كان “هنري ماكنيل تورنر” (1834-1915م) Henry McNeal Turner، قسيسًا أسودَ، وراعيًا أسقفيًّا ميثوديًا بالكنيسة الإفريقية، وسياسيًّا جمهوريًّا من حينٍ لآخر. كان منارة الأمل لآلاف من المحرَّرين في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية.
لم يكن مثل أيّ قائد آخر في عصره؛ فقد كانت قُدُراته الخطابية وأسلوبه البسيط وأدبياته المميزة عرضًا رائعًا لقوة الفكر الذي أكسبه احترام أصدقائه ومعجبيه وأعدائه على حدٍّ سواء.
علاوةً على ذلك؛ فقد شكَّلت رغبة “تورنر” في الارتقاء بالمجتمع الأسود من خلال المسيحية والتمكين التعليمي جوهر رسائله.
ويعتبر الأسقف “هنري ماكنيل تورنر” شخصية محورية في التاريخ الأمريكي، وليس فقط في التاريخ الأمريكي الإفريقي، ففي كتابه “الأسقف هنري ماكنيل تورنر والدين الأمريكي الإفريقي في الجنوب” Bishop Henry McNeal Turner and African American Religion in the South، كشف “ستيفن أنجيل” أن “[تورنر] أعرب في وقت مبكر عن نواياه بأن يكون زعيمًا لشعبه؛ مبرِّرًا ذلك بأن الله قد رسمه لشيءٍ عظيمٍ”.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:
وُلِدَ “هنري” Henry، وهو ابن لأبوين كانا من الأحرار؛ والده “هاردي” Hardy ووالدته “سارة جرير تورنر” Sarah Greer Turner، بالقرب من “نيوبيري” Newberry بولاية “ساوث كارولينا” South Carolina في الأول من فبراير عام 1834م. كان جدّه لأمه ابنًا لأميرٍ إفريقيّ تم أَسْره عندما كان صبيًّا وبيعه للعبودية الأمريكية. أرجع كاتب سيرته “ستيفن أنجيل” Stephen Ward Angell، اهتمام “تورنر” بإفريقيا إلى تلك القصة. وبسبب القانون الإنجليزي الذي كان يحظر استعباد الدم الملكي، تم إطلاق سراح الجد وذريته.
كانت حياة الشاب الحر “تورنر” إلى حد ما لا تختلف عن حياة العبيد؛ حيث أُجْبِرَ على العمل في الميدان جنبًا إلى جنب مع العبيد في ظروف من القسوة لا تُفَرِّق بين حرٍّ أو عبدٍ، وعانَى مما عانى منه بنو عِرْقه بسبب لونه الأسود. وقدَّمت تجربة العمل الميداني لـ”تورنر” انطباعًا لا يُمْحَى عن قسوة ووحشية العبودية.
وبسبب مؤامرة “دنمارك فيسي” (1767-1822م) Denmark Vesey في عام 1822م، حظرت ولاية “ساوث كارولينا” تعليم الأمريكيين من أصول إفريقية. وعلى الرغم من سريان الحظر؛ استطاع “تورنر” تعلُم القراءة والكتابة سرًّا لدى سيدة بيضاء. وفيما بعد قامت السلطات بإيقاف السيدة البيضاء. وكتب “ريتشارد رايت” Richard R. Wright: “إن خيبة الأمل هذه أثارت شعور [تورنر] بالمرارة تجاه كارهي عِرْقه”.
حصل “تورنر” على وظيفة حارس بمكتب محاماة لمجموعة من البيض بـمحكمة “أبفيل” Abbeville. وأُعجب المحامون بعقلية “تورنر” المميزة، وتطلُّعه للتعلم؛ لذا قاموا بمعاونته لتلقّي دروس سرية في الحساب، والجغرافيا، والتاريخ، وتعاليم الكتاب المقدس. بالإضافة إلى ذلك، فقد أتاح له عمله في قاعة المحكمة الفرصة لسماع الحجج الشفوية والخطب المدنية الأخرى التي عزَّزت من مهاراته الخطابية المستقبلية.
تم قبول “تورنر” في “الكنيسة الميثودية” Methodist Church في “أبفيل” على أساس الاختبار في عام 1848م. ليقوم “تورنر” –فيما بعد- بالتواصل مع “الكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية” African Methodist Episcopal Church أثناء زيارته لـ”نيو أورلينز” New Orleans في عام 1857م. ليستبدل “تورنر” كنيسته بالكنيسة التي يغلب عليها الأمريكيون من أصول إفريقية، ويقوم بالانضمام فعليًّا إلى الكنيسة الإفريقية في عام 1858م.
حظي “تورنر” برعاية كنيسة “ووترز تشابل” Waters Chapel في “بالتيمور” Baltimore بولاية “ماريلاند” Maryland بين عامي 1858م و1862م. كانت مَهَمته التالية هي “كنيسة إسرائيل” Israel Church في “واشنطن” العاصمة؛ حيث ساعد في تجنيد الأمريكيين من أصول إفريقية للعمل برفقة جيش الاتحاد خلال الحرب الأهلية الأمريكية. وبسبب شهرته وتأثيره؛ كلَّفه الرئيس “لينكولن” Abraham Lincoln للعمل كقسّ مرافق للقوات الأمريكية الإفريقية. وبعد تكليفه بمَهمَّة خاصة للعمل بمكتب “الأشخاص المحررين” Freedperson’s Bureau بعد الحرب، ترك “تورنر” الجيش واستقال من منصبه بالمكتب في عام 1866م. وادَّعى أن قراره كان بسبب تعرُّضه للتمييز العنصري، ورغبته في تكريس نفسه لدعم الكنيسة الإفريقية بولاية “جورجيا”.
بالإضافة إلى عمل “تورنر” الديني، كان منخرطًا في العمل السياسي بولاية “جورجيا”؛ حيث قام بالانضمام إلى الحزب الجمهوريّ، ومَثّل الحزب بوصفه مندوبًا بمجلس النواب عن الولاية في الفترة بين عامي 1868م و1870م. ولم يكن هو وغيره من المنتخبين الأمريكيين من أصول إفريقية قادرين على شَغْل مقاعدهم بسبب عنصرية الهيئة التشريعية التي يغلب عليها البيض. كانت هذه التجارب العنصرية من العوامل التي دفعت “تورنر” للدفاع عن القومية السوداء.
وفي غضون ست سنوات، ترقى “تورنر” في عمله داخل الكنيسة حتى شغل منصب مدير الأعمال بقسم شؤون الكتب بين عامي 1876 و1880م، واستطاع استعادة المؤسسة من الإفلاس. وأتاح له موقعه الجديد الفرصة لنشر العديد من الأعمال الأدبية والمتميزة للكنيسة الإفريقية، والتي تضمنت الطبعة الموسيقية الأولى من “التراتيل” AME Hymnal و”القداس” Turner Catechism، والتي لا تزال قيد الاستخدام حتى اليوم.
إنجازات “تورنر” الأدبية والسياسية وقيادته الدينية دفعته إلى الساحة الوطنية. واعترافًا بإنجازاته؛ منحته “جامعة بنسلفانيا” University of Pennsylvania و”جامعة ويلبرفورس” Wilberforce University درجات فخرية في عامي 1872 و1873م على التوالي.
وأصبح “تورنر” أحد أعضاء “رئاسة مجلس التبشير” Presidency of the Missionary Board بين عامي 1896م و 1900م. وبهذه الصفة قام بتوسيع نشاط الكنيسة إلى “سيراليون” و”ليبيريا” و”جنوب إفريقيا”. وخدم كذلك في رئاسة “اتحاد مدارس الأحد” Presidency of Sunday School Union بين عامي 1900م و1908م. وعمل مؤرخًا بين عامي 1908 و1912م. وقام بإصدار ثلاث دوريات: “المُسجل المسيحي الجنوبي” The Southern Christian Recorder في عام 1886م؛ و”صوت البعثات” Voice of Missions في عام 1893م؛ و”صوت الشعب” Voice of the People عام 1901م.
وتزوج “تورنر” أربع مرات: أولًا من “إليزا بريشر” Eliza Preacher عام 1856م؛ والثانية من “مارثا ديويت” Martha Dewitt عام 1893م؛ والثالثة من “هارييت وايمان” Harriet Wayman في عام 1900م؛ وأخيرًا من “لورا بيرال” Laura Perale في عام 1907م. وكان له أربعة أطفال من زوجته الأولى. وتوفي في “وندسور” Windsor بكندا عام 1915م.
ثانيًا: السياق الفكري والسياسي والتاريخي المعاصر لـ”تورنر”
يجب أن يُنظَر إلى أفكار “تورنر” من داخل السياق التاريخي لعصر ما قبل الحرب، والحرب الأهلية، وإعادة الإعمار، وفترات ما بعد الحرب في القرن التاسع عشر. فعندما كان عضوًا بالطبقة الحرة كان لا يزال يُنظر إليه على أنه تابع للبيض، وبالتالي غير قادر على إبراز إمكاناته.
كان “تورنر شاهدًا على مرحلة فاصلة في مجال الحقوق المدنية داخل الولايات المتحدة؛ حيث أدَّت الحرب الأهلية (1861-1865م) إلى تحرير العبيد السود، بينما قدّمت إعادة الإعمار (1865-1877م) فرصًا هائلة للمحرَّرين، بما في ذلك حقّ الاقتراع للذكور السود، والحماية المتساوية بموجب القانون، والانتخاب للمناصب العامَّة.
وبالطبع واجه الأمريكيون الأفارقة تحديات خطيرة كذلك؛ حيث قاوم العديد من الجنوبيين البيض إعادة الإعمار، وسرعان ما ظهرت جماعة “كو كلوكس كلان” Ku Klux Klan ومجموعات الكراهية الأخرى، وتحدت -من خلال الترهيب والعنف والخوف- السلطة الفيدرالية في الجنوب.
وبحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر، تم “استرداد” معظم الولايات الجنوبية مِن قِبَل البيض والديمقراطيين الجنوبيين والكونفدراليين السابقين الذين فرضوا تجميدًا على حقّ الاقتراع، واختبارات محو الأمية، وآليات أخرى تهدف إلى منع السود من التصويت. وفي غضون ذلك، ظهر نظام فصل قاسٍ، تسبَّب في مزيد من الأحباط لدى السود.
وبوصفه رجل دين وسياسي في الوقت نفسه، مَثّلَ “تورنر” هؤلاء السود الجنوبيين المحبطين والمضطهدين والريفيين إلى حدّ كبيرٍ، فكان على رأس الذين كافحوا لأخذ مكانهم داخل المجتمع الأمريكي من أجل التصدّي لقسوة وإهانة قوانين “جيم كرو” Jim Crow Laws.
ثالثًا: إسهامات “هنري تورنر” الفكرية
أقام “تورنر” علاقة وثيقة بين أفكاره عن القومية السوداء، واللاهوت الأسود، والقضايا الاجتماعية. كانت هناك ثلاثة مصادر أساسية لآرائه: تفسيره لرسالة الكتاب المقدس؛ وولائه لعقيدته التاريخية؛ وتجربته الإفريقية الأمريكية.
ومثلت جهوده العامة محاولة لسد الفجوة بين معتقداته الدينية واهتماماته الاجتماعية؛ حيث كان “تورنر” الميثودي وريثًا لتقليد “ويسليان” الذي أكَّد على عقيدة الحب والفداء.
ويمكن الكشف عن أفكار “تورنر” عن “القومية السوداء”، و”اللاهوت الأسود”، و”ثيوديسيا العبودية” Theodicy (نظرية العدالة الإلهية)، ودعوته للهجرة من خلال خُطَبه وكتاباته.
ويمكن تحليل توجهات “هنري تورنر” الفكرية من خلال النقاط التالية:
1- القومية السوداء
كانت “القومية السوداء” عند “تورنر” بالأساس رد فعل في مواجهة عدم الاحترام الذي تعرَّض له الرجال والنساء الأمريكيون من أصول إفريقية. وهو ما أثار باستمرار الأيديولوجيات الداعية للقومية السوداء من أجل الحقوق “الشخصية للأمريكيين السود”. ومن خلال الحقوق الشخصية أوضح “جوزيفوس كوان” Josephus Coan أن “تورنر” قصد “منح السود حقوقهم -غير القابلة للتصرف- في الحياة والحرية والسعي وراء السعادة مثل أيّ أمريكي آخر. ودعا إلى القضاء على الظلم والقمع والحرمان من الحقوق، وأشكال أخرى من المعاملة اللاإنسانية”.
وفي وقت مبكر من طفولته في “ساوث كارولينا”، دافع “تورنر” عن حقوقه الشخصية. مع العلم أنه كان حرًّا؛ لكنَّه رفض جَلد العبيد. وفهمًا لقيمة التعليم؛ رفض السماح لنظام القمع الأبيض بحرمانه من فرصة تغذية عقله وتطوير إمكاناته؛ حيث تلقَّى دروسًا سريَّة منتهكًا لقانون الولاية.
وبعد أن حصل على ترخيص من الكنيسة الميثودية البيضاء، أصبح “تورنر” مبشِّرًا متجولًا، يقوم بالوعظ لكل من الأفارقة الأمريكيين والبيض في جميع أنحاء الجنوب. وبصفته أمريكيًّا من أصل إفريقي حرّ، فقد استاء من القيود المفروضة على رحلاته، والعقبات التي حالت بينه وبين القيام بعمله، وأداء المهام الموكله إليه.
ونتيجة لاتصاله بالكنيسة “الأسقفية الميثودية الإفريقية” لأول مرة في عام 1858م، تأثر “تورنر” تمامًا برسالتها عن التحرُّر والتكامل البشريّ. وقرَّر على الفور الانضمام إليها. وقدمت الكنيسة الإفريقية الفرصة الأولى لـ”تورنر” للتعبير عن فلسفته الخاصة حول القومية السوداء. وحول نقطة التحول الكبيرة هذه في حياة “تورنر” كتب “ريدكي” Edwin S. Redkey: “وَجَدتْ قوميته الوليدة منفذها الأول في [نيو أورلينز]؛ حيث اكتشف في عام 1858م شيئًا جديدًا خلال تجربته؛ وجد كنيسة يقوم عليها السود فقط، وهي الكنيسة [الأسقفية الميثودية الإفريقية]، فقام بالانضمام إليها دون تردد؛ بهدف تحدّي البيض، ومن ناحية أخرى نتيجة انجذابه إلى منظمة سوداء مستقلة؛ حيث إدراك طموحه بالحصول على المكانة والسلطة”.
وبعد تولّيه المهمة للعمل في مكتب “الأشخاص المحررين” بعد الحرب الأهلية، استقال “تورنر” من المنصب المُربح بسبب ما وجده من عنصرية تجاه لونه. وعاد إلى الكنيسة “الأسقفية الميثودية الإفريقية”؛ حيث المؤسسة الوحيدة التي شعر أنها ستسمح له “بحرية القيادة وتوجيه الجماهير”. ومع ذلك قدم الحزب الجمهوري في “جورجيا” لـه فرصة إضافية لتطوير قيادته والارتقاء بشعبه من خلال السياسة الاختيارية. لكنه بسبب المعاملة غير العادلة للأمريكيين من أصول إفريقية مِن قِبَل الحزب الجمهوري ومسؤولي “جورجيا” البيضاء، تراجع “تورنر” عن الحياة السياسة لشعوره بالمرارة وخيبة الأمل.
ويصف “ريدكي” حالة “تورنر” الذهنية واستراتيجيته الجديدة للوضع الإفريقي الأمريكي: “مع دخوله في ريعان الحياة؛ “كان [تورنر] رجلًا يشعر دومًا بالمرارة وخيبة الأمل. لقد نال الأشياء التي كان يريدها أكثر من أيّ شيء في الحياة -السلطة السياسية والمكانة- إلا أنه سرعان ما هرب منها بعيدًا؛ بسبب تحامُل أمريكا البيضاء علي السود”.
كان رد فعل معظم السود على فقدان حقوقهم وامتيازاتهم؛ إما من خلال الاحتجاج والانضمام إلى الحزب الجمهوري أو من خلال الرضوخ للأمر الواقع، ومحاولة التوافق مع أقل قدر من الإثارة. ومع ذلك كان “تورنر” نشيطًا وطموحًا للغاية، واختار متابعة الطريق الأقل مقاومة، لقد وجد نفسه قوميًّا أسود لديه رغبة شديدة في رؤية شعبه يعمل بشكل جيد. قال “تورنر”: إنه “إذا لم يسمح الأمريكيون البيض للسود بأداء دورهم وأخذ مكانتهم والتعبير عن قدراتهم داخل الولايات المتحدة؛ فعلى السود أن يؤسّسوا دولتهم”. لذا واصل “تورنر” مسيرته القومية بالعمل داخل كنيسته الإفريقية، وغير استراتيجيته بمطالبة شعبه بضرورة الهجرة.
دعا “تورنر” إلى الهجرة صوب إفريقيا بوصفها “مكانًا يمكن للأمريكيين الأفارقة أن يحكموا فيه أنفسهم، ويظهروا إمكاناتهم، ويستعيدوا كرامتهم، فإنهم بذلك يحققون الخطة الإلهية لإضفاء الطابع المسيحي على القارة الإفريقية”، وذلك حسب تعبيره. وحسبما ذكر “ريدكي”؛ فإن “حياة تورنر الداعية للقومية السوداء تأسست على إحباطات الطاقة العظيمة والموهبة من خلال تحيُّز أمريكا البيضاء”.
هذا ولم يكن “تورنر” قوميًّا متشددًا قبل انضمامه للكنيسة “الأسقفية الميثودية الإفريقية”؛ ففي ذكرى التحرير أظهر “تورنر” إيمانًا كبيرًا بأمريكا البيضاء. في خطابه عام 1866م “في ذكرى التحرُّر”، أعرب عن أمله في أن “يصبح الأمريكيون البيض والعبيد السابقون إخوة وأخوات”، وطالب بالمصالحة “على أمل أن يغفر المفرجون Freedpersons عن أصحابهم السابقين خلال محنة العبودية”. وكتب “تورنر”: “دعونا نحب البيض ونعطي عهودًا، ونترك ما عفا عليه الزمن، فلا نسخر منهم ولا نُهينهم بسبب مظالمهم الماضية. احترموهم واعملوا من أجلهم، هذه دعوة لنا جميعًا رجالًا ونساءً”. واختتم “تورنر” الخطاب بتوجيه تحذير للمحررين الذين امتعضوا من إيمانه بأمريكا البيضاء: “دعونا نُظهر لهم –أي البيض- أن بإمكاننا أن نكون شعبًا محترمًا وفاضلًا وصادقًا ومجتهدًا، وسرعان ما يتلاشى تحيزهم، فنحظى جميعًا بأن نكون عائلة واحدة لله”.
وتكشف خطبٌ أخرى من خطابات “تورنر” المبكرة عن إيمانه بقدرة السياسة على المقاومة وتغيير الواقع. واستمرارًا لموضوعه المتمثل في المصالحة والتحرير، تصور “تورنر” أنه يمكن تحقيق المساواة التدريجية بين الأمريكيين من أصول إفريقية والاستيعاب داخل المجتمع الأمريكي السائد. ومن خلال مشاركته السياسية العميقة خلال السنوات الأولى من إعادة الإعمار؛ شعر “تورنر” بأنه مضطر للدفاع عن ضرورة المشاركة الأمريكية الإفريقية. وكتب في عام 1866م: “إن بقاء الزنوج خارج السياسة يعني موازنة أنفسهم بحصان أو بقرة.. فإذا كان الزنوج يريدون أن يكونوا رجالًا ونساءً يتمتعون بالمواطنة الكاملة، فيجب عليهم المشاركة في كل ما يحقّق لهم الشخصية”.
ورأى “تورنر” أن “على الحكومة الوطنية واجب حماية حقوق مواطنيها”. فقد كان يعتقد أن إعلان التحرّر المتمثل في التعديل الثالث والرابع والخامس عشر لدستور الولايات المتحدة؛ دليلًا قويًّا على أن الحكومة ستقوم بواجبها وتتَّخذ خطوات عملية حيال هذه التعديلات. وعلى الرغم من أن إعلان التحرُّر كان بمثابة بداية لعصر جديد من المساواة الأمريكية. لكن تلا ذلك تعاقُب سريع من الانتكاسات الأمريكية الإفريقية التي كانت غير متوافقة مع أفكار “تورنر”. فبعد أن أدَّت تسوية عام 1877م إلى انسحاب القوات الفيدرالية من الجنوب، عزَّز الديمقراطيون سيطرتهم على المجالس التشريعية داخل الولايات الجنوبية، مما يشير فعليًّا إلى نهاية إعادة الإعمار. وأعلنت المحكمة العليا أن قانون الحقوق المدنية لعام 1875م غير دستوري، وقامت المحكمة العليا بالإقرار التاريخي الصادر في عام 1896م “بليسي ضد فيرجسون” Plessy verguson؛ والذي يُعطي الحق للولايات إصدار قوانين من شأنها الفصل بين الأعراق؛ حيث تمت الإشارة إلى فقرة تنص على “منفصلة ولكن متساوية”. بالإضافة إلى ذلك ازدادت حالات الإعدام خارج نطاق القانون، وجرائم القتل، وترهيب الناخبين، والتميز العنصري للزبائن. من هذه الخلفية من خيبة الأمل، نشأت القومية السوداء عند “تورنر”.
وفي إطار جهودهم لإعاقة المشاركة السياسية للأمريكيين من أصل إفريقي؛ رفضت الجمعية العامة لإعادة إعمار “جورجيا” ذات الأغلبية البيضاء السماح بمقاعد الممثلين السود. وأدلى “تورنر” بخطاب حماسي أمام المجلس التشريعي قدم من خلاله احتجاجًا على ما سماه الظلم الذي يتعرَّض له السود. في خطابه “حول أهلية الأعضاء الملونين لمقاعد الهيئة التشريعية لولاية “جورجيا” عام 1868م، قال “تورنر”: “أتمنى أن أكون عضوًا في هذه الهيئة.. لن أتظاهر ولا أتذمر أمام أيّ طرف، ولن أجثو على رُكْبَتيّ لأتوسل إليهم من أجل حقوقي. فقد انتهز بعض زملائي الملونين الأعضاء في سياق ملاحظاتهم الفرصة لمناشدة تعاطف الأعضاء على الجانب الآخر. لكنني هنا للمطالبة بحقوقي ولإلقاء الصواعق على الرجال والنساء الذين يجرؤون على تجاوز عتبة شخصيتي. فهناك قول مأثور قديم يقول: “حاربوا الشيطان بالنار”، وحينما ألتزِمُ بهذه القاعدة، فسوف أقاتلهم بسلاحهم الخاص”.
ونتيجة للوضع المتدهور للسود خلال الثمانينيات داخل الولايات المتحدة، ترك “تورنر” السياسة بعد أن رفض مجلس “جورجيا” تعيينه في عام 1868م، كما كان غير مُبَالٍ بشأن الانتخابات الرئاسية لعام 1880م. وكتب في صحيفته “المُسجل المسيحية” في 25 مارس 1980م، حول السياسة ومشاعره تجاه الولايات المتحدة: “كنت أعتقد أنه من الحكمة الابتعاد عن التحريض الرئاسي؛ لكوني محبطًا من الأمة كلها. فأنا رافضٌ لهذه الحكومة مثل أيّ زنجي في هذه البلاد. لقد تم معاملة عِرْقِيّ بالكثير من الخيانة والازدراء والخسة الشيطانية، ولم يكن لديّ سوى القليل في هذا البلد على أيّ حال، لقد مرضت ألف مرة، وتمنيت لو لم أكن قد وُلِدْتُ؛ حتى لا أكون شاهدًا على ما يسمَّى بالدولة المتحضرة التي فعلت بشعبي ما لم يفعله الشيطان نفسه”.
وبحلول عام 1884م، استحوذ “جروفر كليفلاند” (1837-1908م) Grover Cleveland الديمقراطي على البيت الأبيض. فكان هناك خوفٌ كبيرٌ بين الأمريكيين السود من أن الديمقراطيين قد يعيدونهم إلى العبودية. في خطابه “النصر الديمقراطي” عام 1884م، وجه “تورنر” انتقادات للأمريكيين السود الذين تحدثوا ضد اللون وحقوقهم الشخصية. قال “تورنر” ناقدًا بسخرية: “الأبيض هو الله في هذا البلد، والأسود هو الشيطان. والأبيض هو الكمال والعظمة والحكمة والصناعة، وكل ما هو سامٍ ومقدس. والأسود هو الجهل، والانحطاط، والتراخي، وكل ما هو وضيع وحقير، وثلاثة أرباع الملونين في الأرض لا يفعلون شيئًا ليل نهار سوى البكاء والصراخ: المجد، والشرف، والسيادة، والعظمة للأبيض. فالعديد من رجالنا المزعومين، والنساء كذلك مصابون بهذا المرض اللعين، أو الحماقة التي أعيت الجماهير الطائشة؛ وطالما سادت هذه المشاعر العرق الملون، فإن قوى السماء لا تستطيع أن ترفعهم. فلا يمكن لأيّ عرق أن ينهض ويصنع ظروفًا أفضل، بينما يكرهون أنفسهم ويتجاهلون إمكاناتهم. لذا يجب أن يعتقد الشخص أنه شخص مهم قبل الاعتراف بأنه شخص ما”.
كان “تورنر” ينتقد بشدة السود الذين يخجلون من سوادهم. لقد استنتج أن الأسود كان جيدًا مثل الأبيض، وأكد على أن الأمريكيين السود يجب عليهم احترام لونهم.
وعبر “تورنر” عن معضلة الهجرة والاستيعاب بقوله: “إذا كان الزنوج لا يعتزمون الهجرة إلى إفريقيا وبناء أمة وأخذ مكانتهم الحقيقية بين العالم، فيتوجب عليهم الاتصال الاجتماعي مع البيض إذا اضطروا إلى البقاء هنا. قل لهم: إن المساواة الاجتماعية ضرورية لوجودنا في هذه الأرض، إذا كنا نتوقع البقاء، وكلما بدأنا العمل مبكرًا، كان ذلك أفضل لأطفالنا”.
وبدراسة خطب وكتابات “تورنر” خلال ربع قرن بعد التحرُّر يتم الكشف عن العديد من الآثار المهمة حول تفكير “تورنر” التحريري؛ حيث كان لديه إيمان مبكِّر بضرورة التزام أمريكا البيضاء بالمساواة بين الأمريكيين الأفارقة. هذا الالتزام الذي أفسح الطريق أمام نفاق البيض ونكسات الأمريكيين السود. وهكذا كانت القومية السوداء عند “تورنر” هي ردة فعل على إحباطات التحيّز الأبيض ضد العرق الأمريكي الإفريقي. ليصبح “تورنر” أحد أبرز دعاة القومية السوداء خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
2- الهجرة عند “تورنر”
نظرًا لخيبة أمله من الوضع المتدهور للأمريكيين الأفارقة، طوَّر “تورنر” قومية سوداء بعيدة المدى أعفت الأمريكيين الأفارقة من الولاء للولايات المتحدة، وطالبت بالهجرة إلى إفريقيا. كان هناك ثلاثة عوامل أساسية تُفسر دعوة “تورنر” للهجرة الإفريقية: تدهور وضع الأمريكيين من أصل إفريقي خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ ونظريته حول التصميم الإلهي Providential Design؛ والتقسيم الأوروبي لإفريقيا.
في البداية يجب أن يكون واضحًا أن “تورنر” لم يعتبر نفسه مستعمرًا أبدًا، بل كان يَعتبر نفسه مُهاجرًا. ويمكن تمييز فكرة “الهجرة” Emigration عن فكرة “الاستعمار” Colonization بأن “الهجرة” كانت رد فعل القومي الأسود على الاضطهاد الأبيض، بينما كان “الاستعمار” هو الخطة البيضاء لإزالة الأمريكيين السود من داخل الولايات المتحدة.
وقبل فترة ما بعد إعادة الإعمار، كان لدى “تورنر” علاقة عابرة مع “جمعية الاستعمار الأمريكية” (ACS)، وكان داعمًا للهجرة بشكل متقطع. ودفع الوضع المتدهور للأمريكيين السود خلال فترة ما بعد إعادة الإعمار “تورنر” إلى إعادة تقييم موقفه من الهجرة. لقد أوصلته أفكاره الناضجة إلى استنتاج لا مفرّ منه وهو -حسب قوله-: “ليس لديَّ شك أنه يتعين علينا في النهاية العودة إلى إفريقيا، وهو يقين يكاد يصل إلى يقيني بوجود إله؛ وكلما أسرعنا في إدراك هذه الحقيقة والاستعداد لها؛ كان ذلك أفضل لنا كشعب. فلدينا دولة لا مثيل لها من حيث الموارد الإنتاجية والمعدنية، ولدينا حوالي مائتي مليون من عشيرتنا هناك ينعمون بالفطرة الأخلاقية والروحية. ولدينا أربعة ملايين في هذا البلد يتلقون تعليمًا جيدًا. لذا يجب علينا أن نتسلح بالمسيحية وعناصر الحكومة المدنية. وبمجرد أن نتلقى التعليم الكافي، نكون جاهزين لتعليم إخواننا في إفريقيا والسيطرة عليهم، وسنستمع إلى صوت العناية الإلهية يقول: [ارجع إلى أرض أسلافك]”.
هذا وقد أشعلت آراء وتوجهات “تورنر” الجدل لفترة طويلة بينه وبين معاصريه داخل “الكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية”. كما أن “فريدريك دوجلاس” (1818-1895م) Frederick Douglass، و”هنري تانر” Henry Tanner، والقس “أوفلي” H.G. Offley من أبرز المعارضين المعاصرين لـ”تورنر”. وادعى “تورنر”: “أنهم كانوا من النخبة، وبأنهم في حالة انفصال تامّ عن الجماهير السوداء الفقيرة”، في حين أن رسالة “تورنر” عن الهجرة كان لها أثر كبير على حياة الطبقات الدنيا. ويدّعي “كامينجز” Melbourne Cummings أن “حركة [تورنر] الداعية للهجرة كانت واحدة من أولى الحركات الخطابية المهمة التي صمّمها وقادها الأمريكيون الأفارقة بعيدًا عن البيض”.
كانت الكنيسة “الأسقفية الميثودية الإفريقية” منقسمة بشدة بشأن الهجرة. كان الاسقف “باين” (1811-1893م) Daniel Payne ناقدًا حادًّا، بينما كان “تورنر” مدافعًا متحمسًا. وهكذا كان اثنان من أقوى الشخصيات داخل الكنيسة على طرفي نقيض من الجدل حول مشروع الهجرة.
عارض “باين” فكرة “تورنر” عن مهمة الكنيسة “الأسقفية الميثودية الإفريقية” داخل إفريقيا. وادعى “باين” أنه بنى وجهة نظره على أُسُس عملية، بحجة أن الكنيسة “الأسقفية الميثودية الإفريقية” لم يكن لديها الموارد المالية الكافية لدعم مهمة خارجية شاملة. علاوة على ذلك، كان يرى أن المبشرين البيض يؤدون بالفعل عملًا رائعًا.
واستندت دعوة “تورنر” للدفع بالبعثات التبشيرية إلى إفريقيا إلى قناعته القوية بأن “الله كان له إرادة تحريرية وتعويضية للأمريكيين من أصل إفريقي”. وفي عام 1889م، كتب “تورنر”: “دع الرجال والنساء يرون قدرة الله ويتعرفون عليها في مؤسسة العبودية، ويتخلّصون من بقاياها حسبما يوجههم الله، وتتدفق البركات اللانهائية على حدّ سواء إلى الأبيض والأسود. فالزنجيّ المسيحيّ سيكون نعمة لإرساليات إفريقيا، وستكون ثروة تلك القارة العملاقة نعمة للعرق الأبيض. لقد كانت العبودية تدبيرًا إنسانيًّا مظلمًا، لكنَّ الله يُخْفِي وراءها وجهًا مبتسمًا”.
كان “تورنر” يعتقد بأن “الله سمح باستعباد الأمريكيين من أصل إفريقي من أجل اتصال إفريقيا بالحضارة الغربية والمسيحية، وكتب في عام 1895م: “يتوق الأفارقة الوثنيون بشغف لتلك الحضارة التي يعتقدون أنها سترتقي بهم، وتجعلهم قادرين على فعل الخير”.
كان يرى أن إنشاء دولة إفريقية سيوفّر مزيدًا من الفرص لكل من القيادة الإفريقية الأمريكية والقومية السوداء المسؤولة. فمن وجهة نظر “تورنر”: “لم يكن هناك مستقبل شخصي للأمريكيين من أصل إفريقي داخل الولايات المتحدة.. لكنَّ الشيء الوحيد المتبقي على الزنوج القيام به، هو أن يبنوا لأنفسهم بلدًا خاصًّا بهم ليصنعوا شخصيتهم من خلال القيام بأشياء مثل تلك التي قام بها الآخرون بنجاح. فبدون بلد ناجح يؤسّسه ويديره الأفارقة، لا يمكن أن يتوقعوا احترامًا داخل المجتمع الدولي”.
وعلى عكس الفكرة التي صوّرها منتقدوه، لم يكن “تورنر” من دعاة الهجرة بالجملة. فقد دعم أولئك الذين اختاروا البقاء داخل أمريكا. وكان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن “الأمريكيين من أصل إفريقي مواطنون أمريكيون بقدر ما كانوا يسقون الأرض بعَرَقِهم، ويشترونها بدمائهم، ويتشكلون من غبارها”. وهكذا حافظ “تورنر” على حركته التصاعدية للأمريكيين السود في كلتا القارتين.
وعلى صعيدٍ آخر كان “تورنر” قلقًا كذلك بشأن التقسيم الأوروبي لإفريقيا؛ حيث شعر بأن الأمريكيين الأفارقة يتوجب عليهم الهجرة إلى إفريقيا لتأمين جزء من القارة حصريًّا للعرق الأسود.
وسعى “تورنر” إلى الاستفادة من الحكومة الفيدرالية، و”جمعية الاستعمار الأمريكية”، ورأس المال الإفريقي الأمريكي لتمويل خطته للهجرة. ورأى أن على الحكومة الفيدرالية تخصيص أموال الهجرة لأولئك الذين يرغبون في إعادة التوطين داخل إفريقيا.
وعلى الرغم من معارضة دعوة “تورنر” للهجرة بشدة مِن قِبَل العديد من القادة الأمريكيين الأفارقة، شارك الآلاف من الأفارقة الأمريكيين الجنوبيين الفقراء رؤيته بالعودة إلى الوطن الأم للعيش بعيدًا عن الطغيان الأبيض. ويكشف التقييم النهائي لحلم “تورنر” الإفريقي أنه تم إحباطه بسبب نقص الموارد المالية. ومع ذلك أشاد “جون ديتمر” John Dittmer بموقف “تورنر” بقوله بأنه “أكثر من أيّ شخصية عامة أخرى في عصره، قام بتشجيع التماهي مع الوطن الإفريقي، وقام بغرس الثقة والفخر بين الأمريكيين السود الذين يعانون من الدونية”.
3- اللاهوت الأسود Black Theology
كان اللاهوت الأسود لـ”تورنر” تعبيرًا دينيًّا عن قوميته السوداء. وترجمة لرسالة الإنجيل لتحرير السود. وتجلَّى اللاهوت الأسود عند “تورنر” في النضال من أجل العدالة والمساواة بين الأمريكيين السود.
وعلى هذا الأساس كان “تورنر” يؤمن “بأُخُوة العائلة البشرية”، و”إيمانًا منه بسيادة الله المطلقة وقدرته اللامحدودة”؛ أعرب “تورنر” عن هذا الرأي في مناسبات عديدة. ففي خطابه أمام الهيئة التشريعية في “جورجيا” احتجاجًا على الإطاحة به في عام 1868م، ساوى “تورنر” بين حرمانه من مقعده وبين إنكار كرامته وقيمته الذاتية، وهو ما اعتبره امتهانًا لإنسانيته؛ “ذلك بأن الله قد منحه هذه الصفات، وأن حرمان فرد من الأسرة البشرية منها كان مخالفًا لإرادة الله”، واتباعًا لهذا المنطق، تساءل “تورنر”: “هل المخلوق أعظم من الخالق؟
وعند مناقشة مشكلة الزنوج في مقال تم نشره بصحيفة “المُسجل المسيحية” عام 1889م، أعرب “تورنر” عن عقيدته حول الله: “هناك إله يدير هذا الكون؛ ويتحكم بجميع الأمم والشعوب بدون استثناء”. ورأى “تورنر” أن “لَمّ الشمل مع الله هو الهدف النهائي للأسرة البشرية”.
وخلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، نشأت سلسلة من الأدبيات الضارة. فقد طوَّر اللاهوتيون الجنوبيون البيض الأدبيات التي زعمت بأن الأمريكيين السود دونيون، وتوقعوا أن تكون الدونية هي وضعهم المستقبلي أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، أشاع العنصريون البيض الاعتقاد بأن الأبيض كان إلهيًّا وأن الأسود شيطانيّ.
واضطر “تورنر” إلى دَحْض هذه الحجج من أجل رفع مستوى شعبه الذي كان بالفعل تحت ضغط تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. واستندت انتقادات “تورنر” إلى تأكيد المساواة بين البشرية. استنتج “أن الله جعل الاختلاف سُنَّةً بين خَلقه. فبينما كان هناك تنوُّع، كانت هناك مساواة داخل هذا التنوع، فليس للبيض الحق في تحدِّي أو إعادة ترتيب ما خلَق الله”.
وكتب “تورنر” في عام 1868م: “تتجلى حكمة الله في وجود سُنَّة الاختلاف في كل شيءٍ داخل الطبيعة. فلا يوجد شخصان على حدّ سواء، كما لا توجد شجرتان على حد سواء؛ لأن الله رأى أنه من المناسب أن يخلق الأحمر، والأبيض، والأسود، والبُنّيّ. فهل نجلس هنا لنحكم على ما رآه الله مناسبًا لخلقه؟
واستنتج “تورنر” أن الأمريكيين السود مثل “فريدريك دوجلاس” و”دانيال باين” و”هنري هايلاند جارنت”، الذين عانوا من إعاقات شديدة، أظهروا قدرتهم على المساهمة بشكل إيجابي داخل المجتمع. وخلص كذلك إلى أن “العظمة ليس لها لون؛ والتعلم لم يكن أبيض ولا أسود. وليس هناك ذكاء ملوّن، أو ذكاء أبيض، أو ذكاء أسود”.
وقد تحول “تورنر” من استراتيجية دفاعية لتأكيد المساواة بين البشر إلى استراتيجية أكثر عدوانية من خلال تعزيز عظمة الشخصية الأمريكية الإفريقية. واختار هذه الاستراتيجية لمواجهة ادعاء البيض وإصرارهم على إلصاق الدونية بالعرق الأسود. فأراد “تورنر” استعادة الأمل للأمريكيين الأفارقة في أنفسهم وفي مستقبلهم. حيث تنبَّأ بمستقبل عظيم للأمريكيين السود من خلال التعبير عن الاعتقاد بأن العرق الأبيض سيفشل، وسيصبح العرق الأسود متفوقًا. وكتب في عام 1884م: “نحن لا نموت كما هو متوقّع لنا. فالزنجي هو العرق الناشئ في العالم، ولدينا مستقبل عظيم وواعد. ولسوف يتضاعف عِرْقنا لعدة قرون بعد أن يبدأ العرق الأبيض في التلاشي. فالزنجي طفل، والأبيض بالغ. وحينما يبلغ البالغ سن الشيخوخة، سيكون الزنوج في أَوْج مجدهم وسيحكمون العالم”.
كان “تورنر” يعلم قوة الرمز في مجتمع موجّه نحو الرموز. لقد استنتج أن الدلالات السلبية المرتبطة بالسواد كانت مفاهيم خطيرة للغاية. فلم يقتصر الأمر على قيام اللاهوتيين البيض بتعميم الاعتقاد بأن الأسود كان شيطانيًّا بينما كان الأبيض إلهيًّا، بل تسللت الفكرة إلى تفكير الأمريكيين من أصل إفريقي.
وواجه “تورنر” تحدي الخطاب المناهض للسود بخطاب أسود خاص به. لقد أدلى بتصريح جريء بأن “الشيطان لم يكن أبيض ولم يكن أسود كذلك”.
“كانت عبادة البياض قوية جدًّا داخل المجتمع الإفريقي الأمريكي، وهو ما حوَّلهم إلى مؤمنين مهووسين بدونيتهم الروحية الخاصة بهم”. كان إيمانهم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالدونية الروحية للسود، وبأن الإله الأبيض قد فضَّل الأبيض على الأسود، ولأن الدين كان “التعبير الأول عن شخصية الأمريكيين الأفارقة وإرادتهم في الوجود وتحسين وضعهم الروحي على حدٍّ سواء”، كان على “تورنر” أن يصمّم استجابة قوية للرد على عبادة الصنم الأبيض. وأثناء مخاطبة “المؤتمر المعمداني الأمريكي الإفريقي” في عام 1895م، أعلن “تورنر” أن “الله زنجي” –عياذًا بالله تعالى-. وأدانت الصحافة البيضاء على الفور “تورنر” لما اعتبروه “لغة مجنونة”. ورد “تورنر” قائلًا: لدينا نفس القدر من الحق للتفسير الكتابي وغير ذلك من الاعتقاد بأن “الله زنجي” –تعالى الله عن مثل هذه الأوصاف علوًّا كبيرًا-، كما هو الحال بالنسبة لاعتقاد البيض بأنه أبيض. فكلّ عِرْق من البشر منذ بداية الخليقة حاول وصف الإله بالكلمات أو باللوحات أو بالنقوش، ونقلوا فكرة أن الله الذي خلقهم، وشكَّل مصائرهم قد تُطابق صورته صورتهم. ومع ذلك فنحن لسنا متمسكين بلون الإله بأيّ شكل من الأشكال، ولكن إذا كان لنا الحق كغيرنا لتصور إلهنا، فإننا بالتأكيد نحتج ضد كون الله أبيض”.
من هنا يجب أن يتم فهم إيمان “تورنر” بإله زنجي في سياق التجربة الأمريكية الإفريقية. فقد كان تصريح “تورنر” محاولة لتدمير الدلالات السلبية المرتبطة بالسود، وإعطاء الأمريكيين الأفارقة الأمل من خلال إله يتماهى مع كفاحهم من أجل التحرر.
4- ثيوديسيا العبودية عند “تورنر” Theodicy of Slavery
إذا كان الله كامل القدرة ويمتلك السيادة المطلقة على الكون، وإذا كان الإله أسود ومتوافقًا مع صراعات العرق الأمريكي الإفريقي، فكيف يفسّر “تورنر” العبودية؟ تكشف خطب وكتابات “تورنر” أنه اعتبر “العبودية واجبًا أبيض تجاه الأفارقة، وبأنها ثقة من الله وجزء من حكمة الله وقدَره”.
وكشف “تورنر” عن تصوّره للعبودية؛ بأنها كانت واجبًا للبيض تجاه إفريقيا، وفي خطابه “في ذكرى الانعتاق” عام 1866م قال: “إن الله رأى حاجة إفريقيا إلى الحضارة، وقد أجاز لفترة من الوقت تجارة العبيد، ولا يعني ذلك أنه أن إرادة الله ومشيئته كانت تتماهى مع وجهة النظر بأن الزنجي سينخفض إلى مرتبة التابع. لذلك فإن الله قد أمهل مؤسسة العبودية كاختبار لطاعة العرق الأبيض، وعلو الزنجي”.
وسارع “تورنر” إلى توضيح النقطة التي مفادها أن “مالكي العبيد أساءوا إلى ثقة الله. ففي مقابل استعباد الزنجي كان على مالكي العبيد تعليمه وتحضره. وكان على رجال الدين البيض إبلاغ مالكي العبيد بحقوق العبيد الشخصية، كما كان على الكنيسة البيضاء أن تضمن احترام هذه الحقوق. وتابع “تورنر” رسم هذا الخط الفكري بقوله: “لكنَّ العِرْق الأبيض منع تحسينات العرق الأسود، وهي الجريمة التي أساءت للسماء. لقد بذلنا جهدنا للعرق الأبيض، وفي المقابل كان يجب عليهم أن يعلّمونا، فلقد رأوا أن إفريقيا كانت مزودة بالمبشرين، فلو استنفد القساوسة نصف ما تعلموه لتوجيه البيض نحو واجبهم تجاه الزنجي كأمانة من الله، بدلًا من محاولة إثبات الحق الإلهي في العبودية، لتحضَّر ثلثا إفريقيا. ولو تعامل البيض مع العبودية على أنها أمانة من الله، لما استمر الأمر حتى يصبح عبئًا اجتماعيًّا، ولا يزال”.
كانت فكرة “تورنر” عن العبودية باعتبارها أمانة من الله هي “أن العبودية كانت جزءًا من التقدير الإلهي”. وكشف “تورنر” عن هذه الفكرة في مقالٍ نشره في “المُسجل المسيحي عام 1888م قائلًا: “العبودية هي مؤسسة العناية الإلهية، وليست مؤسسة إلهية؛ لأنها لو كانت كذلك، لكانت أبدية مثل أيّ صفة من صفات اللاهوت. فالأولى مؤقتة وعرضية، والأخرى ثابتة وأبدية. فلم يكن الله نائمًا أو غافلًا عن الأحداث العابرة. فعندما تم أسر الزنجي وإحضاره إلى هذا البلد وإخضاعه لحالة من العبودية بلا مقابل، وعرف أهوال واقعه وماضيه، علم أن إنهاء محنته تتمثل في ارتقائه نحو الحضارة المسيحية”.
وتصور “تورنر” أن “الله يحيق بالمكر السئ للبيض لرفع العرق الأسود إلى العظمة. لتشمل عظمتهم صفات التحرير والفداء. فكان لدى الأمريكيين الأفارقة المحررين خيار العودة إلى إفريقيا أو البقاء داخل أمريكا. وكان على المجموعة الأولى أن تأخذ أفضل ما تعلّموه عن الحضارة الأمريكية (على الرغم من أنها لم تكن أفضل ما يمكن أن يقدّمه البيض، إلا أنها كانت متفوقة على الحضارة الإفريقية) للعودة إلى الوطن الأم والارتقاء بإفريقيا إلى الصدارة.
أما المجموعة الأخرى فكان عليها أن تعمل بجد من أجل رفع مستوى الأمريكيين السود لتحقيق مكانة وتأثير كبير داخل المجتمع الأمريكي. وهكذا كانت إساءة استخدام البيض لثقة الله مثالًا آخر في تاريخ العالم؛ حيث استبدل الله الشر واستخدمه لخير السود”. وبالتالي فإن نظرية “تورنر” المتمثلة في كسر الثقة وتصميم العناية الإلهية Providential Design والفداء أعطت الأمل والتشجيع بأن الله كان مع الأمريكيين السود في كفاحهم من أجل العدالة والمساواة.
رابعًا: دلالات “هنري تورنر” الفكرية
تكمن نقاط القوة في فكر “تورنر” عن اللاهوت الأسود في محاولته جعل القدرة الإلهية وثيقة الصلة بالوضع الوجودي الأمريكي الإفريقي. فقد أوضح اللاهوت الأسود لدى “تورنر” الإيمان بإله “كليّ القدرة” (ما يعني إمكانياته سبحانه وتعالى غير المحدودة). وتبنَّى “تورنر” هذه الفكرة لكي يرسم صورة تُفْضِي إلى إدراك المرء أن للكون ربًّا واحدًا يُسيِّر أموره. وهكذا بعد تناول الوجود الإلهي؛ ادَّعى “تورنر” أن الله أحاط بعنايته الأمريكيين السود في نضالهم من أجل التحرّر.
وفي تفسيره للعبودية؛ رأى “تورنر” أن الله سمح بذلك حتى يواجه الأمريكيون الأفارقة المسيحية الغربية، وبالتالي يتم تجهيزهم لحملة تبشيرية وتنصيرية إلى إفريقيا. وبذل “تورنر” جهدًا كبيرًا ليُظْهِر أن البيض أساءوا إلى ثقة الله في تطوير الشخصية الإفريقية الأمريكية والحفاظ عليها، والتي حرمها نظام العبودية الأمريكية من وسائل الرُّقيّ والتحضُّر. وهكذا حدَّد “تورنر” سبب معاناة الأمريكيين السود “بإساءة استخدام البيض لثقة الله”.
وفي تفسير الرسالة التوراتية وجد “تورنر” القاعدة الفلسفية والأدلة التاريخية على وجود إله عادل. وتعزيزًا لمحاولته جعل دينه مرتبطًا بالوضع الإفريقي الأمريكي، أعلن “تورنر” وجهة نظره القائلة بأنَّ “الإله زنجي”. وزوَّدت هذه الفكرة المجتمع الإفريقي الأمريكي بإلهٍ يتماهى مع نضالاتهم من أجل التحرُّر. كانت الفكرة قوية لرمزيتها؛ حيث أعطت القوة المطلقة لكائن أسود، وسمحت لعِرْق مُحتَقر ومكتئب أن ينظر إلى السيادة المطلقة للكون من منظور نفسه.
وكان اللاهوت الأسود عند “تورنر” ثابتًا في مطالبته بحقوق الشخصية الأمريكية الإفريقية؛ فدافع عن مشاركة أمريكية إفريقية مُعلنة وكاملة داخل المجتمع الأمريكي. ورأى أن الشخصية هي هوية يمنحها الله، وخاصية لا يمكن إنكارها. وطالب جميع الأمريكيين الأفارقة بضرورة المطالبة “بحقوقهم غير القابلة للتصرف في الحياة والحرية، والسعي لتحقيق السعادة مثل أي أمريكي آخر”. كان يؤمن بأن المطالبة بالحقوق الشخصية، من شأنه أن يؤدي إلى احترام الذات والارتقاء بالنفس.
وساعدت دعوة “تورنر” للهجرة على تحديد مسار حركة “العودة إلى إفريقيا” التي نادى بها “ماركوس جارفي” (1887-1940م) Marcus Mosiah Garvey في القرن العشرين. فقد قدَّم “تورنر” المساعدة لعدة آلاف من الأمريكيين الأفارقة المحرومين سياسيًّا واقتصاديًّا للانتقال إلى إفريقيا والتمتُّع بالحرية. وأعطت فكرة “تورنر” عن اللاهوت الأسود الأمل للمجتمع الإفريقي الأمريكي في أن الله سيحرِّرهم في النهاية من مضطهديهم. وهكذا كانت هناك العديد من الأفكار والمعتقدات القوية التي شكَّلت الأساس لجهود “تورنر” لفهم تجربة الأمريكيين الأفارقة للمعاناة والقمع.
كانت الأفكار القائلة بأن العبودية واجب أبيض تجاه إفريقيا باعتبارها أمانة من الله وجزءًا من التصميم الإلهي؛ كانت جوانب ضعيفة في لاهوت “تورنر” الأسود. وثيوديسيا العبودية لديه جعلت الله مسؤولًا عن العبودية من خلال تصميم العناية الإلهية. وهل هناك فرق بين العبودية الهمجية والعبودية الإنسانية المزعومة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا يعني أن العبودية الإنسانية المزعومة مقبولة عند الله؟
في تفكير “تورنر”؛ كانت الحضارة المسيحية من الفوائد الإيجابية لنظام العبيد الهمجي التي يمكن استخدامها لتخليص إفريقيا. معتقدًا بأن الله سمح بفداء إفريقيا وخلاصها أن يأتي من شرّ البيض. فهل هذا يعني أن العبودية لها صفات تعويضية؟ ولماذا اختار الله الأفارقة للمعاناة؟ ألم يكن باستطاعة الله أن ينجز مهمة فداء إفريقيا بدون المعاناة؟ هذه التساؤلات لن تجد لها إجابات مُرْضِية في اللاهوت الأسود لـ”تورنر”.
يبدو أن ادعاء “تورنر” الجريء بأن “الله زنجي” يتوافق مع التحرر الأمريكي الإفريقي، قام “ويليام جونز” William Jones بتناول هذه القضية بشيء من التفصيل في كتابه “هل الله عنصريٌّ أبيض؟” Is God A White Racist?: A Preamble to Black Theology. ويجادل “جونز” بأنه “إما أن يكون الله متماهيًا مع المظلومين لدرجة أن تجربتهم تصبح تجربة إلهية، أو أن الله هو إله عنصريّ”.
وختامًا:
قدَّم البحث سيرة ذاتية للمفكر الأمريكي من أصول إفريقية “هنري ماكنيل تورنر”؛ بهدف دراسة بعض التجارب الحياتية التي أثرت أفكاره حول القومية السوداء، وكذلك ما يتعلق بمشاعره ومعتقداته وأفكاره الدينية. ومن خلال الاستقراء لأفكاره المحددة عن القومية السوداء، والنهوض الأمريكي الإفريقي، والهجرة، واللاهوت الأسود، والثيوديسيا من خلال خطاباته وكتاباته الرئيسية خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. بات من الممكن تقديم صورة نقدية ودلالية حول أفكار “تورنر” ومعتقداته، وهو ما يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتحليل، ولا يسع هذا البحث المختصر أن يفي بكل أبعادها.
______________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Alexander, Jordan O. “Trailblazer: The Legacy of Bishop Henry M. Turner During the Civil War, Reconstruction, and the Rise of Jim Crowism.” (2016)
Clark, Adam. “Honoring the ancestors: Toward an Afrocentric theology of liberation.” Journal of Black Studies 44.4 (2013): pp. 376-394
Cone, James H. For my people: Black theology and the Black church. Vol. 1. Orbis books, 1984
Cummings, Melbourne S. “The Rhetoric of Bishop Henry McNeal Turner.” Journal of Black Studies 12.4 (1982): pp. 457-467
Douglas, Kelly Brown. The Black Christ. Vol. 9. Orbis Books, 2019
Ellingsen, Mark. “Changes in African American mission: rediscovering African roots.” International Bulletin of Missionary Research 36.3 (2012): pp. 136-142
Holmes, James Arthur. “Black nationalism and theodicy: A comparison of the thought of Henry Highland Garnet, Alexander Crummell and Henry McNeal Turner.” (1998)
Johnson, Andre E. “God is a Negro: The (Rhetorical) Black Theology of Bishop Henry McNeal Turner.” black theology 13.1 (2015): pp. 29-40
Johnson, Andre E. No Future in This Country: The Prophetic Pessimism of Bishop Henry McNeal Turner. Univ. Press of Mississippi, 2020
Johnson, Andre E. The Forgotten Prophet: Bishop Henry McNeal Turner and the African American Prophetic Tradition. Lexington Books, 2012
Quarles, Benjamin. Black abolitionists. No. 310. new york: oxford University Press, 1969.