رحل كينيث كاوندا آخر جيل القادة العظام في إفريقيا عن عمر يناهز 97 عامًا. إنه “الأب المؤسس” والرئيس الأول لزامبيا. كان من أبرز القادة الأفارقة الذين قادوا حركة التحرر الوطني في بلدانهم حتى حصلوا على الاستقلال من الحكم الاستعماري.
حكم هؤلاء القادة بمقتضى قناعاتهم الأيديولوجية التي كانت أقرب إلى الفكر الاشتراكي، وإن أضفوا عليها طابعًا إفريقيًّا متميزًا.
وطبّق هؤلاء المفهوم الأفلاطوني المتعلق بحكم الفلاسفة، فكان كاوندا بمثابة الملك الفيلسوف على شاكلة رفقاء الدرب أمثال الرئيس المنقذ كوامي نكروما في غانا، وامزي جومو كينياتا في كينيا، ومواليمو جوليوس نيريري في تنزانيا، وشاعر الزنوجة ليوبولد سنغور في السنغال.
ولا شك أن إرث كاوندا وفلسفته الخاصة بالتحرر الإنساني في مرحلة ما بعد الاستعمار قد ترك بصمة عميقة لا تخطئها عين في المجتمع الزامبي وفي إفريقيا حتى الآن.
سيرته الأولى وميلاد مناضل من أجل الحرية:
وُلِدَ كينيث بوتشيزيا كاوندا (المعروف باسم ك ك) في 28 أبريل 1924م في مقاطعة لوبوا الشمالية في شمال روديسيا (زامبيا حاليًا) لأبوين من نياسالاند (ملاوي حاليًا)، حيث كان والده ديفيد كاوندا من رجال الكنيسة، بينما كانت أمه معلمة.
لم يعش طفولة هانئة حيث رحل والده وهو في سن الثامنة. ورغم فقر والدته، فإنها تمكنت من توفير بعض المال بما يمكنه من الالتحاق بالمدرسة. تلقى تعليمه الابتدائي في لوبوا، بينما كانت مدرسته الثانوية في لوساكا. في أغسطس 1940م، كما يدوّن كاوندا في سيرته الذاتية، “افتتحت أول مدرسة ثانوية في مونالي في لوساكا. وفي عام 1941م تم اختياري مع تسعة وعشرين طالبًا آخرين من مختلف أنحاء الإقليم لأقوم بدوري المحدد في مونالي”. سمع الكثير في هذه المرحلة المهمة من تعليمه الثانوي عن تجربة جنوب إفريقيا، ومعنى الفصل العنصري، واضطهاد الأفارقة على يد البيض.
بعد أن أكمل عامين في دورة تدريب المعلمين، تم استدعاؤه للعودة إلى مسقط رأسه للعمل في مدرسة لبوا للبنين.
وفي وقت لاحق، ذهب مع بعض أصدقائه إلى تنجانيقا بحثًا عن فرصة أفضل للعمل، لكن ظروف الخدمة لم تكن مواتية، لذلك عادوا أدراجهم. ومن الأمور المثيرة في هذه المرحلة أنه التحق أيضًا بالجيش في لوساكا ليتم فصله بعد يوم واحد فقط من الخدمة، والسبب في ذلك، على حد قوله: “وصول أخبار إلى الجيش تفيد بأنه من الشخصيات غير المرغوب فيها”.
دخوله عالم السياسة:
في عام 1949م، دخل كاوندا عالم السياسة؛ حيث أصبح مترجمًا ومستشارًا للشؤون الإفريقية للسير ستيوارت جور براون، وهو مستوطن أبيض ليبرالي وعضو في المجلس التشريعي لروديسيا الشمالية. اكتسب كاوندا معرفة بالحكومة الاستعمارية، بالإضافة إلى المهارات السياسية، وهو الأمر الذي خدمه جيدًا عندما انضم في وقت لاحق إلى المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي يُعدّ أول منظمة كبرى مناهضة للاستعمار في شمال روديسيا.
سرعان ما صعد نجمه ليلتحق بطليعة النضال من أجل الحرية ضد الاستعمار. وفي عام 1960م برز كرئيس لحزب الاستقلال الوطني المتحد.
كان نضال كاوندا ضد هيمنة العرق الأبيض مستوحى من تجربتين عانى هو شخصيًّا خلالهما من التمييز العنصري.
من بين التجارب اللافتة للنظر عدم السماح للأفارقة بدخول المتاجر الأوروبية من الباب الأمامي. إذا أرادوا أي شيء، يتعين عليهم الدخول عبر الفتحة الخلفية الموجودة في الحائط. يقول كاوندا عن تجربته الخاصة: “دخلت وطلبت كتابًا بأدب… قال المالك وهو يشير إلى الباب بغلظة شديدة، “اخرج من هنا”.
قلت له مرة أخرى: “أنا فقط أطلب كتابًا، ولا يمكنني الحصول عليه في أيّ مكان آخر في المدينة”.
قال الرجل الأبيض: “يمكنك الوقوف هناك حتى موعد عيد الميلاد ولن تحصل على كتاب مني أبدًا”!
أما التجربة الثانية فكانت ترتبط بعدم السماح للسود أيضًا بتناول الطعام في نفس المطاعم مع البيض. وقد طُرِدَ كاوندا مرات عديدة من المطاعم والمحلات التجارية لمجرد أنه كان أسود اللون.
لم تهتمَّ الحكومة الاستعمارية بقضايا التعليم والرعاية الطبية للأفارقة. لم يكن مستغربًا أنه بُعَيْد مغادرة البريطانيين، كان عدد الخريجين في الإقليم دون المائة شخص من السكان الأصليين.
وعلى أي حال بدأ صاحبنا في سن الخامسة والعشرين، حملة سلمية ناجحة ضد اتحاد روديسيا ونياسالاند الذي كان يهيمن عليه البيض، راكبًا دراجته وجيتاره معلق على رقبته وهو يغني أغاني الحرية.
وفي عام 1964م، فاز بأغلبية ساحقة كرئيس لوزراء روديسيا الشمالية (زامبيا). وعندما حصلت البلاد على الاستقلال في وقت لاحق من ذلك العام، تم انتخابه رئيسًا. تم تغيير اسم روديسيا الجنوبية، التي كانت أيضًا جزءًا من اتحاد روديسيا ونياسا لاند، إلى روديسيا في عام 1964م، وظلت تحت حكم الأقلية البيضاء.
شدَّد كاوندا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في وطنه، لكنه أصَرَّ على مساعدة الأفارقة في محاربة الحكومة التي يهيمن عليها البيض في روديسيا، دون خوف من الانتقام العسكري والاقتصادي الذي يمكن أن تتعرض له زامبيا.
قام كاوندا بدور فعَّال في ترتيب مؤتمر لندن عام 1979م الذي أدَّى إلى تمهيد الطريق أمام حكم الأغلبية السوداء في روديسيا، والتي تم تغيير اسمها إلى زيمبابوي في عام 1980م.
وأُعيد انتخابه لفترة رئاسية سادسة في عام 1988م، بيد أنه تخلَّى عن السلطة طوعًا في عام 1991م عندما هُزِمَ في أول انتخابات تعددية تشهدها بلاده على يد فريدريك تشيلوبا.
في مايو 1996م، تم تعديل الدستور بحيث لا تزيد فترة الرئاسة عن مدتين، واشتراط أن يكون المرشحون للرئاسة من الجيل الثاني على الأقل من مواطني زامبيا. ونظرًا لأن أصول كاوندا تعود إلى ملاوي فقد تم استبعاده من انتخابات نوفمبر 1996م، والتي قاطعها حزبه، حزب الاستقلال الوطني المتحد، بعد ذلك. استقال كاوندا من منصبه كرئيس للحزب وتقاعد من السياسة في مارس عام 2000م.
إنسانية كينيث كاوندا:
عندما تولَّى كاوندا السلطة خلفًا للحكم البريطاني، اختارت حكومته أيديولوجية: الإنسانية الزامبية. لقد كانت شكلاً من أشكال الاشتراكية الإفريقية، التي جمعت بين القيم الإفريقية التقليدية والقيم المسيحية والاشتراكية الغربية.
أضحت إنسانية كاوندا بمثابة لاهوت السياسة في زامبيا ابتداء من عام 1967م. تم تبرير هذه الأيديولوجية بالرجوع إلى الميراث التقليدي لإفريقيا الذي كان يحمل دائمًا الكثير من القِيَم الاشتراكية الأصلية التي حاول المستعمرون تدميرها، وبالتالي كانت النزعة الإنسانية الزامبية محاولة لإنقاذ القيم والتقاليد الإفريقية واستخدامها كأساس لبناء الدولة الحديثة.
مثل كل نزعة إنسانية أخرى، فقد شرعت زامبيا في بناء مجتمع يضع الإنسان في قلب كل نشاط، اجتماعي واقتصادي وسياسي.
عدّد كاوندا المبادئ الأساسية للإنسانية الزامبية على النحو التالي:
1/الإنسان في المركز – لا يتم تعريف الإنسان حسب لونه أو عرقه أو دينه أو عقيدته أو ميوله السياسية أو مساهمته المادية أو أي أمر آخر.
2/ كرامة الإنسان – تعلمنا الإنسانية أن نكون مراعين لإخواننا البشر في كل ما نقوله ونفعله.
3-/ عدم استغلال الإنسان لأخيه لإنسان – تكره الإنسانية كل شكل من أشكال استغلال البشر.
4/ تكافؤ الفرص للجميع – تسعى الإنسانية إلى خلق مجتمع قائم على المساواة – أي مجتمع توجد فيه فرص متكافئة للتنمية الذاتية للجميع.
5/ العمل الجاد والاعتماد على الذات – تعلن الإنسانية أن الرغبة في العمل الجاد ذات أهمية قصوى؛ بدونها لا يمكن عمل أي شيء في أي مكان.
6/ العمل معًا – يجب أن تتضمن حملة الإنتاجية الوطنية نهجًا مجتمعيًّا لجميع برامج التنمية. هذا يستدعي وجود مجتمع وروح الفريق.
7/ الأسرة الممتدة – في ظل نظام الأسرة الممتدة، لا يتم إلقاء أيّ شخص مسن إلى الكلاب أو إلى المؤسسات الخاصة مثل دور رعاية كبار السن.
8/ الولاء والوطنية – من خلال التفاني والولاء فقط يمكن أن تستمر الوحدة.
لضمان تنفيذ الإنسانية الزامبية، اتخذت الحكومة تدابير ملموسة. تم تدريسها في المدارس والكليات. كما خضع موظفو الخدمة المدنية أيضًا لدورات تدريبية مختلفة حول الإنسانية الزامبية، وفي الواقع، اعتمدت ترقيتهم على مقدار ما يعرفونه منها.
وفي نفس الاطار تم إنشاء وزارة حكومية (التوجيه الوطني) لتتولى نشر هذه الفلسفة. كما تم تقديم ندوات وورش عمل ودورات قصيرة في الجامعات حول الإنسانية الزامبية. كان من المتوقع أيضًا أن تلعب وسائل الإعلام دورًا مهمًّا للغاية في هذا الاتجاه.
كاوندا القدوة والمثل:
كان كاوندا كثيرًا ما يُعطي القدوة والمثل لدرجة أنه توقَّف عن تناول اللحوم في وقت معين من حياته بعد أن شهد تجربة مروّعة مر بها شعبه. يقول في سيرته: “ما زالت ذكرى ذلك اليوم ماثلة في ذهني عندما شاهدت مجموعة من النساء الإفريقيات الفقيرات يتم التعامل معهن بخشونة خارج حانوت جزار مملوك للبيض؛ لاحتجاجهن على جودة وسعر اللحوم العفنة التي كان يحاول البائع إرغامهن على شرائها. أقسمت حينها ألا آكل أبدًا أي شيء لا يستطيع أفقر بني وطني من الأفارقة تحمُّله”.
شدّد كاوندا على الدور المركزي الذي يجب أن يلعبه التعليم في تحرير الشعوب الإفريقية. بعد الاستقلال السياسي لزامبيا، بنى العديد من المدارس الابتدائية والمعاهد لتدريب الممرضات. كما أصبحت زامبيا على الجبهة الإنسانية، رائدة في الكفاح ضد الاستعمار والفصل العنصري.
وفي ذلك تبنّي أسلوب اللاعنف حيث يقول: “إن سلاحنا الرئيسي لم يكن البنادق ولكن الكلمات – آلاف وآلاف الكلمات، مكتوبة ومنطوقة لحشد شعبنا، لتقديم مطالباتنا أمام الحكومة البريطانية والعالم، للتعبير عن غضبنا والإحباط من إنكار أن لدينا حقًّا مكتسبًا في حكم بلدنا”.
في إطار سعيه لتنمية المجتمع الإنساني، أدان كاوندا الكسل ودعا العمال الواعين إلى مراعاة مصالح زملائهم العمال وأفراد المجتمع بشكل عام وعدم إلحاق الضرر بهم من خلال السلوك غير المسؤول.
ختامًا:
على الرغم من أن إنسانية كاوندا بدت براقة وواعدة، لكنها كانت عصية على التطبيق. يمكن أن يُعزى ذلك إلى حقيقة أن زامبيا هي أول دولة إفريقية اعتمدت الإنسانية رسميًّا كفلسفة وطنية، وحاولت بنشاط تنفيذها.
وعليه حدثت مشكلة ترجمة النظرية إلى تطبيق عملي وواقع ملموس، لم يكن هناك مكان للنظر والتعلم من الآخرين.
من جهة أخرى لم تكن كأيديولوجية متجذرة بقوة بين مواطني زامبيا. كان المسؤولون الحكوميون يرددون مجرد شعارات جوفاء دون اقتناع عميق وفهم حقيقي بأن النزعة الإنسانية الزامبية مفيدة في جهود بناء الدولة.
أما على صعيد الأكاديميين والمثقفين، فقد كانوا مترددين في قبول ونشر فلسفة الإنسانية؛ لأنهم وجدوا أنها ليست ذات طابع أكاديمي أو حتى أيديولوجي.
السبب هو أنها تفتقر إلى القاعدة النظرية التي يمكن من خلالها تحليل معالمها واتخاذ الإجراءات والسبل الكفيلة بتنفيذها.
لقد فشلت النزعة الإنسانية في زامبيا من الناحية الاقتصادية. فقد واجهت زامبيا العديد من الصعوبات الاقتصادية منذ منتصف السبعينيات والتي فشلت الإنسانية في معالجتها بشكل مناسب.
بحلول منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كانت البلاد في وضع اقتصادي أسوأ مما كانت عليه وقت الاستقلال، والأسباب واضحة للغاية:
أولا: كانت إنسانية كاوندا، التي كانت شكلاً من أشكال الاشتراكية الإفريقية، تعارض بشدة الرأسمالية كنظام اقتصادي. ترتب على ذلك النظر إلى حافز الربح الذي يشكل عماد الرأسمالية بشيء من السلبية. وفقًا لإنسانية كاوندا، تشجع الرأسمالية استغلال البشر. وعليه تمشيًا مع الاشتراكية الجديدة، تم تأميم عدد من الصناعات الخاصة، وأصبحت الحكومة الموزع الرئيسي للثروة الناتجة عن الصناعات التحويلية.
ثانيًا: جادل كاوندا بأنه لا يمكنه تحمل رؤية شعبه يعاني، ولذا فهو مستعد للتخلي عن السياسات الاقتصادية السليمة لمجرد أنها تسببت في المعاناة. على سبيل المثال، في منتصف الثمانينيات رفضت حكومة كاوندا اتباع برنامج التكيف الهيكلي التابع لصندوق النقد الدولي الذي دعا إلى إلغاء الدعم الغذائي بسبب الصعوبات التي كان من الممكن أن يسببها ذلك للفقراء.
على الرغم من هذه الانتقادات، فإن كاوندا يمثل شخصية لا يمكن نسيانها في أوساط شعب زامبيا؛ إن لم يكن ذلك بسبب مساهمته كفيلسوف الإنسانية الزامبية، ولكن كقائد شجاع شارك بنشاط في الكفاح من أجل الاستقلال والرئيس المؤسس لدولتهم الحديثة.
سوف يتذكر أبناء زامبيا فترة حكم كاوندا من خلال التناقض بين أسلوبه والأسلوب المتهور الفاسد للطبقة السياسية المعاصرة.
على الرغم من كونه بطل التحرير الوطني، لم يفقد كوندا اللمسة الإنسانية أبدًا حتى آخر رمق في حياته.
في الوقت الذي يسافر فيه الكثير من أبناء النخبة الحاكمة في إفريقيا إلى الولايات المتحدة أو الهند لتلقي العلاج الطبي، فضَّل كاوندا أن يُعالَج ويموت على تراب وطنه.