“برنس هول” (1735-1807م) أمريكي من أصل إفريقي، كان عبدًا سابقًا اشترَى حُريته، وقام بتأسيس وتطوير ونشر “الماسونية الأمريكية الإفريقية” African American Freemasonry.
كانت مبادراته ومهاراته التنظيمية هائلة؛ فخلال حياته امتدت منظمته وتوسَّعت لتمتد إلى مناطق كبيرة داخل أمريكا الشمالية البريطانية. وقد ضمَّت بعضًا من أكثر الشخصيات تأثيرًا داخل أمريكا الشمالية. بالإضافة إلى ذلك أصبح المحفل الإفريقي African Lodge وفروعه نموذجًا للتعاون الجماعي والنشاط الاجتماعي.
ومع ذلك حتى الآن لا توجد دراسات موسَّعة تضع “برنس هول” ضمن تقليد أيديولوجي وأدبي محدَّد. ويتضح من السجلات أن “برنس هول” كان من أشد المطالبين بإلغاء العبودية، ورفض التمييز العنصري. وتكشف الخطب والرسائل القليلة التي تركها، أنه كان عضوًا نَشِطًا للغاية في مجتمع “بوسطن”. فقد حافظ على التواصل مع “الماسونيين البريطانيين” British Masons، وشارك في النشاط الاجتماعي لصالح الأمريكيين من أصل إفريقي على المستوى الوطني.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:
أفاد “جون بروس” (1856-1924م) John Edward Bruce مؤلف كتاب “برنس هول: رائد الماسونية الزنجية” Prince Hall: the Pioneer of Negro Masonry، أن “برنس هول” وُلِدَ في عام 1748م، وهناك بعض المصادر تشير إلى أنه وُلِدَ في عام 1735م، حسبما ذكر صديقه القس “جيريمي بيلكناب” (1744-1798م) Jeremy Belknap، مُؤسّس “جمعية ماساتشوستس التاريخية” Massachusetts Historical Society، وصديق آخر هو القس “ويليام بنتلي” William Bentley. لكنَّ من المؤكد أنه تُوفِّي عام 1807م.
مكان ولادته غير معروف بالتحديد، فمن الممكن أن يكون قد جاء من إفريقيا؛ حيث أطلق كلمة “إفريقي” على كل شيء ارتبط به؛ “المحفل الإفريقي” African Lodge، “المدرسة الإفريقية” African School، “المجتمع الإفريقي” African Society. وتُشير بعض المصادر إلى أنه “وُلِدَ حُرًّا” باعتباره ابنًا لأب إنجليزي وأم سوداء حرة. لكنَّ الثابت أنه سافر إلى “بوسطن” بوصفه عبدًا لمالكه “وليام هول” William Hall. وحصل “برنس هول” على حريته، ومِن ثَمَّ اتجه للعمل بالصناعات الجلدية، وربما شارك في معركة “بانكر هيل” Bunker Hill.
بدأ مسيرته بالمطالبة بإلغاء العبودية خلال الحرب، وقام بالدفاع عن الحقوق المدنية في مجالات عديدة، بما في ذلك توفير مدارس مجانية للسود، وتمويل الدولة للهجرة إلى إفريقيا، وبزيادة القيود المفروضة على تجارة الرقيق والاختطاف في “ماساتشوستس” Massachusetts.
شعر “هول” بالعجز من إيصال صوته إلى المواطنين ومسؤولي الولاية، ونما إلى عِلْمه أن الحاكم ورئيس البلدية والمواطنين البارزين داخل الولاية كانوا جميعًا من الماسونيين، وهو ما دفَعه للبحث والعمل ليصبح ماسونيًّا.
وادَّعى “هول” في وقتٍ مبكرٍ من عام 1775م بأنه أصبح ماسونيًّا، وبعد الحرب الثورية أسَّس أول محفل أسود في الولايات المتحدة؛ وهو “المحفل الماسوني الإفريقي” African Masonic Lodge. وتم اعتماد المحفل مِن قِبَل “المحفل الماسوني العام في إنجلترا” United Grand Lodge of England (UGLE). ثم أعاد أعضاؤه تسميته فيما بعد ليصبح Prince Hall Freemasonry.
وعلى الرغم من أن المنظمة الإنجليزية حذفت المحفل (إلى جانب المحافل الأمريكية الأخرى) من قوائمها خلال حرب عام 1812م، إلا أن “محفل برنس هول” استمر في عمله دون انقطاع منذ إنشائه. وفي عام 1994م أعاد “المحفل الماسوني العام في إنجلترا” اعترافه بالمحفل كمنظمة ماسونية “عادية” ومعتمدة باسم جديد وهو “محفل برنس هول في ماساتشوستس” Prince Hall Grand Lodge of Massachusetts.
ثانيًا: السياق التاريخي والسياسي المعاصر لـ”برنس هول”
خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر كانت العبودية واقعًا في جميع مستعمرات “نيو إنجلاند” تقريبًا، وفي جميع المستعمرات الجنوبية بشكل عام، وكان الزنوج المتعلمون قلائل إلى حدّ كبير؛ فقد كانت الطبقة الرئيسية تخشى الزنجي المتعلم أكثر من أيّ شيءٍ؛ حتى إن الولايات الجنوبية كانت تعتبر التعليم للزنوج جريمة، يعاقب عليها بالسجن أو الإعدام، لأيّ زنجي يجيد القراءة والكتابة، وينقل هذه المعرفة للآخرين من عرقه.
وفي أواخر القرن الثامن عشر ارتفعت معدلات معرفة القراءة والكتابة بين الأمريكيين من أصل إفريقي، كما شهدت هذه الفترة زيادة كبيرة في عدد الأصوات السوداء التي تم نشرها وتداولها دوليًّا، إلا أن هذه الأصوات كان يتم التوسط لنشرها من خلال التسلسل الهرمي للسلطة داخل دار النشر. وحيث كانت روايات العبيد شائعة خلال أواخر القرنين الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، لكنَّ معظمها كان مقيَّدًا بقوة الإذن لسلطة الأمن الأبيض. لذا فقد كانت هناك حاجة ماسَّة لوجود استقلالية لنشر الصوت الإفريقي داخل أمريكا، ولن يتأتَّى ذلك إلا إذا وُجِدَتْ مؤسَّسات منفصلة يملكها السود ويديرونها بأنفسهم.
ثالثًا: منطلقات “برنس هول” الفكرية:
كرَّس “برنس هول” بوصفه أبرز الرجال السود بولاية “بوسطن” خلال عصر الثورة، حياته كلها للصراع، في عالم كانت تموج أحداثه المتلاحقة والمليئة بالصراعات. وعلى الرغم من ذلك قام “هول” بتأسيس أول منظمة للمجتمع الأسود داخل أمريكا. وكان يهدف من وراء تأسيسها إلى التحسين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للسود.
و”الماسونية” هي حركة سرية عالمية؛ عُرِفَتْ بغموض النشأة والأهداف، كانت واسعة الانتشار والنفوذ، فبينما يرى كثيرون أنها يهودية أو ذات ارتباط وثيق بالصهيونية العالمية؛ ينفي زعماؤها ذلك ويؤكدون أنها “عبارة عن منظمة سرّية أخوية عالمية ذات أصول يهودية يشترك فيها أعضاؤها بعقائد وأيديولوجيات واحدة فيما يخص الأخلاق والميتافيزيقا وتفسير الكون والحياة، ويؤمنون بخالقٍ واحدٍ”.
وللحركة الماسونية علاقة جدلية وعريقة بالكنائس الرومانية والأهرامات المصرية القديمة، وذلك يبدو جليًّا في طقوسها وتقاليدها. وتهدف للسيطرة على العالم من خلال ربط علاقات متينة بكبار الشخصيات في الجمعيات الدولية والمحلية والمراكز السياسية وأصحاب النفوذ فيها لتمرير أهدافها وغاياتها.
ويمكن تحليل توجهات “برنس هول” الفكرية من خلال النقاط التالية:
1-الماسونية الإفريقية
خرجت “الماسونية الإفريقية” أو “الماسونية السوداء” من الأحداث التاريخية المبكرة للولايات المتحدة التي أدَّت إلى بروز تقليد الماسونية المنفصلة، والتي يغلب عليها الأفارقة الأمريكيون داخل أمريكا الشمالية.
ففي عام 1775م بدأ أمريكي من أصل إفريقي يُدعى “برنس هول” في “محفل ماسوني عسكري أيرلندي”، ثم في “بوسطن” بولاية “ماساتشوستس” جنبًا إلى جنب مع أربعة عشر أمريكيًّا من أصول إفريقية. وعندما غادر “المحفل الماسوني العسكري” أمريكا الشمالية، مُنِحَ هؤلاء الخمسة عشر رجلاً سلطة الاجتماع كمحفل، وذلك للقيام ببعض المراسيم الماسونية المحددة، وليس بهدف منح درجات علمية.
وفي عام 1784م تقدم هؤلاء الأفراد بطلب للحصول على اعتماد من “المحفل الماسوني الكبير بإنجلترا” Premier Grand Lodge of England (GLE) والذي بدوره وافق على الاعتماد، ومِن ثَمَّ تشكّل “المحفل الإفريقي” African Lodge.
جعل “برنس هول” المحفل الإفريقي مركزًا للقيادة السوداء، والذي يمكن من خلاله للكُتَّاب والمُنَظِّمين المستقبليين مثل “ريتشارد ألن” Richard Allen و”ديفيد ووكر” David Walker و”ماريا ستيوارت” Maria Stewart أن يتعلموا ويطوّروا أفكارهم المتعلقة بالمساواة.
ومن المهم التأكيد على أن مؤسّسي المؤسسات الأمريكية الإفريقية المهمة على غرار “الكنائس الإفريقية”، و”المحافل الماسونية الإفريقية”، و”الصحافة الإفريقية”، قد بدأوا حياتهم كعبيد في كثير من الأحيان. كان “برنس هول” من بين هؤلاء القادة السود الذين عانوا من العبودية. إلى جانب “ريتشارد ألن” و”أبسولوم جونز” Absolom Jones وكثيرين ممن تبعوه، كان “برنس هول” من أوائل العبيد السابقين -إن لم يكن الأول- الذين أسسوا مؤسسة أمريكية دائمة ذات أهمية اجتماعية وسياسية كبيرة. ومع ذلك فإن القادة السود الآخرين، سواء كانوا عبيدًا سابقين أو أحرارًا، ساروا في نفس الاتجاه الذي سنَّه “هول” من تأسيس مؤسسة منفصلة للسود.
وتعرَّض “المحفل الإفريقي” للهجوم مِن قِبَل الماسونيين البريطانيين الذين أعلنوا أن “المحفل” لم يكن مؤجزًا بشكل شرعي. وخلال فترة الاضطرابات المدنية التي سبقت “المؤتمر الدستوري” Constitutional Convention لعام 1787م، كان الماسونيون الأفارقة يتخذون خطوات لضمان عدم التشكيك في ولائهم كمواطنين وطنيين لا يمكن مساءلتهم. وذلك من خلال الاحتفاظ بسجلات الرسائل ونشر الكتيبات، والتي بواستطها يمكن للمحفل الإفريقي أن يؤكد على أن مؤسسته شرعية ومخلصة ومصمّمة على التأثير في اتجاه السياسة الاجتماعية المتعلقة بالأمريكيين الأفارقة.
كما أعطت المسيحية إمكانية لفورة من النشاط الحركي للسود؛ حيث تم تأسيس التجمعات والكنائس السوداء. ومع ذلك قرَّر “برنس هول” ومجموعة من الأمريكيين الأفارقة أن بناء “تقليد ماسوني مستنير بالمبادئ المسيحية” كان وسيلة أخرى لتأسيس حضور وإحساس قويّ بالتواصل الاجتماعي داخل بنية المجتمع في “أمريكا الشمالية البريطانية” British North American؛ حيث كان معظم مؤسّسي حركة “الماسونية الإفريقية” African Masonic عبيدًا سابقين. فبعد أن عانوا من ضغوط اجتماعية مميتة متأصلة في العبودية، بدأ “برنس هول” ومؤسِّسو حركة الماسونية الإفريقية إرساء الأسس الفكرية والروحية لتراث ثقافي مشترك قادر على توجيه العمل الجماعي، ووضع مبادئ هذا التراث على شكل كتيبات وتوزيعها للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور.
ظاهريًّا قد لا يبدو تشكيل المحفل الإفريقي بمثابة مقاومة للعنصرية؛ لكنه من حيث الممارسة كان “يقوم على تقويض قوى الاضطهاد ذاتها التي فصلت العديد من الأفارقة وأحفادهم عن تراثهم المشترك مع مجموعاتهم العرقية داخل إفريقيا”؛ من خلال “تطوير الإحساس الإيجابي بالتاريخ والمصير المشترك في سياقهم”، والقيام على “تمكين الأمريكيين من أصل إفريقي من استعادة وتشكيل ونشر الرؤية للإمكانيات المستقبلية التي سلبتها عملية إزالة الطابع الاجتماعي عنهم، وحرمان العديد من الشعوب الإفريقية التي لا تزال مستعبَدة منها”. فإذا كان الأمريكيون الأفارقة سيناضلون من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة في أمريكا الشمالية؛ فعليهم فعل ذلك بشكل جماعي؛ وإذا كان الصوت الفردي هنا وهناك مثالًا قويًّا على قدرة السود، لكن إجراء تغييرات كبيرة في الوقت المناسب وفي الاتجاه المطلوب للنظام الاجتماعي، لن يتأتَّى إلا من خلال التنظيم والتعبير عن المخاوف بشكل جماعي. فالعمل الفردي لن يضغط على الأقوياء (البيض) لفعل ما كان يريده السكان السود. ومن هنا كانت أفكار “برنس هول” الخاصة حول التعاون المؤسسي وإدارة “المحفل الإفريقي” African Lodge؛ أول محفل ماسوني أسود في أمريكا الشمالية.
ففي حين أن الأمريكيين الأفارقة سيستمرون بالضرورة في التعاون مع الليبراليين البيض؛ من خلال النضال من أجل العدالة الاجتماعية، فإنهم سيتولون أيضًا مزيدًا من القيادة للوسائل التي ستحدث بها المقاومة ماديًّا وخطابيًّا. لذا فإنَّ نموّ تأثير السود على النشاط السياسي من شأنه أن يُمَكِّن من التعبير عن المخاوف التي يتم تجاهلها أو قمعها مِن قِبَل الحلفاء البيض المتعاطفين. في الوقت الذي ظهرت فيه المؤسسات السياسية والاقتصادية القوية في أعقاب الثورة الأمريكية لدعم مصالح قادة الثقافة المهيمنة، فكان على الأمريكيين الأفارقة أن يقوموا على تأسيس وتطوير المؤسسات لمعالجة المسائل الاجتماعية والسياسية والثقافية المركزية أيضًا بالنسبة لهم.
وهو ما تعاملت معه هذه المؤسسات من الاهتمامات المادية المحلية مثل الغذاء، وقضايا العمل، والتعليم العام، والتأمين، والصحة، بالإضافة إلى المشاكل العامة للرق والحرمان السياسي والاقتصادي. كما قدّمت المؤسسات السوداء التي تطورت خلال أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر أماكن للعبادة، بالإضافة إلى مواقع خصبة لتشكيل شبكات اجتماعية؛ حيث يمكن أن يحدث مزيد من النمو وانتشار الأفكار الاجتماعية والسياسية للسود وقومية سوداء ناشئة. فقد كانت كتابات “برنس هول” تعبيرًا عن المساهمات التي قدَّمها للنضال السياسي والأيديولوجي الأسود من خلال تأسيس وتطوير الماسونية الإفريقية. وهي مساهمات تكمن أهميتها في نشر المُثُل العليا للأمريكيين الأفارقة عن الحرية والمساواة. فكانت أفكاره ومحفله بمثابة تحرُّر وتوسُّع في خطاب المسيحية السوداء الناشئة نحو مؤسسات علمانية وأهداف سياسية.
2-العودة إلى إفريقيا
ونظرًا لأن العبودية والتمييز العنصري وجهان لعملة واحدة؛ فإن “برنس هول” والعديد من ذوي التفكير المماثل لم ينظر إلى التحرُّر العالمي للأفراد باعتباره الهدف النهائي للسياسة الليبرالية الهادفة إلى إلغاء الرق. بالنسبة لهول والعديد من معاصريه، فإن تعقيدات التمييز العنصري على كل المستويات وفي كل مجال من مجالات المجتمع جعلت الحياة في القارة الأمريكية لا تُطَاق تقريبًا، حتى إنه في يناير 1787م، تلقت “المحكمة العامة في ماساتشوستس” General Court of Massachusetts التماسًا يطلب فيه مجموعة كبيرة من السود مساعدة الدولة في دعم جهودهم للعودة إلى إفريقيا؛ حيث كتبوا: “نريد أن نعيش بين أقراننا لنكون أكثر راحة وسعادة مما يمكن أن نكون عليه في وضعنا الحالي”. وكان من بين الأسماء المُوقِّعَة على هذه العريضة: “برنس هول”.
وبعد ما يقرب من ثلاث سنوات من تأسيس “المحفل الإفريقي”، ظهر اسم “برنس هول” في عريضة تطالب بعودة الأفارقة وأحفادهم إلى “بلدهم الأصلي”؛ وكانت الجملة الافتتاحية للالتماس؛ “بأننا أو أسلافنا تم اختطافنا من جميع تراثنا وتاريخنا العزيز علينا، وتم جلبنا من إفريقيا، ووضعنا في حالة من العبودية داخل هذا البلد”، هذه الافتتاحية تشير إلى ارتباط قويّ بالقارة، وإيمان حقيقيّ بالأرض كموطن يمكن للسود العودة إليه، وتجنُّب الصعوبات التي عانوا منها خلال العيش تحت نير العبودية. كان هذا وقتًا لا يزال فيه السود الذين يعيشون في أمريكا يعتبرون أنفسهم بشكل عام أفارقة، إما قادرين على تذكُّر ذلك بشكل مباشر، أو كان لديهم أقارب نشأوا هناك ونقلوا ذكرياتهم الخاصة عن الحياة هناك قبل استعبادهم.
ومع ذلك بحلول عام 1792م، يبدو أن “برنس هول” قام بتغيير وجهة نظره بشأن الهجرة، وبدأ في تشكيل فلسفة وطنية أمريكية إفريقية، من خلال الدعوة إلى المساواة والعدالة بدلاً من الانفصال. ومن غير المعروف لأيّ سبب من الأسباب قام “برنس هول” بهذا التحوُّل، لكنَّ علامات تطويره لأيديولوجيا التنظيم والمقاومة كانت واضحة في كتاباته اللاحقة.
3-التضامن والارتقاء العرقي
كان أحد أهم الحلول لنشر الأفكار بين السود هو طباعة هذه الأفكار وتوزيعها خارج السبل التقليدية لمؤسسات النشر التي كانت تهيمن عليها التوقعات والرغبات البيضاء. فقد كان من غير المسموح أن يتم نشر أيّ مقال قبل الموافقة واعطاء الإذن بنشره. ومن خلال نشر الكتيبات وجد “برنس هول” فرصة لمخاطبة الجماهير السوداء والبيضاء على حدّ سواء للدفاع عن المساواة الجسدية والفكرية والاجتماعية للأمريكيين من أصل إفريقي في الثقافة المطبوعة الأمريكية. فقد قامت حركة الكتيبات السوداء باستحداث الأساليب التي يمكن للأمريكيين الأفارقة من خلالها التعمُّق في التناقضات داخل الأنظمة الاجتماعية والسياسية الأمريكية. وتحدَّى الكُتَّاب السود وسائل النشر التقليدية والممارسات الاجتماعية المتعلقة بالمساواة بين السود من خلال الأصوات الفردية التي تدعمها المؤسسات الناشئة مثل الكنيسة السوداء Black Church والحركة الماسونية الإفريقية African Masonic. وبهذه الطريقة انضم “برنس هول” من خلال رسالتين له في عامي 1792م و1797م إلى ثقافة الطباعة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن أول منشور رسميّ أمريكيّ من أصل إفريقي، كان صحيفة “الحرية” Freedom’s Journal، لكنه لم يظهر إلا في عام 1827م؛ حيث قامت الصحيفة بطباعة الخطب والنشرات السوداء وتوزيعها على عدد متزايد من السود المتعلمين ليتم قراءتها بشكل مستقلّ وتسليمها شفهيًّا إلى المجموعات المختلفة. كانت أيضًا بمثابة وسيلة للدخول والتأثير في مختلف مجالات الخطاب العام؛ مما جعل القضايا ذات الأهمية الخاصة للسود معروفة. ليصبح نشاط النشر هذا أكثر جدوى؛ حيث أصبح الوصول إلى الطباعة أكثر انتشارًا وبأسعار معقولة.
ومع ازدياد معرفة السود للقراءة والكتابة، بدأت مؤسسات السود المستقلة في التطور، وأصبح الاستقلال الأدبي للسود ثمرة منطقية للحركات التي شرعت وركَّزت على الهويات والأيديولوجيا والاستقلال للأمريكيين من أصل إفريقي؛ حيث كتب “برنس هول” في خطبته الماسونية عام 1797م: “على الرغم من حرمانك من وسائل التعليم، إلا أنك لست محرومًا من وسائل التأمل. وهو ما أعني به التفكير، والاستماع، ووزن الأمور والرجال والأشياء في عقلك، فيكون الحكم عليهم -كما تعتقد- معقولًا لإرضاء عقلك وإعطاء الإجابة لمن قد يطرح عليك سؤالاً”. وتبرز المُثل الفلسفية التي كانت سائدة في أواخر القرن الثامن عشر، من خلال حجة “برنس هول” حول العقلانية الأمريكية الإفريقية ومقاومة الاضطهاد المهيمن من خلال ممارسة التفكير والتي كانت متوافقة مع مثالية التنوير.
ويجادل “هول” لإظهار أن الفكر التأملي ليس مجالًا حصريًّا للفلاسفة القاريين أو المنظّرين السياسيين الأمريكيين البريطانيين، ولكنه تراث جميع الشعوب -الأفارقة منهم- بغض النظر عن موقعه. ويحذر “برنس هول” من “عبودية الخوف”، وهو اقتباس واضح من تصريح “كانط” بأن “التنوير” هو “تحرر الفرد من الوصاية، ومن مرحلة القصور وعدم النضج”، وأن “الوصاية تتجلى في عجز الفرد عن اللجوء إلى التفكير بعقله هو، دون الاعتماد على آخر”. وأن “اللجوء إلى الآخر لا يكون بسبب نقص في العقل، ولكن بسبب انعدام الشجاعة والإقدام على التفكير وإدراك الأمور بأنفسنا”. و”لكى تعرف، يجب أن تكون مقدامًا” Sapere Aude (تعبير باللغة اللاتينية يعنى “تَجَرّأ وفَكِّر بعقلك أنت”).
كان تصريح “هول” حين أشار إلى الثورة في “هايتي” بأن “هكذا تبدأ إثيوبيا في مد يدها من مستنقع العبودية إلى الحرية والمساواة”، لخَّص ببلاغة فهمه العلماني لثورة سوداء ناجحة، ولكن بتفسير كتابي، وهي قراءة للكتاب المقدس تعطي انطباعًا إيجابيًّا. فالتبرير الديني والتاريخي لمقاومة السود النشطة ضد العبودية، كان يتناقض مع قراءة “هول” لهذا المقطع التوراتي مع التفسيرات السابقة له؛ والتي كانت ترمز لإفريقيا كعنصر فاعل سلبيّ في الأحداث؛ حيث تتجه الشعوب الإفريقية نحو الإحسان الأوروبي ومساعدة البيض من أجل النهوض. وتكشف قراءة “هول” عن يد إفريقيا الممدودة كقوة تحرير خاصة بها، هذه القوة الذاتية التي تستطيع من خلالها إخراج نفسها وجميع الشعوب الإفريقية من العبودية تحت سلطتها.
رابعًا: دلالات “برنس هول” الفكرية:
لم تختلف الماسونية الإفريقية داخل الإطار الاجتماعي للسود عن غيرها من الحركات التي دعت إلى صياغة الهوية والمثالية، فقد تميزت بالأصالة والسبق والتنظيم، وكانت الأكثر دلالة على الدراما الاجتماعية والنفسية السوداء في السياق الثقافي الأمريكي. ومع ذلك فإن تأثيرها التاريخي والثقافي والاجتماعي كان أقل من أن يلفت انتباه المؤرخين. وحسب “جورج كروفورد” George Williamson Crawford فـ”إنه على الرغم من أن الماسونية السوداء قدمت للرجل الأفرو-أمريكي فرصته الأولى لإيجاد نفسه، إلا أن الإهمال الأكاديمي لتأثيرها التاريخي والثقافي كان القاعدة”.
حيث قدمت الماسونية الإفريقية المساعدة للعبيد السابقين المعروفين، والرجال السود الأحرار على غرار “ديفيد ووكر” David Walker، و”ويليام براون” William Wells Brown، و”جوشيا هينسون” Josiah Henson، و”جون مارانت” John Marrant، و”ريتشارد ألن” Richard Allen، و”بوكر واشنطن” Booker T. Washington، وجميعهم كانوا ينتمون أو يرتبطون بالمؤسسة الماسونية الإفريقية.
وعلى نحو آخر سمحت الماسونية الإفريقية بعزل الطبقة الوسطى السوداء بشكل أكثر وضوحًا وعمقًا مما كان ممكنًا من خلال التركيز على المؤسسات أو الأشخاص. فقد كان القادة الماسونيين لا يتحدثون إلى جمهور كبير، وهو ما جعلهم غير ماهرين أو محترفين مثل القادة السود الأكثر بروزًا.
وبدراسة الماسونية الإفريقية يتضح أنها أكثر من مجرد اغتراب وتهميش للطبقة الوسطى. فبوصفها مؤسسة فقد قامت بتوفير الرؤية للوسائل التي حاولت بها الطبقة الوسطى السوداء خلق التضامن والوعي الذاتي بين أعضائها، وتوفير الدعم الاجتماعي والنفسي لأسلوب الحياة البرجوازية، وتسهيل المسافة الاجتماعية والمادية بينها وبين الطبقات الأخرى، ونقل قِيَمها إلى الآخرين.
وختامًا:
لعبت كل من الكنيسة والمحفل الماسوني الذي أسَّسه “برنس هول” أدوارًا مهمَّة في التجربة السوداء داخل أمريكا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. ويجادل البعض بأن بدايات الفكر الإفريقي الأمريكي لا يمكن مناقشته بدقة وبشكل كامل دون تسجيل التأثير الذي أحدثته هذه المنظمات على المجتمع الأسود. ومع ذلك من المستحيل تغطية كل جانب من جوانب هذا الموضوع في مثل هذا العمل القصير؛ نظرًا لتشعُّبه وتعقيده ونُدْرَة الوثائق المتاحة.
فبدلاً من تجسيد الكنيسة والماسونية كوسيلتين منفصلتين ومتميزتين للاحتجاج الاجتماعي، يمكن الجدال بأنه في العضوية والغرض والوظائف المجتمعية، تتكامل هذه المنظمات مع بعضها البعض. كما أنها لعبت أدوارًا مهمَّة ومترابطة في الطريقة التي عالَج بها المجتمع الأسود الإشكالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولفهم الدور المهمّ للماسونية السوداء منذ بدايتها في القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر، يجب أيضًا فَحْص الكنيسة الأمريكية الإفريقية وعلاقتها بالماسونية. وهذا موضوع يمكن مناقشته في بحث آخر.
______________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Hayden, Lewis. Caste Among Masons: Address Before Prince Hall Grand Lodge of Free and Accepted Masons of the State of Massachusetts at the Festival of St. John the Evangelist, December 27, 1865. Edward S. Coombs, 1866
Brooks, Joanna. “Prince hall, freemasonry, and genealogy.” African American Review 34.2 (2000): pp. 197-216
Bruce, John Edward. Prince Hall, the Pioneer of Negro Masonry: Proofs of the Legitimacy of Prince Hall Masonry. Academic Affairs Library, University of North Carolina at Chapel Hill, 2001
Bullock, Steven C. Revolutionary brotherhood: Freemasonry and the transformation of the American social order, 1730-1840. UNC Press Books, 2011
Crawford, George Williamson. Prince hall and his followers: being a monograph on the legitimacy of Negro masonry. Ams PressInc, 1971
de Keghel, Alain. American Freemasonry: Its Revolutionary History and Challenging Future. Simon and Schuster, 2017
Dunbar Sr, Paul Lawrence. Prince Hall Freemasonry: The other invisible institution of the black community. University of North Texas, 2006
Grimshaw, William Henry. Official History of Freemasonry Among the Colored People in North America: Tracing the Growth of Masonry from 1717 Down to the Present Day... Greenwood, 1969
Hackett, David G. “The Prince Hall Masons and the African American Church: The Labors of Grand Master and Bishop James Walker Hood, 1831-1918.” Church history 69.4 (2000): pp. 770-802
May, Cedrick. Evangelism and Resistance in the Black Transatlantic, 1760-1820. Diss. Pennsylvania State University, 2003
Muraskin, William A. Middle-Class Blacks in a White Society: Prince Hall Freemasonry in America. Univ of California Press, 1975
Révauger, Cécile. Black Freemasonry: From Prince Hall to the Giants of Jazz. Simon and Schuster, 2015
Wallace, Maurice. “” Are We Men?”: Prince Hall, Martin Delany, and the Masculine Ideal in Black Freemasonry, 1775-1865.” American Literary History 9.3 (1997): pp. 396-424
Williams, Loretta J. Black freemasonry: A middle class response of racial pillarization. Diss. State University of News York at Buffalo, 1977