“هنري سيلفستر ويليامز” (1869-1911م) Henry Sylvester Williams؛ ربما يكون اسمه قد تسلل عبر سجلات التاريخ، بوصفه رجلاً لا يزال صدى عمله حتى اليوم يتردد بعد أكثر من مائة عام من وفاته. فعند النظر في السِّيَر الذاتية لمفكري إفريقيا المنسيين؛ فإن الذاكرة الإفريقية لا تزال تحتفظ بالأسماء دون التفاصيل. فمن بين عدة أسماء لرُوّاد الفكر الإفريقي صوَّتت مجموعة من طلاب السنة النهائية في “جامعة جزر الأنتيل وجويان” University of the Antilles and Guyana لـ”ويليامز” بوصفه “أبو الوحدة الإفريقية” Father of Pan-Africanism. ولماذا لا؟ وهو الذي قد صاغ مصطلح “الجامعة الإفريقية” Pan-African، ونظَّم المؤتمر الإفريقي الأول للجامعة الإفريقية في “لندن” سنة 1900م، وبالتالي زرع بذورًا كان من شأنها أن تطرح ثمارها بعد نصف قرن، وبعد فترة طويلة من نسيانها.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية لـ”ويليامز”:
وُلِدَ “هنري سيلفستر ويليامز” Henry Sylvester Williams في التاسع عشر من فبراير سنة 1869م، في قرية “أروكا” Arouca، على بُعْد عشرة أميال شرق “بورت أوف سبين” Port of Spain، عاصمة “ترينداد وتوباجو”.
نشأ في عائلة من الطبقة المتوسطة في المستعمرة البريطانية، كانت طفولته أكثر راحة من أقرانه، لكنَّه من سلالة إفريقية مُورِسَ عليها الاستعباد. كان “هنري” الأكبر بين خمسة أطفال لأبوين مهاجرين من “بربادوس” Barbados. كان والده “هنري” صانعًا للعجلات.
تميّزه وذكاؤه العقلي جعله يعمل مدرسًا في سنّ السابعة عشرة، ليتم تكليفه بإدارة المدرسة بعد ذلك بعام (1887م).
غادر إلى “نيويورك” عندما كان في الثانية والعشرين من عمره (1891م)؛ بحثًا عن فرصة أفضل في ظل انخفاض رواتب المعلمين في “ترينداد”؛ حيث كان التعليم الثانوي حكرًا على الأغنياء. وأثناء وجوده في الولايات المتحدة، أصبح مدركًا تمامًا للقمع الذي يتعرَّض له الأمريكيون من أصل إفريقي، ولا سيما أولئك المحرومين من حقوقهم في الجنوب. وبعد قضائه عامين في الولايات المتحدة، التحق بـ”جامعة دالهوزي” Dalhousie University في “نوفا سكوشيا” Nova Scotia لدراسة القانون، لكنه لم يكمل دراسته.
في سنة 1896م قادته رغبته للسفر إلى “لندن”؛ وهناك عمل مُحاضرًا في “كنيسة جمعية الاعتدال بإنجلترا” Church of England Temperance Society، حيث التقى وتزوج امرأة بيضاء تُدعى “أجنيس باول” Agnes Powell. ليلتحق بعد ذلك بـ”جامعة لندن” University of London، وفي سنة 1897م حصل على القبول في “جرايز إن” Gray’s Inn، حيث أكمل دراساته القانونية بنجاح.
نشط “ويليامز” في “لندن”، وأخذ في إلقاء محاضرات مكثَّفة عن “ترينداد”، وندَّد بالتدخلات الاستعمارية والازدراء العنصري. كما قاد وفدًا من مواطنيه للقاء أعضاء مجلس العموم البريطاني، ليصبح أول شخص من أصل إفريقي يتحدث داخل “مجلس العموم البريطاني” House of Commons. كما كان له دور فعَّال في إنشاء “الرابطة الإفريقية” African Association، من أجل تعزيز وحماية مصالح جميع الأشخاص المنحدرين من أصل إفريقي.
كانت تراوده دائمًا فكرة عقد مؤتمر عالمي للسود، لتكون “أول مناسبة يجتمع فيها الرجال السود من كل أنحاء العالم داخل إنجلترا، بهدف التعبير عن أنفسهم، والسعي إلى استمالة الرأي العام لصالح السود”. وبالفعل انعقد المؤتمر في “مكتب الحكومة المحلية في وستمنستر” Westminster Town Hall في الثالث والرابع والخامس والعشرين من يوليو سنة 1900م. وناقش المؤتمر العديد من القضايا، كما تم إعادة تسمية “الرابطة الإفريقية” لتصبح “منظمة الجامعة الإفريقية” Pan African Association. وتحدثت عن المؤتمر كبريات الصحف في “لندن”. وأشارت صحيفة “وستمنستر جازيت” The Westminster Gazette إلى المؤتمر بأنه “يمثل بداية لحركة واعدة في التاريخ الزنجي، فقد استيقظ الزنجي أخيرًا ليدرك إمكانياته ومستقبله”.
سافر “ويليامز” إلى “جامايكا” و”ترينيداد” و”الولايات المتحدة” لإنشاء فروع للمنظمة الوليدة. كما أطلق مجلة تسمى “الجامعة الإفريقية” The Pan African في سنة 1901م. والتي كانت مكرَّسة لنشر المعلومات “المتعلقة بأحفاد الأفارقة المقيمين بالإمبراطورية البريطانية”، ولتكون “لسان حال ملايين الأفارقة وأحفادهم في العالم”.
ولسوء الحظ، لم تستمر “منظمة الجامعة الإفريقية” طويلًا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى عدم تمكُّن “ويليامز” من تكريس كل وقته للمنظمة؛ حيث أولى عنايته لمهنته بالمحاماة كأول رجل أسود يمارس المهنة، وعمل على نطاق واسع في جنوب إفريقيا للدفاع عن السود داخل المحاكم.
وفي سنة 1906م، تم انتخابه لمنصب عام بمجلس مقاطعة “ماريليبون” Marylebone. وفيما بعد ندَّد به القنصل البريطاني في سنة 1908م بعد ذهابه إلى “ليبيريا”، ليقرّر العودة إلى “ترينيداد”؛ حيث كان في طور تأسيس عمله القانوني هناك، لكنَّه عانى من مشاكل صحية في أواخر سنة 1910م. وفي مارس 1911م توفي داخل المستشفى.
ثانيًا: السياق الفكري والسياسي والتاريخي المعاصر لـ”ويليامز”:
كان القرن التاسع عشر هو قرن النضال الإفريقي في الشتات بامتياز؛ حيث جيل الرواد الأوائل الذين ناضلوا ببسالة ضد الممارسات غير الإنسانية للعبودية، وبينما ازداد النشاط الاستعماري الأوروبي طوال القرن، وبلغ ذروته فيما يسمى بـ”التدافع” على إفريقيا وبداية عصر الإمبريالية. وكما كان الحال في القرون السابقة، فإن الجرائم المرتكبة ضد المنحدرين من أصل إفريقي تم تبريرها وتقنينها من خلال الأيديولوجيات العنصرية التي تتخذ الآن في بعض الأحيان شكلاً علميًّا زائفًا.
بالنسبة لمعظم النشطاء، في هذه الفترة من تاريخ “الجامعة الإفريقية”، كان النضال من أجل “إثبات العرق” ودحض مفاهيم الدونية الإفريقية ضرورة؛ حيث أصبحت أحد الموضوعات المهيمنة في كتاباتهم ونشاطهم.
بالنسبة للبعض في الشتات، مثل “مارتن ديلاني” (1812- 1885م) Martin Delany، و”إدوارد بلايدن” (1832-1912م) Edward Blyden، كان يُنظَر إلى العودة المادية إلى إفريقيا على أنها حيوية، ليس أقلها من أجل “تجديد” القارة نفسها. وآخرون، مثل “فريدريك دوجلاس” (1817-1895م) Frederick Douglass، الناشط الأمريكي الإفريقي الأبرز في القرن التاسع عشر، الذين اتخذوا وجهة نظر مختلفة، حيث التصميم على النضال من أجل إنهاء العبودية القانونية، والحصول على حقوقهم داخل الولايات المتحدة. وكذلك في إفريقيا، كان السيراليوني “أفريكانوس هورتون” (1835-1883م) James Africanus Horton واحدًا من أولئك الذين بدأوا في تطوير مبادئ علم سياسي جديد يهتم بإمكانيات ومبادئ الحكم الذاتي الإفريقي والقومية الوليدة. ويُنظر إلى نشطاء القرن التاسع عشر على أنهم روّاد مهمّون في تطوير التفكير الإفريقي. وضع “هورتون” و”بلايدن” الأسس للحركات والأيديولوجيات القومية التي طوَّرها فيما بعد “كاسلي هايفورد” (1866-1930م) J.E. Casely Hayford، وآخرون في غرب إفريقيا في أوائل القرن العشرين.
كان “بلايدن” مصدر إلهام للحركة الفرنكوفونية “الزنوجة” Négritude، بينما كان “ديلاني” أول من استخدم عبارة “إفريقيا للإفريقيين”، التي ارتبطت لاحقًا بـ”ماركوس جارفي” وأشاعها.
ويمكن القول: إن الحركة الإفريقية المنظمة قد بدأت مع تأسيس “الرابطة الإفريقية” African Association في لندن عام 1897م، وما تلاه في نفس المدينة من انعقاد لأول مؤتمر لعموم إفريقيا بعد ذلك بثلاث سنوات. كان “سيلفستر ويليامز”، أحد مؤسِّسي “الرابطة الإفريقية” في أوائل القرن العشرين، مهتمًّا بتعزيز وحدة المنحدرين من أصل إفريقي، وذلك لأجل ما اعتبره “مشكلة القرن العشرين… مشكلة خط اللون”، و”تأمين الحقوق المدنية والسياسية للأفارقة وذريتهم في جميع أنحاء العالم”. ثم سرعان ما أصبح النضال ضد الاستعمار، وأنشطة القوى الإمبريالية في إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي وأماكن أخرى أيضًا أحد أهم القضايا بالنسبة للـ”لجامعة الإفريقية” خلال الجزء الأول من القرن.
ثالثًا: منطلقات “ويليامز” الفكرية:
أظهر “ويليامز” في وقت مبكر الدافع والثقة والشَّغف للتعامل مع قضايا عرقه، لا سيما المظالم التي ارتكبها عملاء الاستعمار. وبدا أنه كان يترك بصمة أينما ذهب، لذا فإن نشاطه الحركي وتطلعاته القومية جعلت منه أول مَن نادى بالوحدة القومية.
وبالرغم من ندرة المصادر التي تناولت أفكار ونشاطات “ويليامز”، وهو ما انعكس سلبًا على توثيق إسهاماته الفكرية التي جعلت منه -بحقٍّ- صوتًا مميزًا وواضحًا، لكنَّه يستحقّ اهتمامًا واحترامًا وتقديرًا بشكلٍ خاصّ.
وبمزيد من التفصيل لنشاطه الحركي ودعوته لأول مؤتمر للجامعة الإفريقية؛ يبرز اسم “هنري سيلفستر ويليامز” ضمن أعظم مائة شخصية بريطانية سوداء، حيث جاء ترتيبه السادس عشر.
1- نشاطه الحركي:
حاضر “ويليامز” في القضايا الاستعمارية من خلال العديد من المنابر في جميع أنحاء “بريطانيا” و”أيرلندا”. كان على سبيل المثال، واحدًا من مائة أو نحو ذلك من المحاضرين الذين تحدَّثوا بتسلسل عن “الإمبراطورية” برعاية “الجمعية الأخلاقية” South Place Ethical Society في الفترة (1895-1898م)؛ حيث انتقد الإدارة البريطانية لموطنه “ترينيداد”، وطالب بحكومة ممثلة للشعب، وبالتعليم المجاني والإلزامي، وبأجور أعلى. وفي سنة 1899م نجح من خلال تواصله مع الليبراليين في “لندن” لأجل إلقاء كلمة أمام اجتماع في “مجلس العموم البريطاني”؛ حيث ناشد أعضاء المجلس بضرورة تشكيل حكومة ممثلة لشعب “ترينيداد”.
بعد تواصله بالسود، وبخاصة طلاب الجامعات في جميع أنحاء إنجلترا، أسَّس “ويليامز” ما يُسمَّى “الرابطة الإفريقية” في سنة 1898م، والتي اقتصرت عضويتها على المنحدرين من أصل إفريقي. كما سمحت الرابطة للآخرين من غير السود أن يصبحوا أعضاء منتسبين.
وشرعت الرابطة على الفور في تنظيم اجتماعات عامة، والتي انتقدت جميعها السياسات البريطانية تجاه “السكان الأصليين” في أجزاء مختلفة من الإمبراطورية؛ حيث تم إرسال “مذكرة تصف معاناة سكان جزر الهند الغربية” إلى وزير الدولة لشؤون المستعمرات؛ حيث طالبته بضرورة إجراء تغييرات في نظام حيازة الأراضي، والمطالبة برفع مستوى التعليم، وانتقدت المذكرة الاحتكارات الزراعية التي أفقرت صغار المزارعين. وسرعان ما أعقب ذلك مذكرة أخرى حول الدستور المقترح لمستعمرة “روديسيا الجديدة”: طلبت فيه الرابطة من الحكومة “حماية المصالح الحيوية، والقوانين العرفية، ورفاهية رعايا جلالتها الأصليين…”.
2- الجامعة الإفريقية Pan-Africa
خططت “الرابطة الإفريقية” بقيادة “ويليامز” للدعوة إلى “مؤتمر الجامعة الإفريقية” Pan-African Conference، ومن بين أولئك الذين أيدوا فكرة المؤتمر كان “بوكر واشنطن” (1856-1915م) Booker T. Washington، رئيس “كلية توسكيجي” Tuskegee College، بالولايات المتحدة الأمريكية. والبروفيسور “سكاربورو” (1852-1926م) W.S. Scarborough، رئيس “جامعة ويلبرفورس” Wilberforce University، بالولايات المتحدة الأمريكية، والقاضي “ديفيد ستراكر” (1842-1908م) David Straker من “ديترويت” Detroit، والذي تعود أصوله إلى “بربادوس” Barbados؛ والقس “ماجولا أجبيبي” (1860-1917م) Majola Agbebi، مؤسِّس أول كنيسة مستقلة في غرب إفريقيا، والأسقف القومي “جيمس جونسون” (1836-1917م) James Johnson من “نيجيريا”؛ والأسقف “جيمس هولي” (1829-1911م) James Holly من “هايتي” Haiti، وهو أمريكي من أصل إفريقي دعا لهجرة السود من الولايات المتحدة إلى “هايتي”؛ و”داداباي ناوروجي” (1825-1917م) Dadabhai Naoroji، برلماني ليبرالي من مواليد “الهند”، أصبح أحد الداعمين الماليين للمؤتمر.
كان “ويليامز” قد التقى بأعضاء الكنيسة الإفريقية أثناء إقامتهم في “المملكة المتحدة”؛ حيث قدمت “الرابطة الإفريقية” إلى الأسقف “جونسون” درعًا تذكاريًّا قبيل مغادرته للمؤتمر. أما عن دعوته لـ”بوكر واشنطن” فقد كان “واشنطن” ذائع الصيت قبل زيارته لـ”لندن”، وربما أثناء زيارته التقى “ويليامز” الذي بدوره دعاه إلى حضور المؤتمر، وربما التقى “ويليامز” بـ”سكاربورو” و”ستراكر”، خلال السنوات التي قضاها في الولايات المتحدة، فكلاهما كانا من الناشطين السياسيين.
كانت انعقاد المؤتمر يهدف إلى:
(1) التقارب والوحدة بين الشعوب المنحدرة من أصل إفريقي في جميع أنحاء العالم.
(2) تدشين خطط لتحقيق المزيد من العلاقات الودية بين الأعراق القوقازية والإفريقية.
(3) بدء حركة تقوم على تأمين الحقوق الكاملة لجميع الأعراق الإفريقية التي تعيش في البلدان المتحضرة، ولتعزيز مصالحهم التجارية.
حضر المؤتمر ممثلون من إفريقيا، ومنطقة البحر الكاريبي، والولايات المتحدة الأمريكية، والسود المقيمين في بريطانيا. وتنوعت القضايا التي نُوقِشَتْ على نطاق واسع: الافتقار إلى الحقوق المتساوية في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي المستعمرات البريطانية، على سبيل المثال: حظر النقابات العمالية والحرمان من التصويت، والذي لم يكن يُسمح به على الإطلاق، أو تم ممارسته بشكل محدود للغاية. وبينما كان يتم السماح للبعض بالتعليم العالي في الولايات المتحدة، لم يتم السماح بالتعليم داخل المستعمرات بشكل كبير، كان يُسمح للسود المؤهلين بالمناصب الأدنى في الخدمة المدنية. كما تمت إدانة الشركات التجارية الاستعمارية في إفريقيا لاستغلالها الشعوب الأصلية؛ حيث كانت هذه الشركات التي يسيطر عليها رأسماليون بريطانيون في جنوب إفريقيا قد تجاهلوا الأنظمة والقوانين، وتعاملوا مع العمال كعبيد لا يحقّ لهم سوى تنفيذ رغبات الملاك؛ حيث كانوا يُساقون كالعبيد إلى الأراضي الزراعية.
كما تمت مناقشة الظروف الحالية والتسوية المرتقبة للحرب في جنوب إفريقيا؛ حيث أرسل المؤتمر التماسًا إلى “الملكة فيكتوريا” Queen Victoria بخصوص الأوضاع في جنوب إفريقيا. فجاء رد وزير المستعمرات “جوزيف تشامبرلين” Joseph Chamberlain، وهو إمبريالي كبير، باسم الملكة أن الحكومة لن “تتغاضى عن مصالح ورفاهية الأعراق المحلية. ومع ذلك، فإن الحكومة البريطانية، التي شاركت في ذلك الحين في نزع ملكية مستوطنين [البوير] في جنوب إفريقيا من الأراضي التي أخذوها من الأفارقة، لم يكن لديها مثل هذه النوايا”.
وبطبيعة الحال، وجَّه المتحدثون انتباههم أيضًا إلى الفلسفات السائدة للداروينية الاجتماعية (أي التسلسل الهرمي للأعراق، والذي جعل الأفارقة في أسفل الهرم العرقي)، وحركة تحسين النسل، التي كانت تعتقد أن أطفال الزيجات المختلطة عرقيًّا هم “مُهجَّنون” Mongrels؛ ورثوا فقط خصائص “الدونية” من والديهم. وأكد المتحدثون أن الحضارة الإنسانية قد بدأت في إفريقيا. وأن الأفارقة لم يكونوا متوحشين حتى بالمعايير الغربية، فقد حقَّقوا نجاحًا في العلوم والفنون والآداب.
تمت صياغة بيان ختامي بعنوان “إلى دول العالم” To the Nations of the World مِن قِبَل لجنة ترأسها “وليم ديبوا” W.E.B. Du Bois. وفي هذا النداء ظهرت لأول مرة العبارة الشهيرة “مشكلة القرن العشرين هي مشكلة خط اللون”، والتي صاغها “ديبوا”. ومن بين الأمور الأخرى التي تناولها النداء: “ضرورة وقف التمييز العنصري مِن قِبَل الحكومة المسؤولة عن المستعمرات البريطانية، وإنهاء اضطهاد الزنوج الأمريكيين”.
كما أقر المؤتمر منظمة جديدة، وهي “منظمة الجامعة الإفريقية” Pan African Association، والتي تهدف إلى:
1) تأمين الحقوق المدنية والسياسية للإفريقين وذريتهم في جميع أنحاء العالم.
2) تشجيع العلاقات الودية بين القوقازيين والأفارقة.
3) تشجيع المشاريع التعليمية والصناعية والتجارية بين الأفارقة.
4) التأثير على التشريعات التي تهمّ الشعوب السوداء.
5) تحسين حالة “الزنوج المضطهدين” في إفريقيا وأمريكا والإمبراطورية البريطانية وأجزاء أخرى من العالم.
تم انتخاب الأسقف “ألكسندر والترز” Alexander Walters، زعيم “كنيسة صهيون الأسقفية الميثودية الإفريقية” رئيسًا. كما تم انتخاب “ويليامز” أمينًا عامًّا. وعُيِّن الدكتور “كولينسو” R.J. Colenso (ابن الأسقف” كولنسو” John Colenso أسقف “ناتال” Natal الشهير بجنوب إفريقيا) أمينًا عامًّا للصندوق. كما ضمَّت اللجنة التنفيذية ممثلين عن الولايات المتحدة وإفريقيا، وضمَّت أيضًا اثنين من سكان “لندن” السود، “جون آرتشر” John R. Archer (الذي سيصبح أول عمدة منتخب لإحدى أحياء “لندن” في سنة 1913م) و”صامويل كوليريدج تيلور” Samuel Coleridge-Taylor الملحن. حيث كان من المقرر إنشاء فروع في البلدان الأصلية لمندوبي المؤتمر. كما تم التخطيط لعقد اجتماعات عامة كل سنتين.
بعد حضور “مؤتمر مناهضة الرق في باريس” Anti-Slavery Conference in Paris والذي انعقد في وقت لاحق من ذلك العام، غادر “ويليامز” إلى جزر الهند الغربية للترويج لـمنظمة “الجامعة الإفريقية”؛ حيث انضم له المئات من “جامايكا” و”ترينيداد” حيث تم تأسيس العديد من الفروع للمنظمة هناك. وفي طريق عودته إلى “لندن، قام بزيارة زملائه في الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك ألقى كلمة أمام “المجلس الإفريقي الأمريكي” حول “اتحاد اثنين من الأعراق الزنجية” Union of the Two Negro Races. ولسوء الحظ، لا يوجد أي تقرير عن هذا الخطاب الذي يحمل عنوانًا مثيرًا للفضول. ولدى وصوله واجَه الحاجة العاجلة لإنعاش المنظمة، حيث أعلن بعض موظفي فرع المنظمة في “لندن” انتهاء المنظمة أثناء غيابه.
في أكتوبر 1901م، أصدر “ويليامز” العدد الأول من صحيفته الشهرية “عموم إفريقيا” The Pan-African، ولم ينج سوى العدد الأول منها، على الرغم من أن “ويليامز” تمكَّن من نشر ستة أعداد من صحيفته. تحت شعار “النور والحرية” Liberty and Light.
في عددها الأول ذكر “ويليامز” أن المجلة ستكون “لسان حال ملايين الأفارقة وأحفادهم”، في ظل غياب التمثيل الحكومي المناسب لهم؛ حيث لم يتمكن الأفارقة من إيصال أصواتهم. “فإذا استطاع أعضاء العرق أن يجتمعوا معًا، فبإمكانهم حل القضايا التي قد تعجز حكوماتهم عن حلها”؛ حيث إن المجلة ستسعى لتقديم وجهات نظر بديلة.
حملت المجلة أخبارًا قصيرة، بجانب نسخًا من المراسلات حول مجموعة متنوعة من القضايا مع الحكومة البريطانية، ومعلومات عن الحرب في جنوب إفريقيا، ونسخة من الخطاب الذي ألقاه القائم بأعمال سكرتير الشئون الاستعمارية “سيدني أوليفييه” Sydney Olivier الذي وعد بتأسيس فرع للمجلة في “كينجستون” Kingston، عاصمة “جامايكا” في مارس من ذلك العام. وتعكس الحياة القصيرة للمجلة حياة “منظمة الجامعة الإفريقية”، التي انهارت في وقت ما بين سنة 1902م و1903م.
في العام التالي، 1902م، نشر “ويليامز” نص محاضرتين من محاضراته بعنوان “الزنجي البريطاني: أحد أركان الامبراطورية” The British Negro: A Factor in the Empire، والذي أكد من خلاله على “الخدمة القيّمة التي قدّمتها القوات الإفريقية والإفريقيين بجزر الهند الغربية في حروب البوير [وغيرها]”. كما شدد على أن الأفارقة بجزر الهند الغربية مضطرون لدفع الضرائب، “في وقتٍ لم يكن لهم صوت داخل الحكومة”. وأعرب عن أمله في “ألا يُشَكِّل لون الرجل في جميع أنحاء المستعمرات البريطانية أيّ عائق أمام التقدُّم… حيث إن التمييز حسب اللون كان لا يزال قائمًا، ويتم العمل به…”.
بعد استدعائه إلى نقابة المحامين في يونيو 1902م، غادر “ويليامز” إلى “جنوب إفريقيا”؛ حيث لم يكن هناك محام إفريقي واحد. على الرغم من العوائق العديدة، تم قبوله في نقابة المحامين في “كيب تاون” Cape Town في أكتوبر 1903م، وهو ما قابله المحامون البيض بالمقاطعة. لكنه سرعان ما انخرط في السياسة المحلية: حيث تم تعيينه في مجلس إدارة “مدرسة تعليم القانون” Wooding’s School التابعة للمجتمع العرقي المسمى “الملونون” Cape Colored، وانتُخِبَ رئيسًا للجنة “مواطني جنوب إفريقيا” SA Citizens’ Committee، التي دافعت عن الحقوق المدنية والسياسية المتساوية لجميع مواطني جنوب إفريقيا؛ حيث عملت جنبًا إلى جنب مع “رئيس منظمة الشعوب الإفريقية” African Peoples’ Organization (APO) الدكتور: عبد الرحمن.
وربما بسبب المقاطعة التي قلّلت من قدرته على الكسب، عاد “ويليامز” إلى “لندن” برفقة عائلته في عام 1905م. حيث انضم إلى “النادي الليبرالي الوطني” National Liberal Club و”جمعية فابيان” Fabian Society، والتي قامت بتعيينه في “اللجنة الصناعية الإفريقية” African Industrial Committee التابعة لها، وربما تم إنشاؤها بتحريض من “ويليامز” في يوليو 1905م. وتهدف اللجنة إلى التحقيق في “مشاكل العلاقات بين العمال السود والبيض”، خاصة في جنوب إفريقيا.
مستخدمًا دائرة علاقاته الواسعة مع الليبراليين و”جمعية فابيان”؛ تحدث “ويليامز”عن القضايا الاستعمارية في خطاباته العديدة خلال الاجتماعات العامة في جميع أنحاء بريطانيا. وسعيًا لمحاكاة “داداباي ناوروجي”، الذي دعم أنشطته؛ بدأ “ويليامز” خطوات فعلية ومحسوسة ليصبح أول نائب بريطاني من أصل إفريقي، لكنه فشل في الحصول على مقعد. ومع ذلك، في سنة 1906م، وبدعم من اتحاد العمال، تم انتخابه لمنصب عام في مجلس مقاطعة “ماريليبون”. كان حضوره في المجلس غير منتظم؛ كما شملت مساهماته المسجلة؛ دعم التحسينات في الإسكان العام، وانتقاد خطط زيادة رواتب مسؤولي البلدة، واقتراح استيراد العمال الأيرلنديين لمشاريع “مارليبون”.
عمل “ويليامز” من مكتبه القانوني بمجموعة Essex Court (مجموعة رائدة من المحامين التجاريين في Lincoln’s Inn Fields، بوسط لندن)، وسرعان ما انخرط بشكل متزايد مع الأفارقة والقضايا الإفريقية والوفود الإفريقية القادمة إلى لندن. على سبيل المثال، في أواخر سنة 1905م، تقابل مع بعض أعضاء الحكومة بشأن التشريع الجديد في “ترانسفال” Transvaal بجنوب إفريقيا الذي قام بحرمان الأفارقة من سندات ملكية الأراضي.
وفي سنة 1906م ساعد في انتداب وفد من مدينة “كيب كوست” Cape Coast (جنوب غانا) للاحتجاج على فرض الضرائب المباشرة، ومجلس المدينة الذي تم انتخابه جزئيًّا فقط. في العام التالي، عمل كوسيط بين رؤساء “باسوتو” Basuto والحكومة البريطانية.
أدت مساعدته للرئيس الليبيري “باركلي” Edwin Barclay، الذي كان في زيارة إلى “لندن” على أمل حل مشكلات القرض المستحق من المصرفيين البريطانيين، والنزاعات الحدودية والتجارية، إلى دعوة “ويليامز” لزيارة “ليبيريا” للاحتفال باليوبيل الذهبي لتأسيس الدولة في يناير 1908م. وخلال زيارته ألقى “ويليامز” خطابًا أمام “رابطة المحامين الوطنية” National Bar Association. استغل القنصل البريطاني “واليس” هذا الخطاب والمعلومات المغلوطة المتعلقة بأنشطة “ويليامز” في جنوب إفريقيا لتحذير وزارة الخارجية من أن “ويليامز” يُمثّل خطرًا “على المصالح البريطانية في إفريقيا، وممتلكات الإمبراطورية في المناطق الاستوائية بشكل عام”.
ومن المحتمل أن “ويليامز”، كمحام أسود، واجه مشاكل في كسب لقمة العيش في “لندن”. وبصفته ناقدًا للحكومة، تم وضع العراقيل في طريقه. ومهما كانت الأسباب، عاد “ويليامز” مع زوجته وأطفاله الأربعة إلى “ترينيداد” في سنة 1908م. وهناك تم قبوله في نقابة المحامين؛ حيث واصل الحديث عن القضايا السياسية، ولكن بسبب اعتلال الصحة المتقطع عاش حياة هادئة، حتى وافته المنية بسبب مرض في الكلى.
رابعًا: دلالات “ويليامز” الفكرية
إن حياة “ويليامز” وأفكاره ونضاله هي تجسيد لصراع الهوية في الفكر الإفريقي. هي تلخيص لحياة المنحدرين من أصل إفريقي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
كان هناك الكثير من الأدبيات حول السياسة المتعلقة بالهوية العرقية، والكثير من التجارب للميراث العرقي الطويل. وعلى كثرة هذه الأدبيات والتجارب غاب “ويليامز”، لكن تبقى رسالته حاضره، وفكره ممتد، ونضاله مستمر، فلا يزال مشروعه قائمًا حتى يومنا هذا، يبرز بين الفينة والأخرى، فالجامعة الإفريقية هي فكرة، والأفكار لا تموت.
الجامعة الإفريقية ليست مجرد أيديولوجية؛ لكنها حدث تاريخي؛ أصبحت فيه الآلام المشتركة للتجارب السوداء بوصلة أخلاقية للوحدة الإفريقية. كما قدمت الجامعة الإفريقية من خلال المثل العليا لمختلف الحركات الزنجية تعبيرًا تاريخيًّا عن الوعي الجمعي، والشعور المشترك بالهوية الإفريقية/السوداء، والجوهر الميتافيزيقي الذي يمكن من خلاله استعادة إنسانية السود في جميع أنحاء العالم.
في التأريخ المعاصر، لا تزال الجامعة الإفريقية ذات صلة؛ فإذا كانت في الماضي قد حددت بوصلة التقارب العرقي فكرتنا عن الجامعة الإفريقية، فهل سيحدد السياق المعاصر تخيلًا جديدًا للجامعة الإفريقية ما من شأنه أن يشمل أولئك الذين تم إقصاؤهم عن العرق الزنجي في السابق؟
مناشدتي هي محاولة تقديم فهم جديد للجامعة الإفريقية لا يعتمد على العِرْق؛ بل يعتمد على ظروفنا التاريخية المتغيرة، والتنافسية ودرجاتها المتباينة من التمايز الداخلي. فإذا بقينا متمسكين باللحظة التاريخية للجامعة الإفريقية باعتبارها مجرد رفض للنموذج الغربي للمعرفة، فإننا نسير في طريقنا إلى العدائية المتمثلة في التعددية العرقية.
ولتجاوز المركزية العرقية في التفكير التاريخي؛ نحتاج إلى تبنّي فهمًا جديدًا للجامعة الإفريقية، وهو فهم تاريخي كذلك. وهذا لا يعني بالطبع التركيز على الماضي. فإن سلطة التاريخ في هذا السياق وثيقة الصلة بالتجارب الاجتماعية والسياسية والثقافية المتطورة.
إن مفهومنا عن “الجامعة الإفريقية” يشمل كل من بحثوا؛ وارتبطت كتاباتهم بالتطلعات الذاتية للمعالم الجغرافية والسياسية للقارة الإفريقية. والمثال التنظيمي لتحقيق هذا الإجراء هو الدعوة إلى فهم تجريبي ومعياري للإفريقانية Africanity؛ حيث الاعتراف بالاختلافات الاجتماعية والثقافية، وتاريخ القارة العام، واستيعاب جميع الناس بغض النظر عن الانتماء العرقي.
كما تأخذ الفكرة الجديدة للجامعة الإفريقية في الاعتبار الاختلافات الثقافية وتنوع التجربة البشرية. حيث يجب أن تقدم هذه الفكرة الجديدة دورًا معياريًّا في مواجهة الحقائق الاجتماعية والسياسية الجديدة لإفريقيا التي تتميز بالدعوة إلى العمل الاجتماعي والتغيير الإيجابي، وهي مقدّمة جيّدة للمضطهدين في جميع أنحاء العالم؛ وحاجة دائمة للحرية العالمية. فإذا كان للجامعة الإفريقية مستقبل فيجب أن يرتبط بنضالات اليوم المختلفة: حيث تعميق عمليات إرساء الحرية بين شعوب القارة التي عانت من الفقر والتهميش والاستغلال والاستعمار والعولمة.
وختامًا:
فإن النموذج الجديد للجامعة الإفريقية ليس مقيّدًا بالأبيض مقابل الأسود، بل يجب أن يتبنَّى صوتًا رسميًّا للتحدث نيابة عن جميع الأشخاص المضطهدين في العالم، وجميع أولئك الذين يتعرّضون للتمييز بسبب العِرْق أو الدِّين أو الجنس أو التوجُّه في نمط حياتهم. هنا، يتضاعف الطلب بضرورة مشروع الجامعة الإفريقية كمشروع تاريخيّ وميتافيزيقي؛ فهو مشروع لا يقتصر على الوعي العِرْقِيّ؛ بل على الشمولية المشتركة للتجربة الإنسانية. هذا هو المعنى الجديد للجامعة الإفريقية المتجذرة في الإنسانية العالمية. هذه هي نظرتنا للجامعة الإفريقية باعتبارها إنسانية، فهي بمثابة ضوء يجب أن نحمله للأشخاص المضطهدين في جميع أنحاء العالم.
_______________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Sherwood, Marika. Origins of Pan-Africanism: Henry Sylvester Williams, Africa, and the African Diaspora. Vol. 5. Routledge, 2012
Mboukou, Alexandre. “The Pan African Movement, 1900-1945: A Study in leadership conflicts among the disciples of Pan Africanism.” Journal of Black Studies 13.3 (1983): pp. 275-287
Nantambu, Kwame. “Pan-Africanism versus Pan-African Nationalism: An Afrocentric Analysis.” Journal of Black Studies 28.5 (1998): pp. 561-574
Adi, Hakim. Pan-Africanism: A History. Bloomsbury Publishing, 2018
Eichhorn, Niels. “Henry Sylvester Williams’s Black Atlantic.” Atlantic History in the Nineteenth Century. Palgrave Macmillan, Cham, 2019. pp. 179-184
Eze, Michael Onyebuchi. “Pan Africanism: A brief intellectual history.” History compass 11.9 (2013): pp. 663-674
Thiam, Thierno, and Gilbert Rochon. “The Pan-African Congresses: A Re-examination.” Sustainability, Emerging Technologies, and Pan-Africanism. Palgrave Macmillan, Cham, 2020. pp. 39-66