بقلم الدكتور أمباي بشير لو،
أستاذ بجامعة دوك الأمريكية
يميز المثل الافريقي بين فئتين من العلماء: عالم وعارف. فالأول علمه أحادي مصمم لشيء واحد فقط يعلمه، والثاني ذو أبعاد رامية الآفاق منهمك في رحلة بحثه عن الحقيقة. فعند الولوف مثلا يشار إلى الأول كشخص عنده) خَمْ(، وعن الثاني كشخص من أرباب )خَمْخَمْ(.
فقد غادرنا بروفسور جبريل تمسير نيان صبيحة يوم الاثنين الماضي 8 مارس 2021 وهو يجسد الفئة الثانية من العلماء. فقد كان الرجل عالما، وبين العلماء باحثا عارفا، وبين العارفين ناقدا مبدعا ومنتفضا على مناهج التقليد. فاذا صح قول البعض بأن أنفع العلوم في رحلة الانسان ما ينتقد وينقض بالبينة سالفه، فقد كان بروفسور نيان من جهابذة النقد العلمي البناء.
وُلد الرجل في دولة غينيا كوناكري ودرس في السنغال قبل أن يحصل على دكتوراه الدولة في التاريخ من جامعة بوردو الفرنسية. اتخذ السنغال بلدا له حيث أشرف على تخريج أجيال من المؤرخين في جامعة شيخ أنتا جوب بدكار. وبين البحث والتدريس في السنغال عين أستاذا زائرا وفخريا في جامعة يابان وجامعة هوارد الأمريكية.
فاذا كانت جودة الانتاج الأكاديمي لا تقاس بتعداد الكتب، بل بتبعات هذه الكتب وتأثيرها على ركب المعرفة الإنسانية، فبروفسور نيان كان مضرب الأمثال في التألق الأكاديمي. فلكتبه هيبة سحرية تستولي على فكر القارئ إبان رحلته في غياهب التاريخ الأفريقي. مع تمكنه في فنون الأدب والمسرح، لم يكن أسلوبه السلس متشببا بالعاطفة، بل بالفكرة، ولا متصيدا للكلمات الرنانة، بل العقل التحليلي. فمن كتبه الصادمة مثلا Sundiata ou l’epopee mandingue )سونجاتا أو الملحمة الماندينغية(، وكتاب اليونسكو العالمي عن تاريخ أفريقيا من القرن الثاني عشر الى القرن السادس عشر، وكتاب Histoire des mandingues de l’ouest )تاريخ المانديغو في الغرب( و كتاب Contes d’hier et d’aujord’hui )حكايات الأمس واليوم( و كتاب Le Sudan Occidental au temps des grands empires )السودان الغربي في عهد الامبراطوريات العظمى (، هذا بالإضافة الى كتب أخرى و دراسات علمية ومسرحية متعددة.
انزعج الرجل صغيرا بفهم المؤرخين المحدود لتاريخ أفريقيا الغربية من حيث التسلسل التاريخي للإمبراطوريات الكبرى بدءا من امبراطورية غانا القديمة من القرن الثالث الميلادي الى القرن الحادي عشر، وامبراطورية مالي الممتدة من القرن الثالث عشر الى القرن السادس عشرالميلاديين وما شاب الأخيرة من غزو الطوارق ثم قيام دولة صونغاي التي غزتها المغرب وشتتها عام .1591 لذلك سخرالرجل تعليمه المبكر في السنغال وفرنسا لأجل فهم التراث الشفاهي الماندينغي، سدنة الإمبراطورية المالية وروادها الأوائل. فدرس عن كثب كتابات الرحالة الغربيين الذين عايشوا بعض هذه الوقائع. وبين المجالين حلل التراث العربي الإسلامي الذي دون حول أحداث الزمان والمكان في منطقة الغرب الأفريقي. فكان نتاج عمله ثوريا في مستخلصاته، قشيبا في معطياته.
فمثلا، كان فهم المؤرخين السائد لأسد السلاطين سونجاتا كيتا، مؤسس امبراطورية مالي، محدودا ومشوبا بالموروثات الهائمة في التقديس والبديعيات التي يخدشها عدم التأصيل. فجاء البروفسور بالحل العلمي المقنع مزاوجا بين المنهجين. فكتابه المشهور “بملحمة سونجاتا” مثَّـل المزاوجة بين العقدتين، وقد تمت ترجمته إلى عدد كبير من لغات العالم بما فيه عمل الأستاذة المصرية توحيدة علي توفيق، وبموجب هذا العمل تم تبني الكتاب في مناهج معظم المدارس في منطقة الغرب الأفريقي، كما أصبح الكتاب أولى ملحمة أفريقية تجد سبيلها في المؤسسات الأكاديمية الأمريكية، وكذلك وجد الكتاب قبولا عارما بين الأفارقة الأمريكيين. تتناول الملحمة حياة السلطان الأسد سونجاتا كيتا (1217-1255) مخرق العادات والتقاليد، مسترسلا في قصص حياته ووصوله الى زمام السلطة بين قومه المقاتلين الماندينغو. والقصة من مرويات أرباب الكلمة المؤرخين برواية ديجيلي مامادو كوياتي، عميد التاريخ الشفاهي في عصره. و في ظل التناقضات الروائية حول مآل امبراطورية مالى ومؤسسيها الأوائل تحت وطأة دولة الطوارق الجهاديين من الصحراء، يجيد بروفسور نيان بروعة التحليل في الإجابة عن هذا السؤال. فكتابه تاريخ المانديغو في الغرب يحكي بلغة أكاديمية مثقلة بالتوثيق والاقتباس كيف انسحبت جماعات المانديغو الغفيرة من شمال مالي ومراكز الحضر حول نهر النيجر في القرن السادس عشر ليلجئوا إلى مناطق نهر السنغامبيا وأن هذا هو سبب كون غالبية قاطني السنغال السفلى وغامبيا اليوم من أصول المانديغو أو ممن يسميهم الآخرون بجماعات سوس وسراخوليه. ومن هذه المنطقة شيدوا مملكة جديدة عرفت بمملكة كابو (Gabou)التي قامت لعدة قرون حول نهر السنغامبيا.
و في ثنايا هذا التحليل يبين لنا البروفسور جبريل جذور وأسباب التداخل العرقي في المنطقة هذه، وأن وجود جماعات المانديغو المهاجرة أو الغازية في مناطق يقطنها مجموعات أخري ساعد في التلاقح بين المجموعات العرقية الأخرى. فمثلا، ألقاب الأسر التي ميزت بين قبائل المنطقة قديما لم تبق لها هذه الميزة في منطقة السنغامبيا. فتجد ألقاب سيلا، تراوري، توري، كمارا وغيرها من ألقاب مؤسسي امبراطورية مالي من المانديغو القدامى سائدة ومطردة بين مجموعات ولوف والفولانيين القريبين من نهرالسنغال.
تجدر الإشارة إلى أن البروفسور جبريل رغم كونه مسلما تراثا وعقيدة، لم يتردد من نقد الممارسات الخاطئة للمسلمين في المجال السياسي خاصة أصحاب النزعة العسكرية في المنطقة. فقد اعتبره عامل هدم لا بناء. فمن دولة المرابطين، إلى دولة الطوارق الصنهاجيين ووصولا إلى الإمامات التي قامت في مناطق فوت جالون في غينيا وفوت تورو على نهر السنغال كان اعلان “الجهاد” موردا اقتصاديا في تسيير الدولة ونهجا عمليا لاثراء السلاطين، وهذا ما هيكل لعدم نمو القرى وانعدام العمران الذي تميزت به معظم مناطق السودان الغربي منذ سقوط امبراطورية مالي. يذهب البروفسور جبريل إلى أن الغزوات التي طالت القرى المتاخمة أجبرت القبائل الساكنة حول نهر النيجر ونهر السنغال وجبال فوت جالون والسكان الأصليين حول نهر غامبيا على الترحال الدائم، ومع وصول الأوروبيين لشواطئ السنغامبيا ظهرت معادلة سياسية جديدة في المناطق الساحلية هذه. وهي أن هذه القبائل بدأت تتقايض مع الأوروبيين، مستوردين منهم السلاح الآلي الذي من فضله انتقلوا من موقف الضعف إلى مواقف الهجوم والغزو الانتقامية. ففي قراءة البروفسور لأغاني قبائل البساري، وبيديك وتيندا والجولا مقارنة بمدونات البرتغاليين الأوائل في المنطقة، يبين كيف تحول الأوروبيون من مقايضة السلاح بالموارد الأولية الى مقايضته بالأرقاء، لأنهم انتبهوا الى أن تسخير الأيدي الافريقية المسترقة لتعمير أراضي العالم الجديد الأمريكية كان أربح لهم من التعامل في البضائع الأخرى. وبهذا التحليل المبدع بالتوثيق يرشدنا البروفسور الى أن أسباب تزايد أعداد المسلمين المسترقين في العالم الجديد مع بداية القرن الثامن عشر يرجع الى هذا التغيير الجوهري في معيار القوى المحلية.
استفادت مدرسة بلاك أتلانتك Black Atlantic التي تدعو إلى دراسة تجربة السود في أوروبا وأمريكا من خلال خلفياتهم المشتركة في تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي من دراسات البروفسور نيان. فتراثه البحثي فتح أفقا جديدة للاستكشاف لم تكن ميسرة من قبل. وليس بغريب أن كتاب الغياني البروفسور وولتر رودني المشهور ب How Europe Underdeveloped Africa )دور أوروبا في تخلف أفريقيا( والذي يبين ببراهين يصعب تفنيدها أن تتطور أوربا الحالية تم بمقدار إفقارها لأفريقيا، يشابه منهج بروفسور نيان في المبنى.
رحم الله البروفسور جبريل تمسير نيان. فقد أبدع في عطائه العلمي، وأجاد في استكشاف مناهج بحث جديدة لم تكن معتادة قبله، وفي حياته الشخصية أحسن إلى زملاء مهنته الأكاديميين وطلابه الباحثين، فمرحبا به بين العارفين المقلدين.