منذ أكثر من نصف قرن، جادل “جورج شيبرسون” George Shepperson، حين حاول دراسة علاقة إفريقيا بالشتات الأسود؛ بأن “التبادل الفكري والسياسي” كان ولا يزال موجودًا بين الإفريقيين والأمريكيين من أصل إفريقي. وخلُص “شيبرسون” في نهاية المطاف إلى “أن الأمريكيين الزنوج.. لعبوا دورًا كبيرًا من الناحية الأيديولوجية في ظهور القومية الإفريقية داخل إفريقيا”. وهذا راجع إلى تبادل المناظرات والمنظمات والمؤسسات والتحريض القومي المشترك بينهم وبين المفكرين الإفريقيين داخل إفريقيا، وظهر هذا التأثير بشكل خاص في أواخر القرن التاسع عشر وحتى عشرينيات القرن الماضي.
وحدَّد “شيبرسون” اسم “جون إدوارد بروس” (1856-1924م) John Edward Bruce، كأحد أبرز الأسماء الرائدة في هذا المجال، “بروس” كان مؤرخًا ومُدرِّبًا ذاتيًّا، وصحفيًّا، وناشطًا في الحزب الجمهوري، وهو كذلك السكرتير الشخصي لـ”ماركوس جارفي” (1887-1940م) Marcus Garvey، وقد ارتبط اسمه بتبادل الأفكار بين روّاد الفكر الإفريقي داخل إفريقيا وروّاده في الشتات. ومع ذلك، كان “بروس” -من وجهة نظر “شيبرسون”- هو: “المفكّر الأسود الأكثر إهمالًا بين المفكرين الأمريكيين من أصل إفريقي”؛ حيث تمَّ تحييده إلى حدّ كبير بحجة أنَّه يُمثّل مظهرًا بسيطًا من مظاهر القومية السوداء، وبأنَّ دوره في الصحافة السوداء الراديكالية كان هامشيًّا، وبأنَّه كذلك عنصر ثانويّ في “الجارفية” Garveyism، والمواضيع المختارة في الثقافة والحياة الفكريَّة الأمريكيَّة الإفريقيَّة”.
لذا تسعى هذه الدراسة إلى إعادة التقدير التاريخيّ لمُفكِّر أمريكي من أصل إفريقيّ تم إهماله، وهو “جون إدوارد بروس”، والذي لمست حياته معظم الشخصيات الإفريقية والأمريكية من أصل إفريقي في عصره. فقد مثَّلت حياة “بروس” حياة الجيل الأول من العبيد السابقين الذين نضجوا في عالم “الحرية”، وحاولوا لسنوات بناء مركزية لـ”القومية الزنجية” من خلال مؤسسات وأيديولوجيات في الربع الأول من القرن الماضي.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية لـ”بروس”:
كان “بروس” رجلاً طَمُوحًا، ذا بشرة بُنِّيَّة داكنة، يبلغ طوله أقل بقليل من ستة أقدام، وله شارب بارز، وعينان ثاقبتان، وشخصية واثقة بين أقرانه. وصَفَه كاتب سيرته الذاتيه بأنه: “أمير المراسلين الأفرو-أمريكيين”. فقد كانت مقالاته معروفة على نطاق واسع داخل المجتمع الأسود، والتي استطاع من خلالها جَذْب انتباه قرائه من البيض والسود على حدٍّ سواء. كما كان ناشطًا في المحفل الماسوني لـ”برنس هول” Prince Hall Freemasonry، و”الرابطة الأفرو-أمريكية” Afro-American League، و”كنيسة صهيون الأسقفية الميثودية الإفريقية” African Methodist Episcopal Zion Church، وكان عضوًا كذلك في “أكاديمية الزنوج الأمريكية” American Negro Academy، وهي منظَّمة تم تشكيلها بقيادة القس “ألكسندر كروميل” (1819-1898م) Alexander Crummell. كل هذه الإنجازات وغيرها كانت لعبدٍ سابق استطاع تطوير مواهبه الفكرية والسياسية والاجتماعية من خلال القراءة والسفر والاتصالات الشخصية والخبرة أثناء العمل.
وُلِدَ “جون إدوارد بروس” John Edward Bruce في العبودية في “بيسكاتواي” Piscataway بولاية ماريلاند Maryland سنة 1856م. وحينما بلغ عمره ثلاث سنوات، تم نقل والده إلى ولاية “جورجيا” Georgia وبيعه هناك، ممَّا دفَع الشابّ “بروس” ووالدته للهروب إلى “واشنطن” Washington العاصمة؛ خوفًا من فقدان بعضهما البعض، وهو ما ترَك عظيم الأثر في نفس “بروس” تِجَاه العبودية.
أقام “بروس” ووالدته “مارثا” Martha Bruce مع ابن عمها “بوسي باترسون” Busie Patterson، الذي كان حارسًا شخصيًّا للسيناتور عن ولاية “ميسوري” Missouri “توماس هارت بينتون” Thomas Hart Benton. وفَّرت هذه العلاقة مع أحد أعضاء الكونجرس من البيض الحماية اللازمة لعائلة “بروس”، وكذلك باتت فرصة سانحة لـ”بروس” للوصول إلى الوظائف داخل مجتمعات الطبقة العليا البيضاء. فقد حصلت “مارثا بروس”، على سبيل المثال، على وظيفة في ولاية “كونيتيكت” Connecticut، حيث عملت عن كثب مع عائلة بيضاء. وأثناء وجودها في ولاية “كونيتيكت”، التحق “بروس” بإحدى المدارس المتكاملة هناك، والتي تلقى فيها تعليمه الرسمي الأول. وبعد عودته إلى “واشنطن”، تلقَّى تعليمًا خاصًّا، ثم التحق بـ”جامعة هوارد” Howard University.
كان اتصال “بوسي باترسون” بالسيناتور مفيدًا بشكل كبير لانطلاق مسيرة “جون بروس” المهنية في الصحافة؛ حيث أصبح “بروس” مساعدًا في مكتب “نيويورك تايمز” New York Times وهو في سن الثامنة عشرة من عمره. وابتداءً من سنة 1879م أسَّس عددًا من الصحف في العاصمة “واشنطن” بما في ذلك “أرجوس الأسبوعية” The Argus Weekly (1879م)، و”عنصر الأحد” The Sunday Item (1880م) و”الجمهوري” The Republican (1882م). وأثناء تأسيس صُحُفه الخاصة، عمل “بروس” محررًا ومدير أعمال في “الكومنولث” Commonwealth، وهي صحيفة رئيسية في “بالتيمور” Baltimore بولاية “ماريلاند” Maryland.
وفي سنة 1884م عندما كان “بروس” يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، بدأ في استخدام اسم “بروس جريت” Bruce Grit في أعمدته الصحفية؛ حيث نمت سُمْعته كمُعَارِض شَرِس للتمييز العنصريّ، ومُؤيِّد للنهوض العرقيّ للأمريكيين من أصل إفريقيّ.
وفي سنة 1910م، عمل “بروس” مراسلًا لصحيفة “أفريكان تايمز” African Times و”أورينت ريفيو” Orient Review في “لندن” London. واستمر في استخدام اسم “بروس جريت”، ومِن ثَمَّ أصبح كاتب عمود منتظم في العديد من الصحف داخل “الولايات المتحدة” و”جزر الكاريبي” و”أوروبا” و”إفريقيا”.
برز اسم “بروس” كذلك كناشط في إلقاء المحاضرات؛ حيث تناولت خُطَبه الإعدام خارج نطاق القانون، وحالة السود في الجنوب، والنظام السياسي الأمريكي الضعيف الذي فشل في حماية حقوق مواطنيه السُّود. وفي سنة 1890م انضم إلى “الرابطة الأفرو-أمريكية” Afro-American League للناشط “توماس فورتشن” (1856م-1928م) Timothy Thomas Fortune، وهي أول مجموعة منظَّمة للحقوق المدنية السوداء في البلاد. والتي أصبحت في سنة 1898م في شَكْلها الجديد؛ “المجلس الإفريقي الأمريكي” Afro-American Council.
وفي عام 1911م، أثناء إقامته في “يونكرز” Yonkers، بولاية “نيويورك” New York، أَسَّس “بروس” “الجمعيَّة الزنجية للبحوث التاريخية” Negro Society for Historical Research. ومِن ثَمَّ قاده شغفه بالتاريخ الإفريقي في نهاية المطاف في عام 1919م إلى الانضمام إلى “ماركوس جارفي” Marcus Garvey وأفكاره القوميَّة الداعية للوحدة الإفريقية. ليصبح “بروس” بمثابة المرشد والموجّه لـ”ماركوس جارفي” وأحد أعضاء مؤسسته الناشئة: “الرابطة العالمية لتنمية الزنوج” Universal Negro Improvement Association.
هذا وقد تميز بمقالاته في صحيفتي “عالم الزنجي” Negro World، و”أوقات الزنجي اليومية” Daily Negro Times. وعلى الرغم من تدهور صحته، استمر في نشاطه وعمله. حيث كان يعمل في “هيئة ميناء نيويورك” Port Authority of New York حتى تقاعد في سنة 1922م. ليتوفى بعد ذلك بعامين، في مدينة “نيويورك” عن عمر يناهز ستة وستين عامًا.
ثانيًا: السياق التاريخي والفكري المعاصر لـ”بروس”:
مثلت الصحافة السوداء في القرن التاسع عشر إحدى وسائل الاحتجاج بشكل فردي ومنظم؛ حيث كانت البداية في سنة 1827م عندما بدأ “جون روسورم” (1799-1851م) John Russwurm و”صموئيل كورنيش” (1795-1858م) Samuel Cornish في إصدار مجلة “الحرية” Freedom في “نيويورك”. وبحلول الحرب الأهلية تم إصدار أربعين صحيفة سوداء.
تَمَثَّلَ هدف الصحافة السوداء قبل الحرب الأهلية في الدعوة إلى مناهضة العبودية. وبعد الحرب، دعت إلى التحرُّر، والمساهمة في إعادة بناء المجتمعات السوداء. وحين تنامى دورها، عملت بجدّ لتحذير الأمريكيين الأفارقة من الخطر الذي كان ينتظرهم نتيجة انتشار العنصرية.
وفي بداية القرن العشرين، ومع تطور التكنولوجيا، بدأ السكان السود في الانتقال شمالًا وغربًا إلى “كاليفورنيا”. وعلى الرغم من تصاعد التوترات العِرْقية وتطوّر أعمال الشَّغب بسبب العنصرية، انتشرت الصحف السوداء وزادت نِسَب التوزيع. حتى وصل عدد الصحف بعد الحرب إلى حوالي خمسمائة صحيفة سوداء، شكلت ظهيرًا قويًّا لحركات المقاومة، في مواجهة إرث العبودية المقيت. وفي محاولة دَحْض وتفنيد كل الادعاءات العنصرية سعى القادة والمفكرين والكُتاب السود إلى الدعوة لتشكيل شخصية وهوية الأمة السوداء.
كما وفَّر التعليم فرصة للأمريكيين من أصل إفريقي للتحسين والارتقاء بالذات، بالإضافة إلى كونه أعظم فرصة للهروب من الإهانات التي عانوا منها في تلك الفترة؛ حيث ظهر جيل من المفكرين دعوا إلى التكيُّف والاندماج؛ أمثال “بوكر واشنطن”، والذي لم يكن مهتمًّا بالسياسة العرقية، وقد احتفى به العديد من الأمريكيين البيض باعتباره مثالًا ساطعًا لرجل أسود يتماهى مع توجهات البيض.
في حين جاء تيار آخر رافض لوجهة نظر “واشنطن” للتكيُّف، مثل المؤرخ وعالم الاجتماع “وليم ديبوا” خريج “جامعة هارفارد”، والذي يُعتبر صوتًا رائدًا في حركة الاحتجاج السوداء المتزايدة خلال النصف الأول من القرن العشرين.
وفي سنة 1914م طالب “ماركوس جارفي” الأمريكيين من أصل إفريقي بالفخر العرقي القائم على العنصرية السوداء في مواجهة العنصرية البيضاء. ممجدًا السواد بوصفه علامة على القوة والجمال. ونظرًا لأن التَّحيُّز العنصري كان متأصلًا جدًّا في الحضارة البيضاء حسب زعمه، لذا فمن غير المجدي أن يتماهى السود مع الإحساس السائد بأن الشعوب البيضاء هي شعوب تدعو إلى العدالة والمبادئ الديمقراطية. ورأى أن الأمل الوحيد أمام السود هو الفرار من أمريكا، والعودة إلى إفريقيا لبناء دولة خاصة بهم. وبعد نداء فاشل إلى عصبة الأمم لاستيطان مستعمرة في إفريقيا، وفشله في المفاوضات مع دولة “ليبيريا”؛ أعلن “جارفي” تشكيل “إمبراطورية إفريقيا” في عام 1921م، ونصّب نفسه رئيسًا مؤقتًا لها.
أما “بروس” فقليل من الباحثين الذين قدروا دوره في التفاعل المتبادل بين المفكرين الذين ظهروا خلال تلك الفترة من عمره، والتي امتدت من الربع الأخير للقرن التاسع عشر حتى العقود الأولى من القرن العشرين. وغاب عن الكثيرين منهم الطرق التي يمكن من خلالها استخدام أحداث حياته كنافذة يمكن من خلالها فَهْم وتفسير الفكر والثقافة الأمريكية الإفريقية؛ حيث وُلِدَ “بروس” عبدًا قبل الحرب الأهلية مباشرةً، وامتدت أنشطته عبر سنوات انحسار “فريدريك دوجلاس” (1818-1895م) Frederick Douglass، وهيمنة “بوكر واشنطن”، وكذلك السنوات المبكرة وربما الأكثر شهرة في عهد “ماركوس جارفي” و”وليم ديبوا”، إلى جانب صعود حركة التاريخ الأسود و”نهضة هارلم” Harlem Renaissance، والتواصل المزدهر بين المفكرين الإفريقيين في إفريقيا ونظرائهم الأمريكيين من أصل إفريقي.
المنطلقات الفكرية لـ”بروس”:
كان “بروس” قائدًا ومعلمًا داخل حركة التاريخ الأسود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فهو أحد الذين استخدموا التاريخ الأسود لتبرير المقاومة الجماعية وتقرير المصير. وتحدَّى كذلك -بلا خوف- التفوق الأبيض والعنف ضد السود من خلال التعبير عن موقف أيديولوجي يجمع بين رفض التكامل والاندماج من ناحية، والدعوة إلى التفرد الثقافي للشعوب الإفريقية من ناحية أخرى، وإلى الاعتماد على الفكر الذاتي، والفخر العرقي، والاستقلال الاقتصادي مع موقف متشدّد من الحقوق السياسية والمدنية.
هذا وقد شكلت وجهة نظره دمجًا بين أفضل الأفكار المرتبطة بـ”وليم ديبوا” (1868-1963م) W. E. B. Du Bois و”بوكر واشنطن” (1856-1915م) Booker T. Washington في تيار فكري أسود جديد ومختلف. هذا التيار الذي غالبًا ما كان يتم تجاهله في كتابات معظم المؤرخين في أواخر القرن التاسع عشر؛ نظرًا لأن “بروس” وآلاف العبيد السابقين من ذوي البشرة الداكنة ممَّن يمثلون هذا التيار كانوا يفتقرون إلى التعليم الرسمي والموارد الطبقية، وهو ما مثَّل عائقًا أمام حركتهم التصاعدية.
ومن الواضح أنه لم يتم إيلاء اهتمام يُذْكَر لمشاركة “بروس” الرئيسية في التبادل الدوليّ لأفكار الجامعة الإفريقية Pan-Africanism، وحركة التاريخ الأسود الناشئة ودائرته من المؤرخين السود المدرَّبين ذاتيًّا الذين شاعوا وروّجوا لدراسة التاريخ الإفريقي والأفرو-أمريكي، والدور الفعَّال الذي لعبه “بروس” في توسيع حركة “جارفي”.
لذا فإن الجانب المهمل من تاريخ الفكر الإفريقي المتمثل في “التبادل الفكري والسياسي” بين السود على المستوى العالمي، لا يزال يحتاج إلى مزيد من الدراسات والبحث والتحليل. هذا وقد لعب “بروس” دورًا أساسيًّا في هذا التبادل الفكري من خلال النقاش وتبادل الرؤى والأفكار داخل المجتمع الدولي للمفكرين والناشطين السود؛ حيث وفَّرت اتصالاته وصداقاته الوثيقة بمفكري عصره من شتَّى الاتجاهات شبكة مهمة لتعزيز وتسهيل فلسفته بضرورة تدوين التاريخ الإفريقي، والاعتراف بالمساهمات الأدبية للإفريقيين.
ونظرًا لأن الأمريكيين الأفارقة من ذوي البشرة الداكنة الطموحين قد أدركوا أنَّ ما يُسمَّى بـ “الطبقة العليا” التي تهيمن عليها نُخْبَة من الخلاسيين شكَّلت مانعًا صلبًا في طريق تقدُّم إخوانهم الأكثر سوادًا. لذا كان توجُّه “بروس” صاحب البشرة الداكنة مثاليًّا ومُعبِّرًا عن هذه الفئة؛ حيث سعى إلى تعزيز علاقاته مع “مارتن ديلاني” Martin Delany، و”إدوارد بلايدن” (1832-1912م) Edward Blyden، و”روبرت لوف” (1939-1914م) J. Robert Love، وخاصة “ألكسندر كروميل” (1819-1898م) Alexander Crummell. بهدف التضامن لمواجهة “قوة الخلاسيين” في إفريقيا والشتات. والتي ربما أطلق عليها بعض الباحثين “إغواء الخلاسيين”، وهو ما شكَّل منطلقًا فكريًّا ومصدر إلهامٍ ساعد على التطوُّر الفكري لـ”بروس” طيلة حياته.
ولطالما كان الشاب “بروس” مفتونًا بهؤلاء العباقرة السود في عصره، الذين أشعلوا الاهتمام بإفريقيا، وعزَّزوا أهمية التاريخ، وشدَّدوا على دور خدمة المجتمع الأسود. وهو ما ظهَر في افتتان “بروس” بشكلٍ خاصّ بشخصية “ديلاني” وثقته بنفسه. فوفقًا لـ”بروس” كان “ديلاني”: “الزنجيّ الأكثر سوادًا والأكثر ذكاءً الذي رأيته في حياتي”. وكتب عنه لاحقًا؛ “لقد التقيت [ديلاني] لأول مرة.. مباشرة بعد مقابلته الشهيرة مع الرئيس [لينكولن]”. واستطرد: “لقد أُعجبت بالرائد [ديلاني] لرجولته وفخره بالعرق”، ويتضح من وصف “بروس” لـ”ديلاني” تركيزه على العِرْق ولونه الداكن، وفي الوقت نفسه يُؤكِّد على نَخْبويته من خلال اتصاله بالنُّخْبة البيضاء مُتمثِّلة في الرئيس الأمريكي.
ولم تصبح خاصية التواصل مع مفكرّي عصره على المستوى العالمي جزءًا من شخصية “بروس” الناضجة فحسب، لكنَّ صداقته بأهمّ مفكّري السود في عصره مثل “ديلاني” و”جارنت” ساعده في حياته المهنية خلال سنواته التكوينية. فقد كان كلاهما قدوة مفيدة شجّعته على التفكير المستقل، والاعتماد على الذات، وافتخاره العرقي، وتوثيق علاقاته بمعاصريه من مفكري إفريقيا، واحترام التاريخ والنشاط الأسود. حيث كان التوجُّه الغالب يميل نحو تبنّي مركزية “القومية الزنجية”، وهي فكرة تمّ التعبير عنها لأول مرة من خلال كتابات “إدوارد بلايدن”، والتي تم تأسيسها بهدف توحيد وحماية الأفارقة في القارة الإفريقية وفي الشتات. وتبنَّى “بروس” هذا الموقف في النهاية، وطوَّر مجموعة متنوعة من الاتصالات الشخصية في جزر الهند الغربية وإفريقيا وأوروبا.
كما تخللت أنشطة “بروس” الصحفية وأنشطته المجتمعية اهتمامًا شديدًا بتاريخ الأمريكيين من أصل إفريقي. هذا الشغف بالتاريخ الإفريقي، المستوحى من تيار الجامعة الإفريقية، الذين التقى بهم خلال شبابه، سيطر على حياته الفكرية بداية من عام 1887م وحتى وفاته.
ومن خلال هذه الاتصالات طوَّر شبكة دولية شاركت الموارد السياسية والفكرية فيما بينها. حفَّزت هذه الشراكة خطابًا مزدهرًا بين المفكرين السود في إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي والولايات المتحدة، وفي بعض الأحيان، السكان السود في أوروبا. كان هدفه الرئيسي ودافعه الأكبر هو مواجهة مشاكل الطبقة واللون داخل المجتمع الأسود.
ويُنْسَب إلى “بروس” تطويره لموقف أيديولوجيّ يجمع بين عناصر القومية السوداء والفصل العرقي من ناحية إلى جانب الاحتجاج السياسي والمدني من ناحية أخرى؛ حيث يُمثّل هذا النَّهج مساهمة فريدة بين مختلف التيارات الفكرية السوداء التي ازدهرت خلال أواخر القرن التاسع عشر. وبحلول نهاية ذلك القرن، أصبح “بروس” قائدًا لمجموعة من المؤرخين السود المدربين ذاتيًّا، والذين ساهموا في تعميم دراسة تاريخ السود وإضفاء الطابع المهني عليها.
كما ناقشت مقالات “بروس” المبكّرة موضوعات مهمَّة أنذرت بتوجُّهه الفكري المبكر. على سبيل المثال في مارس 1877م، صاغ مقالًا بعنوان “أربعة أخطاء بحقّ الدين المسيحي” Four Errors against Christian Religion، شكَّل هذا المقال أول مؤشّر على علمانية “بروس”؛ حيث لم يتلقَّ كغيره من المفكرين تعليمًا لاهوتيًّا، كما أن المقال يشير إلى تبنّيه لأفكار وتوجهات عصر التنوير، والذي كان أحد أهم سماته نقد الدِّين. فمن وجهة نظر “بروس”: “يجب ألَّا يصبح الإيمان خرافة أو سذاجة أو بديلاً للعقل أو مصدرًا لللامبالاة”. ومِن ثَمَّ أدان المتصوفين غير المنطقيين، ووصفهم بغير المؤمنين، فقد أراد لنفسه ولشعبه أن يصبحوا “مسيحيين عمليين”.
وفي ديسمبر 1877م، صاغ “بروس” خطابًا بعنوان “دين الزمن القديم” Old Time Religion، انتقد من خلاله “الصراخ والخرافات الموجودة بالمسيحية”، ودافع عن “التجديد الديني” الذي يرتكز على العقل بدلاً من المعتقدات “القديمة” التي يهيمن عليها الغموض. ولكي يكون “الدين الجديد” عامل تغيير؛ يجب أن يُحرّر الفرد نفسه من التصوف والخرافات، ويتخذ من التفكير والمنطق سبيلًا لمعرفة الأمور.
وبجانب فهمه للتاريخ والثقافة الإفريقية؛ لم يكن “بروس” منعزلًا عن قضايا بني عرقه داخل أمريكا وإفريقيا على حدٍّ سواء، لذا كان حريصًا بشكل كبير على تدعيم أواصر التواصل بين مفكري إفريقيا داخل القارة والسود في الشتات. في الوقت الذي أكَّد فيه على أهمية التاريخ المشترك بين الشعبين. وهو ما سيتم مناقشته في السطور التالية.
1- التبادل الفكري والسياسي بين مفكري إفريقيا والشتات:
كان “بروس” كاتبًا روائيًّا معروفًا، ومؤرخًا مشهورًا ومُحِبًّا للكتب، ومحللًا سياسيًّا ماهرًا. وعلى الرغم من أن حياته المهنية في الكتابة بدأت في عام 1871م كمراسل لـ”التقدمية الأمريكية” The Progressive American، إلا أنه بحلول عام 1891م عُرف باسم “أمير المراسلين الأفرو-أمريكيين”. حيث تألفت أعمال “بروس” النصية الغزيرة من كتيبات شعر ومسرحيات وكتب أغانٍ، إلى جانب مئات من مقالات الرأي والعديد من الكتب، مما جعل من إرثه الأدبي أكبر من أن يُحْصَر في مقال أو دراسة.
في أكتوبر 1922م، نشر “بروس” ملخصًا تفصيليًّا لفلسفته وأهدافه التي شكَّلت أفكاره وتوجهاته؛ حيث كان يعتقد أن المجتمع الأسود في أمريكا لكي يتحرَّر بشكل كامل، فمن الضروري توفّر أدوات ضرورية لتحقيق هذه الغاية، قوامها مزيج من العائلات القوية، والفخر الأسود، والتاريخ الأسود، والوحدة العرقية، والتعاون الجماعي.
وأوضح وجهة نظره بقوله: “لكي يُصبح عرقنا أقوى، يجب أن نتوقف عن مساعدة الرجال البيض، فبأموالك وتأثيرك أصبحوا أقوياء… لذا يجب علينا مساعدة بعضنا البعض؛ فرادى وجماعات… إذًا فإن الكلمة الأساسية هي التعاون… وأسأل الله أن يساعدنا على إيضاح رؤيتنا، وأن نتمكن من رؤية الواجب الذي ندين به لأنفسنا ولأجيالنا القادمة بشكل أوضح”.
عبرت كلماته عن سعيه المتواصل الرامي إلى الوحدة العرقية والتعاون والاعتماد على الذات والفخر والاستقلال الاقتصادي. ولم ير “بروس” تناقضًا بين السعي وراء هذه الأهداف وبين الموقف المتشدد من الحقوق السياسية والمدنية. جامعًا بين آراء وتوجهات “ديبوا” و”واشنطن”.
لقد تحدَّى الفصل العنصري ورفَض التكيُّف مع سلطة البيض، لكنه تساءل أيضًا عن حكمة الاندماج. فقد كان “بروس” من بين أقلية من المفكرين السود، قبل عام 1900م، الذين أيدوا التفرد الثقافي للشعوب الإفريقية، ومن الذين أكَّدوا على ضرورة استخدام هذا المورد لتقدم السود؛ حيث تبنَّى تعاليم وتوجيهات “إدوارد بلايدن” و”روبرت لوف”، معلّميه القوميين البارزين في القرن التاسع عشر ممن تبنوا ودعوا إلى أفكار الجامعة الإفريقية، فالأول كان مفكرًا ودبلوماسيًّا إفريقيًّا عاش في ليبيريا، والآخر كان معلِّمًا وصحفيًّا وسياسيًّا عاش بجزر الهند الغربية.
وبالرغم من تبنّيه للقومية، لكنه كان رافضًا لهجرة السود إلى خارج أمريكا، وداعيًا للنضال المشترك للسود في أمريكا كقوة مستقلة ومنفصلة عن المجتمع الأبيض. وهو ما يبرز استطاعته للتوفيق بين كافة الأفكار، وانتخابه لما يتوافق مع توجهه الفكري، فقد سوَّق ودعا إلى هذه الأفكار كقائد ومشارك رئيسي في مجموعة من المنظمات السوداء، بما في ذلك مجموعات المساعدة المتبادلة، والمجتمعات الأدبية والتاريخية، والمنظمات الأخوية، والمبادرات الاقتصادية، والتجمعات السياسية، والجهود الصحفية.
هذا وقد ربطته أنشطته التنظيمية الواسعة وأعمدته المتكررة في الصحف بمجتمع قومي من النشطاء السود والمثقفين والمنظمين والوزراء والقادة السياسيين. ومن خلال اتصالاته العديدة بقادة الفكر مثل القس “ألكسندر كروميل” و”توماس فورتشن” (1856-1928م) T. Thomas Fortune و”إيدا ويلز-بارنيت” (1862-1931م) Ida Wells-Barnett، “وآرثر شومبورج” (18741938م) Arthur Schomburg؛ نشر “بروس” أفكاره حول القضايا الحرجة داخل أمريكا السوداء. حيث برز اسمه إلى جانب “شومبورج”، كقائد في حركة التاريخ الأسود. ولعب هو و”فورتشن” أدوارًا رئيسية في حملة الاستقلال السياسي للسود؛ وعمل مع “ويلز بارنيت” في النضال ضد عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والعنف ضد السود في الجنوب؛ وقام هو و”كروميل” بحملة من أجل الاستقلال الفكري في “أكاديمية الزنوج الأمريكية”.
وعلى خطى “ديلاني”، الذي أثَّر في جيل كبير من معاصري “بروس”؛ اعتقد “بروس” أن العنصرية كانت جزءًا أصيلاً في السياق الأمريكي، لذا أدان بشدة التسميات العنصرية مثل: “ملون” colored و”أفرو-أمريكي” Afro-American والتي استخدمت على نطاق واسع داخل أمريكا. فبالنسبة لـ”بروس”؛ فإن “الزنجي” Negro هو المصطلح العرقي الصحيح الذي يشير ضمنيًّا إلى التاريخ الغني لشعبٍ تعود جذوره إلى إفريقيا؛ ومع ذلك، في سنواته الأخيرة (1922-1924م) تبنَّى مصطلح “إفريقي” African باعتباره المرجع الثقافي الأكثر بروزًا للسود في الولايات المتحدة الأمريكية.
فإنا كان “ديلاني” من الناحية الفكرية منارة أيديولوجية لـ”بروس”. فإن “بروس” كان أيضًا مفكرًا قوميًّا ورائدًا في انتخابه للأفكار والجمع بينها على اختلاف مصادرها، هذا المضمار الذي ظل فيه وحيدًا حتى وفاته في عام 1924م. فمن خلال صداقات حميمة مع “إدوارد بلايدن”، و”ألكسندر كروميل”، و”تيموثي توماس فورتشن”، والفيلسوف الإفريقي الكنسي “موجولا أجبيبي” (1860-1917م) Mojola Agbebi، أصبح مساهمًا رئيسيًّا في المنظمات السوداء العظيمة التي تصطف في روايات التاريخ. حيث تمَّت دعوته شخصيًّا للانضمام إلى “أكاديمية الزنوج الأمريكية” في عام 1897م، وشارك في تأسيس “الجمعية الزنجية للبحوث التاريخية” في عام 1911م مع “آرثر شومبيرج”. وأصبح مؤيدًا رئيسيًّا لمجلة “تاريخ الزنوج” Journal of Negro History للمؤرخ “كارتر وودسون” (1875-1950م) Carter G. Woodson في عام 1915م، وكان كاتبًا في “عالم الزنجي” The Negro World ومكونًا رئيسيًّا في “المؤسسة العالمية لتحسين أوضاع الزنوح” UNIA لـ”ماركوس جارفي” في عشرينات القرن الماضي.
واستطاع “بروس” من خلال هذه الشبكة الواسعة من العلاقات بين المفكرين الإفريقيين على المستوى العالمي والدولي أن يضع صياغة فكرية رامية إلى ضرورة التعاون بهدف تلقيح وتنقيح الأفكار، وأشار إلى ضرورة أن تتقاطع المدارس الفكرية لأجل مصلحة العرق ونصرة القضية، وعبر عن ذلك بقوله: “التعاون Cooperation هو الكلمة السحرية والمبدأ النشط الذي من خلاله يتم إنقاذ عرقنا وتطويره ليصبح قوة فاعلة… نحن مضطرون للاعتراف بفعالية التعاون كقوة في بناء العرق. لقد حان الوقت لكي يتعاون الزنوج في كل مكان. لنبدأ في التفكير باللون الأسود؛ ذلك لأن البيض يفكرون دائمًا بالأبيض”.
كان الاقتباس المذكور أعلاه أساس مشروع “بروس” الفلسفي. وعلى خلاف “ديلاني” الذي أشار إلى حتمية العنصرية البيضاء في أمريكا، واقترح مغادرة الولايات المتحدة، واجه “بروس” العنصرية البيضاء من خلال مشروعه للعمل العرقي المُنظَّم. وعلى الرغم من إيمانه بأن “المساواة في أمريكا ما هي إلا وعد فارغ ووَهْم زائف، وبأن إعلان الاستقلال ودستور الولايات المتحدة ما هو إلا أكاذيب”. وأن الجنسية الأمريكية هي سراب يعيش فقط في مخيلة السود؛ ذلك لأن البيض لن يتنازلوا أبدًا عن سلطتهم في الولايات المتحدة ويسمحوا باستيعاب السود ومشاركتهم السلطة. حتى التشريعات الملموسة في أرض الواقع قوبلت منه بتشكيك لاذع. فقد وصف التعديلات بقوله: “إن التعديل الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر للدستور هي تعديلات كتبت بشكل جيد، فهي بلا شك مليئة بالنوايا الحسنة، لكن لا يوجد أيّ ضمانات للزنوج لسَنّ تشريعات عادلة في المستقبل”.
وأدرك “بروس” أن التشريع لا معنى له إذا كان “قلب العرق الأبيض في أمريكا لم يتأثر بعدُ بالتعاطف مع الزنجي، وعقله لا يهتم بأيّ حركة تتطلع إلى وضع الزنجي في منزلة متساوية مع الأبيض…”. وتوصل “بروس” في نهاية الأمر إلى أن البيض “مدركون لقوتهم وهيمنتهم، ليس فقط في أمريكا، ولكن أيضًا في جميع أنحاء العالم أينما سُمِحَ لهم بالحصول على موطئ قدم، وأنهم مُولَعُون جدًّا بالسلطة ويغترون بهيبتها. لذا فإنهم لن يسمحوا عن طيب خاطر بمشاركتها مع عرق اصطبغ جلده بلون غير الأبيض”. هذه الأفكار التي تبناها “بروس” تُشْبِه إلى قدرٍ كبير أفكار “ديبوا” التي طرحها قبل ذلك بعامٍ واحد في مقال بعنوان “روح الشعب الأبيض”، والذي كان جزءًا من كتابه المنشور سنة 1920م “أصوات من داخل الحجاب” Darkwater: Voices from Within the Veil.
كما أدرك “بروس” أن “الهوية العرقية البيضاء تميزت بإرث تاريخي منتصر، منح أولئك الذين يمتلكونها القوة”. هذا الاعتقاد جعله يذهب إلى الاستنتاج بأن “البيض سيظلون دائمًا يغترون بقوتهم”. هذه القوة التي تتجلى في مصلحة أنانية ومخزون من معاني الكراهية التي فرضت سياسة الأمر الواقع. مستعينين بالقدرة على تحديد ومراقبة وخلق قِيَم العدالة والامتيازات والمواطنة التي تسبَّبت في فَضْح حقيقة العرق الأبيض داخل أمريكا وخارجها. هذه القوة التي يتحدث عنها “بروس” استُخْدِمَتْ على وَجْه التحديد ضدّ الشعوب الأكثر ظلمة في العالم بحجة الحضارة وتمدُّن الشعوب، وأفكار الديمقراطية. وحسب زعم “بروس”؛ فإنَّ هذه الأفكار تعني ببساطة أن الديمقراطية كانت تعبيرًا ملطفًا عن الاستعمار. وهو ما جعل الامتياز الأبيض يُفهَم على أنه شأن استعماري، ولا يمكن التخلص منه.
من هذا المنظور، استنتج “بروس” أن السود كأمة، لن يتمتعوا بالمواطنة الكاملة طالما ظلوا تحت الاحتلال، واعتبر التفكير في غير ذلك بالسعي وراء المستحيل. وبرر ذلك بأنه: “لا يوجد عرق أفضل تنظيمًا في الوقت الحالي يستطيع الحفاظ على سلطته وتأثيره.. من الأنجلو ساكسوني”.
كل هذه الأفكار وغيرها كانت مزيجًا اختلطت فيه الرؤى والأطروحات التي انتشرت بين السود وتناقلت عبر شبكة دولية من التواصل الثقافي والفكري لم تقف الجغرافيا مانعًا له ولا الحالة السياسية والاجتماعية؛ حيث برزت التيارات والأفكار في حالة يستطيع الباحث مشابهتها للحالة التي كان عليها الفكر الغربي الحديث في مراحله التأسيسية خلال القرن السابع والثامن عشر الميلادي.
2- استعادة التاريخ وصِنَاعة العِرْق
كان الحدث الأكثر تمثيلاً لـ”بروس” هو تأسيس “الجمعية الزنجية للبحوث التاريخية”، التي أطلقها في عام 1912م في الولايات المتحدة، بشراكه مع مُحِبّ الكتب “آرثر شومبورج” البورتوريكي من أصول إفريقية. وارتبط كلاهما بـ”أكاديمية الزنوج الأمريكية” التي أسَّسها “ألكسندر كروميل” في عام 1897م. حيث تهدف الجمعية الجديدة إلى دراسة “تاريخ الزنوج”، إلى جانب جمع الكتب النادرة والوثائق والصور المتعلقة بالموضوع. والتي ضمَّت بين أعضائها العديد من الحُكَّام الأفارقة كأعضاء فخريين، بالإضافة إلى “وليم ديبوا”، و”إدوارد بلايدن”، و”كاسلي هايفورد”، و”موجولا أجببي” و”آلان لوك” (1885–1954م) Alain Locke، الذي أصبح فيما بعد شخصية بارزة في “نهضة هارلم”. كان من بين الأعضاء في بريطانيا الكاتب الجامايكي الشامل من أصول إفريقية “سكولز” (1858-1940م) T. E. S. Scholes و”دوس محمد علي” (1866-1945م) Dusé Mohammed Ali والنيجيري “موسى روشا” (1875-1942م) Moses Da Rocha. إلى جانب العديد من الممثلين من جزر الهند الغربية البريطانية، وكذلك من “بنما” و”بورتوريكو” و”كوبا” و”كوستاريكا” و”البرازيل”.
كان هدف “بروس” من الاهتمام بالتاريخ الإفريقي هو محاربة عدم المساواة التي يواجهها السود داخل الولايات المتحدة، عن طريق تطوير هوية عرقية جديدة تستند إلى تثقيف الأسود بنجاحات وريادة حضاراته الإفريقية.
واستطاع “بروس” أن يقوم بصياغة هذه الفكرة في آخر أعماله الرئيسية “صُنْع العِرْق” The Making of a Race، الذي كتبه قرب نهاية حياته سنة 1922م، والذي اعتبره مشروعًا تكوينيًّا لـ”بناء العرق”. وعلى الرغم من الانتقادات الجوهرية التي واجهت أفكار “بروس” التي طرحها في كتابه، لكنَّه استطاع من خلاله أن يُقدّم وصفًا فلسفيًّا للعِرْق مثيرًا للاهتمام. وفقًا لـ”بروس”: “صُنْع العِرْق هو عمل يستغرق قرونًا من الصبر والمعاناة: يتخللها اضطهاد وقمع للطموحات والتطلعات الفردية”.
إنَّ صُنْع العِرْق، أو ما يشير إليه بروس على أنه “بِنَاء العِرْق” هو تفاعل بين الفلسفة والتاريخ يستغرق فترة طويلة الأمد تظهر نتائجه في المستقبل. ويعتمد بناء العِرْق على التاريخ ليس فقط استدعاءً لأحداث الماضي أو استحضار إنجازات العِرْق، ولكن أيضًا لتصحيح التقارير التي تجاهلت الإنجازات الإفريقية في الحضارة، وبشكل أكثر واقعية كدليل على أنَّ المنحدرين من أصل إفريقيّ يمكنهم إنشاء الحضارات، وهو ما عبَّر عنه بقوله: “كلما زادت معرفتهم بإنجازات العرق، في الماضي والحاضر، كلما زاد احترامهم لانتمائهم العرقيّ، لذا يجب جمع هذه المعرفة ونقلها إلى شباب العرق؛ فهي بلا شكل ستساعد في تكوين الشخصية، وستمنحهم فهمًا أكثر شمولاً لأهميَّة العرق الزنجي؛ ذلك لأن العرق هو مفتاح التاريخ”.
ولكي يتم بناء العرق يجب على السود اكتساب المعرفة اللازمة للتمرد على “التقدير الذي وضعه الآخرون على عرقنا”؛ لأن العرق الأبيض دَأَبَ على اختراع الروايات التاريخية عن الحضارة السوداء، فأحاطها بأوصاف البربرية والانحطاط في أصولها الإفريقية. وأضاف “بروس”: “لقد استطاعوا زيفًا التقليل من قيمتنا؛ بهدف اضعاف تأثيرنا؛ مستخدمين في ذلك قانون السطوة والقوة لفرض آرائهم المتحيزة”. وفي مقابل هذه القوة طالب “بروس” بالمعرفة أو ما أسماه “التفكير الأسود” thinking Black لتصحيح هذه المدركات التي توطدت في أذهان السود، ولتتحول إلى الجهة الأخرى نحو عالم تتمتع فيه الشعوب السوداء بحرية خلق الواقع. وهكذا، فإن اكتساب المعرفة عن الماضي، والاعتراف بأهمية العِرْق في بناء الأمم، يكشف القوانين التي “تجعل العرق قوة هائلة وفعَّالة من أجل الخير”، كما أن المعرفة ستكون السبيل إلى إدراك “كيفية تجميع الكيانات والأفكار وانصهارها في وحدة واحدة متناغمة في شكل كليّ لا يُقْهَر”.
ويُعتبر تحليل “بروس” لكيفية صناعة العرق تحليلًا مثيرًا للاهتمام؛ نظرًا لتقديمه في عصر مناقشات البناء الاجتماعي. فالدراسات الحديثة ترى التصنيفات العِرْقية كبنية اجتماعية، وأن العِرْق ليس شيئًا جوهريًّا في حد ذاته للبشر، بل هوية أُنشئت لإقامة معنى في سياق اجتماعي. وهو ما جعل “بروس” يُشَبِّه العِرْق بالعائلة، حيث الآمال والأهداف الواحدة. ونظرًا لأن الأهداف ليست هبةً ربانيةً أو معتقدًا في جوهر السواد؛ مما يدعو إلى تطوير الهدف وتأمينه من خلال “روح التعاون والوحدة ورابطة الأخوة”. هذه الروح التي تحافظ على العِرْق وتطوره بشكل كلي؛ وتجعل له مفهومًا موحدًا.
واعتبر “بروس” أنه “طالما ظل العرق الزنجي منقسمًا على خطوط طبقية أو اجتماعية أو دينية أو ملونة أو تعليمية؛ فإن ضَعْفه هو نتيجة حتمية، وبالتالي لن يكون قادرًا على ممارسة أيّ تأثير أو اكتساب الاحترام من الأعراق الأخرى”. وبهذا المعنى، تصوّر “بروس” أن تعددًا للاختلافات في الطبقة والجنس والدين والتعليم من خلال منظور عرقي يُعزّز السود كمجموعة، وليس كفصائل ذات سياسات وهويات مختلفة. لذا فقد ركَّز على العِرْق بوصفه محدِّدًا تاريخيًّا يجعل السود مشاركين في الرحلة التاريخية لشعوبهم. ووصَف العِرْق بأنه: “مجتمع تعاونيّ عملاق”، يمكنه أن يخاطب الهويات المختلفة التي تُشكِّل إرثه العرقيّ. وهو الشيء نفسه في جانب البيض؛ حيث استطاع البيض القضاء على خلافاتهم في مواجهة السود وتقسيم الإرث الاستعماري.
ونظرًا للواقع الاستعماري للعرق والعنصرية الموجهة ضد السود؛ حثَّ “بروس” المنحدرين من أصل إفريقيّ في أمريكا والشعوب الإفريقية داخل إفريقيا والشتات على الانضمام معًا تحت راية العِرْق لمقاومة الأسطورة الإمبريالية المتمثلة في إمبراطورية العرق الأبيض”.
ومن خلال إظهار تأثيرات فكر “ديلاني” و”بلايدن” على “بروس” ومركزية العِرْق لكلا المفكرين، نستطيع أن نؤكد أن الفكر القومي كان له امتداد فكريّ مُتطوّر للغاية حتى عشرينيات القرن العشرين من خلال “بروس”، ومثقفين متتابعين هائلين طوال القرن العشرين. وفي ضوء المعاناة والقمع المستمر للسود حتى يومنا هذا، يجب أن يتم البحث في أهمية الفكر عند كلٍّ من “ديلاني” و”بلايدن” و”بروس” في إطار التنظيرات السياسية الحالية حول ظروف السكان المنحدرين من أصل إفريقي عما كانت عليه خلال عصرهم.
رابعًا: الدلالات الفكرية لـ”بروس”:
يظل “جون بروس”، الذي فَرَّ من العبودية، ولم يتلقَّ سوى القليل من التعليم الرسميّ، رجلاً عصاميًّا. فمن خلال التصميم والرغبة والقدرة الفكرية، شقَّ طريقه إلى قمة الصحافة السوداء. لقد كان واحدًا ضمن مجموعة من الرجال والنساء السود في القرن التاسع عشر الذين كافحوا الصعاب وواجهوا المشاق لتأسيس حياة ومهن ناجحة.
ومنذ أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى وفاته في عام 1924م، كان “بروس” حلقة وصل مركزية للأفكار والقضايا التي ازدهرت بين السود في أمريكا وإفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي؛ حيث تواصل مع “بلايدن” و”كروميل” ممثلي النخبة الإفريقية، بينما قام “روبرت لوف” في جامايكا بإبقاء “بروس” على اطلاع دائم بأفكار وتوجهات السود في جزر الهند الغربية. وبعد وفاة “بلايدن” في سنة 1912م، وطَّد “بروس” علاقته مع “موجولا أجبيبي” و”كاسلي هايفورد” (1866-1930م) J. E. Casely Hayford، تلاميذ “بلايدن” والقوميين الإفريقيين المؤثرين.
كان لـ”بروس” أيضًا علاقات وثيقة مع القادة الإفريقيين في جنوب إفريقيا، مثل “جون دوبي” (1871-1946م) John L. Dube و”سولومون بلاتجي” (1876-1932م) Solomon Plaatje، الرواد في “الكونجرس الأصلي في جنوب إفريقيا” South African Native Congress. وفي “ليبيريا”، أقام “بروس” صداقات مع العديد من المسؤولين، بما في ذلك الرئيس “تشارلز كينج” (1875-1961م) C. D. B. King ونائب الرئيس “جيمس دوسين” (1866-1924م) James J. Dossen. بالإضافة إلى هذه العلاقات، نجح “بروس” في تكوين جمهور إفريقي من خلال مقالات في صحيفة Gold Coast Leader و African Times و Orient Review. وكان “بروس” فاعلًا كذلك في المخططات التجارية التي يموّلها روّاد أعمال أفارقة، وساعد أصدقاءه الأفارقة في إلحاق أبنائهم بالكليات الأمريكية.
كما قادته رؤيته الدولية للنضال والتعاون العرقي إلى حركة “جارفي” والانضمام لمؤسسته. وعندما انضم إلى “الحملة الشرسة” التي قادها “جارفي” في أكتوبر سنة 1919م، لعبت شبكة علاقاته الإفريقية دورًا أساسيًّا في إضفاء الشرعية على جاذبية “المؤسسة العالمية لتحسين أوضاع الزنوح” UNIA بين النخبة الإفريقية، وفي انتشار أفكار وتجهات “جارفي” داخل القارة السوداء.
وتمكَّن “بروس” رغم مهامه كمستشار ومصدر ثقة لـ”ماركوس جارفي”، من أن يفصل بين عمله داخل المؤسسة وعلاقاته الشخصية مع أولئك الذين لديهم خلافات أيديولوجية مع “جارفي” ومؤسسته. وهو ما جعل “جارفي” يدرك أهمية وجود “بروس” كمستشار له، لذا سعى للحصول على مساعدته وصقل علاقتهما؛ نظرًا لأن “بروس” يُشكِّل مصدرًا قَيِّمًا ورابطًا مهمًّا للمثقفين الإفريقيين والأمريكيين من أصل إفريقي.
وطوال حياته، ظل “بروس” مدافعًا عن حقوق السود، وقبل وقت طويل من ارتباطه بـمؤسسة “جارفي”؛ دعا إلى تعاون أوثق بين الإفريقيين والأمريكيين من أصل إفريقي. وهو ما اتَّضح في كتاباته منذ أن كان في الحادية والعشرين من عمره. وعلى الرغم من أنه وجَّه خطابه ضد تفوق البيض، لكنه شنَّ أيضًا حربًا طبقية ثابتة ضد امتيازات اللون والطبقية داخل أمريكا الإفريقية.
يُضاف إلى سجل “بروس” ريادته في حركة التاريخ الأسود الناشئة، ومساهمته في الجهود المبذولة لنشر تاريخ الأمريكيين من أصل إفريقي؛ من خلال كتابه: “سِيَر ذاتية قصيرة لرجال ونساء زنوج بارزين في أوروبا والولايات المتحدة” Short Biographical Sketches of Eminent Negro Men and Women in Europe and the United States: With Brief Extracts From Their Writings and Public Utterances. ليكون الكتاب إسهامًا موجهًا لكادر من المؤرخين والمثقفين الشباب المدربين ذاتيًّا، مثل “آرثر شومبورج” و”ديفيد براينت فولتون” (1863-1941م) David Bryant Fulton و”لورا إليزا ويلكس” (1871-1922م) Laura Eliza Wilkes. حيث وضع “بروس” هؤلاء الرجال والنساء ضمن دائرة الاهتمام تقديرًا لدورهم في تاريخ الأمريكيين من أصل إفريقي، ليصبح فيما بعد نموذجًا أوليًّا لحركة تدوين التاريخ والسِّيَر الذاتية السوداء في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. بالإضافة إلى ذلك، دافَع “بروس” وزملاؤه عن تدريس تاريخ الزنوج في كليات الزنوج، والعديد من المدارس الثانوية والابتدائية التي تخدم الطلاب السود. ولسوء الحظ، تمَّ التغاضي عن هؤلاء الرواد المهمين عندما رسم العلماء المسار الفكري والتاريخي لقبول تاريخ الأمريكيين من أصل إفريقي كنظام أساسي داخل الأكاديمية.
لذا تُوفِّر حياة “جون إدوارد بروس” نافذةً على حياة المفكرين والكُتّاب والناشطين السود الذين عملوا على تنمية الجمهور الأسود، والذين لم يهتموا كثيرًا بجَذْب أتْبَاع من البيض. على حد تعبير “أنطونيو جرامشي” (1891-1937م) Antonio Gramsci، فإنهم: “نتاج الصراع الاجتماعي” الذي عكس “أفكار وتطلعات طبقتهم”، وعلى الرغم من ذلك فإنهم لم يتمتعوا “بوضع رسميّ أو شهرة اجتماعية”.
وختامًا:
توضّح حياة “بروس” أن أفكار القومية السوداء والانفصالية يمكن دَمْجها مع فلسفة الاحتجاج السياسي والمدني. وأن كفاح الإفريقيين سواء كان داخل إفريقيا أو في الشتات هو في الأصل كفاح مشترك، تتضافر فيه كل الجهود والأفكار والتوجهات على اختلاف الوسائل والمساعي الرامية لتحقيق “التعاون” الذي يعتقد “بروس” أن من خلاله سوف يتم إنقاذ العرق الأسود وتطويره ليصبح قوة فاعلة. وهو ما أشار إليه “بروس” بمصطلح “بناء العِرْق”، والذي يعتمد -حسب وجهة نظره- على التاريخ؛ لتصحيح المدركات السلبية والادعاءات التاريخية التي تجاهلت الإنجازات الإفريقية وإسهاماتها في الحضارة البشرية.
____________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Adi, Hakim. Pan-Africanism: a history. Bloomsbury Publishing, 2018
Allen, Robert L. Black Awakening in Capitalist America: An Analytic History. Garden City: Anchor Books, 1969
Bruce, John E. The Blood Red Record: A Review of the Horrible Lynchings and Burning of Negroes by Civilized White Men in the United States. Albany, NY: The Argus Company, 1901
Crowder, Ralph L. John Edward Bruce: Politician, Journalist, and Self-trained Historian of the African Diaspora. New York: New York University Press, 2003
Curry, Tommy J. “Who K (new): The nation-ist contour of racial identity in the thought of Martin R. Delany and John E. Bruce.” Journal of Pan-African Studies 1.10 (2007): 41-61
Foner, Eric. “In Search of Black History.” Rev. of Rediscovery of Black Nationalism, by Theodore Draper. The New York Review of Books. 22 Oct. 1970
Gilbert, Peter. The Selected Writings of John Edward Bruce: Militant Black Journalist. New York: Arno Press, 1971
Seraile, William. Bruce Grit: The Black Nationalist Writings of John Edward Bruce. Knoxville: The University of Tennessee Press, 2003
Short Biographical Sketches of Eminent Negro Men and Women in Europe and the United States: With Brief Extracts from Their Writings and Public Utterances. Gazette Press, 1910