يُعتبر “وليم ديبوا” (1868-1963م) William Du Bois، شخصية مركزية في تاريخ السياسة الأفرو-أمريكية، ومساهمًا رئيسيًّا في أكثر من نصف قرن من النقاش حول الحالة والأهداف والاستراتيجيات المناسبة للسود في الولايات المتحدة. وعلى نطاق واسع، الشعوب المنحدرة من أصل إفريقيّ في جميع أنحاء العالم.
استطاع أن يَنْفُذ إلى حقول عديدة، وبرز كعالِم وكاتِب مقالات وناشِط. كان رائدًا في تكوين عِلْم الاجتماع باعتباره تخصُّصًا أكاديميًّا داخل الولايات المتَّحدة، ومُؤلِّفًا لواحدٍ من أوائل كتب التاريخ التنقيحيَّة لفترة إعادة الإعمار، وأحد مؤسِّسي “الجمعيَّة الوطنيَّة للنهوض بالملوّنين” National Association for the Advancement of Colored People (NAACP).
وعلى خلاف معاصريه “بوكر واشنطن” (1856-1915م) Booker T. Washington في البداية، ثم “ماركوس جارفي” (1887-1940م) Marcus Mosiah Garvey فيما بعد؛ كانت له استراتيجيته العِرْقِيَّة الخاصة؛ حيث أصبح من بين الفاعلين السياسيين الأفرو-أمريكيين البارزين في القرن العشرين، وربما يكون “ديبوا” هو المفكِّر الأكثر منهجية من بين معاصريه؛ حيث إنَّ أسلوب كتابته المتماسكة كانت تعبيرًا ونتاجًا عن فكره المنهجيّ، وكتابته الغزيرة المترابطة والمتسلسلة. كما لم يكتُب أيّ مثقف أو ناشِط أسود آخر هذا القَدْر أو ذاك على نطاق واسع؛ حيث إنَّ القليل منهم أصرَّ على ترسيخ التفكير الاستراتيجي على المبادئ النظريَّة والمعياريَّة الواضحة.
أولًا: النشأة والسِّمات والخبرات الشخصية لـ”ديبوا”:
يُطلق على “وليم إدوارد بورجهارت ديبوا” William Edward Burghardt Du Bois، لقب “أبو الوحدة الإفريقية”، ويُنْظَر إليه على أنه أكثر المفكرين الأفارقة الأمريكيين تأثيرًا في القرن العشرين. وُلِدَ “ديبوا” في 23 فبراير سنة 1868م لأم تُدْعَى “ماري بورجهارت” Mary Burghart و”ألفريد ديبوا” Alfred Du Bois في ولاية “ماساتشوستس” Massachusetts بالولايات المتحدة الأمريكيَّة.
تلقَّى تعليمه محليًّا، وبدأ مسيرته الصحفية في سنّ الرابعة عشرة. وبينما كان لا يزال مراهقًا، أصبح مراسلًا لصحف “نيويورك إيدج” New York Age و”نيويورك جلوب” New York Globe وصحف أخرى.
التحق بجامعة “فيسك” Fisk University في الفترة (1855-1858م). ودرس بعد ذلك في “جامعة فريدريش فيلهلم” Friedrich Wilhelm University في “برلين” Berlin، “ألمانيا” Germany. وهي الفترة التي شكَّلت وعيه وفكره؛ حيث تأثَّر بشدة بالعمل التاريخي الجديد لـ”ألبرت بوشنيل هارت” (1854-1943م) Albert Bushnell Hart المتدرب في “ألمانيا”، إلى جانب المحاضرات الفلسفية لـ”وليم جيمس” (1842-1910م) William James.
عاد بعد ذلك إلى الولايات المتحدة وأصبح في سنة 1895م، أول طالب أمريكي من أصل إفريقي يحصل على درجة الدكتوراه من “جامعة هارفارد” Harvard University. ونُشرت أطروحته لاحقًا في كتاب بعنوان “قمع تجارة الرقيق الإفريقي في الولايات المتحدة الأمريكية الفترة من 1638م إلى 1870م” The Suppression of the African Slave Trade to the United States of America, 1638–1870.
في سنة 1896م تزوَّج من زوجته الأولى “نينا جومر” Nina Gomer، وشريكته لأكثر من خمسين عامًا وأم طفليه. ومن سنة 1894م إلى 1896م عمل “ديبوا” أستاذًا للغة اليونانية واللاتينية في “جامعة ويلبرفورس” Wilberforce University. وبعد ذلك بوقت قليل قام بتدريس علم الاجتماع في “جامعة بنسلفانيا” University of Pennsylvania، وأكمل البحث الخاص بدراسته الشهيرة عن حياة الأمريكيين من أصل إفريقي “زنوج فلادلفيا: دراسة اجتماعية” (1899م) The Philadelphia Negro: A Social Study. وفي الفترة (1897-1910م) عمل أستاذًا للاقتصاد والتاريخ.
اهتمامه بإفريقيا والسود في الشتات كان واضحًا بالفعل في كتاباته المبكرة؛ مثل “النظرة الحالية للأعراق المظلمة للبشرية” (1900م) The Present Outlook for the Dark Races of Mankind. وبحلول مطلع القرن، كان قد أصبح بالفعل يشارك بنشاط أكبر في الشؤون السياسية. ففي سنة 1897م انضم إلى “ألكسندر كروميل” (1819-1898م) Alexander Crummell وآخرين لتشكيل “أكاديمية الزنوج الأمريكية” American Negro Academy، والتي أكدت من بين أمور أخرى، على الحاجة إلى التعليم العالي للأمريكيين الأفارقة. كان كذلك من مؤيدي “الرابطة الأمريكية المناهضة للإمبريالية” American Anti-Imperialist League.
في سنة 1900م حضر “مؤتمر الجامعة الإفريقية” Pan-African Conference الذي عُقِدَ في “لندن”، وترأس اللجنة المكلفة بصياغة نداءها “إلى دول العالم” To the Nations of the World. في هذا النداء ظهرت لأول مرة العبارة الشهيرة “مشكلة القرن العشرين هي مشكلة خط اللون”.
وتم تعيين “ديبوا” بعد ذلك نائبًا لرئيس فرع “رابطة الوحدة الإفريقية” Pan-African Association أو ما باتت تُعرف على نطاق واسع باسم “الجامعة الإفريقية” Pan Africanism، وذلك بفرعها بالولايات المتحدة، وهي المنظمة التي تأسَّست بعد المؤتمر. وعاد “ديبوا” مرة أخرى إلى لندن في عام 1911م لحضور “مؤتمر الأعراق العالمية” Universal Races Congress، حيث قدَّم ورقة بحثية عن “العرق الزنجي في الولايات المتحدة الأمريكية” The Negro Race in the USA.
في سنة 1903م، نشر “ديبوا” أحد أكثر كتبه تأثيرًا بعنوان “روح الشعب الأسود” The Souls of Black Folk، والذي وصفه البعض بأنه أهم كتاب كتبه أمريكي من أصل إفريقي على الإطلاق.
في يونيو سنة 1905م، وضع “ديبوا” بعض أفكاره موضع التنفيذ؛ حيث كان ضمن مجموعة من المثقفين الأمريكيين الأفارقة الشباب الذين التقوا في “شلالات نياجرا” بكندا لوضع “إعلان المبادئ”، وهو برنامج سياسي جديد للاحتجاج والتحريض، والذي يطالب بالحقوق السياسية والاجتماعية للسود. هذا الكيان الذي تم تسميته “حركة نياجرا” The Niagara Movement. وبعد الانهيار السريع لـ”حركة نياجرا”، أصبح “ديبوا” في عام 1910م أحد الشخصيات البارزة في تشكيل “الجمعية الوطنية للارتقاء بالملونين”، كان عضوًا بمجلس إدارتها ومديرًا للدعاية والأبحاث، ومحررًا لصحيفتها “الأزمة” The Crisis حتى استقالته من المنظمة عام 1934م.
استطاع “ديبوا” أن يكون من أعظم الكُتّاب في عصر “نهضة هارلم” Harlem Renaissance، من الواضح أنه كان يتمتع بنفوذ كبير، خاصة بعد وفاة “بوكر واشنطن”، لكنَّه لم يكن دبلوماسيًّا، ويتشاجر ليس فقط مع زملائه في NAACP، بل هاجم أيضًا الكنائس والصحف السوداء. كانت الهجمات الأكثر صخبًا مع معاصره “ماركوس جارفي” و”الرابطة العالمية لتحسين الزنوج” Universal Negro Improvement Association (UNIA)، الذين أشاروا إلى “ديبوا” على أنه “رجل أبيض أكثر من كونه زنجيًّا”، وقاموا بإدانة NAACP باعتبارها تعتمد على “المال الأبيض”. لكنَّ التنافس بينهما كان مدفوعًا بدور “ديبوا” في عقد سلسلة “مؤتمرات الجامعة الإفريقية” (1919م،1921م؛ 1923م؛ 1927م؛ 1945م) بعد الحرب، والتي بدت وكأنها تنافس UNIA بقيادة “جارفي”.
في عام 1934م تمت دعوة “ديبوا” ليصبح رئيس قسم علم الاجتماع في “جامعة أتلانتا” Atlanta University، وظل في الجامعة حتى أُجبر على التقاعد سنة 1944م. وخلال هذه الفترة كتب أكثر كتبه تأثيرًا بما في ذلك “إعادة الإعمار الأسود في أمريكا” (1935م) Black Reconstruction in America؛ و”الشعب الأسود: الماضي والحاضر” (1939م) Black Folk: Then and Now؛ و”غسق الفجر: سيرة ذاتية لمفهوم العرق” (1940م) Dusk of Dawn: An Autobiography of a Concept of Race. وفي عام 1939م أسس مجلة Phylon المؤثرة “لتسجيل حالة العالم الملون وتوجيه مسار تطويره”.
انضم إلى “الحزب الشيوعي الأمريكي” American Communist Party في سنة 1961م، ومع استمرار توترات الحرب الباردة وتأثيرها المحتمل على قدرته على السفر والبقاء نشطًا في المستقبل، دفع “ديبوا” إلى النظر بإيجابية إلى دعوة في مايو 1961م، قدمها له “كوامي نكروما” Kwame Nkrumah و”أكاديمية العلوم الغانية” Ghana Academy of Sciences للانتقال إلى “غانا” والاضطلاع بتوجيهات لإعداد “الموسوعة الإفريقية” Encyclopedia Africana، وهو مشروع يشبه إلى حدّ كبير مشروعًا كان قد تبنَّاه كفكرة منذ فترة طويلة.
وفي سنة 1963م مات في أكرا Accra، عاصمة “غانا”، ودُفِنَ في إفريقيا، ومن المفارقات أن “ديبوا” كان معارضًا بقوة لحركة “العودة إلى إفريقيا” Back-to-Africa Movement التي قادها “ماركوس جارفي” Marcus Mosiah Garvey، والذي عاش ومات خارج إفريقيا.
ثانيًا: السياق الفكري والسياسي والتاريخي المعاصر لـ”ديبوا”:
كانت السنوات الأولى من حياة “ديبوا” هي نفسها السنوات الأولى لتطوُّر الرأسمالية الصناعية كقوة ثقافية مهيمنة داخل الولايات المتحدة وفي كثير من أنحاء أوروبا. وهي نفسها سنوات التوسع الاستعماري الأوروبي داخل إفريقيا وآسيا، وكذلك التجارب الأمريكية وعدم اليقين بشأن حلّ “مشكلة الزنوج”.
وُلِدَ “ديبوا” في سنة 1868م، وهي سنة التصديق على التعديل الرابع عشر في الدستور الأمريكي. وفي السنة الذي بدأ فيها دراسته في “جامعة فيسك” سنة 1885م، انعقد “مؤتمر برلين” الذي عمل على تقسيم إفريقيا إلى مناطق نفوذ للقوى الاستعمارية الأوروبية.
وفي سنة 1896م حصل “ديبوا” على الدكتوراه من “جامعة هارفارد”، وهي السنة التي صدر فيها قرار “بليسي ضد فيرجسون” Plessy v. Ferguson. وعندما انضم إلى هيئة التدريس في “جامعة أتلانتا” كان في ذروة الأيديولوجية الجديدة في الجنوب، والتي كانت “أتلانتا” بمثابة عاصمة لها.
انضم “ديبوا” كذلك إلى النقاش مع “بوكر واشنطن” حول التعليم الصناعي في ذروة حركة اندماج الشركات. وربما الأمر الأكثر أهمية في تطوير فكر “ديبوا”، هو فترة نقاشاته وصراعاته الفكرية مع “واشنطن” ومن ساروا على نهجه.
وحسبما لاحظت “كارول جروبر” Carol S. Gruber أنه في العقود التي أعقبت الحرب الأهلية، خضع هيكل التعليم العالي في أمريكا لعملية إعادة تنظيم كبرى. كما زادت الديناميات ذات الصلة من التحضر والتصنيع من الحاجة الاجتماعية للمعرفة العلمية والتقنية؛ في الوقت نفسه، حظي العمل الأصلي والتجريبي في العلوم والهندسة باحترام متزايد من الطلاب والآخرين أكثر من المناهج الفلسفية الكلاسيكية.
كان الربع الأخير كذلك من القرن التاسع عشر فترة بدأت فيها الثقافة الأمريكية تظهر علامات تآكل للتأثير الديني، وهو ما انعكس على مجتمع الجامعة بشكل كبير؛ حيث كان أساتذة الجامعات والمفكرون المستقلون في طليعة ما أطلق عليه “جروبر” بـ”تقدم العلمانية” Advancing Secularism في تلك الحقبة. فقد كان تأثير نظرية التطور محسوسًا على نطاق واسع في الثقافة، كما شهدت هذه الفترة انتشار الأيديولوجية الداروينية الاجتماعية، وتأثر التديُّن وفقًا لذلك. ومع ذلك، فقد تمَّ تحفيز العلمنة حتى داخل علم اللاهوت نفسه. “مثل عقيدة الانتقاء الطبيعي، والدعوة إلى النقد النصي للكتاب المقدس، والذي أدى بدوره إلى التشكيك في عصمة الكتاب المقدس”. وهو ما أخضع نصوص الكتاب المقدس لتحليل تاريخي نقدي صارم. كل هذه التغيرات أحدثت تغيُّرًا كبيرًا في التوجُّه العام للسود في طليعة القرن العشرين، ومن بين هؤلاء كان “وليم ديبوا”.
وتوفي “ديبوا” في اليوم السابق لتجمع مواطنيه الأمريكيين في “مسيرة واشنطن من أجل الوظائف والحرية” March on Washington for Jobs and Freedom. لقد كان ارتباطًا أكثر من كونه غنيًّا بالرمزية التاريخية. حيث بداية نهاية حقبة الفصل العنصري التي شكَّلت الكثير من حياة “ديبوا”، ولكنها كانت كذلك بداية حقبة جديدة عندما لم يكن من الممكن حصر “مشكلة الزنوج” في التضاريس المنفصلة في المجالات السياسية والاقتصادية، أو محليًّا أو دوليًّا أو لحلول بسيطة مثل التكامل أو الانفصال أو الحقوق أو الوعي. لكنَّ حياته وعمله كانت شكلًا من هذا التوليف الضروريّ للتضاريس والحلول المتنوِّعة.
ثالثًا: منطلقات “ديبوا” الفكرية:
كان لانتقال “ديبوا” لمدة عامين إلى خارج أمريكا والدراسة في ألمانيا، عظيم الأثر في تشكُّل فِكْره ووعيه حول مستقبله. فقد كان حريصًا على العودة إلى الوطن؛ بعد أن أمضى عامين في “برلين”؛ حيث حصل على الزمالة من “جامعة فريدريش فيلهلم”؛ حيث اختلط بحرية مع البيض، وعُومِلَ على قَدَم المساواة مع أقرانه في أوروبا؛ حيث كتب لاحقًا في مذكراته عن هدفه الرئيسي بقوله: “أردت أن أصنع اسمًا لي في العلوم والأدب، وأن أكون قائدًا لشعبي”.
نظَّم أعمال حياته حول الدراسة الشاملة القائمة على أساس تجريبي لما كان يُطلق عليه “مشكلة الزنوج”، حيث قضى سنواته في العمل على تدوين أفكاره من خلال تخصُّصه بالعلوم الاجتماعية لتوثيق التجارب والمساهمات التاريخية للشعوب الإفريقية في العالم. فبعد أن شهد فترة التكالب بين القوى الأوروبية التي استعمرت القارة الإفريقية في أواخر القرن التاسع عشر، عاش ليتذوق ثمار النضال من أجل إنهاء الاستعمار في أواخر القرن العشرين، وليصبح مواطنًا لأول دولة إفريقية جديدة. وبعد أن طرح في نهاية القرن التاسع عشر مشكلة الهوية السوداء في الشتات، بدا وكأنه قدم حلًا عمليًّا للمشكلة من خلال حياته بالعودة إلى إفريقيا.
فلا يختلف اثنان بأن “ديبوا” هو أهم مفكر أمريكي من أصل إفريقي في تاريخ الفكر الإفريقي الحديث، فقد أَسَّس للغة خطاب أمريكية إفريقية حديثة، وقدَّم شكلًا للوعي الذي بدوره عمل على تحريك جميع المفكرين الأمريكيين الأفارقة المعاصرين تقريبًا. ألَّف سبعة عشر كتابًا منها خمس روايات. وأسَّس وحرَّر أربع صُحف مختلفة. وتابع وظيفتين بدوام كامل كباحث ومنظم سياسي. والأكثر من ذلك، أنه قدَّم صياغة جديدة حول كيفية فهم التجربة الأمريكية الإفريقية؛ مما انعكس بدوره على معرفة مدى تعقيد هوية الأمريكيين السود، وأهمية مساهمتهم وطبيعة هذه المساهمة ومستقبلها.
كانت أهم القضايا الفكرية التي شغلت “ديبوا”: تتلخص في المطالبة بالمساواة الكاملة بين الأعراق وعدم الفصل العنصري، وضرورة تعليم السود للحصول على نفس الفرص مع البيض، وحقّ المشاركة السياسية والاقتصادية، كما رفض فكرة العودة إلى إفريقيا، بل كان مع الاندماج داخل المجتمع الأمريكي على أساس من المساواة التامة.
ويمكن تناول أهم القضايا التي شغلت فكره من خلال العناصر التالية:
1- مشكلة “الزنجي”
ينظر “ديبوا” إلى مشكلة “الزنجي” بشكل موضوعي وذاتي؛ من حيث وجهة نظر العلم وكذلك من خلال التجربة الحية.
فمن الناحية الموضوعية: قدم بحثًا بعنوان “دراسة المشاكل الزنجية” The Study of the Negro Problems (1898م)، وهو أحد أقدم منشوراته، والذي استجاب فيه “ديبوا” للمناقشات المعاصرة حول “مشكلة الزنوج” داخل أمريكا من خلال وضع مفاهيم للمشكلة كموضوع بحث ينتمي إلى حقل علم الاجتماع. وخاصة وأن “ديبوا” كان اهتمامه ينصبّ على مجموعة من المشكلات الاجتماعية التي تؤثّر على الزنوج الأمريكيين.
ويصف “ديبوا” مشكلة “الزنجي” في نهاية القرن التاسع عشر بأنها نتيجة للإخفاق في إيجاد المثل الأعلى الذي بدوره يساعد على دَمْج الجماهير الزنجية داخل المجتمع الأمريكي. ويعزو “ديبوا” هذه الإخفاق إلى سببين:
أولاهما؛ التحيز العنصري الأبيض تجاه الزنوج؛ والذي أدَّى بدوره إلى القناعة “بأنه لا ينبغي السماح للأشخاص ذوي الدم الزنجي بالاندماج داخل الأُمَّة مهما كان وضعهم”.
وثانيهما؛ التخلُّف الثقافي للزنوج؛ وهو ما أدَّى كذلك إلى حرمان اقتصادي وجهل ونقص في كلّ ما يتعلق بفنون الحياة الاجتماعية المنظمة.
أما عن رؤيته لمشكلة “الزنجي” بشكل ذاتي؛ فقد وصفها بأنها حالة اجتماعية معيشية مُحسوسة بشكلٍ ذاتيّ، وليست مجرد موضوع بحث علمي اجتماعي. ففي كتابه “كفاح الزنوج” Strivings of the Negro People (1897م) وكتابه “روح الشعب الأسود” The Souls of Black Folk (1903م)، تناول “ديبوا” مفهوم “الوعي المزدوج” Double Consciousness لوصف التجربة الذاتية لمشكلة الزنوج. والذي وصفه بأنه “إحساس دائم بالنظر إلى الذات من خلال عيون الآخرين؛ حيث العالم الذي ينظر بازدراء وشفقة مسلية”. ويُعدّ مفهوم الوعي المزدوج هو المفهوم الأكثر مناقشة على نطاق واسع في الأدبيات الثانوية للعلوم الإنسانية والاجتماعية حول “ديبوا”، وقد حظي باهتمام كبير من الفلاسفة. وهو ما لا يسع المقام هنا لتناوله بشيء من التفصيل.
وعلى خطى كتابات سابقيه من رواد الفكر السياسي الأفرو-أمريكي؛ مثل كتابات “أوتاباه كوجوانو” (1757-1791م) Ottabah Cugoano، و”ديفيد ووكر” (1796-1830م) David Walker، و”إدوارد بلايدن” (1832-1912م) Edward Blyden، و”مارتن ديلاني” (1812-1885م) Martin Delany، و”فريدريك دوجلاس” (1817-1895م) Frederick Douglass، و”ألكسندر كروميل” Alexander Crummell. أولى “ديبوا” اهتمامه بالتنظيم السياسي والاجتماعي لتفوق البيض، وطبيعة وتأثيرات الأيديولوجيا العنصرية، وإمكانية تحرُّر السود، وهو ما برَز بشكل كبير في كتاب “ديبوا” الأكثر شهرة، “روح الشعب الأسود” (1903م)، والذي يُعتَبر مساهمته الأولى في هذا التقليد. وهو الكتاب الذي حاول فيه تقديم تصوّر حول “ما نوع السياسة التي يجب على الأمريكيين الأفارقة اتباعها لمواجهة تفوق البيض؟”.
وبتتبع كتابات “ديبوا” التي بدأها بكتابه “روح الشعب الأسود” انتهاءً بكتابه “عوالم الألوان” Worlds of Color (1961م)، يتضح أن “ديبوا” استطاع بلورة مشكلة الزنجي عبر كتاباته بتسلسل يعتقد القارئ منه أن مؤلفاته أشبه بمجموعة واحدة مترابطة تتناول في كل كتاب مشكلة الزنجي من زاوية مختلفة؛ مقدِّمًا تصوُّر واعٍ لتلك المشكلة. وقد كانت أهمّ هذه الحلول على سبيل المثال لا الحصر؛ الارتقاء العرقيّ، والتعبير السياسيّ، وتشكيل النخبة السوداء التي أطلق عليها “العُشر الموهوب”.
2- الإثيوبيانية
بدءًا من أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، كان لمفهوم “الإثيوبيانية” معنى خاص للأمريكيين من أصل إفريقي، لا سيما بسبب الآية التوراتية: “يأتي العظماء من مصر، وإثيوبيا تمدّ يديها إلى الله” (مزمور 31:68). في هذه الآية، تم تفسير كلمة “إثيوبيا” بدلًا من إفريقيا والإثيوبيين كمرادف للأفارقة المتحضرين. وأصبحت الآية صرخة حاشدة للأمريكيين الأفارقة الذين يسعون إلى الحرية والعدالة والتحسين الاجتماعي والاقتصادي والحقوق السياسية. وربما كان شاعر نيو إنجلاند الأسود الرائد، “فيليس ويتلي” Phillis Wheatley، في أواخر القرن الثامن عشر، أول من استخدم كلمة “إثيوبيا” للإشارة إلى الأفارقة والأمريكيين الأفارقة. وتبعه في ذلك العديد من الكتاب والناشطين في القرن التاسع عشر.
ويعود أول استخدام للإثيوبيانية كأداة أدبية إلى “وليم ديبوا”؛ ففي كلمته التي ألقاها في “جامعة هارفارد” في عام 1890م، والتي اختتمها بكلمة للجمهور الذي يغلب عليه البيض: “إنَّ العِرْق البشريّ مدين بدين عظيم لإثيوبيا التي تمد ذراعيها”. وفي العام التالي أعاد تكرارها لجمهورٍ من السود: “إن إثيوبيا التي كنا نجعلها في دعائنا، قد مدَّت ذراعيها نحو أبنائها”.
مرة أخرى استخدم “ديبوا” كلمة “إثيوبيا” في العرض الذي كتبه في عام 1913م بعنوان “نجمة إثيوبيا” The Star of Ethiopia، والذي قدّمه في إحدى المناسبات في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا العرض جَمَع “ديبوا” المعلومات اللازمة حول مساهمات إفريقيا في تاريخ وثقافة العالم. كانت المسابقة مليئة بالغناء والرقص والعديد من التلميحات الرمزية، ممَّا يُوضّح نظرته الرومانسية أو الصوفية المستمرة لإفريقيا. وفي روايته عن “إثيوبيا”، احتفظ بالاستخدام المزدوج لتلك الكلمة؛ حيث المفهوم الذي كان نموذجيًّا في ذلك الوقت: أن “إثيوبيا” هي النوبة حتى مملكة مروي بين (300 ق.م) و(300 م)، و”إثيوبيا” باسم “الحبشة”.
3- إعادة كتابة التاريخ
كان هدف كتابة التاريخ واضحًا بقدر ما كانت المخاطر كبيرة، وذلك بالنسبة للمؤرخين الأمريكيين من أصل إفريقي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. لاحقًا كرّس المؤرخون أنفسهم سواء كانوا هواة أو محترفين لاقتراح كتابة التاريخ الأمريكي الإفريقي وإدراجه ضمن التاريخ الأمريكي السائد، لغرس الفخر بجذور المجتمع الأمريكي الإفريقي، ولتصحيح التحريفات والمغالطات الزمانية والمكانية الناتجة عن معالجة القضايا والمشاكل الخاصة بالسود؛ نظرًا لارتباط هذه الفترة بأجندة المرحلة التاريخية.
كان لكتاب “ديبوا” الضخم “إعادة الإعمار الأسود” (1935م) Black Reconstruction، أهمية في إعادة صياغة المصطلحات التي تم من خلالها تحليل تاريخ إعادة الإعمار، وهو إعادة تعريف ظهر في وقت قدَّم فيه المؤرخون السائدون صورة مختلفة تمامًا عن فترة ما بعد الحرب الأهلية.
كانت فترة إعادة الإعمار حاضرة في كتابات “ديبوا” منذ البداية؛ حيث تناوله في المقال الثاني لكتاب “روح الشعب الأسود” (1903)، وكذلك في فصل من كتاب “هدية الشعب الأسود” (1924) The Gift of Black Folk. ومع ذلك، فقد اعتقد أن القصة الكاملة لإعادة الإعمار من وجهة نظر الأمريكيين من أصل إفريقي لا تزال بحاجة إلى سرد. وتم تأكيد رؤيته من خلال نجاح كتاب ” العصر المأساوي” (1929م) The Tragic Era، وكذلك من خلال حادثة غير سارة تعرّض لها “ديبوا” في عام 1929م. طُلب منه كتابة المدخل الرئيسي للطبعة الرابعة عشرة لكتاب “الزنجي الأمريكي” The American Negro الصادر عن “موسوعة بريتانيكا” Encyclopaedia Britannica. كان على العلماء الأمريكيين الأفارقة الآخرين كتابة مداخل محددة حول موضوعات مثل الاقتصاد الأمريكي الإفريقي، والفن، والدين، وما إلى ذلك.
لكن “فرانكلين هنري هوبر” Franklin Henry Hooper، المحرر الأمريكي في “بريتانيكا”، اعترض على تفسير “ديبوا” لإعادة الإعمار؛ حيث إن “ديبوا” جادل -كما فعل في “إعادة الإعمار الأسود”- أن الأمريكيين الأفارقة لعبوا دورًا رئيسيًا، ودورًا إيجابيًّا، في إعادة الإعمار. وهو ما قام “هوبر” بحذفه، بجانب كل ما يتعلق بإعادة الإعمار، موضحًا أن المقطع المحذوف يعكس رأي “ديبوا” الخاص، ويخالف إجماع العلماء المقبول؛ حيث إن سياسة الموسوعة كانت واضحة من البداية بأنها لن تقبل إلا “الحقائق المقبولة والمُسلَّم بها”.
ويمكن تلخيص وجهة نظر “ديبوا” من خلال الاقتباس التالي من كتابه “إعادة الإعمار الأسود: “في واقع الأمر، مع الحرب الأهلية، بدأت في أمريكا تجربة غير عادية من الارتقاء والتعليم والتنمية البشرية. أربعة ملايين من العبيد، الذين نشأوا في الجهل الإجباري، والعمل القسري، والتبعية الاقتصادية، وعدم المسؤولية الأخلاقية، والسلس الجنسي، وعبودية العقل. كل ذلك كان بسبب مصادفة الحرب ومقتضياتها، وليس عن طريق انتصار العمل الخيري، وهو ما جعلهم أحرارًا فجأة… كان من المتوقع أن يكون هؤلاء الأحرار مجرمون إلى حد كبير، وفقراء، ويكرهون العمل، وحريصون على التجول هنا وهناك. قد يوقعهم الجهل في عدم الاعتناء بأنفسهم أو بأُسَرهم، أو مرضى يمكن أن يُشكّلوا عبئًا وطنيًّا هائلًا لأجيال عديدة. ماذا تتوقع من نتائج لثلاثة قرون من العبودية؟ ولكن على العكس من ذلك، فإن الحقائق تُظهر أن هؤلاء المحررين ذهبوا إلى العمل في عدد غير عاديّ من القضايا؛ فقد حدثت زيادة كبيرة في المحاصيل الزراعية، وأصبحوا ناخبين ومشرعين مؤثرين، وبذلوا جهودهم لإعادة توحيد جمهورية ممزقة، كما ساعدوا في وضع تشريعات اجتماعية جديدة في الجنوب، وكان لهم دور في جَلْب الديمقراطية هناك للرجال البيض والسود على حدٍّ سواء، وشاركوا في إنشاء المدارس العامة في منطقة لم يكن بها من قبل أيّ نظام فعَّال للتعليم الشعبي”.
4- التعليم كوسيلة للارتقاء العرقي
كان الدكتور “ديبوا” معلّمًا؛ حيث عمل أستاذًا في جامعات “ويلبرفورس” و”أتلانتا”. وحاضَر في العديد من الدول بما في ذلك “ألمانيا” و”إنجلترا” و”روسيا” و”الصين” و”غانا”. فقد كان مؤمنًا بقوة التعليم لتغيير المجتمع؛ كما كان مقتنعًا بشكل خاصّ بأهمية التعليم كوسيلة لتقدُّم شعبه.
قاده التزامه بتثقيف القادة الأمريكيين الأفارقة في المستقبل إلى مناصرة فكرة التعليم الليبرالي لأولئك الذين أسماهم “العُشْر الموهوب” The Talented Tenth. هذه واحدة من أكثر المفاهيم التي يُساء فهمها وتحريفها. فهو لم يقترح أن يلتحق عشرة بالمائة فقط من السود بالتعليم الجامعي. لكنه شدَّد على أنه بالنظر إلى العوائق التي تَحُول دون تعليم السود داخل أمريكا، فإن هؤلاء القلائل الذين أوصلتهم موهبتهم وإصرارهم وحسن حظهم إلى الالتحاق بالجامعة يستحقون أفضل تعليم يمكنهم الحصول عليه. والأهم من ذلك، أكَّد أن تعليمهم يُلقي بالمسؤولية عليهم لخدمة شعبهم من السود والارتقاء بهم.
كان إيمانه كبيرًا بهذه النخبة التي أطلق عليها “العُشر الموهوب”، من أجل الارتقاء بالشعب الأسود والنهوض به، وهو ما ظهر في قوله عن النخبة المثقفة: بأنه “يجب أن يكون [العُشر الموهوب] من عرق الزنوج قادة للفكر ومبشرين للثقافة بين شعوبهم. فلا يمكن للآخرين القيام بهذا العمل. ويجب على الكليات الزنجية تدريب الرجال على ذلك”. وفي موضع آخر: “العرق الزنجي، مثل كل الأعراق، سينقذه رجاله الاستثنائيون”.
كانت قناعته بأن “المثقفون والمفكرون من الزنوج هم الذين قادوا ونهضوا بالجماهير، وبأن العقبات الوحيدة التي أبطلت جهودهم وأعاقتهم كانت العبودية والتحيز العرقي”. وطالب بضرورة التعليم للسود: “نريد تعليم أطفالنا، فعندما ندعو إلى التعليم، فإننا نعني التعليم الحقيقي. فنحن نؤمن بالعمل، والتعليم هو تطوير القوة والمثل الأعلى”.
كما خاطب “ديبوا” المجتمع الأمريكي الأبيض بضرورة تعليم السود بقوله: “يا رجال أمريكا، المشكلة واضحة أمامكم. هنا عرق أتى من خلال الحماقة الإجرامية لآبائكم. سواء قَبلتم ذلك أم لا، فإن الملايين منهم هنا، وسيظلون. فليس أقل من أن ترفعوا عنهم الجهل، وإلا سوف تسقطون في الهوة السحيقة”.
كما ظهر طموحه الكبير في قوله: “إذا استطاعت الكلية أن تعطينا في المستقبل زنجيًّا أمريكيًّا يعرف نفسه ومحنته، وكيف يحمي نفسه ويحارب التحيز العرقي، فعندئذ يتحقق حلمنا وليس غير ذلك”. ولكنه كان واقعيًّا إلى حدٍّ كبير: “لا بكليات للزنوج، لكننا نطمح بحقٍّ إلى ثقافة عالمية لا تعيقها قيود العرق واختلاف الثقافة، ومع ذلك يجب أن نبدأ من الأرض حيث نجلس، وليس في السماء حيث نطمح”. وأضاف: “كل خطوة قطعناها للأمام أتبعناها خطوة إلى الوراء في التعصب الطبقي، وقانون الغوغاء، والكراهية العرقية”.
كان مؤمنًا كذلك أن البديل عن تعليم السود هو عبودية مُقنعة، وهو ما عبَّر عنه في سنة (1917م) بقوله: “لقد كان هناك بالفعل رأي عام قويّ في هذا البلد ينظر إلى تدريب الزنوج في الجنوب باعتبارهم عمالة رخيصة لاستخدامها في حالات الطوارئ، في مواجهة المطالب الباهظة للنقابات البيضاء”.
كان يدرك أن الجهل هو العقبة الكؤود في طريق السود، وصل إلى هذه القناعة في عام (1938م): “لا يمكن أن يكون هناك ذرة من شك في أن المشكلة الرئيسية للزنوج الأمريكيين مع العالم، والصعوبة الهائلة التي يواجهونها؛ هي الجهل على نطاق واسع”. كانت قناعاته بأن أمريكا وطن يُشجّع على الجهل: “نقف مرة أخرى لننظر إلى أمريكا في وجهها؛ ونسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقية. إنَّ وطننا، على الرغم من كل ما فعلته الأرواح الطيبة، وما حلمت به، ما يزال أرضًا للخذلان؛ حين شجّع على الجهل. فلم يحاول قط تثقيف الزنوج على الحقيقة، بل تركت أقلية مهيمنة لا تريد أن يتعلم الزنوج. إنها تريد خدمًا وكلابًا وعاهرات وقرودًا. وحينما نرفض أن نكون ضمن هذه الفئات، فإن هذه الطبقة الرجعية تصرخ في نفاق حقير: إنهم يهددوننا بالانحطاط. فلا يمكن أن يتعلموا”.
وعلى الرغم من إيمان “ديبوا” بأهمية التعليم، لكنه كان يشعر بالخذلان، وهو ما عبَّر عنه بقوله: “العرق الزنجي في أمريكا، المسروق والمنهوب والمنهك، في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المساعدة يُقابل بالإعاقة، وبينما كان يحتاج إلى الحماية، عانى من عنف الغوغاء، وحين احتاج إلى العدالة كان لا يجدها إلا عطفًا، وعندما كان في أشد الحاجة إلى القيادة، واجه الجبن والخزلان، وبدلًا من إعطاءه الخبز كان يُلقم حجرًا، وحتى يتمكن العرق الزنجي من القيام بعمل أفضل، لن تجد الأمة مسوغًا يبرر موقفها أمام الله”.
وفي السياق نفسه؛ انخرط “ديبوا” و”واشنطن” في نقاش مرير حول أفضل مسار للنهوض بالعرق الزنجي. فقد كان “واشنطن” يؤمن بنهج ” التأقلم، والانسجام”، أو نهج التكيف في العلاقات بين الأعراق. فعلى صعيد التعليم، كان “واشنطن” يرى أنه من خلال التدريب المهني؛ أو ما يسمى بالتدريب الصناعي، سيحظى السود باحترام البيض من خلال إظهار الالتزام بالعمل الجاد. بينما أراد “ديبوا” أن يكون السود أكثر مواجهة للعنصرية البيضاء. وأكد أن تقدم السود يمكن تحقيقه من خلال أُسس تعليمية في الفنون والعلوم؛ والتي من شأنها أن تؤدّي إلى تطوير النخبة المثقفة السوداء. ولكن حتى مع اتساع الخلافات في وجهات نظرهم، حافظ “ديبوا” و”واشنطن” على الاحترام المتبادل، وعملا معًا في العديد من المشاريع المهمة.
5- القومية الإفريقية
ربما كانت “الوحدة الإفريقية” PAN-AFRICANISM الحاجة المتصوّرة لتعبئة جميع الشعوب المنحدرة من أصل إفريقي ضد العنصرية والاستعمار، فهي واحدة من أكثر الاستجابات ديمومة لإرث العبودية والإمبريالية الأوروبية. وعلى الرغم من أن المشروع تمحور حول مفهوم إفريقيا، إلا أن “الوحدة الإفريقية” كانت في الواقع متأثرةً بشدة بالخطابات الغربية حول إفريقيا والأفارقة. هذا الموقف الغربي هو الذي كان له عميق الأثر على تفكير الأفارقة في الشتات، وهذا بدوره أدَّى أحيانًا إلى خلق أفكار ومواقف متضاربة تجاه قضايا العرق والهوية والجنسية. وإظهار الرابطة المتبادلة التي يعتقد أنها موجودة بين السود بغض النظر عن الموقع الجغرافي. في الواقع، غالبًا ما يتبنَّى الأمريكيون الأفارقة والأفرو-كاريبيون مواقف متناقضة تتعارض مع تطلعاتهم العالمية. وعلى الرغم من خطابها ومُثُلها النبيلة، فإن التناقضات بين النظرية والممارسة الإفريقية كانت جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الحركة الطويل والمتقلب.
وبينما سعى السود في الشتات إلى إعادة اكتشاف هويتهم وإعادة تحديد موقعهم داخل مجتمعاتهم العنصرية، أدركوا أيضًا ضرورة معرفة المزيد عن إفريقيا والأفارقة الذين يتشاركون معهم روابط الأجداد. ومن أجل ذلك سعى معظم الأفارقة في الشتات الذين يكافحون باستمرار للتصالح مع أزمات الهوية والعرق والعنصرية؛ سواء كان ذلك في الولايات المتحدة أو منطقة البحر الكاريبي أو أوروبا؛ إلى إجابات لأسئلة أساسية حول تراثهم وهويتهم؛ مثل: ما هي إفريقيا؟ ماذا يعني أن تكون إفريقيًّا أو أمريكيًّا من أصل إفريقي أو إفريقي أوروبي أو إفريقي كاريبي؟ والأهم ما هو جوهر “الإفريقية”؟ كانت القضية الأساسية لمعظم الأفارقة في الشتات هي كيفية التعامل مع علاقات القوة غير المتكافئة التي بنتها مجتمعاتهم على أساس لون البشرة. كما قال “ديبوا” ببلاغة في محاولته لتعميم القضية، “إن مشكلة القرن العشرين هي مشكلة الخط اللوني – علاقة الأغمق بالأعراق الفاتحة من الرجال في آسيا وإفريقيا وأمريكا وجزر البحر”.
بعد وفاة “بوكر واشنطن” سنة 1915م، برز “ديبوا” كزعيم أسود أكثر تأثيرًا في العالم. مثل أسلافه في القرن التاسع عشر من رواد الوحدة الإفريقية، كان نتاجًا لزمانه ومكانه. وبقدر ما كان “اعترافه بهويته الإفريقية يقابله اهتمام راسخ وإيمان بالتقارب الثقافي مع أوروبا وأمريكا”. بالإضافة إلى ذلك، يعكس حالته الفكرية معضلة وصفها “ديبوا” بشكل مناسب في سياق المجتمع الأمريكي في أوائل القرن العشرين: “بيني وبين العالم الآخر هناك دومًا سؤال غير مسؤول: ما هو شعور أن تكون مشكلة؟ يشعر المرء دائمًا بأنه اثنان، أمريكي وزنجي. روحان، فكران، كفاحان غير متصالحين، مثالان متقاتلان في جسد واحد مظلم، جسد تحميه فقط قوته العنيدة من التمزّق إربًا. لن يؤفرق أمريكا؛ لأن أمريكا لديها الكثير لتعلّمه للعالم وإفريقيا”.
واستطرد “لن يبيّض روحه السوداء في فيض التأمرك؛ لأنه يعلم أن الدم الزنجي لديه رسالة للعالم. هو ببساطة يتمنى أن يكون ممكنًا للإنسان أن يكون زنجيًّا وأمريكيًّا معًا، دون أن يلعنه من حوله أو يبصقوا عليه، ودون أن يرى أبواب الفرص مغلقة بشراسة في وجهه طوال الوقت.”
وعلى الرغم من أن “ديبوا” كان يصف مكانة السود في المجتمع الأمريكي، إلا أنه ربما تم تطبيق كلماته على العلاقة بين الغرب وإفريقيا، وهي قارة يجب أن تكون إما تفخر بها باعتبارها موطن الأجداد، أو السخرية منها باعتبارها برية تتسم بـ[الوحشية] و[البدائية]”. ومن المؤكد أن مثل هذه الصفات عكست الصُّور النمطية الأوروبية الأمريكية عن إفريقيا والأفارقة، والتي عزَّزتها إلى حد كبير النظريات العنصرية العلمية الزائفة التي استمرت في التغلغل في الخطابات الأكاديمية والشعبية في أوروبا والولايات المتحدة حتى النصف الأول من القرن العشرين. وبالتالي، ليس من المستغرب أن يواجه العديد من الأمريكيين الأفارقة والأفرو كاريبيين، فيما يتعلق بإفريقيا والأفارقة، نوعًا من المعضلة التي أكدها “ديبوا” حول “وحدته” في المجتمع الأمريكي. كان لهذا المأزق عميق الأثر على نفسية معظم السود في الشتات.
وهكذا، جسَّد “ديبوا” المعضلة متعددة الأوجه لكونك أسود في مجتمع أمريكي عنصري، وفي الوقت نفسه برهن على ارتباطه بروابط عاطفية بأرض أسلافه. في حين أنه أمريكي من أصل إفريقي، فقد انجذب ليصبح إفريقيًّا متقاربًا ثقافيًّا مع عالم أمريكي أوروبي. وعلى أي حال، واجه “ديبوا” بشكل منفصل المهمة الشاقة المتمثلة في تجاوز خطاب “الوحدة الإفريقية”، وأرسى أساسًا متينًا للتفاهم المتبادل والتعاون بين الأمريكيين من أصل إفريقي والأفارقة الأصليين.
كما اعترض “ديبوا” على عودة الأمريكيين من أصل إفريقي إلى إفريقيا، معتقدًا أن السود لديهم حصة في المجتمع الأمريكي، بعد ما قدّموه من مساهمات ملحوظة في تنميته، ومع ذلك قلّل السكان البيض المهيمنون من جهودهم. فعلى الجانب الآخر لم يكن “ديبوا” متشككًا في جدوى مخططات “جارفي” الملتهبة فحسب، بل كان يعتقد أيضًا أن الأمريكيين الأفارقة كانوا أفضل حالًا في الولايات المتحدة؛ حيث كان عليهم تعلم كيفية التعامل مع “خط الألوان”. وهو ما يحتاج من وجهة نظر “ديبوا”: “إلى التعليم الجيد”.
رابعًا: دلالات “ديبوا” الفكرية:
لم يكن هذا الدور الطليعي لـ”ديبوا” مصادفة، فقد نشأ خلال ذروة إعادة الإعمار – وهي الفترة التي انبعث فيها الأمل لأربعة ملايين من العبيد المحررين حديثًا من أصل إفريقي. ولكن سرعان ما تبدّد هذا الأمل؛ فقد قضى “ديبوا” -الذي يصنف إلى جانب “باراك أوباما” و”مارتن لوثر كينج الابن” و”فريدريك دوجلاس”، وربما كان أهم أمريكي من أصل إفريقي على الإطلاق- حياته في أُمَّة تعرضت لندوب لا تُمحى؛ بسبب الفصل العنصري وتشريعات وسياسات “جيم كرو”. ومع ذلك، في اللحظة التي التقط فيها “ديبوا” أنفاسه الأخيرة – توفي سنة 1963م، في منفى اختياري في “أكرا”، “غانا” – بدأت حقبة جديدة، حيث كان من المقرر أن يقدم الدكتور “كينج” خطابه بعنوان “لديا حلم”، والذي كان بداية لحقبة جديدة.
وفي مفارقة غريبة؛ لم يتمكن “ديبوا” من حصاد نتاج نشاطه ومساهماته، فقد وافته المنية قبل إقرار “قانون الحقوق المدنية” الصادر في سنة 1964م، وإصدار “قانون حقوق التصويت” لسنة 1965م، وكلاهما غيّر وجه الأمة. فخلال حياته المليئة بالعواصف، كان سعيه متواصلًا بهدف سَنّ قوانين تُعطي للسود مزيدًا من الحرية، التي لم تتحقق حتى وفاته. وفي سبيل ذلك اعتنق أو تغازل مع مجموعة متنوعة من الأيديولوجيات، بما في ذلك التكامل العرقي؛ والقومية السوداء؛ والجامعة الإفريقية، والماركسية، بالاضافة إلى أطروحاته السياسية الصارمة.
وما تزال فلسفة وإسهامات “ديبوا” الفكرية حبيسة كتبه ومؤلفاته، فلم تحظَ بالدراسة والتحليل الكافي والدقيق، وهو ما يدعونا إلى البحث عن روابط فكرية للشخصيات الفلسفية الأفرو-كاريبية والأفرو-أوربية، مدفوعين بالرغبة في ترجمة هذا الفكر. ولإثبات وجود تقليد فكري إفريقي أمريكي معقَّد يستحق البحث والتقدير الأكاديمي. ويعتبر “ديبوا” مناسبًا بشكل مثالي كمفكر محوري في دراسة الفكر السياسي الإفريقي. ولأنه كان مشاركًا مركزيًّا ومعلقًا على النقاشات التي دارت على مدى قرنين تشكل فيهما الفكر السياسي الحديث، فإن تفكيك أُسُس فلسفته قد يساهم بشكل كبير في إعادة البناء النقدي للخطاب المنظم حول طبيعة الأفكار السياسة التي شاركها المثقفون السود خلال حقبة الفصل العنصري. وذلك نتيجة دَمْجه بين الخطاب الأسود والخطاب السياسي الأمريكي الأوسع.
وختامًا:
إن الكفاح الإفريقي من أجل الحرية داخل الولايات المتحدة كان طويلًا وما يزال متواصلًا. فقد لعب الأمريكيون من أصل إفريقي في الولايات المتحدة دورًا مهمًّا للغاية في التاريخ المبكّر لهذه القضية النبيلة. هذه الحرية التي انقدحت شراراتها في العالم الجديد، اشتد أوارها في إفريقيا؛ التي بدورها طالبت بزوال الاستعمار.
وقد كان الدكتور “وليم ديبوا” أحد أهم القادة الأفرو-أمريكيين الذين كانوا في طليعة المشاركين بشكل معقَّد في هذه المشكلة الدولية، وهو أحد أبرز القادة الأمريكيين من أصل إفريقيّ في الولايات المتحدة. ونتيجة لجهوده من أجل الوحدة الإفريقية، والدعوة إلى التوحُّد العرقيّ من أجل النهوض بالأفارقة أينما كانوا، وإذا أمكن، تحرير الوطن وبناء الدول هناك، حصل “ديبوا” على لقب “أبو الوحدة الإفريقية”.
________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
“Reflections of W. E. B. Du Bois on Education as a Force for Racial Progress.” The Journal of Blacks in Higher Education, no. 2, 1993, pp. 4–5
Anderson, Patrick. “Pan-Africanism and Economic Nationalism: W. E. B. Du Bois’s Black Reconstruction and the Failings of the ‘Black Marxism’ Thesis.” Journal of Black Studies, vol. 48, no. 8, 2017, pp. 732–757
Burden-Stelly, Charisse, and Gerald Horne. WEB Du Bois: A Life in American History. ABC-CLIO, 2019.
Du Bois, William Edward Burghardt. Black Folk Then and Now: An Essay in the History and Sociology of the Negro Race: The Oxford WEB Du Bois, Volume 7. Vol. 7. Oxford University Press on Demand, 2007
Du Bois, William Edward Burghardt. The philadelphia negro. Cosimo, Inc., 2007
Du Bois, William Edward Burghardt. The souls of black folk. Yale University Press, 2015
Kilson, Martin. Transformation of the African American Intelligentsia, 1880–2012. Harvard University Press, 2014
M’bayo, Tamba E. “W. E. B. Du Bois, Marcus Garvey, and Pan-Africanism in Liberia, 1919–1924.” The Historian, vol. 66, no. 1, 2004, pp. 19–44
Parfait, Claire. “Rewriting History: The Publication of W. E. B. Du Bois’s ‘Black Reconstruction in America’ (1935).” Book History, vol. 12, 2009, pp. 266–294
Quirin, James. “W.E.B. Du Bois, Ethiopianism and Ethiopia, 1890-1955.” International Journal of Ethiopian Studies, vol. 5, no. 2, 2010, pp. 1–26
Rabaka, Reiland. “W. E. B. Du Bois’s Evolving Africana Philosophy of Education.” Journal of Black Studies, vol. 33, no. 4, 2003, pp. 399–449
Smith, Shawn Michelle. “‘Looking at One’s Self through the Eyes of Others’: W.E.B. Du Bois’s Photographs for the 1900 Paris Exposition.” African American Review, vol. 34, no. 4, 2000, pp. 581–599
Walden, Daniel. “W. E. B. DU BOIS: PIONEER RECONSTRUCTION HISTORIAN.” Negro History Bulletin, vol. 26, no. 5, 1963, pp. 159–164