“آنا جوليا كوبر” (1858-1964م) Anna Julia Cooper ناشطةٌ ومُعلِّمةٌ سوداء، تميزتْ بتحليلاتها المطوَّلة حول وَضْع النساء السود داخل الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر؛ حيث قدمت أفكارًا مفصليَّة وواضحة حول التمييز الجنسيّ والعِرْقيّ، ومِن ثَمَّ إيضاح مدى ارتباطه بالتعليم والتطوير الفكريّ، وأهميته لمفهوم الديمقراطيَّة والمُوَاطَنَة.
أولاً: النشأة والسِّمَات والخبرات الشخصيَّة لـ”كوبر”:
وُلِدَتْ “آنا جوليا كوبر” بمدينة “رالي” Raleigh بولاية “كارولينا الشمالية” North Carolina في العاشر من أغسطس عام 1858م. حظيت برعاية والدتها “هانا هوارد” Hannah Haywood التي كانت تُجيد القراءة والكتابة. وتجدر الإشارة إلى أن “آنا” علمت من والدتها أن سيدها هو نفسه والدها؛ ممَّا جعَلها تفطن إلى مسألة الاستغلال الجنسيّ للنساء المستعبَدَات خلال هذه الفترة.
وفي سنة 1867م؛ أي بعد عامين من انتهاء الحرب الأهلية، بدأت “آنا” تعليمها الرسمي بمدرسة “سانت أوغستين العادية” Saint Augustine Normal School in Raleigh بولاية “كارولينا الشمالية”. وهي مؤسسة مختلطة تم بناؤها للعبيد السابقين. وهناك حصلت على ما يعادل التعليم الثانوي. وفي عام 1877م تزوجت بـ”جورج كوبر” George Cooper؛ مدرس اللاهوت في “سانت أوغستين”؛ حيث واصل كلاهما تعليمهما وتدريسهما في “سان أوغستين”.
أصبح “جورج كوبر” كاهنًا أُسقفيًّا، لكنه تُوفي بعد ذلك بعامين. وسعيًا منها للحصول على قبول في “كلية أوبرلين” Oberlin College بولاية “أوهايو” Ohio، فقد أولت عناية بدراسة الفلسفة الغربية والكلاسيكيات. لتحصل “كوبر” أخيرًا على القبول بالكلية. فغادرت “سان أوغستين” إلى “كلية أوبرلين” في عام 1881م، لتحصل على شهادة البكالوريوس في الرياضيات عام 1884م، ثم شهادة الماجستير في عام 1887م، وهو ما أهَّلَها للتدريس بالكلية.
انتقلت “كوبر” إلى العاصمة “واشنطن” في الفترة من سنة 1902 وحتى 1906م، حيث شغلت منصب مديرة لمدرسة “إم ستريت الثانوية” M Street High School، ثم غادرت إلى ولاية “ميسوري” للعمل بالتدريس في “جامعة لنكولن” University of Lincoln. لتعود مرة أخرى للعمل بالمدرسة في الفترة من سنة 1910م وحتى 1930م. لتختتم نشاطها التعليمي بالتدريس في “جامعة فريلينجايسن” Frelinghuysen University حيث تبوَّأت منصب رئيس الجامعة من سنة 1930م وحتى 1941م.
نشرت كوبر كتابها الأول “صوت من الجنوب لامرأة سوداء من الجنوب” في عام 1892م. حيث طالبت بالمساواة في التعليم للنساء، كما أكدت من خلال عملها على أن تعليم النساء الأمريكيات من أصول إفريقية كان ضروريًّا لرفع مستوى المجتمع ككل، والعِرْق الأسود بشكلٍ خاصّ. ونظرًا لاكتساب مقالاتها اهتمامًا وطنيًّا في ذلك الوقت؛ فقد بدأت “كوبر” بإلقاء محاضرات في جميع أنحاء البلاد حول مواضيع مثل التعليم، والحقوق المدنية، ومكانة المرأة السوداء.
بالإضافة إلى العمل على تعزيز الفرص التعليمية للأمريكيين من أصلٍ إفريقيّ، أنشأت “كوبر” وشاركت كذلك في تأسيس العديد من المنظمات لتعزيز قضايا الحقوق المدنية للسود؛ حيث ساعدت في تأسيس “رابطة النساء الملونات” Colored Women’s League في عام 1892م، وانضمَّت إلى “اللجنة التنفيذية لمؤتمر الوحدة الإفريقية” Pan-African Conference الأول في عام 1900م. ونظرًا لأن “جمعية الشابات المسيحيات” Young Women’s Christian Association (YWCA) و”جمعية الشبان المسيحيين” Young Men’s Christian Association (YMCA)، لم تكن تقبل الأعضاء الأمريكيين من أصل إفريقي، قامت “كوبر” بإنشاء فروع “للملونين”؛ لتقديم الدعم للمهاجرين السود الشباب الذين ينتقلون من الجنوب إلى “واشنطن” العاصمة.
استأنفت “كوبر” دراستها العليا في عام 1911 في “جامعة كولومبيا” بمدينة “نيويورك”. ولكن بعد وفاة شقيقها عام 1915م، أجَّلت سعيها للحصول على الدكتوراه لتربية أحفاده الخمسة. ومن ثَمَّ عادت والتحقت “بجامعة السوربون” الفرنسية. وفي عام 1925م، عن عمر يناهز 67 عامًا، أصبحت “كوبر” رابع امرأة أمريكية من أصل إفريقي تحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة.
وتجدر الإشارة إلى أن أول ثلاثة نساء سود حصلن على شهادة الدكتوراه في الولايات المتحدة هن: “سيدي ألكسندر” (1898-1989م) Sadie T.M Alexander من “جامعة بنسلفانيا”، “جورجيانا روز سمبسون” (1865-1944م) Georgianna Rose Simpson من “جامعة شيكاغو”، و”إيفا دايكس” (1893-1986م) Eva B.Dykes من “كلية رادكليف”.
وفي عام 1930م، تقاعدت “كوبر” عن التدريس من أجل تولي رئاسة “جامعة فريلينجايسن” Frelinghuysen، وهي مدرسة للبالغين السود. وظلت “كوبر” في هذا المنصب حتى تم إغلاق المدرسة في خمسينيات القرن الماضي.
عاشت “كوبر” حتى بلغت 105 أعوام، وظلت في “واشنطن” العاصمة حتى وفاتها يوم 27 فبراير 1964م، حيث أُقيمت مراسيم جنازتها في “رالي” بولاية “كارولينا الشمالية”، ليتم دفنها في نفس المدينة التي وُلِدَتْ بها.
ثانياً: السياق الفكري والسياسي في أواخر القرن التاسع عشر
يتميز النصف الثاني من القرن التاسع عشر بوجود مجموعة كبيرة من المفكرين الأفارقة؛ أمثال: “فردريك دوجلاس” (1818-1895م) Frederick Douglass، و”بوكر واشنطن” (1865-1915م) Booker T. Washington، و”آلان لوك” (1885-1954م) Alain Locke، و”وليم دوبوا” (1868-1963م) W.E.B. Du Bois، وهذه الفترة نفسها هي التي شهدت ولادة الفلسفة الإفريقية الأمريكية. لكن يظل إهمال الناشطات في الفكر الإفريقي والفلسفة الإفريقية مُلاحظ بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث تم تجاهل الإسهامات الفلسفية للنساء الإفريقيات الأمريكيات. ومع دخول القرن الحادي والعشرون تزايد الاهتمام بأعمال “كوبر” الفلسفية، وظهرت عدة مؤلفات تناولت أفكار “كوبر”، ووضعها في مصافّ المفكرين الأفارقة الذين قدَّموا إسهامات لا تقلّ شأنًا عما قدَّمه معاصروها من المفكرين الرجال.
خلال هذه الفترة برز كذلك بعض الناشطات السود أمثال: “إيدا ويلز-بارنيت” (1862-1931م) Ida B. Wells-Barnett، و”ماري تشيرتش تيريل” (1863-1954م) Mary Church Terrell، و”ماريا ستيوارت” (1803-1880م) Maria W. Stewart، و”سوجورنر تروث” (1797-1883م) Sojourner Truth، و”فرانسيس هربر” (1825-1911م) Frances Harper.
كما نشرت “آنا جوليا كوبر” أهم أعمالها على الإطلاق “صَوْتٌ من الجنوب لامرأة سوداء” ” A Voice from the South by a Black Woman of the South ” في عام 1892م، حيث تناولت “كوبر” من خلال هذا العمل أهم قضية واجهت السود داخل أمريكا، وهي إشكالية العنصرية؛ من خلال تناولها لمعضلة العِرْق والجنس. وقد تَوَارَى هذا العمل في زَخَم ما قدَّمه المفكرون الرجال من الأفارقة في ذلك الوقت. حيث تزامن عمل “كوبر” مع أعمال عديدة مثل: “خطبة أطلنطا” للمفكر الإفريقي “بوكر واشنطن” سنة 1895م، و”صيانة الأعراق” (1897م)، و”الأرواح السود” (1903م) للمفكر “وليم دوبوا”.
لكنها قامت كذلك بتقديم عمل آخر لا يقل أهمية عن عملها “صَوْت من الجنوب”، وهو أطروحتها لرسالة الدكتوراه المقدمة لجامعة السوربون بعنوان ” موقف فرنسا من العبودية خلال الثورة” L’attitude de la France à l’égard l’esclavage pendant la revolution، حيث قامت بترجمتها إلى الإنجليزية ” فرانسيس ريتشاردسون كيلر” Frances Richardson Keller، تحت عنوان “العبودية والثوريون الفرنسيون” Slavery and the French Revolutionists.
ثالثًا: إسهامات “آنا جوليا كوبر” الفكرية
تقدّم “آنا جوليا كوبر” تاريخًا فكريًّا وفلسفيًّا إفريقيًّا على قدرٍ كبير من الأهمية؛ فعلى الرغم من إغفال مساهمتها في مجال الدراسات الإفريقية عمومًا وتاريخ المرأة السوداء بشكل خاصّ؛ حيث تم إجراء العديد من الدراسات حول حياة وفلسفة “آنا جوليا كوبر” خارج نطاق الفكر والفلسفة الإفريقية، ونتيجة لذلك، تم وضع أعمالها في المقام الأول ضمن حقل الدراسات النسائية والأدبية. في حين يمكن القول: إن خطاباتها وكتاباتها قد ساهمت بشكل كبير في نموّ هذه الفلسفات، إلا أنَّ مساهمة “كوبر” الفكرية الأساسية والأقل شهرة هي إنشاء الخطاب الإفريقي والنهوض به. لذا فهناك حاجة مُلِحَّة لتغطية واستعادة “آنا جوليا كوبر” والمفكرين المعاصرين الذين لم تتم مناقشة أفكارهم باستفاضة في حقل الدراسات الإفريقية كعوامل للتغيير الثقافي في مجتمعاتهم بشكل عام.
ولعل أهم إسهامات “كوبر” الفكرية تتركز حول العِرْق، والنسوية، والتعليم.
1- مسألة المرأة والنسوية ومعضلة العِرْق
في كتابها “صوتٌ من الجنوب لامرأة سوداء” استطاعت “كوبر” تقديم نفسها من خلال طرح قضايا فلسفية واجتماعية وسياسية ونسوية. فعلى الرغم من إهمال هذا العمل الفكري والفلسفي، والذي تزامن مع فورة النشاط الفكري والفلسفي والحركي الإفريقي في نهاية القرن التاسع عشر وبديات القرن العشرين؛ استطاعت “كوبر” من خلال هذا العمل تعزيز مكانتها ليس فقط في الفلسفة الأمريكية الإفريقية والفلسفة النقدية للعرق، ولكن أيضًا في الفلسفة النسوية والاجتماعية والسياسية. تم تنظيم الكتاب في جزأين؛ في الجزء الأول تناولت “كوبر” قضايا المرأة والأنوثة، وفي الجزء الثاني تناولت إشكالية العِرْق والثقافة. في هذه المجموعة من المقالات التي جمعتها داخل الكتاب، والتي تمَّ تقديم العديد منها في الأصل كخطب عامة، تجادل “كوبر” بأن تجربة المرأة بشكل عام وتجربة المرأة السوداء على وجه الخصوص؛ تضعها في مكانة فريدة ليكون لها صوت مميز، وتأثير وإسهام تستطيع تقديمه لعِرْقها وأُمّتها والعالم على نطاق أوسع.
قدَّمت “كوبر” في بيانها الافتتاحي تحت عنوان “سبب وجودنا” (1892م) Our Raison d’Être، أنه “في حين كان صوت الزنجي [الرجل] في الجنوب لم يكن سوى وترًا مكتومًا، كانت المرأة السوداء كالأبكم والأخرس الذي لا صَوْت له”. فبينما “لا يمكن للرجل الأبيض التحدُّث عن تجارب الرجال السود، فمن باب أولى ألا يستطيع الرجل الأسود التحدُّث عن تجارب النساء السوداوات”. من خلال هذا الموقف النسويّ، استطاعت “كوبر” أن تُقدّم رؤيتها في تجديد وتَطوُّر العِرْق.
وفي مقالها الثاني “النسوية: عنصر حيوي في تجديد وتطور العِرْق”، تناولت “كوبر” بذكاء القضايا المتقاطعة والمتعلقة بالعِرْق والجنس والمجتمع؛ بما في ذلك السياسات العِرْقيَّة والنوع داخل المجموعة الواحدة، والمُثُل العليا المزعومة للمجتمع الأمريكي؛ حيث أبدت ملاحظاتها المباشرة نحو المناقشات داخل الفلسفة الأمريكية الإفريقية المبكرة، والفكر السياسي حول القيادة والتمثيل والفلسفات العِرْقية المتنافسة؛ على سبيل المثال بين “استيعابية Assimilationism [فريدريك دوجلاس]، وانفصالية Separatism [مارتن ديلاني]”.
وفيما يتعلق بالسياسات العِرْقية داخل المجموعة الواحدة، تؤكد “كوبر”: “أن [مارتن ديلاني]، كان رجلاً أسود خالصًا unadulterated black، اعتاد القول –بعد أن حظى بمكانة مميزة- بأنه عندما يدخل إلى مجلس الملوك، يدخل معه العِرْق الأسود بأكمله؛ وهذا يعني فَخْره بهُويته العِرْقيَّة الحاضرة من خلال لونه الأسود القاتم، مستبعدًا إنجازات الثقافة الساكسونية التي استفاد منها في تكوينه”. وبصفتها امرأة سوداء يُعتقد أن والدها كان سيد والدتها الأبيض، تعود “كوبر” لتدفع على جبهتين: “لا يستطيع [ديلاني] تمثيل عِرْق بأكمله بحكم دمه الأسود [النقي]، ولا يمكن لأيّ رجل كذلك أن ينوب عن العِرْق بأكمله”. في هذا السياق تُشكّك “كوبر” في العِرْق داخل المجموعة وسياسات النوع (خاصة الأبوية الذكورية السوداء)؛ من خلال الإصرار على أهمية المرأة السوداء بشكل عام، والادعاء بأهميتها الخاصة كامرأة سوداء لتقدم العِرْق، هذا على الرغم من اختلاط الدم الساكسوني، الذي تمَّ فرضه في حالتها من خلال إرث العبودية والاستغلال الجنسي المنهجي للنساء السوداوات.
كما يوفر هذا التحليل أيضًا خَلْفية مختلفة يمكننا على أساسها قراءة وصف “كوبر للفتيات الملونات” في الجنوب على النحو التالي: “تلك الطبقة الكبيرة والمشرقة فائقة الجمال، التي تقف مرتجفة مثل النباتات الصغيرة الرقيقة في مواجهة عاصفة غاضبة مليئة بالوعود، جازمة بالهلاك؛ في كثير من الأحيان بدون أب أو أخ أقوى يتبنَّى قضيتهن ويدافع عن شرفهن”. في هذا النص استطاعت “كوبر” رسم صورة لوقوف المرأة السوداء وحيدة في مواجهة الاستغلال الجنسي الذي تعرَّضت له في الجنوب، وفي الوقت نفسه تتحدَّى بعض الادعاءات التي أدلى بها “ألكسندر كروميل” (1819-1898م) Alexander Crummell في خطاب ألقاه قبل ثلاث سنوات بعنوان “المرأة السوداء في الجنوب: إهمالها واحتياجاتها” The Black Woman of the South: Her Neglects and Her Needs (1883)؛ حيث ميَّز “كروميل” بوضوح بين الملونين من ناحية؛ والذين يصفهم بأنهم أكثر تعليمًا، ولديهم ظروف مادية أفضل، والسكان الزنوج من ناحية أخرى؛ حيث أقدم على وصفهم بالجوع الفكري. ويعزو “كروميل” ثراء الملونين إلى “لطف وكرم عشيرتهم البيضاء؛ حيث آباؤهم وأقاربهم البيض. وفي الوقت الذي يحمي فيه الرجال البيض “النسوية الإنجليزية”، وجدت “كوبر” نقصًا ملحوظًا في حماية النساء السود مِن قِبَل الرجال السود شركاء العِرْق.
أكدت “كوبر” كذلك على شرف النساء السود، وركَّزت على دورها كأم، وبأنها يجب أن تكون منوطة بالقيام بالواجبات العائلية؛ حيث المسؤولية عن التربية الأخلاقية للشباب الأسود والارتقاء بالعِرْق. وعلى هذا الأساس، جادل البعض بأن “كوبر” تتمسك بالمُثُل الأمريكية النسويَّة. في الوقت الذي أكَّدت فيه “كوبر”: “أن مكانة المرأة في المجتمع تحدّد العناصر الحيوية لتجدده وارتقائه. وهذا ليس لأن المرأة أفضل أو أقوى أو أكثر حكمة من الرجل، ولكن لأنها هي التي يجب أن تُشَكِّل وعي الرجل أولاً، من خلال توجيه الدوافع المبكرة في شخصيته”. هذه الأفكار حول دور المرأة في المجتمع والحضارة قابلة للمقارنة مع تلك التي عبَّر عنها “توماس بابينجتون ماكولاي” (1800-1859م) Thomas Babington Macaulay، و”رالف والدو إيمرسون” (1803-1882م) Ralph Waldo Emerson، و”مارتن ديلاني” Martin Delany. حيث يقول “ماكولاي”: “يمكنك الحكم على مكانة الأمة في مقياس الحضارة من الطريقة التي يعاملون بها نساءهم”. وبالمثل ادعى “رالف والدو إيمرسون” في “الحضارة الأمريكية” American Civilization: أن “المكانة الصحيحة للمرأة في الدولة مؤشر آخر على الحضارة. وذلك ما جعله يعتقد أن التعريف الكافي للحضارة هو القول: “بأنه تأثير المرأة الصالحة”.
وفي كتاب “حالة الأشخاص الملونين في الولايات المتحدة علوّهم وهجرتهم ومصيرهم” The Condition, Elevation, Emigration, and Destiny of the Colored People of the United States، كتب “مارتن ديلاني”: أنه “لم يسبق لأي شعبٍ أن تم ترقيته فوق مستوى نسائه؛ فمكانة الطفل من مكانة أُمه”.
2- التعليم والنهوض العِرْقي
في مقالها “التعليم العالي للمرأة” The Higher Education of Women (1890-1891)، تطرح “كوبر” حُجة نسوية لتعليم النساء؛ حيث قامت ببحث المشاعر المناهضة لتعليم النساء في أوائل القرن التاسع عشر، لتُقدّم حجتها في المقابل من خلال الإشارة إلى الأثر الإيجابي للتعليم في حياة النساء اللائي استطعن الالتحاق بالكليات، والحصول على درجات البكالوريوس، بالإضافة إلى التأثير الإيجابي لهن على نطاق أوسع للعالم ككل. فوفقًا لـ”كوبر”: فإن التعليم العالي بين النساء “أعطى التناسق والتكامل للمؤسسات العالمية”. وبالتالي، فإن أحد أهداف مَنْح المرأة إمكانية الوصول إلى التعليم العالي؛ هو تجهيزها بشكل أفضل للتأثير على الإنسانية، والمساهمة في تقديم إجابات للتساؤلات، وحلول للإشكاليات، وإشراكها في المناقشات للقضايا العالمية. وتجادل “كوبر” كذلك: بأنه “يمكن للعامل النسوي أن يكون له تأثيره الصحيح فقط من خلال تنمية المرأة وتعليمها؛ لكي تتمكَّن من تَرْك بصمتها بقوَّة وذكاء وبشكلٍ لائقٍ مع مرور الوقت”.
لا تناقش “كوبر” تعليم النساء بشكل عام فحسب، بل من واقع إدراكها لأهمية التعليم في حياة النساء والفتيات السود على وجه الخصوص. فقد كان لديها اعتقادٌ بأن النساء السود قد تعرَّضن لمقاومة مزدوجة في مجال التعليم. فبينما كانت هناك قيود على الفرص التعليمية للسود بشكل عام، ذهبت “كوبر” إلى لَفْت الانتباه نحو موقف المقاومة مِن قِبَل الرجال السود فيما يتعلق بالتطور الأكاديميّ بين النساء؛ حيث تعترف “كوبر” بقولها: “ليس من اللائق ذِكْره، لكنه حقيقة وواقع؛ فبينما يبدو رجالنا مواكبين تمامًا للعصر في كل موضوع آخر تقريبًا، لكنهم عندما يواجهون مسألة المرأة، فإنهم يعودون بتفكيرهم إلى منطق القرن السادس عشر”. وأنه “بينما كان الرجال السود على دراية بقضايا مثل الارتقاء العِرْقي، تجاهلوا إلى حدّ كبير المشكلات الخاصة بالنساء السود، أي “النصف” الآخر من العِرْق الذي يُفترض أنهم يريدون الارتقاء به. ولا يقتصر هذا الموقف القديم على التعليم العالي للنساء البالغات، بل ينطبق أيضًا على الفتيات الصغيرات”. وتنادي “كوبر”: بأن “أعطوا الفتيات فرصة!… دعوهم يشعرن أننا نتوقع منهن أكثر من كونهن حسناوات، ويظهرن بشكل جيد داخل المجتمع. فالعالم لا يزال ينتظر منهن الكثير”.
برز في مقالها هذا التزامها بفكرة أن للنساء والفتيات صوتًا يجب أن يُسْمَع، وأن لهن تأثيرًا ومساهمةً يجب عليهن تقديمها للعِرْق وللبشرية جمعاء. وهذا لن يحدث إلا بحصول النساء على التعليم العالي، الذي يخرج لنا نساءً مجهّزات ومفكرات بشكلٍ جيّد: “فلطالما انتظرها العالم للخروج من مخاضٍ صعبٍ؛ لتكون إضافة وتكملة لذلك التأثير الذكوري الذي سيطر عليه طوال أربعة عشر قرنًا”. كما تقدم “كوبر” شرحًا لنظرياتها حول المهمة والفريدة للمرأة وتأثيرها بقولها: إنه بمثابة “وضع الوتر الرقيق والمتعاطف لاستكمال سيمفونية الطبيعة الكبرى، وإضافة التنسيق والتناغم كذلك إلى القوة والجبروت”.
وفي مقالها “وضع المرأة داخل أمريكا” The Status of Woman in America (1892م)، تُظهر “كوبر” وعيًا مستمرًّا بالقضايا التي واجهت النساء السود داخل أمريكا؛ حيث دافعت عن مشاركتهن السياسية وتمكينهن. من خلال تسليط الضوء على معضلة المرأة السوداء، وحقيقة “أنها تواجه إشكالية نسوية وأخرى عرقية، كما أنها لا زالت مهملة وغير معترفٍ بها في الحالتين”.
كما تؤكد “كوبر” على تفاني النساء السوداوات المتعلمات وغير المتعلمات من أجل بقاء العِرْق؛ حيث إن إنهن أظهرن التزامًا نحو العِرْق بطرق ملموسة. فعلى سبيل المثال، من خلال هجر أزواجهن بسبب “عدم الولاء العِرْقي” خلال خيارات التصويت الخاصة بهم أثناء إعادة الإعمار. وهو ما عبَّرت عنه بقولها: “من المعروف أن النساء السود غير المتعلمات في الجنوب قد تركن بالفعل منازل أزواجهن، وذلك بسبب ما فهمته الزوجة على أنه خيانة عرقية”. وتشير “كوبر” هنا إلى العديد من الإشارات نحو الرجال السود، وإلى الدور الذي لعبوه في السياسة، وكيف استغرقوا في احتياجاتهم العاجلة ومصالحهم السياسية الخاصة. وهو ما جعلها تطرح رؤيتها للرجل الزنجي من خلال قولها: بأن “الزنجي الديمقراطي انتهازي وخائن”.
في مقالها “هل لدى أمريكا مشكلة عرقية؟ وما السبيل إلى حلها إن وُجِدَتْ” Has America a Race Problem? If So, How Can it Best Be Solved? (1892م)؛ جادلت “كوبر” بأن “السلام التدريجيّ يتحقق من خلال الاختلاف والصراع العادل. سبقت “كوبر” في طرحها هذا “أودري لورد” (1934-1992م) Audre Lorde. فوفقًا لكوبر: فإنَّ “الانسجام والتناظر هما سِمَتان أساسيتان ودائمتان، ونتيجة غير متغيرة لتوازن القوى المتعارضة في كون الله”. حيث يتصدر تحليلها هذا للصراع العِرْقي والعنصري. فما يشغل “كوبر” ليس مَحْو عِرْق لآخر، ولكن التقدّم الذي يمكن تحقيقه عندما يتم تبنّي الاختلاف والتغيير. فقد أيَّدت “كوبر” التعددية الثقافية والتنوع العِرْقي لغرض التقدم، كما جادلت بأن العزلة تُعيق تطور المجموعات العِرْقية بدلاً من جعلها أقوى. وهنا تَستجيب “كوبر” لمواقف مختلفة حول التفاعلات أو حتى الاختلاط بين الأعراق. مثل “كروميل” الذي سبقها و”دوبوا” الذي لحقها، كانت “كوبر” مقتنعة بأن “لكل عرقٍ هدفًا ورسالة محددة وإسهامًا يهدف من خلالها المشاركة في تقدم البشرية.
3- الزنجي كما تم تقديمه في الأدب الأمريكي
في مقالها “الزنجي كما تم تقديمه في الأدب الأمريكي” The Negro As Presented in American Literature (1892م)، أعربت “كوبر” عن غضبها من “المثقفين الزائفين” الذين يتعاملون بشكل مخادع مع “مسألة الزنجي” لتحليل العِرْق، حاملين معهم تحيزاتهم وكراهتيهم ورفضهم لأيّ دراسة صريحة ودقيقة. وأوضحت أن مع “اللامبالاة المتزلفة” مازال يطمح العديدون إلى تنوير العالم بأطروحات حول السمات العِرْقية للزنجي. هذا هو الحال، ليس فقط للأطروحات حول العِرْق، ولكن يتخطاها إلى الفن والأدب الذي يسعى إلى تقديم صورة مشوهة للزنجي. كما تؤكد “كوبر”: “أن نشر مثل هذه التعميمات الكاسحة لعرقٍ بناءً على مثل هذه المعلومات الهزيلة والسطحية يُعدّ إهانةً للإنسانية ومخالفة لمنهج الخالق”.
دعت “كوبر” كذلك إلى التساؤل عن وجهة النظر التي تطرح مثل هذه الرسائل، وتجادل في مواجهة ذلك بأن الزنجي له الحق في مناقشة وبيان أوجه القصور في مثل هذه التحليلات. وجدير بالذكر أن القضايا التي أثارتها “كوبر” هنا لا تتعلق بوجهة النظر التي يتم من خلالها إنتاج هذه المواد فحسب، بل تتعلق أيضًا بعدم أصالة المنتج نفسه. ويؤدي عدم الأصالة هذا إلى إنتاج ضخم للصور الذهنية التي “تصور الأشخاص الملونين فقط على أنهم ماسحو أحذية ونوادل في الفنادق، تعلوهم الابتسامة أثناء انحنائهم للحصول على المزيد من البقشيش”. نتيجة لهذه الصورة الخاطئة والمهيمنة، والتي أعطت انطباعًا وكأنها الصورة الوحيدة، بينما توارت صورة الطبقة الكريمة الهادئة؛ حيث احترام الذات، وامتلاك الأذواق والعادات المصقولة بين الزنوج”. وتؤكد “كوبر” أنه بدلاً من إنتاج صورة دقيقة للرجل الأسود، قام الرجل الأبيض بانتاج الصور التي تكشف فقط عن وعي -أو اللاوعي- مُختلّ يتعمد المغالطة والتدليس. فوفقًا لـ”كوبر”: “فإن الصورة الأصلية للزنجي لم يتم إنتاجها بعدُ. هذه الصورة الأصلية، التي تحمل جمالية، وفي الوقت نفسه تقدّم صورة حقيقية للحياة، حيث الرجل الأسود كمواطن أمريكي حُرّ، وليس فقط العبد المتواضع الذي ظهر في رواية [كوخ العم توم] Uncle Tom’s Cabin، ولكن صورة الرجل الذي يكافح ويطمح ويواجه مآسيه في ظل ظروف معاكسة، لم يتم رسمها بعدُ؛ تلك اللوحة التي تنتظر فرشاة الرجل الملون نفسه”.
ومن خلال مقالها بعنوان “ما قيمتنا؟” What Are We Worth?، قدمت “كوبر” عرضًا نظريًّا للتحيز العِرْقي، حيث استندت في عرضها إلى بعض المشاعر والأفكار. نقطة انطلاق “كوبر” كانت انعكاسًا في مواجهة ادعاءات “هنري وارد بيتشر” (1813-1887م) Henry Ward Beecher، الذي كان يتساءل عما إذا لو غرقت إفريقيا والأفارقة في المحيط “ما مدى تأثير ذلك على العالم؟”، ثم يفترض أنه لو حدث في النهاية “لن يفوت العالم أي قصيدة، ولا اختراع، ولا قطعة فنية”، مفترضًا بذلك أنه لم يتم تقديم أيّ مما سبق ذِكْره إلى العالم مِن قِبَل إفريقيا أو الأفارقة. ومن هذا المنطلق، تعتقد “كوبر” أنها عندما تسمع تعبيرات عن كُرْه الزنجي لكونه “ضعيفًا”، فإن هذه المشاعر هي مثالٌ على “ضيق الأفق والكراهية التي لا جدوى من مناقشتها أو الانخراط فيها”.
وفي مقالها “ثمرة الاعتقاد” The Gain from a Belief تؤكد “كوبر” على أن أفعال المرء يجب أن تنبُع من معتقداته. فإذا كان المرء يعتقد أن “الله قد خلق جميع أمم الأرض من أصل واحد مشترك؛ فلماذا يبني معتقده على المصالح التي حاول صياغتها في مفاهيم كالليبرالية والأُخُوَّة العالمية والمساواة، وهي مصالح ضيّقة وخبيثة. ثم تناسى الجوهر، وأخذ يتعامل مع هذه المصطلحات على أنها الأصل في العلاقات”. وطالبت “كوبر” الفلاسفة والمفكرين بضرورة الاتساق مع مواقفهم، والتعبير عن معتقداتهم بشكلٍ واضحٍ. وتنصح بقولها “لا تتداخل مع خطوط رسمها الآخرون على أساسٍ عرقي أو شخصي تم الادعاء لاحقًا بأنها دوائر اجتماعية تهدف إلى تشكُّل ما يسمى [الأخوة العالمية] من خلال شكل الأنف وملمس الشعر”.
وفي مقالها “أخلاقيات مسألة الزنجي” The Ethics of the Negro Question (1902) حاولت “كوبر” من خلاله مواجهة “نفاق المسيحية” داخل أمريكا. فوفقًا لـ”كوبر”: “يقف الزنجي في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم باعتباره التوبيخ السلبي والصامت لمسيحية الأمة، ونتيجة للهوة السحيقة بين الإيمان وممارسته، حاولت الأمة التسلح بعنصر أخلاقي لِتُلَوِّح به دائمًا وهو نَشْر الحضارة”. هذه المشاعر نفسها التي عبَّرت عنها في مقال “الزنجي كما تم تقديمه في الأدب الأمريكي”؛ حيث أكدت “كوبر” أن الطبقة الملونة في أمريكا هي “توبيخ لاذع للمسيحيين قاصري النظر، الذين لا يستطيعون قراءة القاعدة الذهبية لاختلاف الألوان”.
تروي “كوبر” كذلك الظروف القاسية التي تم فيها اقتلاع الزنجي من جذوره ونقله إلى هذه الأمة “المسيحية”، وتحويله إلى متاع وتحميله بأثقال العبودية بغرض إثراء الرجال البيض، وتنمية اقتصاد هذه الأمة. وعلى طريقة “فريدريك دوجلاس” وآخرين، تؤكد “كوبر” على فشل الأمة الأمريكية في الالتزام بما جاء في إعلان الاستقلال بأن “جميع الرجال خُلِقُوا متساوين”. كما تؤكد على أن البيض في أمريكا “حين اعتنقوا دين الإيثار السامي، بجانب عقيدة سياسية تؤمن بحقوق الإنسان، كانوا في الوقت نفسه يَسْرقون الوثنيين من أوطانهم البعيدة، ويجبرونهم بالسوط والبندقية على الكدح بلا مقابل، ويعتبرون تعليم الزنجي لكلمة الله جريمة، بل أكثر من ذلك، كانوا ينجبون أبناء من أصلابهم عن طريق الزنا معهم، ثم يتركون هذا النسل بلا حول ولا قوة، بل ويُقْدِمُون على بيعهم، وقبض أثمانهم ببضع دولارات وسنتات وضمائرهم مستريحة!!”.
هنا لا تُسلّط “كوبر” الضوء فقط على الانفصال بين الدِّين والإيمان، والمنطق والضمير لإظهار مدى بشاعة الاستعباد في جانب آخر، بل لإظهار الرجل الأبيض -مالك العبيد- كمغتصبٍ وأبٍ لأطفال من نساء سوداوات وعبيد، قام باستغلالهم وبيعهم وقبض أثمانهم لمجرد أنهم ورثوا وضع العبودية من أمهاتهم. وهذه نقطة ثابتة تشدّد عليها “كوبر” باستمرار، ليس فقط بسبب انتشارها في فترة العبودية وما بعدها، بل بسبب تجربتها الشخصية كذلك.
رابعاً: دلالات فكر “آنا جوليا كوبر”
في حين أن “آنا جوليا كوبر” لم تُعلِن رسميًّا عن ريادتها للحركة النسوية الإفريقية، لكنها أعطت صوتًا لأفكارها من خلال بعض مفاهيمها الرئيسية في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر. كانت مُعلّمة ومُفكّرة وناشطة، وامرأة غير عادية، لا سيما بالنظر إلى الوقت والظروف والمناخ الذي أظلها؛ حيث حصلت على درجة البكالوريوس (1884م) والماجستير (1887م) والدكتوراه (1925م). وعندما أنهت أطروحتها التي وصفتها بأنها أهم عمل في حياتها، كانت تبلغ من العمر سبعة وستين عامًا. في مقدمة أطروحتها، كشفت عن تقديرها لإحياء العقل والتزامها بالفكر العميق والإنتاجية الفكرية.
كان نجاحها الفكري وإحساسها بشعبها وعرقها يعزز قناعتها بأن الآخرين يمكنهم أيضًا تحقيق مثل هذا الإنجاز باستخدام الأدوات المناسبة؛ حيث أعربت عن اعتقادها أنه إذا أُتيحت الفرصة للحصول على التعليم المناسب والبيئة الاجتماعية، يمكن لجميع الشباب، إناثًا وذكورًا، التفوق والوصول إلى أعلى مستوى.
كانت “كوبر” تُحاضر وتكتب العديد من المقالات والمنشورات التي أعطت صوتًا للنساء في ظل تمثيل ناقص. فحسبما أشارت “فيفيان ماي” May M. Vivian: “لقد أثرت تجاربها المبكرة مع أفكارها التقدمية من خلال دفاعها عن العِرْق جنبًا إلى جنب مع التمييز الجنسي المتزامن على نظرة [كوبر] السياسية للعالم”. وعندما حصلت على الدكتوراه من “جامعة هوارد” نيابة عن “جامعة السوربون”؛ أعادت التأكيد على التزامها تجاه شعبها قائلة: “أنا بين يديك… هذه الدرجة العلمية، ليست إلا رمزًا للنجاح الفكري البارد في إنجازي، الذي لا يزال في احتياج إلى نبضات القلب الدافئة لرضا الناس عن جهودي المتواضعة لخدمتهم”.
عملها الرئيسي، “صوت امرأة من الجنوب” (1892م)، قامت “كوبر” بعرض رؤيتها الفكرية حول مسائل العِرْق والجنس والأسس الأخلاقية للعلاقات الإنسانية الجيدة؛ حيث أبدت التزامًا عميقًا تجاه شعبها، من أجل تحريره وارتقائه، وتأمين الاحترام للمرأة والنهوض بها، وخاصة النساء السوداوات. فلقد دافعت عن أصوات النساء السود من خلال سردها للحقائق التاريخية الخاصة بهم، حتى يعرف الجميع وضعهن وتطلعاتهن والتعبير عن أنفسهن، بدلاً من مجرد دعم الرجال السود والبيض ذوي النوايا الحسنة.
كما انتقدت الرجال السود والكنيسة لمواقفهم الجنسية تجاه حقوق المرأة، وفشلهم في دعم حاجة النساء السود إلى التعليم العالي. كما كان لدى “كوبر” رؤية واضحة للعالم، وكيف يجب أن ترى المرأة السوداء نفسها ومكانتها داخل المجتمع. مستبقة العديد من معاصريها، حيث عرضت “كوبر” المفاهيم الأساسية التي ساهمت بشكل هادف في مشروع النسوية الإفريقية.
وتاريخيًّا، انخرطت “آنا جوليا كوبر” بصورة مباشرة وغير مباشرة في نقاشات الناشطين السود من المفكرين الرجال، والناشطات الحقوقيات من النساء السود في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حول أفكار تتعلق بالعِرْق، والجنس، والتطور، والقيادة، والتعليم، والعدالة، والحقوق. من الرجال أمثال: “فردريك دوجلاس”، و”مارتن ديلاني”، و”ألكسندر كرومل”، و”وليم دوبوا”، و”بوكر واشنطن”، ومن النساء أمثال: “ماريا ستيوارت”، و”سوجورنر تروث”، و”فرانسيس هربر”، و”ايدا ويلز-بارنيت “، و”ماري تشيرش تيريل”، حيث لم تكن هذه النقاشات عبر الخطابات والكتابات فحسب، بل امتدت إلى عقد اجتماعات موسعة مثل: “مؤتمر هامبتون” Hampton Conference (1829م)، و”معرض شيكاغو الدولي” Chicago World’s Fair (1893م)، و”مؤتمر الوحدة الإفريقية” Pan African Conference (م1900) وغيرها.
وبدخولنا القرن الحادي والعشرين تلاحظ اهتمامًا متزايد بأدبيات “كوبر” الفلسفية. على سبيل المثال، تم إبراز أدبيات “كوبر” فيما يزيد عن ثلاثين دراسة أدبية وفكرية، كما استطاعت أفكار “كوبر” وأطروحاتها أن تجد مكانًا ملائمًا ضمن مقالاتٍ ركَّزت على الإرث الفلسفي للنساء السوداوات، بالرغم من مرور أكثر من قرن على أطروحاتها.
وختامًا:
لا شك أن إعطاء صوت “آنا جوليا كوبر” النسوي منتدى يمكن من خلاله سماعها ودراستها يُعدّ تقديرًا لماضي أصبح حاضرًا بأفكاره؛ نظرًا لِمَا لها من سبق في العديد من الجوانب النظرية النسوية الحديثة. والأهم من ذلك أن هذا ينطبق على تحليلها للعلاقة بين العِرْق والجنس والطبقة؛ بوصفها أشكالاً متعددة من الاضطهاد الذي واجهته النساء السود داخل أمريكا، مما يجعلها متقدمة على عصرها بحوالي قرن من الزمان. وعليه فإن الناشطات في الحقل النسوي حاليًا عبر التخصصات المختلفة، مثل “بيل هوكس” Bell Hooks، و”هازل كاربي” Hazel Carby، و”بولا جيدينجز” Paula Giddings، يرون أن هذا “الخطر الثلاثي” كان له عظيم الأثر على الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمرأة السوداء خلال القرن العشرين وحتى القرن الحادي والعشرين.
ومع ذلك، فإن وجهًا آخر من نظريتها النسوية؛ وهو اقتناعها بأن النساء يتحدثن ويكتبن بصوت يختلف بطبيعته عن صوت الرجال؛ يضع “كوبر” بشكل كامل في مصاف مؤسِّسي النظرية النسوية. فلا يزال هذا الاعتقاد سائدًا من حيث وجود اختلاف في التفكير بين الذكور والإناث، سواء كان ذلك بسبب السمات المتأصلة أو بسبب قرون من التنشئة الاجتماعية والتأثيرات الثقافية. إلى جانب فهمها للطبيعة التكميلية للاثنين، والذي لا يزال يتردد صداه في البحوث النسوية حتى اليوم. وكذلك زعمها بأن المنظور النسوي ظل غائبًا عن الحوار الفكري السائد، ليس عن طريق الصدفة، بل عن طريق التصميم المتعمد. وفي الأخير، فإن المعالجة التي قامت بطرحها؛ من وصول المرأة غير المقيد إلى التعليم العالي، لا زالت حتى الآن هي الدعوة التي يتبنَّاها الباحثون النسويون حديثًا.
_______________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Alexander, Elizabeth. “” We must be about our father’s business”: Anna Julia Cooper and the in-corporation of the nineteenth-century African-American woman intellectual.” Signs: Journal of Women in Culture and Society 20.2 (1995): pp. 336-356
Alridge, Derrick P. “Of victorianism, civilizationism, and progressivism: The educational ideas of Anna Julia Cooper and WEB Du Bois, 1892–1940.” History of Education Quarterly 47.4 (2007): pp. 416-446
Cooper, Anna Julia. A Voice from the South. Oxford University Press, 1988
Giles, Mark S. “Special Focus: Dr. Anna Julia Cooper, 1858-1964: Teacher, Scholar, and Timeless Womanist.” The Journal of Negro Education (2006): pp. 621-634
Gines, Kathryn T., “Anna Julia Cooper”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2015 Edition), Edward N. Zalta (ed.)
Glass, Kathy L. “Tending to the roots: Anna Julia Cooper’s sociopolitical thought and activism.” Meridians 6.1 (2005): pp. 23-55
Gordon, Lewis R. “An introduction to Africana philosophy.” Cambridge University Press (2008)
Greene, Nathifa. “Anna Julia Cooper’s Analysis of the Haitian Revolution.” The CLR James Journal (2017)
Guy-Sheftall, Beverly. “Black feminist studies: The case of anna julia cooper.” African American Review 43.1 (2009): pp. 11-15
Hubbard, LaRese C. “When and Where I Enter: Anna Julia Cooper, Afrocentric Theory, and Africana Studies.” Journal of Black Studies 40.2 (2009): pp. 283-295
Hubbard, LaRese. “Anna Julia Cooper and Africana womanism: Some early conceptual contributions.” Black Women, Gender & Families 4.2 (2010): pp. 31-53
Jeffers, Chike. “Anna Julia Cooper and the Black Gift Thesis.” History of Philosophy Quarterly 33.1 (2016): pp. 79-97
Johnson, Karen. Uplifting the women and the race: The lives, educational philosophies and social activism of Anna Julia Cooper and Nannie Helen Burroughs. Routledge, 2013
May, Vivian M. “Writing the self into being: Anna Julia Cooper’s textual politics.” African American Review 43.1 (2009): pp. 17-34
May, Vivian M. Anna Julia Cooper, visionary black feminist: A critical introduction. Routledge, 2007
Moody-Turner, Shirley, and James Stewart. “Gendering Africana Studies: Insights from Anna Julia Cooper.” African American Review 43.1 (2009): pp. 35-44
Moody-Turner, Shirley. “A voice beyond the South: Resituating the locus of cultural representation in the later writings of Anna Julia Cooper.” African American Review 43.1 (2009): pp. 57-67
Moody-Turner, Shirley. “Prospects for the Study of Anna Julia Cooper.” Resources for American Literary Study 40 (2018): pp. 1-29
Washington, Mary Helen. “Anna Julia Cooper: The Black Feminist Voice of the 1890s.” Legacy (1987): pp. 3-15