“جيمس هولي” أو “جيمس جونسون” (1836-1917م) James “Holy” Johnson، القومي ورائد الإثيوبيانية والتعليم المسيحي في غرب إفريقيا؛ دعا إلى قدسية استقلال الدول الإفريقية، وانتقد سياسات الإدارة البريطانية الاستعمارية داخل المجلس التشريعي في “لاجوس”، حيث كان أحد أعضائه. كما طالب بالتعليم المجاني للإفريقيين، واحترام الثقافة والمؤسسات والعادات الإفريقية.
كان لنشاطه الديني والقومي في هذا التوقيت أهمية لفهم التفاعلات الفكرية التي أسّست بدورها لطبيعة الوضع الحالي في غرب إفريقيا.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية لـ”جيمس جونسون”:
وُلِدَ “جيمس جونسون” James “Holy” Johnson سنة 1836م، لأبٍ ينتمي إلى “إيجيشا” Ijẹsha (الإيجيشا: هم عِرْق فرعي من يوروبا غرب إفريقيا)، وأم من “الإجيبو” Ijebu في “بينجيما” Benguema، وهي إحدى قرى مستعمرة سيراليون البريطانية.
بعد بضع سنوات من التعليم الابتدائي في إحدى مدارس “جمعية الكنيسة التبشيرية”، و”مدرسة متى الرسول”School of St Matthew’s ، في “بينجيما”، التحق بمدرسة “القواعد” CMS Grammar School التابعة للجمعية في عام 1851م، أي بعد ست سنوات تقريبًا من تأسيس أول مدرسة ثانوية في غرب إفريقيا الحديثة.
ثم التحق في سنة 1854م بـ”كلية فوره باي” Fourah Bay College باعتباره الطالب الخامس والعشرين بعد المائة في هذه الكلية ذات التوجه الديني، باعتبارها المكان الوحيد للتعليم العالي في غرب إفريقيا قبل تأسيس الكليات والجامعات في مستعمرات “ساحل الذهب” و”نيجيريا” بعد الحرب العالمية الثانية.
أكمل دراسته الجامعية بحلول سنة 1858م، وبرز باعتباره أنجليكانيًّا زنجيًّا، اتسم برجاحة عقله، وتديّنه المسيحي المتشدّد، وقراءته النَّهمة. عمل لفترة وجيزة كمدرس في “جامعة فوره باي” في الفترة من 1860م إلى 1863م، لكنَّه أمضى بقية حياته في خدمة الكنيسة، بصفته مبشرًا للتعليم المسيحي في “كنيسة المسيح” Christ Church، بطريق “باديمبا” Pademba، في “فريتاون” عاصمة “سيراليون” الحالية، في الفترة من 1863م إلى 1874م؛ ثم قسيسًا بـ”كنيسة القديس بولس” St. Paul’s Church، في “بريدفروت” Breadfruit، في “لاجوس” بـ”نيجيريا”، في الفترة من 1874م إلى 1877م، ومرة أخرى من 1881م إلى 1900م.
وعمل كذلك مشرفًا عامًّا على إرساليات “جمعية الكنيسة التبشيرية” التي كانت تعمل بالمناطق الداخلية لليوربا، في الفترة من 1877م إلى 1880م، وبحلول عام 1900م تم تكريسه أسقفًا، ليكون بمثابة الأسقف المساعد في “أبرشية غرب إفريقيا الاستوائية” Diocese of Western Equatorial Africa، مع الإشراف على “أبرشية دلتا النيجر” Niger Delta Pastorate، بما في ذلك الكنائس الأنجليكانية في مناطق “إيدو” Edo و”إيتسيكيري” Itsekiri و”أورهوبو” Urhobo، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته سنة 1917م.
وعندما تم فصل مستعمرة “لاجوس” عن “ساحل الذهب” عام 1886م، كان المجلس التشريعي للمستعمرة الجديدة Legislative Council of Lagos يتألف من أربعة أعضاء رسميين وثلاثة أعضاء غير رسميين. عين “ألفريد مولوني” Cornelius Alfred Moloney حاكم مستعمرة “لاجوس” اثنين من الإفريقيين كممثلين غير رسميين، هما “جونسون” والتاجر “تشارلز جوزيف جورج” Charles Joseph George. وخلال هذه الفترة أولى اهتمامًا للتعليم الأدبي أكثر من أيّ عضو آخر.
زار بريطانيا في أربع مرات في أعوام 1873م، 1887م، 1899م، 1909م؛ بهدف إجراء مناقشات مع مكتب الاستعمار حول حالة التعليم الأدبي في غرب إفريقيا، وبالدور الذي كان مقتنعًا بأن على البريطانيين أن يلعبوه في النهوض بالتعليم لصالح الإفريقيين.
ثانيًا: السياق التاريخي المعاصر لـ”جيمس جونسون”:
يرى بعض الباحثين أن العلاقة والوحدة الوظيفية، التي كانت قائمة بين المبشرين والتجار والإداريين في المستعمرات داخل إفريقيا، لم تكن عرضية. ويصرّ “مايكل كراودر” Michael Crowder على أنَّ “المبشرين الأوائل في غرب إفريقيا كان لديهم هدف مزدوج لتعزيز التجارة المشروعة بين الإفريقيين والأوروبيين وتحويل الإفريقيين إلى المسيحية، وعلى الرغم من وجود غياب صارخ للإجماع بين الباحثين حول دور المبشرين في استعمار إفريقيا، لكن يبدو أن الأمر انتهى إلى الرأي القائل بأن بعض المبشرين تعاونوا بشكل أساسيّ مع السلطات الاستعمارية في الاستغلال والإخضاع الثقافي لإفريقيا.
أكد “والتر رودني” Walter Rodney في كتابه “أوروبا والتخلف في إفريقيا”، أن المبشرين كانوا عملاء للإمبريالية: “كان المبشرون المسيحيون جزءًا من القوات الاستعمارية مثلهم مثل المستكشفين والتجار والجنود”. وأضاف: “تم إحضار الكنيسة بشرط ألا تثير العبيد الإفريقيين للمطالبة بمبدأ المساواة”.
وفي السياق نفسه كان تأثير الإسلام في شمال نيجيريا وفي بعض الأجزاء الأخرى من غرب إفريقيا كبيرًا، كما كانت تنتشر المدارس والجامعات، على عكس ادعاء المبشرين. مثل “جامعة تمبكتو” University of Timbuktu، والتي كانت موجودة قبل عدة قرون من مجيء الرجل الأبيض إلى غرب إفريقيا، لكنَّ تأثيرها كجامعة لم يكن محسوسًا في أماكن مثل جنوب نيجيريا.
وفي أقصى غرب إفريقيا، كانت منطقة “فوره باي” بدولة “سيراليون” ذات أغلبية مسلمة، يتشكل سكانها من شعب “أوكو” Oku people، وهي مجموعة عرقية يغلب عليها أصل “اليوروبا” Yoruba. أسَّس البريطانيون والمستوطنون “كلية فوره باي” في فبراير 1827م، كمدرسة تبشيرية أنجليكانية مِن قِبَل “جمعية الكنيسة التبشيرية”؛ حيث بدأت كنوع من مدارس اللاهوت المسيحي أو أكاديمية للبنين، وتطورت تدريجيًّا بمنهج أكاديمي كامل.
سرعان ما أصبحت “كلية فوره باي” نقطة جذب داخل سيراليون للكريول والإفريقيين الآخرين الذين يسعون للحصول على تعليم عالٍ في غرب إفريقيا البريطانية. وشمل هؤلاء بعض الطلاب النيجيريين، والغانيين، والإيفواريين، وغيرهم الكثير، لا سيما في مجالات علم اللاهوت المسيحي والتبشير. لتكون أول جامعة في غرب إفريقيا على الطراز الغربي تحت الاستعمار.
ولما كانت الكلية التي أسَّستها الكنيسة الأنجليكانية Anglican Church كلية علمانية. كانت الدراسة بالكلية تعمل على تخريج أجيال من القساوسة ورجال الدين ومعلمين للدين المسيحي، بهدف نشر المسيحية في جميع أنحاء غرب إفريقيا بين المسلمين والوثنيين على حدٍّ سواء.
وخلال هذه الفترة؛ شارك المبشرون الإفريقيون والأوروبيون بنشاط في النسخ اللغوي؛ حيث قاموا بترجمة الكتاب المقدس إلى العديد من لغات غرب إفريقيا؛ نظرًا لأن المسيحية كانت الوسيلة الأقوى لنشر التعليم والثقافة الغربية، وكذلك الأساس المنطقي لتشويه سُمْعَة المعرفة الثقافية الإفريقية التقليدية والإسلامية، والمؤسسات الاجتماعية التي كانت منتشرة قبل الاستعمار.
كذلك كان هناك اعتقاد علمي مدعوم بنظريات من علم الأنثروبولوجيا بوجود تفوُّق لأعراق من البشر دون أخرى، وهو ما جعل أولئك الذين دخلوا بيئات متعددة الثقافات يفترضون تفوق الثقافة الغربية –الحضارة- على الثقافة الإفريقية، وهو ما تسبَّب في أضرار ثقافية ودينية واجتماعية. مما دفَع بالاستعمار إلى الاستعانة بالجهود الفردية للمبشرين السود وأعضاء هيئة التدريس والخريجين لتلبية الاحتياجات المحلية، وليكونوا جسرًا لتجاوز الاختلافات الثقافية الضيقة إلى حد ما، كان من بين هؤلاء “جيمس جونسون”، المبشر وخريج كلية “فوره باي”.
المنطلقات الفكرية لـ”جيمس جونسون”:
إن سجل “جونسون” لصالح الإفريقيين بشكل عام، والشعوب النيجيرية بشكل خاص مثير للإعجاب. أكثر من أي مفكر آخر، نظرًا لتميز أفكاره وتفردها؛ حيث أقنع مكتب المستعمرات، بشكل مباشر وغير مباشر، بأن المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتعدِّدة لمختلف شرائح المجتمع النيجيري حقيقية. واحتج كذلك بلغة قوية ضد جميع الحملات العسكرية – “سيف الإنجليز الانتقامي والمدمّر والمُقَفر”– التي لم تُفرق بين “إيجيبو” Ijebus، و”إيدو” Edos، و”أرو” Aros، مؤكدًا أن البريطانيين أخطئوا في حق الشعوب الإفريقية ككل. وندَّد بالاحتلال القسري في “لاجوس”، وطالب باستعادة كرامة ملك “لاجوس”، وناشد باسم “العدالة” إعادة “أوفونارومين” Ovonramwen Nogbaisi إلى بنين، ودعا إلى قدسية استقلال الدول الإفريقية، وشجب الدعاوى التي تطالب بتأسيس سيادة أوروبية في إفريقيا. وبصفته عضوًا في المجلس التشريعي من سنة 1886م إلى سنة 1894م، ألقى “جونسون” خطابات عديدة داخل المجلس؛ انتقد خلالها سياسات الإدارة البريطانية أكثر من أي عضو آخر غير رسمي في المجلس.
رفع كذلك شعار “إفريقيا للإفريقيين” في الكنيسة والدولة، وهو ما أثار سخط الإداريين البريطانيين و”ساحة سالزبوري” والمبشرين البيض. لكنه استند إلى تأييد كبير لهذا التوجُّه في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر بين معاصريه في “لاجوس” وداخل “يوروبالاند”.
من الناحية الاجتماعية، كان “جونسون” عنيدًا في المطالبة بنظام تعليمي مناسب للبيئة الإفريقية، وأكَّد في عام 1909م على ضرورة توفير التعليم المجاني للنيجيريين الأذكياء والفقراء حتى المستوى الجامعي -وهو مخطَّط كان عليه الانتظار لمدة أربعين عامًا أخرى حتى يتحقق-، وندد بـ”نزع الحضارة الإفريقية”، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تفكك المجتمع النيجيري نتيجة اقتحام الحضارة الأوروبية.
طالب كذلك بضرورة تعيين نيجيريين في المناصب العليا للخدمة المدنية في سنة 1899م، لإحداث تأثير أكبر داخل المجتمع، من خلال محاضرة ألقاها في وجود المسؤولين بالمكتب الاستعماري وفي حضور الضباط البيض الذين يخدمون في إفريقيا. كما كان في طليعة الحملة الشرسة ضد تجارة الخمور الأوروبية في إفريقيا.
مثل العديد من القوميين الإفريقيين المعاصرين له، كانت أفكار “جونسون” وبرامجه تتسم بالقومية، وبالتالي فهي غير مناسبة بشكل مثالي لنيجيريا وحدها، ولا لغرب إفريقيا فقط. فقد كان يتحدث نيابة عن القارة في كل مناسبة، ودافع عن الإفريقي أيًّا كان موقعه. فصرخ ضد الحكم القمعي لإسبانيا في “فرناندو بو” Fernando Po، وألمانيا في الكاميرون، و”ليوبولد” Leopold في الكونغو. وأعلن عن بُغضه لاستعمار “البوير” Boers لجنوب إفريقيا، حتى تمنَّى تجنيد الإفريقيين للقتال ضدهم في حرب جنوب إفريقيا.
دافع “جونسون” وبرر النظام الاقتصادي الوسيط في إفريقيا، وذلك لفشل التجار الأوروبيين للعمل كوسطاء بين مفوضي التجارة في بريطانيا والمستهلكين الإفريقيين. وأعلن عن استعداده للدفاع عن التجارة الحرة إذا تخلى الأوروبيون عن السياسات الاحتكارية، والسماح للإفريقيين بالتنافس معهم على قدم المساواة.
على الرغم من كل هذه الاسهامات الفكرية، لكن يظل “جونسون” مهملًا وغير معروف للعلماء والباحثين في السياق النيجيري والإفريقي، ولا يمكن التبرير أبدًا بصعوبة الوصول إلى تراثه الفكري، فلا يزال أرشيف “جمعية الكنيسة التبشيرية” C.M.S. Archives بلندن يحتفظ بالكثير من إسهاماته. إلى جانب بعض المقالات والخطابات التي كتبها، وتم حفظها بمكتب السجلات العامة Public Record Office بلندن، وفي “رودس هاوس” Rhodes House بأكسفورد، وهو ما يغلق الباب في وجه التبريرات لنسيان إسهاماته الفكرية.
ربما يرجع الأمر أحيانًا إلى الاعتقاد بغموضه، وهو افتراض مضلل، حيث افترض العديد من الباحثين بأن القومية النيجيرية أو التطور الدستوري لم يبدأ بقوة إلا بعد عام 1914م. لكن بالبحث والدراسة يتضح بالأدلة وجود صحوة قومية قوية في نيجيريا قبل عام 1914م؛ صحوة بناءة وهادفة وملهمة ومثمرة، مهَّدت الطريق لقومية ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ حيث كان لهذه الحركة القومية ثلاثة فروع مميزة، ولكنها مترابطة، وهي مقاومة الحكام النيجيريين للحكم البريطاني، والإثيوبيانية Ethiopianism، والقومية الثقافية.
واستطاع “جيمس جونسون” أن يجسّد الفروع الثلاثة في غرب إفريقيا إلى حد كبير، ومن خلال دراسة أنشطته وكتاباته؛ يمكن تناول أهم القضايا التي شغلت فكره من خلال العناصر التالية:
1- الإثيوبيانية بوصفها اساسًا للفكر القومي عند “جونسون”
شغلت “الإثيوبيانية” فكر “جونسون” بشكل كبير خلال حياته المهنية في نيجيريا من سنة 1874م وحتى سنة 1890م. حيث لخَّص أكثر من أي مفكر آخر هذا النوع من القومية من خلال حياته المهنية وحتى وفاته في سنة 1917م.
قبل دراسة التأثير التكويني الذي صاغه “جونسون” في مسيرته المهنية، من الضروري تعريف “الإثيوبيانية”، في سياق غرب إفريقيا؛ حيث إن القوميين في السنوات قيد الاستطلاع كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم “إثيوبيون”.
في الأدب المتنامي للقومية الإفريقية، تُعدّ “الإثيوبيانية”: “هي إحدى المصطلحات المستخدمة في وصف القومية الإفريقية التي يتم التعبير عنها من خلال مرجعية دينية مسيحية”. تم اشتقاق الكلمة من نص توراتي من “المزمور” (68:31)، “يأتي العظماء من مصر، وإثيوبيا تمدّ يديها إلى الله”.
في نيجيريا، وبشكل أوسع في غرب إفريقيا، اكتسبت “الإثيوبيانية” معنى مختلفًا تمامًا عن ذلك السائد في جنوب ووسط إفريقيا، ولمزيد من التحقيق يمكن الرجوع إلى كتابات “ساندكلر” Bengt Sundkler و”جورج شيبرسون” George Shepperson، الذين تناولوا “الإثيوبيانية” في كتاباتهم أكثر من غيرهم.
في غرب إفريقيا، كانت الإثيوبيانية عنصرية بالأساس، وهي ناشئة عن سياسة “حاجز الألوان” الذي وضعه المستعمر الأبيض. علاوة على ذلك، فإن الإرساليات المسيحية لم تسمح بوكالة إفريقية في بداية عملها، ولم تسمح كذلك بقيادة إفريقية للكنيسة. وبالتالي لم يجد الإفريقيون في البعثات التبشيرية الحرية والنطاق للتعبير عن شخصيتهم. لذلك، طالبوا بالانفصال وتأسيس كنائسهم الخاصة. وهكذا أصبح الانفصال مكونًا ضروريًّا للإثيوبيانية. علاوة على ذلك، دفعت السياسة العنصرية للحكام البيض هذه الكنائس “الانفصالية” إلى أن تصبح وسائل إعلام للحركات المناهضة للحكومة، وفي كثير من الأحيان مقارّ خفيّة.
وبذلك أصبحت كلمة “إثيوبيا” تستخدم على نطاق واسع بدلاً من إفريقيا”، والإثيوبيين كمرادف للإفريقيين المتحضرين. وارتبطت كذلك بفكرة التحول إفريقيا في النهاية إلى المسيحية، وضمانة إنشاء ثيوقراطية مسيحية، لاحتضان قارة إفريقيا بأكملها.
جاء مصطلح “إثيوبيا” بالمعنى الكتابي، ليكون له دلالة عاطفية عميقة؛ حيث إثارة العنصرية الزنجية، لتصبح منارة للأمل والوعد الذي اعتقد الإفريقيون المتعلمون أنه سيتحقق في وقت ما في المستقبل؛ حيث التطلع إلى اليوم الذي ستصبح فيه إفريقيا قِبْلَة للعالم، والعرق الزنجي نموذجًا للأعراق الأخرى.
ومن الناحية العملية؛ فإن “الإثيوبيانية” تم التعبير عنها من خلال العداء العنصري تجاه المبشرين البيض، والذي كان بمثابة نضال إفريقي من أجل السلطة والموقع في حكومة الكنيسة. وعلى المستوى السياسي من خلال كفاح الإفريقيين من أجل المناصب العليا في الوظائف المدنية داخل الدولة، وهو ما أيقظ الحلم بدولة قومية يسيطر عليها الإفريقيين في نهاية المطاف.
أدَّى العداء العِرْقِيّ داخل الكنيسة إلى تأسيس “الكنائس الإفريقية” المنفصلة، لكنَّ الانفصال لم يكن عنصرًا ضروريًّا في “الإثيوبيانية” النيجيرية؛ حيث استمر عدد كبير من الإفريقيين المتعلمين -الإثيوبيين- في البعثات وتنافسوا دون جدوى، على المناصب العليا داخل سلطة الكنيسة.
عند إجراء أي تحليل لأفكار “جونسون” وعلاقته بهذه الأحداث، يجب في البداية عمل مسح مُوجَز لخلفيته وحياته المهنية؛ فقد كان لانتمائه وعمله بـ”جمعية الكنيسة التبشيرية” تحت القيادة الليبرالية للقس “هنري فين” (1796-1873م) Henry Venn، التأثير الأكثر حسمًا على تطوُّر فكره. “فين” هو سكرتير “كاتدرائية القديس بولس” في “لندن” لمدة ثلاثين عامًا (1842-1872م)، كان صديقًا مخلصًا لإفريقيا. واستطاع أن يكوّن رؤيته الخاصة حول مسألة العرق، معتبرًا الغرائز العرقية منحة إلهية يجب على الإرساليات المسيحية مراعاتها خلال الدعوة للإيمان المسيحي. وحثّ بمفرده وبشكل متعمد الإفريقيين على الاستعداد لتولّي قيادة بلادهم.
ويعود إعجاب “جونسون” بـ”فين” إلى عام 1865م، على الرغم عدم معرفته به شخصيًّا في ذلك الوقت، لكنه أبدى إعجابه بالمبادئ التي أعلنها “فين” في أعوام 1851م و1856م و1861م حول سلطة الكنيسة، وهو ما جعل “جونسون” منجذبًا لأفكار “فين”. وذلك لأن المبادئ التي أعلنها “فين” احتوت على عملية تطورية داخل الكنيسة، تمر بثلاث مراحل، لتصبح من خلالها الكنائس في إفريقيا وآسيا “أصلية” أو “محلية” Native.
أكثر ما جذب “جيمس” ومعاصريه لمخطط “فين”؛ هو احتوؤه على مبدأ الاستقلال الوطني في رئاسة الكنيسة، وهو مبدأ يمكن استخدامه لتعزيز الاستقلال السياسي؛ حيث وجد فيه المبشرون الإفريقيين اغتنام الفرص لإنفاق طاقاتهم. من خلال الترقي في الوظائف الكنسية؛ حتى الأسقفية لم تكن بعيدة عن متناولهم.
أملًا في تطوير مسيحية إفريقية مميزة؛ من خلال الدمج بين بعض ممارسات الديانات الأصلية والمسيحية، تبنّى “جونسون” اللغات المحلية في الترانيم والطقوس الكنسية، مبررًا ذلك بأن كنيسة إنجلترا “ليست كنيستنا”.
في الأخير لم يكن من الواضح ما هو الشكل النهائي لهذه الثيوقراطية المسيحية التي يسعى “جونسون” إلى تأسيسها، لكنه عاد وأشار إلى ضرورة دعم الحكومة البريطانية لأي جهد في هذا الاتجاه، لتصبح المسيحية دين الدولة، وترقية الإفريقيين في المناصب العليا المدنية، وإلغاء تعدُّد الزوجات، والقضاء على الرق والغارات على العبيد، وحظر الحرب بين القبائل.
بالتوازي مع هذا التطوّر يأتي تطور الدولة الإفريقية. والتي كانت في رأيه أبوية مثلها مثل الكنيسة؛ حيث كانت الإدارات البريطانية في “سيراليون” و”لاجوس” مذنبة من وجهة نظره بقتل روح الاستقلال لدى الإفريقيين من خلال التغلب على سلطات السكان الأصليين. لذلك رأى أن على البريطانيين ألا يمدوا سيطرتهم إلى المناطق الداخلية في إفريقيا، بل يجب أن يقوموا على تشجيع الإفريقيين لتولّي المناصب القيادية في الكنيسة والدولة، وإذا لزم الأمر، يجب إجبارهم على تحمُّل أعبائهم بأنفسهم.
تم تحفيز المشاعر القومية لـ”جونسون” من خلال تأثيرات أخرى. فبحلول عام 1869م، كان يشعر بالاشمئزاز من “كنيسة روما”، فيما يخصّ السلطة الإدارية للكنيسة؛ من حيث احتكار تعيين الأساقفة وإقالتهم وقبول استقالتهم، وحظر النقد وعدم تشجيع التطلعات القومية. وكذلك الحال بالنسبة للرهبانيات والأديرة. وانتقد سلطة البابا في إيفاد الزائر الرسولي للكنائس المحلية والمدبر الرسولي، بجانب صلاحياته الأسقفية الاستثنائية.
في الوقت نفسه صُدِمَ بمفهوم الدونية العضوية للعرق الزنجي الذي عرضته “جمعية الأنثروبولوجيا في لندن” Anthropological Society of London، والتي كان “بيرتون” Burton و”هوتشينسون” Hutchinson عضوين فيها، وكلاهما كانا قناصلة في دلتا النيجر.
كان لهذه الأفكار وغيرها من الأحداث التي حدثت في غرب إفريقيا مِن قِبَل المبشرين البيض تأثير في تعزيز قناعة “جونسون” بأن المبشرين البيض لم يكونوا مؤهَّلين روحيًّا ولا عرقيًّا لتنصير النيجيريين، وأنهم كلما غادروا البلاد مبكرًا كان ذلك أفضل. واستنكر تفردهم العرقي وعدم استعدادهم لقبول نظرائهم الإفريقيين على أساس المساواة الكاملة. ونتيجة لذلك، أصبح يحتقر بشدة المؤهلات الأكاديمية والروحية لجميع المبشرين البيض في غرب إفريقيا الذين كانوا في رأيه: “غير مستعدين لإثبات إيمانهم بالأخوة الإنسانية المشتركة، هذه الأخوة التي تحتضن جميع الأعراق وتراعي الظروف العرقية”، وتساءل: لماذا لا تستطيع الإرساليات المسيحية أن ترسل إلى غرب إفريقيا “رجالًا يتمتعون بثقافة عقلية وأخلاقية أعلى، وآراء أكثر ليبرالية”.
2- محو الأمية Literacy
عند دراسة تاريخ “محو الأمية” في غرب إفريقيا، يتضح أن الأفكار والسياسات والفلسفات التعليمية لم تكن قد بدأت فقط في عصر الحكم الاستعماري مِن قِبَل المسؤولين الإفريقيين مثل الدكتور “هنري كار” (1863-1945م) Henry Rawlingson Carr من “نيجيريا”، أو التربويين الإمبرياليين مثل “جوردون جوجيسبيرج” (1869-1930م) Sir Gordon Guggisberg من “ساحل الذهب”. لكنها بدأت مع العديد من أسلافهم المبشرين، الأوروبيين والإفريقيين، الذين تم تغليف أفكارهم وأنماط تفكيرهم وإنجازاتهم بأفكار وفلسفات البعثات التبشيرية. في هذا الصدد، كان “جونسون” واحدًا في قائمة طويلة من التربويين الرواد الذين يستحقون الاهتمام.
وحقيقة أن “جونسون” لم يكن مدرسًا من حيث المهنة، ولا موظفًا مدنيًّا مرتبطًا رسميًّا بإدارة التعليم في “سيراليون” أو “نيجيريا”؛ وهو ما لا يؤثر على مكانته كمربٍّ ومعلّم. فمن الناحية التاريخية، يجب التأكيد على أن أفكاره المتعلقة بالتعليم الأكاديمي امتدت إلى المرحلتين الأوليين من تطوير التعليم الأوروبي في غرب إفريقيا الحديثة. هذه الحقبة التي تسمَّى مرحلة “ما قبل النظام”؛ والتي امتدت حتى سنة 1882م في نيجيريا وساحل الذهب، عندما كانت الإرساليات المسيحية محتكرة للتعليم، فمنذ السنوات الأولى للحكم الاستعماري ظلت هيمنة الإرساليات المسيحية مهمَّة وحاسمة؛ حيث احتكرت الحكومة الاستعمارية لنفسها السيطرة من خلال منح هذا الحق للإرساليات حصرًا، وتشجيعها على إنشاء مدارس ذات صبغة مسيحية.
وتجدر الإشارة إلى أن “جونسون” –في البداية- شدد على محو الأمية، وليس التعليم، وذلك في مواجهة “الكتاتيب الإسلامية”، فقد كان متصالحًا مع نفسه حين أقر بأن نظامًا للتعليم في إفريقيا كان موجودًا بالفعل قبل تدخل الرجل الأبيض. وأكد كذلك على أن الإفريقيين كانوا أكثر تطورًا في مجتمعاتهم التقليدية، فقد كانوا يمتلكون الأعراف والأخلاق والعادات والفضائل، والتي اعترف “جونسون” أنها كانت حائطًا منيعًا ضد ميول بعض الإفريقيين لما يسمى بالحضارة الأوروبية.
وتتضح هذه الرؤية لدى “جونسون” في وصفه للمجتمعات التقليدية من خلال كتابه “اليوربا الوثنية” Yoruba Heathenism (1899م) على هذا النحو: “عَلَّمَت الوثنية وحدها اليوروبا؛ الاحترام، والتقديس لكبار السن وللسلطة، واحترام الأبناء للأباء وتبجيلهم وطاعتهم بشكل دائم، ورعايتهم والاهتمام بهم إذا ألمَّ بهم مرض أو طعنوا في السن، وفي أوقات الحاجة الناتجة عن ظروف أخرى. بجانب أنهم كانوا يجلون العلاقة الزوجية، ويحافظوا على استمراريتها؛ حيث قيام الزوج بدوره في الرعاية والحماية، في الوقت الذي تخضع فيه الزوجات لأزواجهن. وممارسة واجبات الضيافة للجميع وخاصة للغرباء؛ والإخلاص للصداقة في ظل أيّ ظروف. والعفة، والصدق في القول والعمل، واللطف، والشجاعة كصفة تتفاخر بها القبائل بين بعضها البعض؛ بينما يُعاقب بالإعدام على القتل، والسرقة، وممارسة السحر في بعض الأحيان. ويُعاقب بالخزي الاجتماعي والغرامات أحيانًا على الزنا والفسق؛ كل ذلك من بين أمور أخرى، كالكبرياء والغرور والإسراف”.
هذا لا يعني أن “جونسون” قلل من العيوب التي يعاني منها الإفريقيون الوثنيون غير المتعلمين. فقد كان يرى أن “محو الأمية” لا غِنَى عنه للإفريقيين إذا أرادوا تحقيق المساواة مع الأعراق الأخرى والمطالبة بها. ففي اعتقاده وتصوره أن “محو الأمية” من شأنه أن يدفع الإفريقيين إلى الارتقاء والنهوض، وهو ما يضعهم على قدم المساواة مع الشعوب الأخرى. ورأى كذلك في “محو الأمية” البداية لبناء مخزون المعرفة والإنجاز التراكمي للعرق البشري منذ فجر الأبجدية. ومن شأنها كذلك أن تمنح الإفريقيين الفرصة للاستفادة من عقولهم، وإثبات عبقريتهم الإبداعية، وهو ما يُمثّل إضافة إلى مجموع الحكمة البشرية في مجالات الفن والحكمة والأدب. قال “جونسون”: “إن من واجب الإفريقيين رعاية [محو الأمية] في أفضل صورها وأكثرها تطورًا، من خلال التعليم العالي، وإلا فإن القارة ستنزلق إلى براثن التخلف”.
إن التمييز بين “محو الأمية” و”التعليم” لدى “جونسون”، ما هو إلا تعبير عن إدراكه المبكر لأهدافه وغاياته؛ نظرًا لأن التعليم في حقبة ما قبل الاستعمار وصل إلى مستوى كان يحظى باحترام النخبة الإفريقية المثقفة المعاصرة بجانب المعلقين الأوروبيين، فقد أصبح جليًّا الآن كذب الادعاءات الإمبريالية التي ادعت تخلُّف الإفريقيين ودونيتهم قبل الاستعمار، في محاولة لطمس تاريخهم. وهو ما كان يعلمه “جونسون” في وقته جيدًا. لذلك كانت دعوته تنصبّ بالأساس على “محو الأمية” كبداية لمرحلة تعليمية جديدة أطلق عليها “التعليم الأدبي”، الذي يعتمد بالأساس على المسيحية في مواجهة “الكتاتيب الإسلامية”.
3- التعليم الأدبي Literary Education
كان موضوع التعليم بالنسبة إلى “جونسون” ذا أهمية قصوى، ففي الوقت الذي كان يرى القساوسة أن المدرسة ليست أكثر من كونها آلية من آليات التبشير، فإنهم بالكاد كان يولون اهتمامًا يُذْكَر للإشراف على المدارس التابعة لهم، وعلى العكس من ذلك؛ ظلّ “جونسون” طوال حياته المهنية مديرًا فعَّالًا للمدارس التي كانت تحت رعاية أبراشيته. ودائمًا ما كان يتقمص دور المعلمين ومفتشي التعليم بهدف اختبار التلاميذ في الامتحانات الشفوية والمكتوبة.
وفي السياق نفسه تلاحظ أن “جونسون” زار بريطانيا في أربع مناسبات، في السنوات 1873م و1887م و1899م و1909م؛ بهدف مناقشة حالة “التعليم الأدبي” في غرب إفريقيا، والدور الذي كان مقتنعًا بأن على البريطانيين أن يلعبوه في تنمية هذه التربية لصالح الإفريقيين؛ حيث تم مناقشة هذه الأمور وغيرها بشكل مباشر مع مكتب الاستعمار البريطاني.
وفي الفترة من 1886م إلى 1894م، عندما كان عضوًا في “المجلس التشريعي في لاجوس”، أولى اهتمامًا لـ”التعليم الأدبي” أكثر من أيّ عضو آخر. فمن خلال عضويته بالمجلس، أصبح أحد الأعضاء المؤسسين لمجلس التعليم، وهو أول مؤسسة للتنسيق الحكومي في نيجيريا. استخدم كذلك غرفة المجلس لإقناع الحكومة البريطانية بإنشاء إدارة تفتيش فرعية لمستعمرة “لاجوس” في وقتٍ لم يكن فيه سوى قسم مشترك للمستوطنات البريطانية في غرب إفريقيا. كما كان له دور فعَّال في تعيين “هنري كار” كأول مفتش للتعليم الثانوي في نيجيريا.
ومن خلال مفهومه لـ”التعليم الأدبي” استطاع “جونسون” أن يطوّر فلسفته الخاصة لما يرنو إليه من هذا المصطلح الذي كان يشغل فكره، وترتكز هذه الفلسفة بالأساس على وجود تعليم مشبع تمامًا بالمسيحية؛ حيث يشكل الكتاب المقدس لُبّ وجوهر التعليم. كان يهدف من خلال هذه الرؤية إلى جعل جميع الإفريقيين مسيحيين؛ حيث إن المسيحية بالنسبة لـ”جونسون” هي “التمدن والتحضر والارتقاء”، والذي من خلالها يمكن تحويل الإفريقيين عن الإسلام وتخلّي الوثنين منهم عن الديانات الإفريقية الأصلية. وهو ما عبّر عنه بقوله: “إن الكتاب المقدس جاء إلى البشر من السماء، بوحي إلهي، لذا فهو المعيار الوحيد الذي يجب على الأفراد والمجتمعات من خلاله اختبار أفعالهم. أما جميع الكتب الأخرى فهي ذات أصول عادية. وهو ما يجعلها ذات قيمة تعليمية تأسيسية. إنها مجرد مستودعات للحكمة البشرية”.
وأصر “جونسون” على ضرورة تعليم الكتاب المقدس للأطفال بشكل واضح في مواجهة الكتاتيب التي كانت منتشرة في غرب إفريقيا وتقوم على تعليم القرآن للأطفال؛ حيث كان يعتقد أن: “الكتاب المقدس هو وحده القادر على أن يجعل الطفل صالحًا ومقدسًا”. وبأن: “التعليم يجب أن يكون مصدره إلهيًّا، عن طريق الوحي. وأضاف: “إن أكبر كارثة يمكن أن تصيب بلدًا ما هي أن يتم علمنة التعليم فيها؛ فالتعليم الذي لا يقوم على الدين وتعاليم الكتاب المقدس، هو تعليم تم إنتاجه لعرق من الكفار والملحدين”.
كان “جونسون” متفردًا من بين معاصريه في رؤيته للتعليم من حيث العقيدة المسيحية، وذلك من خلال تأكيده على انتشار المحتوى الأخلاقي للتعليم وتعريفه من منظور مسيحي، وبإعطاء الأولوية للكتاب المقدس، بجانب استثمار التعليم لغرض إلهي. صحيح أن أيًّا من معاصريه في العصر الفيكتوري لم يشكك في قيمة الأخلاق المسيحية في تدريب شخصية الأطفال في المدارس الابتدائية والثانوية، لكنهم أكَّدوا بشكل أكبر على الفائدة الدنيوية والعلمانية للتعليم.
رفَض عدد من المفكرين الإفريقيين رؤية “جونسون”، ومن ثَمَّ فإن “السير صمويل لويس” (1834-1903م) Sir Samuel Lewis، الخبير القانوني البارز في عصره، والذي تعود أصوله إلى “الإيبو”؛ كان رأيه مُعبِّرًا عن تفكير غالبية النُّخْبَة الإفريقية المتعلمة في مواجهة رؤية “جونسون”، عندما أعلن أن الهدف المباشر للتعليم هو مساعدة الإفريقيين على تحقيق “اليقظة الفكرية”، وفَهْم قوانين الطبيعة وتطبيقها لتنمية الرفاهية المادية للبشرية. وشدّد على أن تحقيق الرفاهية والتقدُّم والذي يجب أن يكون له الأولوية العليا للمعلمين في المرحلة الحالية، وليس التركيز الديني الذي تعمل الإرساليات المسيحية على تقديمه في مدارسها. حتى “هنري كار”، رجل الكنيسة الجاد والمبشر ورمز التميز في الشخصية والشؤون الأخلاقية، لم يكن ميالًا لرؤية التعليم من منظور روحي وديني في الغالب.
4- دور الدولة في الإشراف على التعليم
أولى “جونسون” مهمة تطوير التعليم إلى الدولة بجانب المجتمع؛ حيث إن الدولة لن تستطيع الوصول إلى تطوير التعليم بشكل كامل ومُجْدٍ إلا إذا كانت هناك مشاركة ومساهمة مِن قِبَل المجتمع ومكوناته، والذي سيكون له الدور الأكبر في إنجاح العملية التعليمية. وفي ظل الحكم الاستعماري، فإن الدولة ستفشل في أداء واجبها إذا لم تضع “التعليم الأدبي” تحت تصرُّف مواطنيها.
وطالب “جونسون” بضرورة إقناع “الوثنيين” والمسلمين على حد سواء في غرب إفريقيا، الذين كانوا غير مبالين وغير مهتمين بالتعليم الغربي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وذلك بإرسال أطفالهم إلى المدارس التي قامت الحكومة بإنشائها.
وبحسب رأي “جونسون”، فإن مسؤولية تعليم الإفريقيين تقع على عاتق الإدارة الاستعمارية بصفتها الحكومة. وبما أن المحكومين يقومون بسداد الضرائب للحكومة، من خلال الرسوم الجمركية، فقد كان لزامًا على الحكومة تخصيص الجزء الأكبر من الأموال المتلقاة للتعليم الأدبي.
دعمًا لقناعته بأن توفير التعليم الأدبي هو واجب الدولة، ألقى محاضرات في مكتب المستعمرات Colonial Office في أعوام 1874م و1887م و1899م و1909م مطالبًا بتقديم المنح الدراسية في المرحلتين الثانوية وما بعد الثانوية للطلاب الفقراء الأذكياء.
كان “جونسون” ممتنًا كذلك لوجود مدارس ابتدائية وثانوية في غرب إفريقيا البريطانية. وطوال حياته لم يشتكِ أبدًا من نقصٍ يُذْكَر لاحتياجات الإقليم؛ حيث كان في كل محطة للإرساليات يتم إنشاء مدرسة للتعليم المسيحي. وفي عام 1845م، تم تأسيس أول مدرسة ثانوية لقواعد اللغة في سيراليون من قبل “جمعية الكنيسة التبشيرية”.
ومع ذلك كانت لديه شكاوى كثيرة بشأن هذه المؤسسات. وقال: إن الإدارة البريطانية لا تُبْدِي اهتمامًا كافيًا بالمدارس الابتدائية؛ وعليه فيجب ضخّ الأموال في شكل مِنَح للمديرين؛ كما يجب على الحكومة زيادة “اهتمامها ودعمها للتعليم الابتدائي لجميع الإفريقيين”.
رابعًا: الدلالات الفكرية لـ”جيمس جونسون”:
كان لأفكار “جونسون” ونشاطاته دلالات فكرية؛ يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
إن استدعاء “جيمس جونسون” في التاريخ القومي متعدِّد الجوانب، من حيث القوة الفكرية والروح القومية وإدراك شكل التعليم الأنسب في البيئة الإفريقية.
سيطر على “جونسون” الاقتناع بأن المسيحية والقومية الإفريقية مترابطان، وأن الأولى يجب أن توفر البنية الفوقية للأخيرة. وعلى الرغم من الجوانب السياسية في تفكير “جونسون”، لكنَّ أفكاره في الوقت نفسه كانت مسيحية أكثر منها قومية.
استطاع “جونسون” أن يجمع من خلال أفكاره وآرائه بين جميع الفرقاء، فقد كان “جونسون السياسي” في “سيراليون”، و”جونسون المقدس” Holy Johnson في نيجيريا، وبالنسبة لـ”ساحة سالزبوري” “بابا نيجيريا”. وذلك نتيجة تحوُّلات فكرية عميقة، نتيجة مروره بعدة أطوار خلال حياته.
تكمن أهمية أفكار “جيمس جونسون” السياسية والدينية بشكل أساسيّ من خلال مشاركتها مع العديد من الأفارقة المتعلمين في غرب إفريقيا حتى نهاية القرن التاسع عشر؛ حيث كانت المسيحية من وجهة نظرهم هي الأداة السياسية الأكثر فاعلية التي يمكن استخدامها لتحقيق الاستقلال من خلال تأسيس دولة ثيوقراطية في غرب إفريقيا. وهي النقطة التي يتحاشاها الكثير من الباحثين عند دراسة الفكر الإفريقي للفترة قيد التحقيق.
إحدى سمات “جيمس جونسون”، هي أنه كلما نشأ تعارض بين شعار “الأوروبية” للمسيحية التي نشأ في مدارسها التبشيرية، والعادات والثقافات “الإفريقية” المحلية، كان قراره دائمًا لصالح الأول. ولكن منذ عام 1890م فصاعدًا بدأ موقفه يتبدل قليلًا، بسبب اعتراضه على ممارسات البعثات التبشيرية الأوروبية، التي أظهرت تناقضًا واضحًا بين ما كانت تدعو إليه من مبادئ أخلاقية وإنسانية والممارسات العملية على الأرض. وبعد أن كانت حماسته القومية في تراجع بسبب إيمانه غير المحدود بجمعية الكنيسة التبشيرية، التهبت هذه الحماسة بشكل دعا “ساحة سالزبوري” إلى القلق. وليصبح بحلول عام 1892م “متمردًا” لكل من الدولة والكنيسة. وليتحول من رجل الكنيسة المرن، الذي يغلب عليه الطابع الروحي، إلى الرجل القومي الذي لا يمكن كَبْح جماحه، أو السيطرة على أفكاره ونشاطاته.
التعليم هو مجموع كل الخبرات التي يكتسبها الفرد عقليًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا وجسديًّا، والتي تُمكّنه من استيعاب ثقافة المجموعة التي ينتمي إليها، والمشاركة والمساهمة فيها. وبغض النظر عن المنهج الدراسي (الأهداف، والمحتوى، والطريقة، والتقييم) تسعى جميع النظم التعليمية إلى تحقيق هذا الغرض سواء أكان تقليديًّا أم أوروبيًّا.
وختامًا:
يتداخل الدين والقومية في كثير من الحالات، فأحيانًا يكون الاشتراك في الدين هو السمة الأساسية لهوية الأمة، بينما تحاول القومية العلمانية في حالات أخرى أن تجمع بين الناس من مختلف المعتقدات الدينية. سعى “جونسون” إلى التعليم لتحقيق كل غاياته سواء قومية أو دينية؛ وذلك لاستيعاب ثقافة المجموعة من خلال الجمع بين الثقافة الغربية والتقليدية، ومن ثَمَّ ربطها بالدين بهدف خَلْق هوية قومية مسيحية تتسم بالحداثة مستفيدة من الثورة العلمية التي ظهرت في أوروبا خلال القرنين السادس والسابع عشر.
___________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Asante, Molefi Kete. African Studies: History, Politics, Economics, Culture. Routledge, 2003
Ayandele, E. A. “AN ASSESSMENT OF JAMES JOHNSON AND HIS PLACE IN NIGERIAN HISTORY, 1874-1917: Part I, 1874-1890.” Journal of the Historical Society of Nigeria, vol. 2, no. 4, 1963, pp. 486–516.
Ayandele, E. A. “AN ASSESSMENT OF JAMES JOHNSON AND HIS PLACE IN NIGERIAN HISTORY, 1874-1917—PART II, 1890-1917.” Journal of the Historical Society of Nigeria, vol. 3, no. 1, 1964, pp. 73–101.
Ayandele, Emmanuel Ayankanmi. African historical studies. Routledge, 2005
Bankie, Forster Bankie, and Kingo Mchombu. “Pan-Africanism/African Nationalism.” Strengthening the Unity of Africa and its Diaspora (2008)
Ccedil; ar, Turul Mart. “British colonial education policy in Africa.” International Journal of English and literature 2.9 (2011): pp. 190-194
Dei Ofori-Attah, Kwabena. “The British and curriculum development in West Africa: A historical discourse.” International review of education 52.5 (2006): pp. 409-423
Greene, Sandra E. “Minority voices: abolitionism in west Africa.” Slavery & Abolition 36.4 (2015): pp. 642-661
Hastings, Adrian. The church in Africa, 1450-1950. Clarendon Press, 1995
Okon, Etim E. “Christian missions and colonial rule in Africa: Objective and contemporary analysis.” European Scientific Journal 10.17 (2014)
White, Shane. “The Death of James Johnson.” American Quarterly, vol. 51, no. 4, 1999, pp. 753–795.