادي، هو تحيُّز المؤلف غير المقنع ضد “الأشانتي”. مُظْهِرًا ميوله بشكل كبير لقوميته المتمثلة في مملكة “جا”، والتي وصفها بأنها أول مملكة في ساحل الذهب بأكمله. وادعى أن أسلافهم لم يأتوا مثل الآخرين “من الساحل”، ولكنهم أتوا من مصر. ووصف دينهم بالعديد من السمات التي ادعى أنها تشبه اليهودية والعبرانية التي كانت في اعتقاده علامة على التفوق. وبأنهم لم يكونوا فقط الدولة الإفريقية الأكثر تقدمًا فيما يتعلق بالدين، بل امتلكوا أرقى صفات الشخصية. فعلى حد تعبيره: “من الطبيعي أن [أكرا] معتدلة وغير معتدية، وفي الوقت نفسه لا يمكن هزيمتها، فهي مستقلة ويصعب التحكم فيها. فأينما ذهب أي رجل من [أكرا]، فإنه لا يحظى بالاحترام فقط بسبب مكانته الطبيعية، ولكن أيضًا بسبب قدراته وسماته الشخصية”. وفي المقابل كانت وجهات نظره حول شعب “فانتي” أقل تحيُّزًا، في الوقت الذي أظهر تعصبًا تجاه “الأشانتي” بحجة أنه كان يحاول تعقُّب حالات “الاستبداد الهمجي” لأشانتي وممارستها الدموية”.
لكن “فاج” J. D. Fage جادل بأن عمل “ريندورف” لا يمكن اعتباره وصفًا “شاملًا” لـساحل الذهب وأشانتي بسبب توجهه المزعوم إلى “جا”، وهو نقد قاسي بشكل غير ملائم؛ حيث إن ميل “ريندورف” لتقاليد “جا” يمكن تجاوزه إذا ما تم النظر إلى كتابه بنظرةٍ شمولية. ويمكن بالتحليل المفصل إدراك أن حوالي ثلث الكتاب فقط مخصص لشؤون “جا”، بينما تم تعيين ما يقرب من نصف الكتاب لأشانتي. وبالمثل، لم يتجاوز اعتماده على المصادر من مادة “جا” لأكثر من النصف.
ومن أوجه القصور الأخرى في العمل، والتي يجب الإشارة إليها ولو بشكل عابر لأهميتها؛ أن تركيز المؤلف على بعض التفاصيل التي أوقع نفسه فيها، مما أغرق قراءه في مستنقع من أسماء الأفراد والأماكن التي لا طائل منها، أعطى انطباعًا بأنه لا يستطيع فصل البيانات ذات الصلة عن غير ذي صلة.
ولمن يتمعن في عمله التاريخي يستطيع أن يستشعر شغفه بالسببية؛ ولأنه في الأساس كان قسيسًا، فقد تبنَّى نظرية التفسير الديني أو العناية الإلهية التي يرى أصحابها أن وقائع التاريخ وأحداثه تخضع للمشيئة الإلهية، ومِن ثَمَّ فلا مصادفة فيها؛ حيث تُنكر هذه النظرية القول بالمصادفة؛ ذلك لأن المصادفة لا تعني إلا العبث والفوضى. ويظهر هذا التبنّي من خلال تكراره لـ”العناية الإلهية” و”اليد الإلهية” كتفسيرات تاريخية لكثير من القضايا التي تناولها في كتابه.
تناقض آخر يظهر في تعامله مع الأجانب في سرده؛ ففي الوقت الذي يُدين فيه الدنماركيين بأنهم لم يفعلوا شيئًا من أجل شعب أكرا خلال فترة حكمهم الطويلة، بينما في موضع آخر يبالغ في الثناء على كل إنجازاتهم الدينية والاجتماعية في أكرا. وفي مرحلة ما، ألقى باللوم على القوى الأوروبية؛ بحجة أنها المتسببة الأولى لكل الحروب الداخلية في البلاد. وفي وقت لاحق، ينقل هذا اللوم بشكل مباشر إلى أشانتي “المتعطشة للدماء”. وبينما يقوم بالترحيب بالانفتاح على التعليم الغربي والمسيحية، يدعو في الوقت نفسه إلى الحفاظ على الثقافة الأصلية ضد التغريب الجامح. وهكذا غرق “ريندورف” في كثير من التناقضات، والتي بغيابها لن يتأثر العمل كثيرًا.
هذه النظرة المتناقضة، وهذا الانفصام الفكري الذي كان ثمة أساسية في نظرة “ريندورف” تجاه الأوروبيين كانت نموذجًا لمعاصريه من النخبة الإفريقية المتعلمة. فإن ميلهم إلى المسيحية والتعليم الغربي والتكنولوجيا جعلهم متهمين بأنهم وكلاء الاستعمار في إفريقيا. وهو ما يظهر من خلال كتابة “ريندورف” لقصيدة شعرية يعبّر فيها عن ترحيبه للاستعمار البريطاني. ومع ذلك، ظل “ريندورف” صريحًا في حملته للحفاظ على الثقافة الأصلية ضد التحرر الأوروبي مطالبًا الإفريقيين بالاعتماد على الذات.
هذه التعليقات التي تم ملاحظتها كأوجه قصور في عمل “ريندورف” مثل عنصر التحيز، والعامل الإلهي في التاريخ، والتناقض تجاه الوجود الأوروبي، وكذلك حالات التناقضات الجدلية، لم يتفرد بها، لكنها كانت موجودة في كتابات قادة الفكر الإفريقي الآخرين في القرن التاسع عشر؛ مثل “صامويل جونسون” Samuel Johnson، و”أفريكانوس هورتون” Africanus Horton، و”سيبثورب” A.B.C. Sibthorpe، و”السير آرثر لويس” Sir Arthur Lewis، و”جون منساه ساربا” John Mensah Sarbah، إلخ. وبالرغم من أن معظمهم من رواد الفكر الإفريقي الحديث، إلا إنَّهم كانوا كذلك نتاج بيئتهم وأزمانهم الخاصة. وعلى أيّ حال، فإن هذا القصور والتناقض لا ينتقص بأيّ حال من الأحوال من قيمة إطروحة “ريندورف”. وتجدر الإشارة أن “ريندورف” نفسه كان متواضعًا جدًّا في تقييم مساهماته؛ حيث رأى أن عمله يشكل مصدرًا أساسيًّا يمكن لعلماء المستقبل استخدامه لكتابة تاريخ “كامل” ومفصل بشكل أوسع عن “ساحل الذهب”.
رابعًا: الدلالات الفكرية لـ”ريندورف”:
كان تأثيره على تطور الفكر والتأريخ الغاني الحديث والوعي القومي أكثر مما تمَّ الاعتراف به بشكل كافٍ، ويضع “ديفيد كيمبل” (1921-2009م) David Bryant Kimble “ريندورف” ضمن القوميين الأوائل، ويصفه بأنه “أول مؤرخ إفريقي” لساحل الذهب؛ نظرًا لمكانته المرموقة بين القوميين الإفريقيين.
أصبح عمله كذلك مصدر إلهام داخل الأوساط القومية الإفريقية. في عام 1930م، أشار “دانقوا” (1895-1965م) J.B. Danquah إلى أن “ريندورف” له “دَيْن في رقابنا جميعًا لا يُقدَّر بثمن”. كما أقرّ غالبية الجيل الحالي من المؤرخين الأكاديميين الغانيين مثل “البرت ادو بواهن” (1932-2006م) Albert Adu Boahen و “فرانسيس أجبوديكا” Francis Agbodeka و”جون كوفي فين” John Kofi Fynn و”كوامي داكو” Kwame Y. Daaku وما إلى ذلك بمساهمات “ريندورف”، واستعانوا بعمله كنقطة انطلاق لدراساتهم الأكثر تخصصًا.
اعتمد كذلك العديد من الكُتّاب الأوروبيين على تاريخ “ريندورف” كمصدر لكتاباتهم وأبحاثهم عن “ساحل الذهب”. منهم على سبيل المثال “جورج ماكدونالد” George MacDonald و”وليام كلاريدج” William walton claridge و”هاركورت فولر” Harcourt Fuller، لسبب أو لآخر، لم يرَ هؤلاء أنه من الضروري الاعتراف الكامل لتاريخ “ريندورف” ومساهماته في إخراج أعمالهم، ومع ذلك، فإن آخرين مثل “روبرت ساذرلاند راتراي” Robert Sutherland Rattray و”ويلمان” C. W. Welman، ومؤخرًا “إيفور ويلكس” Ivor Wilks، لم يكن لديهم أي تردُّد في الإشادة بإسهامات “ريندورف” في تطوير التأريخ الغاني، بل وغرب إفريقيا فعليًّا.
لذا يحتل تاريخ “ريندورف” مكانة خاصة في تاريخ غرب إفريقيا، فقد استطاع أن يرسم باحترافية صورة ملونة وحيوية للأحداث التاريخية، مقدِّمًا صياغة معبّرة عن وجهة النظر الإفريقية؛ ليمنح بعمله نموذجًا لقدرة الإفريقي على تشكيل التاريخ بنشاط، في تناقض ملحوظ مع آراء أسلافه الأوروبيين ومعاصريه.
كان سابقًا لعصره حين توقَّع أساليب منهجية للتاريخ أصبحت شائعة في حقل التأريخ الإفريقي مع بداية خمسينيات القرن الماضي، لا سيما في لفت الانتباه إلى الأشكال المختلفة للفن اللفظي (على سبيل المثال: الأغاني والأمثال وإشارات البوق والطبل) كمصادر للتحقيق في الماضي، وفي متابعة نهج متعدد التخصصات يشمل علم الأعراق واللغويات. وبالتالي فإن تاريخ “ريندورف” هو مصدر مهم لدراسة الأفكار التأريخية لمفكر إفريقي في الوضع الاستعماري.
لكن “ريندورف” لم يكن مجرد جامع للمواد الأرشيفية بجهدٍ شاقّ، لكنه كان مبتكرًا للأرشيف ذاته؛ ذلك لأن العلماء المعاصرين رأوا تاريخه يقدم ثروة وأصالة منقطعة النظير للسرد الشفوي. حيث جمع “ريندورف” العناصر التاريخية المتنوعة معًا لتشكيل شيء جديد وفريد من نوعه في ذلك الوقت، صحيح أنه لم يكن نسخة طبق الأصل من الأفكار الأوروبية القديمة ولا نسخة تشبه إلى حدٍّ كبير الأفكار الأوروبية “الحديثة”. لكن مصطلحات مثل “التركيب” أو “التوفيق” أو “التكيف” تفشل في تفسير الطابع الفريد لتاريخ “ريندورف”، إلى جانب نطاق عمله من الأساليب المنهجية المبتكرة لإعادة بناء الماضي. فقد استطاع “ريندورف” أن يبني جسرًا منهجيًّا يربط بين النماذج العلمية الأوروبية المعاصرة والفكر التاريخي الإفريقي. فقد رفض التخلي عن طرق التفكير حول الذات وطريقة الحياة الإفريقية، في الوقت الذي قام بشكل انتقائي بتخصيص الأفكار وأسلوب الحياة الأوروبية وفقًا لأولوياته واهتماماته.
وفي الأخير لم يفقد “ريندورف” العنيد السيطرة على فهمه الخاص حول أفضل السبل لإعادة النظر إلى الماضي وتفسيره وأفضل السبل لذلك. لكنه استطاع أن يدير الحاضر ويؤطّر لرؤيته الخاصة حول المستقبل. كما أظهرت صراعاته مع أرباب العمل في ستينيات القرن التاسع عشر قدرته على الاختيار بين ما يقبله وما يرفضه من القيم والأشكال المفروضة على العمال الإنجيليين الأفارقة مِن قِبَل المنصرين الأوروبيين.
وختامًا:
فإن المكونات الأساسية للمعرفة التاريخية الحديثة لغرب إفريقيا باتت مألوفة تمامًا، ليس أقلها لممارسي هذه الحرفة من الباحثين الإفريقيين، بُغْيَةَ الالتزام بكشف الماضي الإفريقي؛ لذا فقد سعى “ريندورف” إلى استخدام التقاليد الشفوية وغيرها من المصادر التي يجب التعامل معها بطريقة “علمية” شاملة؛ لتفسير الأحداث كقصة دراما إفريقية حقيقية أكثر من كونها مجرد تقارير لوكالات أجنبية داخل بيئة إفريقية سلبية. وحسبما أشار تحليلنا أعلاه فإن “ريندورف” قد توقّع وحدّد بوضوح معظم المكونات الأساسية للمعرفة التاريخية. وعلى الرغم من أن هذه الدراسة قد ركَّزت على “ريندورف” كمفكّر ومؤرخ، إلا أن هذا لا ينبغي أن يثير الانطباع بأنه كان المسؤول الوحيد عن تطوير التأريخ الحديث لغرب إفريقيا. فلا يمكن إهمال كتابات سابقيه ومعاصريه، وكتابات المؤرخين المحليين العديدين، وكتابات جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية من المؤرخين الأكاديميين. لكن يبقى “ريندورف”، إلى حد كبير رائدًا للتاريخ الإفريقي في القرن التاسع عشر.
_______________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Brizuela-Garcia, Esperanza. “Literacy and the decolonization of Africa’s intellectual history.” History in Africa 38 (2011): 35-46.
Hauser, Heinz. “Tradition meets Modernity: CC Reindorf and his History of the Gold Coast and Asante A late 19 th century voice from urban Accra.” Transactions of the Historical Society of Ghana 8 (2004): 227-255.
Hauser-Renner, Heinz. ““Obstinate” Pastor and Pioneer Historian: The Impact of Basel Mission Ideology on the Thought of Carl Christian Reindorf.” International Bulletin of Missionary Research 33.2 (2009): 65-70.
Hauser-Renner, Heinz. “Examining Text Sediments–Commending a Pioneer Historian as an “African Herodotus”: On the Making of the New Annotated Edition of CC Reindorf’s History of the Gold Coast and Asante1.” History in Africa 35 (2008): 231-299.
Jenkins, Ray. “Impeachable Source? On the Use of the Second Edition of Reindorf’s History as a Primary Source for the Study of Ghanaian History-I.” History in Africa 4 (1977): 123-147.
Jenkins, Ray. “Impeachable Source? On the Use of the Second Edition of Reindorf’s History as a Primary Source for the Study of Ghanaian History-II.” History in Africa 5 (1978): 81-99.
Omosini, Olufemi. “CARL CHRISTIAN REINDORF: HIS CONTRIBUTIONS TO, AND PLACE IN THE DEVELOPMENT OF MODERN WEST AFRICAN HISTORIOGRAPHY.” Journal of the Historical Society of Nigeria 10.2 (1980): 71-86.
Peel, John D. Y. “2. Two Pastors and Their Histories: Samuel Johnson and CC Reindorf.” Christianity, Islam, and Orisa-Religion. University of California Press, 2015. 38-51.
Reindorf, Carl Christian. History of the Gold Coast and Asante, Based on Traditions and Historical Facts: Comprising a Period of More than Three Centuries from about 1500 to 1860. The author, 1895.
Sosu, E. S. (2016). Echoes of the Past Resurface In the Present: A Thread in the Intellectual History of Ghana. Echoes, 53.