“ريتشارد ألن” (1760-1831م) Richard Allen هو قس وكاتب ومربٍّ أمريكي من أصل إفريقي، وهو أول أسقف أسود في أمريكا، ومؤسِّس “الكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية” (A.M.E.) في عام 1816م، وهي أول طائفة سوداء بروتستانتية مستقلة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وكان واحدًا من الذين لُقِّبُوا بـ”المؤسِّسين السود” من جانب المؤرخين، والذين سعوا إلى توسيع نطاق الحرية للسود خلال الأيام الأولى للجمهورية الأمريكية.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:
كان “ريتشارد ألن” Richard Allen هو أول أسقف للكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية African Methodist Episcopal Church. وُلِدَ عبدًا لـ”بنيامين تشيو” Benjamin Chew في “فيلادلفيا” Philadelphia، ولكن بعد ذلك بقليل تم بيعه مع عائلته بأكملها إلى مالك مزرعة يُدْعَى “ستوكلي ستورجيس” Stokely Sturgis، والذي كانت مزرعته تقع بالقرب من “دوفر” Dover بولاية “ديلاوير” Delaware. وهناك نما حتى وصل إلى سنّ الشباب وتأثر بالمسيحية. وتحوّل إلى المسيحية في عام 1777م ليبدأ حياته المهنية بالعمل مبشّرًا بعد ثلاث سنوات.
وبعد مدة قصيرة أُعجب سيده الجديد بالتزامه وتديّنه، فسمح له بالصلاة والوعظ في منزله؛ ليسطيع “ألن” –فيما بعد- أن يقنع سيده بأن العبودية كانت خطيئة، مما جعل سيده يسمح لعبيده بأن يشتروا حريتهم. فاشترى “ألن” وأخوه نفسيهما مقابل 2000 دولار في وقت كانت العملة متدنية للغاية بسبب الحرب والثورة.
كان “ألن” يعمل في البداية بالأعمال اليدوية؛ فعمل بتقطيع الأخشاب ونقلها إلى المدينة، ومن ثَمَّ بيعها. وهناك التقى “ريتشارد واتكوت” (1736-1806م) Richard Whatcoat، أُسقُف ميثودي متجوّل، والذي أدرك بدوره قيمة هذا الشاب. فدعا “ألن” للذهاب معه في جولة عبر البلاد بهدف التنصير، وعندما عاد إلى “فيلادلفيا” مارَس عمله بالوعظ في كنيسة “القديس جورج الميثودية الأسقفية” St. George Methodist Episcopal Church، وفي أماكن أخرى مختلفة داخل المدينة. وهناك تملَّك “ألن” شعور بضرورة العمل من أجل عِرْقه؛ حيث وجد “مجالًا كبيرًا مفتوحًا أمامه للبحث عن إخوته الأفارقة وإرشادهم”؛ فقد كانوا حسب تعبيره “شعبًا منسيًّا منذ زمن طويل”.
قدّم “ألن” مقترحًا بإنشاء مكان عبادة منفصل لشعبه من السود، وهو الأمر الذي رفضه البيض وبعض الزنوج في بادئ الأمر. وعندما عيّن البيض رواقًا منفصلًا لصلاة السود بكنيسة القديس جورج الأسقفية، دفَع الكثير من الزنوج إلى الانفصال عن الكنيسة. فذات صباح عندما جاء “ألن” و”أبسالوم جونز” (1746-1818م) Absalom Jones وأثناء الصلاة في الكنيسة، قام بعض البيض بسحبهم وهم في وضعية الركوع، وأمروهم بالذهاب إلى الرواق الخاص بالسود، وهو ما دفَع جميع الزنوج للانسحاب من الكنيسة، وإنشاء “جمعية الإفريقي الحر” Free African Society.
كان لدى “جونز” و”ألن” خطط مختلفة؛ حيث أسَّس “جونز” أخيرًا “الكنيسة الأسقفية البروتستانتية الإفريقية للقديس توماس” African Protestant Episcopal Church of St. Thomas، لكن غالبية الذين انسحبوا من “كنيسة القديس جورج الميثودية الأسقفية” اتبعوا “ألن”، فقام بتأسيس “كنيسة بيثيل” Bethel Church، ومن أجل هذا الغرض اشترى “ألن” مبنًى قديمًا، ليكرّس نفسه للعمل بها في عام 1794م.
قام “ألن” أيضًا بإنشاء مدرسة الأحد وأخرى نهارية وليلية، كما استقبلت كنيسته القساوسة المنتمين للطائفة الميثودية Methodist Conference بشكل دوريّ. وأخيرًا تم ترسيم “ألن” شماسًا على يد الأسقف “فرانسيس أسبوري” Francis Asbury عام 1799م، وسرعان ما أصبح شيخًا. وعلى خطى “ألن” نظّم الزنوج في المدن الأخرى كنائسهم الخاصة، فأسَّسوا ما كان يُعرَف باسم “الكنائس الأسقفية الميثودية الإفريقية في بالتيمور” African Methodist Episcopal churches in Baltimore، و”ماريلاند” Maryland، و”ويلمنجتون” Wilmington، و”ديلاوير” Delaware، و”أتلبورو” Attleboro، و”بنسلفانيا” Pennsylvania، و”سالم” Salem، و”نيو جيرسي” New Jersey.
ونظرًا لأن هذه الكنائس ليس لها صلة رسمية بالكنيسة الميثودية؛ فكان لا بد من تنظيم هيئة وطنية خاصة بهم للإشراف على العمل وتعزيزه بين الملونين، وبالفعل التقى ممثلو هذه الكنائس في فيلادلفيا عام 1816م. وانتخبوا “دانيال كوكر” (1846- 1780م) Daniel Coker أسقفًا عامًّا، وفي اليوم التالي أُلْغِيَ هذا الإجراء ليصبح “ريتشارد ألن” أسقفًا عامًّا للكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية.
تبنَّت هذه الهيئة الجديدة كتاب التعاليم الذي صاغه “جون ويسلي” (1703-1793م) John Wesley بمواده الدينية وقواعده العامَّة تمامًا، وبدأت الكنيسة مسيرتها في البداية مع سبعة من القساوسة المتجولين والأسقف “ألن” بوصفهم قادة بفكر جديد، فحققت هذه الكنيسة المستقلة تقدُّمًا كبيرًا على يد أسقفها ومؤسسها حتى وفاته عام 1831م. وبحلول ذلك الوقت، تم تنظيم عدة كنائس تابعة لهذا الكيان الجديد في جميع أنحاء أمريكا باستثناء الجنوب، فقد أُغلقت بسبب تمرد الزنوج.
ثانيًا: السياق التاريخي والسياسي المعاصر لـ”ريتشارد ألن”
وُلِدَ “ألن” عبدًا في عالم أمريكي استعماري كان يُشكّك بالكاد في العبودية، شاهد “ألن” العبودية وقد تغلغلت في الثقافة الغربية، وعاش ليرى القهر العنصري متجددًا من خلال موجات من القوانين والممارسات التمييزية؛ بداية من تخصيص مقاعد منفصلة للسود في معظم الكنائس الشمالية، إلى إلغاء حق التصويت للسود في معظم الولايات الشمالية.
وباستثناء الأكاديميين المتخصصين، فمن السهل جدًّا نسيان “ألن” بوصفه أحد أهم المؤسّسين السود الذين عاشوا حقبة شهدت اضطرابًا في العلاقات بين الأعراق المختلفة داخل أمريكا، هذه الفترة التي أشار إليها المؤرخون الأوائل على أنها “التحرُّر الأول”. هذا التحرُّر الذي شهد: إنهاء العبودية في الولايات الشمالية بين عامي 1780م (عندما أقرت ولاية “بنسلفانيا” Pennsylvaniaأول قانون للإلغاء التدريجي) وعام 1804م (عندما أقرت “نيوجيرسي” New Jersey آخر ولاية لهذا القانون). بالإضافة إلى ذلك، خفَّفت ولايات ديلاوير Delaware وماريلاند Maryland وفيرجينيا Virginia من قيود التحرُّر، ممَّا دفَع الآلاف من عمليات الإعتاق بحلول أوائل القرن التاسع عشر.
شهد “ألن” نهاية تجارة الرقيق في أمريكا وإنجلترا، وكذلك النمو الهائل للعبودية في الجنوب والجنوب الغربي لأمريكا؛ حيث تضاعفت أعداد السكان المستعبَدين في أمريكا خلال حياة “ألن”، وظهرت لأول مرة تجارة الرقيق المحلية بين الشمال والجنوب، وتأسست أول جمهورية سوداء في العالم في “هايتي” Haiti؛ وهو ما أعطى حياة “ألن” آمالاً كبيرة ممتزجة بخيبات الأمل.
كما أن انتشار وباء الحمى الصفراء عام 1793م أدَّى إلى الذعر والموت في شوارع “فيلادلفيا”، فبين أواخر أغسطس وأوائل نوفمبر فقط تُوفِّي ما يقرب من 5000 من سكان” فيلادلفيا” وحدها، بينما قام 17000 آخرون بالفرار من المدينة خوفًا. وهو ما أدَّى إلى فوضى كبيرة واضطرابات داخل المدينة، وحسب وصف أحد المؤرخين البيض؛ “بدت المدينة وكأنها تعيش انحلالًا لكافة الأواصر المجتمعية”.
كما وجد زعماء مجتمع السود في “فيلادلفيا” أن المعاناة التي تواجههم كانت مخيفة، ولكنها لم تكن بنفس القَدْر من وجهة نظرهم، فقد أتاح تفكك روابط المجتمع فرصة كبيرة لتشكيل روابط اجتماعية جديدة بين أفراد العرق الأسود والمجتمع ككل؛ على غِرَار ما حدث أثناء الثورة الأمريكية، وهو ما حدث كذلك خلال العديد من الأزمات اللاحقة في التاريخ الأمريكي، فتقدم الأمريكيون من أصل إفريقي خلال فترة الاضطرابات هذه لإثبات قدرتهم على تحمُّل مسؤوليات المواطنة.
وعلى نحو متصل ارتبط تاريخ المسيحية للأمريكيين من أصل إفريقي بتاريخ العبودية الأمريكية؛ فقد تعرَّف السود على المسيحية في سياق العبودية، فهي إحدى وسائل أصحاب العبيد لإخضاع عبيدهم. لكنها اختلفت باختلاف الزمان والمكان مما جعل من الصعب التعميم أو سهولة الوصف؛ ففي بعض الأماكن كانت العقيدة الجديدة قد أزاحت بشكل شبه كامل الأديان التقليدية والجذور الإسلامية المتبقية في نفوس العبيد، والذي نجا منها عددٌ قليلٌ من المعتقدات والطقوس غير المجسّدة. وفي أماكن أخرى تم تطعيم الأعراف المسيحية بالتقاليد الدينية الإفريقية والتي لا تزال حيوية حتى الآن، مما أدَّى إلى إنتاج عقائد ديناميكية غنية بالتوفيق بين المعتقدات المختلفة. ومهما كانت الوتيرة أو المسار، فقد انجذب العبيد عبر الأمريكتين إلى ديالكتيك التحول، مما أدَّى إلى تحولهم إلى دين آسريهم خلال فترة العبودية وحتى أثناء تحررهم.
ثالثًا: إسهامات “ريتشارد ألن” الفكرية
إذا ذهبت إلى “فيلادلفيا” Philadelphia وتوقفت أمام كنيسة “الأم بيثيل” الميثودية الإفريقية Mother Bethel A.M.E. Church، ستجد أن الأشياء الكبيرة والصغيرة بها تُخَلِّد ذكرى مؤسسها الأسود “ريتشارد ألن”، أحد الإصلاحيين الأوائل والمناضلين والمطالبين بإلغاء العبودية في أمريكا، والذي قام ببناء كنيسة للسود هي الأشهر عالميًّا، وله كتيبات احتجاجية كانت بمثابة نماذج للأجيال المتعاقبة؛ حيث طالب بالحرية والعدالة للجميع. ووصفه أحد مؤرخي الثورة الأمريكية بأنه “أحد أكثر الأشخاص موهبة في جيله”، وادعى كاتب سيرته بأنه “أول مَن أضاء مشعل الحرية في أمريكا”.
كما كان “ألن” أحد المؤسّسين لأول جمعية إصلاحية سوداء داخل أمريكا في عام 1787م؛ وهي “جمعية الإفريقي الحر” Free African Society ، والتي تأسَّست في نفس العام الذي اجتمع فيه الآباء المؤسسون لأمريكا على بُعْد ميل واحد لعقد المؤتمر الدستوري لصياغة أول دستور للولايات المتحدة.
ربما كانت أهم سمات “ألن” هي تصميمه الصارم، أو كما يصفه البعض “عناده”؛ في عصر تعلم فيه الكثير من السود التظاهر والتأجيل والتنازل عن السلطة لصالح البيض من أجل البقاء. حتى الرفاق السود علموا عن عناد “ألن”؛ فعندما رفضت “جمعية الإفريقي الحر” اتباع المبادئ الميثودية، انسحب “ألن” من الجمعية، تاركًا الجمعية التي ساهم في تأسيسها؛ وأوضح أنه “لم يجد طائفة دينية تناسب قدرة الملونين إلا الميثودية”.
ويمكن تلخيص أفكار “ريتشارد ألن” كالتالي:
1- الميثودية الإفريقية بوصفها حركة قومية
على الرغم من أن هناك القليل من الأدلة على أن مؤسسي “الميثودية الإفريقية” African Methodist كانوا يعتزمون التعبير عن هويتهم الإفريقية عندما أضافوا إلى كنيستهم كلمة “الإفريقية”؛ نظرًا لأن كلمة “إفريقي” African هي التعبير المعياري للسود داخل أمريكا في أواخر القرن الثامن عشر؛ وهي الكلمة التي استحسنها الملونون الأحرار عوضًا عن كلمة “زنجي” Negro، والتي كانت تحمل دلالة الاستعباد.
ولم يقتصر الأمر على أفرقة الكنائس فقط؛ ولكنَّه امتد إلى المدارس والجمعيات والفئات المختلفة التابعة للسود داخل أمريكا، وهي ممارسة استمرت حتى عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما أدَّى التهديد المتزايد للاستعمار الإفريقي لإشكاليات كبيرة للسود داخل أمريكا؛ بسبب الدعوة المتزايدة لترحيلهم إلى إفريقيا، وهو ما أدَّى إلى سلسلة من التغيرات على الخطاب الأسود، وفي الطقوس والعبادات الدينية كذلك.
لذا فإن إضفاء الطابع “الإفريقي” على “الكنيسة الميثودية” بدا إشكاليًّا في أحسن الأحوال، فقد تخللت الخدمات الكنسية بعض الممارسات الدينية الإفريقية المعروفة، وهو ما جعل قادة “الكنيسة الميثودية” يزدرون هذه الممارسات الإفريقية، وحاولوا قمعها بكل الطرق. فعلى سبيل المثال؛ قام الأسقف “دانيال ألكسندر باين” Daniel Alexander Payne بتكريس الكثير من حياته للقضاء على الغناء المصاحب لـ”موسيقى الفوجا” fugue، و”عبادة القبضة والكعب” Fist and Heel worship، ورقص “الفودو” Voudoo وغيرها من “الطقوس الدخيلة”.
ومنذ لحظة تأسيسها انشغلت “الكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية” بالقضايا الإفريقية؛ من خلال النقاشات داخل الكنيسة حول الهجرة، والإرساليات إلى إفريقيا، ودخلت في جدالات عقائدية حول معنى العبودية من حيث الجوهر، وشاركت في الجدالات الدائرة حول الاستعمار الذي كان يعارضه معظم قادة الكنيسة بشدة. كل ذلك وغيره كان حافزًا لتوجه “الميثوديين الأفارقة” للتفكير في طبيعة العلاقة والارتباط بقارة أجدادهم، وفي “العناية الإلهية” Providence التي حملتهم من إفريقيا إلى أمريكا، وإلى التهديد بإعادتهم إلى إفريقيا مرة أخرى.
خلق هذا الارتباط الوثيق بين المسيحية وإفريقيا في خيال السود داخل أمريكا؛ اهتمامًا لدى الغالبية من مؤرخي الفكر السياسي الإفريقي، فقد اعتبر البعض أن تبنّي السود للمسيحية كان بمثابة الخطوة الأولى نحو “التثاقف” Acculturation الأسود في أمريكا، وبالتالي الابتعاد عن إفريقيا. ولكنَّ البعض الآخر يرى من خلال أصول وطابع عبادة الأمريكيين من أصل إفريقي؛ أن العبيد وجدوا العزاء في عقيدة آسريهم.
وكان البعض يرى أن “الميثودية الإفريقية” صورة من صور الاندماج بين التاريخ الأمريكي الإفريقي والتاريخ الأمريكي، بينما اعتبر البعض الآخر أن “الميثودية الإفريقية كانت تُعبّر عن نهج انفصاليّ، بوصفها كيانًا عرقيًّا داخل كيان متعدّد الأعراق، وبهذا التوصيف “مثلت الكنيسة الإفريقية نهجًا انفصاليًّا برز من رحم الثقافة السوداء، فكانت بوتقةً للوعي الجماعي، ومنبعًا للهوية السوداء المبكرة، وجدارًا صلبًا في مواجهة الاستعمار”؛ وذلك على حدّ توصيف بعض الدراسات الحديثة.
ومن الناحية العملية كانت “الميثودية الإفريقية” ملاذًا آمنًا للسود بعيدًا عن عالم أبيض معادٍ، وهو ما يبرّر الخشية من تشويه سياق ومحتوى هذا الاستقلال الديني للسود؛ والحقيقة أن مؤسسي “الميثودية الإفريقية” لم يكن لديهم أيّ نية “لإدارة ظهورهم” لأمريكا البيضاء، على الرغم من أن تسعين بالمائة من الأمريكيين من أصل إفريقي كانوا يرزحون تحت نَيْر الاستعباد. لكن على العكس من ذلك كان لإنشاء الكنائس المستقلة دور كبير في فتح آفاق جديدة ساعدت على التواصل مع المجتمع المهيمن سياسيًّا وثقافيًّا، وتُظهر الأدلة وجود مشاركة نشطة للـ”ميثوديين الأفارقة” في نقاشات العصر الثوري حول العبودية والعرق والمساواة الإنسانية، وفي انشغال قادة “الكنيسة السوداء” بإيجاد سُبُل “مناسبة” لتدين الإناث؛ وفي حملة الكنيسة السوداء “للارتقاء” بالمعتقلين في أعقاب الحرب الأهلية، وفي وصول الكنيسة إلى إفريقيا.
في البداية لم تكن خطط “ألن” إقامة كنيسة منفصلة للأشخاص الملونين في “فيلادلفيا”، فهو لم يكن ينوي قطع العلاقات مع المؤسسة الميثودية. حتى عندما اقترب منه قادة الكنيسة الإنجيلية وعرضوا عليه الرسامة الإنجيلية رفض “ألن” معلنًا أنه “لن يكون إلا ميثوديًّا”. وعندما قَبِلَ “أبشالوم جونز” عرض الكنيسة الإنجيلية، واستحوذ على الكنيسة الإفريقية التي أقيمت حديثًا ومعظم أعضائها، لم يؤثر ذلك على قرار “ألن”، لكنه استمر هو ومجموعة صغيرة من الميثوديين السود بأداء صلواتهم في إحدى متاجر الحدادة، بينما كان يجمع الأموال لبناء كنيسة جديدة. وعندما قام بافتتاح الكنيسة الجديدة في عام 1794م، دعا “ألن” الأسقف “أسبري” (1745-1816) Francis Asbury ليُلْقِي موعظة دينية، وهو دليل آخر على رغبته في البقاء داخل حظيرة الميثودية.
وعبر “ألن” لاحقًا عن سبب إخلاصه للميثودية؛ فعلى الرغم “من تعرّضه للاضطهاد الشديد؛ لكنه رأى الاستمرار على عقيدته الميثودية؛ فحسب رؤيته لم يكن هناك دين أو طائفة تناسب قدرة الملونين داخل أمريكا باستثناء الميثودية”. وكان يرى أن “الميثودية” هي الطائفة الأكثر توافقًا مع المشاعر الدينية للسود، وأن عقيدتها تتميز بالبساطة، وبأنها تعتمد على “الوعظ الروحي أو الأحاديث المرتجلة”، وهو ما يناسب الأشخاص “غير المتعلمين” بشكل أفضل من “التفسير التوراتي الجاف”. كما أكدت الميثودية على “الانضباط، وهو أمرٌ حيويّ لشعب يلتهمه الفقر والرذيلة”.
واعتقد “ألن” أن الاقتصاد والاعتدال والصناعة وغيرها من الفضائل الميثودية الكلاسيكية، هي بمثابة وسيلة للخلاص في نهاية المطاف؛ فقد قدّمت صيغة يمكن للسود من خلالها أن ينتشلوا أنفسهم من حالة الفقر المتدهورة، وهي احتمالية تمثلت في حياته. هذا الانضباط الذي تمّ تعزيزه من خلال الهياكل الملموسة – الوعظ المنتظم، والدروس الأسبوعية، والأعياد الفصلية- والتي ساعدت على إبقاء الأفراد داخل الدائرة الضيقة، مع توفير شعور بالانتماء كان المجتمع الأسود في أمسّ الحاجة إليه.
وعلى الرغم من احتفاظ الكنيسة الإفريقية بروابط رسمية مع الكنيسة الأسقفية الميثودية لأكثر من عقدين، ونظرًا للمناوشات المستمرة حول الملكية والعضوية والسلطة الكنسية؛ فقد كانت السلطات الميثودية تبذل قصارى جهدها لاستعادة المنفصلين. فبحلول عام 1815م تدهورت العلاقة بين قادة الكنيسة الميثودية والكنيسة الإفريقية، حتى قام المصلون بمنع قس أبيض من إلقاء الموعظة الأسبوعية داخل الكنيسة الإفريقية، وتطور الأمر عندمت سعى قس أبيض لأخذ المنبر لإلقاء موعظة الأحد؛ فقام أحد المصلين بمنعه بالقوة. ووصل الخلاف إلى ساحة المحكمة العليا في “بنسلفانيا”، لينقطع آخر رباط بين كلتا الكنيستين. وفي أوائل عام 1816م قضت المحكمة للمصلين بتأسيس كنيسة “الأم بيثيل”؛ بوصفها كنيسة حرة ومستقلة.
2- الارتقاء العرقي
كانت حياة “ألن” نموذجًا عمليًّا ومثالًا واقعيًّا لـ”لإرتقاء العرقي” الأبيض والأسود على حد سواء؛ فبالنسبة لأولئك الذين كانوا لا يزالون مستعبدين؛ أدَّى انتقال “ألن” من حالة الجهل والعبودية إلى الحرية والقيادة الكنسية والوعي الفكري، نحو طريق الأمل لكل أسود مستعبَد. وبالنسبة للمتشككين من البيض، فقد كانت حياة “ألن” دليلاً على القدرات الأخلاقية والفكرية الفطرية للسود، وبالنسبة للجميع؛ فقد قدَّمت حياته تجسيدًا حيًّا للعمل بالوصايا المسيحية في الشؤون الإنسانية.
كما كانت “الكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية” التي أسَّسها “ألن”؛ بمثابة قاعدة للسود في أمريكا، تأسست في خِضَمّ الظلم العنصري، وتوجّهت نحو الهدف المزدوج للحرية الروحية والعلمانية. ومن هذا المنطلق برزت الكنيسة السوداء لتصبح المركز الثقافي الأكبر والأول للمجتمع الأسود داخل أمريكا، وكانت نشأتها حافزًا لتأسيس القوة السوداء التي ستظهر خلال حركة الحقوق المدنية فيما بعد، ولتصبح المؤسسة الوحيدة المملوكة للسود اسمًا وتنظيمًا داخل أمريكا، فكانت بمثابة المركز الثقافي الشامل للسود.
لذا فإن “ألن” ومؤسسته الكنسية مثّلا تجسيدًا حيًّا لارتقاء العرق الأسود داخل أمريكا، فإذا كان المؤسسون البيض قد أقاموا الدعائم الأولى لدولتهم الناشئة في المحيط الأطلسي، وشاركوا في صياغة الدستور والقانون، وقاموا ببناء مؤسسات الحكم والتعليم؛ فإن “ألن” أقام على التوازي مؤسسته السوداء الإفريقية لتكون صرحًا إفريقيًا مستقلًا يجمع السود دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وتعليميًّا.
وبالنسبة للأجيال اللاحقة، فقد كان “ألن” يمثل التحدي الأكبر في تاريخ السود في أمريكا، وظل كذلك حتى جاء اعتصام “روزا باركس” Rosa Parks خلال منتصف القرن العشرين. والتي أطلق عليها الكونجرس الأمريكي “السيدة الأولى للحقوق المدنية”، فقد كان كلا الحدثين -اعتصام “باركس”، وانسحاب “ألن” من المقاعد المنفصلة- عملين شجاعين غير عنيفين في حد ذاتهما، إلا أنهما مهَّدا الطريق لنضالات الحرية السوداء فيما بعد.
لم يكتفِ “ألن” بتأسيس الكنيسة الإفريقية فقط؛ فحسب مجلة “الحرية” Freedom Journal في فبراير 1828م، “كان ألن أول شخص أنشأ جمعية خيرية للسود لغرض كبير بهدف الارتقاء بالسود في وقت الإكراه”. فأسَّس “جمعية الإفريقي الحر” The Free African Society، والتي تم البناء عليها ليتبعها تأسيس العشرات من “الجمعيات الخيرية الإفريقية” African Benevolent Societies في السنوات اللاحقة داخل أمريكا، بما في ذلك أكثر من أربعين مؤسسة في “فيلادلفيا” وحدها.
قام “ألن” مع “جونز” بنشر أول كتاب يتمتع بحقوق الطبع والنشر لكاتب أسود في الولايات المتحدة: “قصة الشعب الأسود” A Narrative of the Black People، والذي تمَّت طباعته في يناير 1794م. وحتى وفاته استخدم “ألن” المطبوعات لنشر مجموعة رائعة من الموضوعات، بما في ذلك “سياسة الكنيسة السوداء”، و”ذاكرة العبودية في المجتمع خلال القرن الثامن عشر”، و”الهجرة الكندية”، و”الحاجة إلى وحدة السود في مواجهة العداء الأبيض المستمر”. كما أنه في عام 1817م ساعد في صياغة عريضة ضد “جمعية الاستعمار الأمريكية” American Colonization Society، والذي أكَّد فيها بحزم على الارتباط الوثيق بين القادة السود الشماليين – فكريًّا وأيديولوجيًّا- مع العبيد الجنوبيين. وخاطب في وثيقته السود المستعبدين في الجنوب: “نحن لم ولن ننفصل عنكم طواعية، فأنتم إخواننا”، وسرعان ما اكتسبت الوثيقة مكانة مميزة بين السود، فقد أكدت على الوحدة العرقية بين السود بصرف النظر عن الجغرافيا والحالة.
لقد دفعته قدرته على بناء مؤسسات سوداء مستقلة، وتدشينه لأول كتيب مطبوع لكاتب أسود بين الملونين الأحرار إلى المراتب العليا للقيادة السوداء في أوائل القرن التاسع عشر، وبهذا فإن موقع “ألن” بوصفه قياديًّا أسود مهَّد لفكر جديد، فقد مزج بمهارة بين التقاليد الإفريقية والممارسات السياسية الأمريكية.
كان لنشاط “ألن” الداعي لتأسيس كيانات سوداء راجع إلى تشككه المتزايد حول تحقيق العدالة العرقية داخل أمريكا، وبحلول العقد الثاني من القرن التاسع عشر، زاد تشكك “ألن” للغاية، حتى إنه أبدى تعاونًا مع مختلف خطط الهجرة إلى العالم الأطلسي. فكان ضمن الداعمين لمخططات الاستعمار الإفريقي التي يقودها السود، وأصبح فيما بعد أحد أقوى مؤيدي الهجرة إلى “هايتي”. وفي إحدى مراسلاته أخبر الرئيس الهايتي “جان بيير بوير” (1776-1850) Jean-Pierre Boyer في عام 1824م، بأن “أمريكا هي أرض القهر، بينما جمهورية هايتي السوداء قد وعدت بالحرية والمساواة”. حتى إن “ألن” ترأَّس “جمعية الهجرة الهايتية في فيلادلفيا” Haitian Emigration Society of Philadelphia، ليساعد مئات المهاجرين السود في الإبحار إلى منطقة البحر الكاريبي. وفي وقت لاحق، أيَّد الهجرة كذلك إلى كندا.
3- الغاء العبودية
كان “ألن” يؤمن بأن “المسيحية في جوهرها تدعو إلى المساواة، وأن مؤسسات العبودية كانت قامت باستبعاد التنوير المسيحي عن السود، فالظلام يأتي من حجب الضوء، وبمجرد أن يتم اختراق هذا الظلام، سيشعر العبيد بـفضل الله وحبّه في قلوبهم، وسينهار صرح العبودية بأكمله”.
ويعتقد بأن “التدهور الذي شهده العبيد سيُظهر كرامة جديدة، وتفانيًا في خدمة المسيحية، لإذابة قلوب الجميع باستثناء السادة الأكثر ضعفًا، ومِن ثَمَّ تتكاثر عمليات الإعتاق”. وبأن “العبيد حينما تحوَّلوا إلى المسيحية، أصبحوا يمتلكون قوة مطلقة سوف تساعدهم على التخلُّص من خطيئة العبودية، وبالتالي تتحرر أمريكا كلها من هذه الخطيئة”.
هذا الإيمان البسيط عند “ألن”، والناشئ عن تجربة شخصية، شكَّل قناعاته المناهضة للعبودية بطرق مميزة؛ فدعا إلى “الانتظار والصبر”، وحذَّر من استبداد “التصرُّف الغاضب”. وكتب: “إن الله الذي يعرف قلوب الناس جميعًا، ونزعة العبد إلى كره مضطهديه؛ هو نفسه الذي حرّم الاستبداد على شعبه المختار”، هذه الرؤية التي خالفها “ووكر” في “ندائه” الشهير Walker’s Appeal، حيث طالب العبيد بضرورة التخلص من قيود مستعبديهم بالقوة، مخالفًا بذلك رؤية أستاذه “ألن” الذي أكد في أكثر مناسبة بأنه تتلمذ على يديه.
وجادل “ألن” بأن “العبيد بإمكانهم تعزيز حريتهم من خلال القيام بواجباتهم بإخلاص، وتنمية الروابط المسيحية المشتركة مع أسيادهم”، كما فعل هو وأخوه مع سيدهم. “هؤلاء العبيد القلائل الذين كان أسيادهم محصنين ضد التأثير المسيحي سيحصلون على الأقل على عزاء تلك الحرية التي تمتع بها أبناء الله”.
وبصفته أبرز الواعظين السود في عصره؛ فقد ساهم في إطلاق نقد أخلاقي لظاهرة العبودية وحيازة العبيد، وبذلك يكون قد فتح الطريق لمن بعده من السود لممارسة هذا النقد. وبوصفه أول أسود قام بنشر كتاب في أمريكا، فقط طالب في كتابه بزوال العبودية وبالمساواة بين البيض والسود. وبصفته مؤسّس أول مؤسسة سوداء، فقد دعا إلى إنشاء منظمات وكنائس مستقلة لتعزيز نضالات الأمريكيين من أصل إفريقي، ومن أجل العدالة. وباعتباره من أكثر المشككين في المساواة العرقية الأمريكية، شارك في هجرة السود إلى هايتي. وكقائد لأول مؤتمر وطني للسود، حدّد تكتيكات الاحتجاج على مستوى القارة، وقام بوضع الاستراتيجيات المستخدَمة لجيل جديد من النشطاء.
ساعده تدينه وأخلاقه المسيحية في تحديد معنى لاهوت التحرير، متبنيًا الرأي بأن الله انحاز إلى الناس المضطهدين. وفي أول بيان رئيسي له عن العبودية الأمريكية، والذي صاغه في عام 1794م، ذكَّر “ألن” “مالكي العبيد بأن الله تعالى قد قضى على المصريين غير التائبين ممن مارسوا الاستعباد”. وبأن “الرب سينتقم مرة أخرى من السادة الأمريكيين كما انتقم من المصريين”. وجادل بأن “العبودية تتسبّب في غضب الإله، فلو لم تكن بغيضة، لما دمَّر الله الملوك والأمراء المصريين بسبب قمعهم للعبيد”.
وكان يرى أن “التحرّر من التفوق العرقي الذي استقر في نفوس البيض ونبذه يمكن أن ينقذ روح المرء”، وأن “إنهاء العبودية لم يكن سوى جزء من لاهوت التحرير”. واعتقد “ألن” كغيره من المؤسسين والنشطاء السود بالنتيجة الحتمية لنبوءة الكتاب المقدس: “يأتي العظماء من مصر، وإثيوبيا تمدّ يديها إلى الله” (مزمور 31:68)، باعتباره نبوءة بخلاص السود من العبودية، واعتقد كغيره من السود بأنها وُضِعَتْ الأساس الأخلاقي لحرية السود، بما في ذلك المواطنة السوداء في الجمهورية الأمريكية. فبمجرد تحريرهم من العبودية فإن الأمريكيين الأفارقة سيخلّصون أنفسهم والأمة من خلال التأكيد على المساواة بين الأعراق. وبهذا الفهم لم يقدّم لاهوت التحرير الخاص بـ”ألن” مجرد تحذير لمالكي العبيد الأمريكيين، ولكنه أعطى الأمل بأنه “من خلال “تبنّي المسيحية الحقيقية وتحرير العبيد، وقتها يمكن تجنُّب المصير الرهيب الذي ينتظر جميع الخطاة”، لكنه كان أكثر تحديدًا بأن “هذا المصير سيأتي بالفعل لأولئك الذين تجاهلوا تعاطف الله مع المظلومين”.
والتزم “ألن” في جهوده لمناهضة العبودية بمبادئ الاحتجاج السلمي ورفض العنف طوال حياته، حتى في وقت ثورات العبيد العظيمة، من تمرد “جابرييل” في “فرجينيا” إلى ثورة “هايتي” في منطقة البحر الكاريبي، التزم “ألن” بالمقاومة السلمية ونبذ العنف. لم يكن هذا النهج يقتصر على “ألن” وحده؛ بل توسع وشمل الآباء المؤسّسين للنضال والقومية والوحدة في أمريكا، كانوا يعتقدون أن الاحتجاج السلمي يمكن استثماره على المدى الطويل، وتحويله إلى سلاح أخلاقي وسياسي؛ وذلك من خلال حشد أدوات الحداثة (بناء المؤسسات والتنظيم الجماهيري، وثقافة الطباعة والمظاهرات العامة، ونشر المُثُل الديمقراطية والأيديولوجيات القومية)، والسعي إلى دحض الفكرة القائلة بأن السود في منزلة أدنى من البشر، أو غير صالحين للواجبات السياسية.
رابعًا: دلالات “ريتشارد ألن” الفكرية
يُعتبر “ريتشارد ألن” عضوًا في جيلين مؤسّسين، فهو زعيمٌ أسود أقام مؤسسات إصلاحية بهدف تخليص الأمريكيين من أصل إفريقي من التبعية والعنصرية، وهو أيضًا مربٍّ وزعيم أخلاقي أراد تخليص الجمهورية الأمريكية من خطيئة القهر العنصري.
فقد كان “أولوداه إيكيوانو” (1745-1797م) Olaudah Equiano، و”فريدريك دوجلاس” (1818-1895م) Frederick Douglass، والرواة من العبيد الكلاسيكيين الآخرين، ينظرون إلى حياة “ألن” على أنها مثالية إلى حدٍّ بعيدٍ، وأنها نموذجٌ للارتقاء العرقي الأبيض والأسود على حدّ سواء.
كما يمكن تصنيف “ألن” كشخصية مؤسِّسة للعديد من “المذاهب” السوداء التي تهدف إلى تحرير العرق واسترداده والارتقاء به: الليبرالية السوداء Black Liberalism (لتأكيده على الحقوق المدنية والمساواة الاجتماعية والاقتصادية كمفاتيح للخلاص الأمريكي الإفريقي)، والطائفية السوداء Black Communalism (لتأكيده المستمر على استقلالية المجموعة والنهوض بها)، والقومية السوداء Black Nationalism (لتركيزه المبكر على كبرياء العرق، ودعمه لاحقًا لهجرة السود)، وحتى المحافظة السوداء Black Conservatism (لتأكيده طويل الأمد على مبادئ الارتقاء الأخلاقي وثقافة الإنجاز).
واعتمد نشاط “ألن” على الطرق الحداثية في نشر أفكاره (ثقافة الطباعة)، والنظرية السياسية الديمقراطية (التعبئة الجماعية والولاء)، والتطور الأيديولوجي (من المعتقدات القومية الليبرالية السوداء إلى أشكال القوة السوداء).
ولهذا فقد جسَّدت حياة “ألن” إحدى السمات المميزة لنشاط السود قبل الحرب الأهلية: بدءًا من المطالبة بالاندماج إلى القومية. وربما لأن معظم مؤرخي الفكر السياسي نظروا إلى “ألن” كشخصية دينية في المقام الأول، فإن جانبه الراديكالي لم يَحْظَ بالكثير من الاهتمام (ما وراء الفعل الراديكالي الواضح المتمثل في إنشاء كنيسة سوداء في تسعينيات القرن الثامن عشر)، ومع ذلك مَثَّل العديد من القادة السود الذين جاءوا في عقبه، أجبره اهتمامه بتحقيق العدالة العرقية إلى النظر في فعالية الضرورات التكتيكية والاستراتيجية المختلفة، بما في ذلك المخططات الداعية للهجرة كجزء من أجندة قومية سوداء. وكان استعداد “ألن” للنظر في هجرة السود جزءًا لا يتجزأ من سلسلة أكبر من الأسئلة الاستراتيجية التي كانت تشغله طوال حياته، والتي استمرت مع أجيال من القادة السود حتى عصرنا: هل سيؤدي النشاط بين الأعراق إلى المساواة؟ هل الحكم الذاتي للسود غاية في حد ذاته؟ هل كانت الأمة الأمريكية وعاء حرية للملونين أم قفص قمع حديدي؟ هل كان من المقرر أن يعود المنحدرون من أصل إفريقي إلى إفريقيا؟
ومن خلال إعادة النظر في معنى الهوية الإفريقية والولاء القومي في عصر الثورات الديمقراطية، نجد أن “ألن” من أوائل القادة السود الذين عبّروا علنًا عن مشاعر “الوعي المزدوج” التي عبّر عنها “وليم دوبوا” (1868-1963) W. E. B. Du Bois فيما بعد في كتاباته، حول طبيعة الاختلاف والانقسام بين الهويات الأمريكية والإفريقية. ففي بداية مسيرته الاحتجاجية، أعرب “ألن” عن ثقته الكبيرة في قدرة المجتمع الأمريكي على تحقيق الإصلاح العرقي؛ فكتب في عام 1794م: “نحن جميعًا نصلّي لنفس الإله”، معتبرًا أن هذه الحقيقة وحدها “يجب أن تؤدّي إلى التحرُّر والمساواة العِرْقِيَّة في الولايات المتحدة”. ومع ذلك بحلول أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، ومع نمو العبودية ديموغرافيًّا وجغرافيًّا، ومع اشتداد العنصرية الشمالية، أصبح “ألن” متشائمًا؛ ففي إحدى مؤتمرات السود الأحرار في عام 1830م، شدَّد على الحاجة إلى “وجود صمام أمان أسود خارج الشواطئ الأمريكية”.
لكنه على الرغم من وعيه المنقسم، لم يغادر “ألن” الولايات المتحدة مطلقًا، وبدلاً من ذلك كغيره من المؤسِّسين السود، ضاعف جهوده الاحتجاجية محليًّا؛ من خلال السعي للتأثير على الجيل الصاعد من المؤيدين لإلغاء العبودية خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، من خلال دعم إنشاء وتأسيس صحف سوداء، وزيادة الوعي بالمنتجات الناتجة عن المؤسّسات التي لا تستخدم العبيد، وافتتاح حركة المؤتمر الأسود.
وكانت “الميثودية” في قلب رؤية “ألن” الأخلاقية، فقد وعدت بالمساواة بين جميع المؤمنين بالمسيح، وهي في الواقع كانت إحدى أفضل مزاعم “ألن” عن المساواة، وهو ما دفعه إلى محاولته لدمج السياسة الدينية والعرقية في الجمهورية الفتية. وقد كانت جميع خطاباته تتركّز بشكل أساسيّ حول شرّ العبودية (من الناحية النظرية)، وموجهة بشكل مثالي للرجال والنساء الذين اعتبروا الإيمان جزءًا أساسيًّا من الشخصية الأمريكية، وفي الواقع كانت غالبية الشعب الأمريكي من “الربوبيين” Deists.
والحقيقة أن رؤية “ألن” للجمهورية الأخلاقية كانت تستند إلى “إعلان الاستقلال” Declaration of Independence، فقد كان يعتقد أن تلك الوثيقة بمثابة ميثاق يربط الأمريكيين من جميع الأعراق والطبقات والأديان بأُمَّة من المواطنين المتساوين. ففي أكثر من مناسبة، تحدث “ألن” باسم القوانين ومبادئ إعلان الاستقلال، وباعتباره “مواطنًا” أمريكيًّا حرًّا. ويعتقد أنه بمجرد تقديم مثل هذه الادعاءات، كان يأمل في تحدّي الفكرة القائلة بأن أمريكا كانت وستظل إلى الأبد جمهورية الرجل الأبيض.
وختامًا:
لقد سعى “الأسقف ريتشارد ألن”، من خلال نشاطاته الدينية والأخلاقية والسياسية والتأسيسية؛ إلى التخفيف من معاناة السود داخل أمريكا. ويصف “جيراود ويلمور” Gayraud S. Wilmore فلسفة “ألن” بأنها كانت “تهدف إلى تنظيم المجتمع الأسود بهدف التعامل بمسؤولية مع مشاكله الخاصة، طالما أن التحيُّز واللامبالاة الأمريكية رفضت محو خطّ اللون”. وكان يعتقد كذلك بأن الكنيسة السوداء المستقلة، والتي تقوم على التفاعل مع كل جوانب الحياة، هي الأداة الأكثر فاعلية بين السود لتحقيق الهدف المزدوج للقداسة الروحية والحرية المدنية.
__________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
“Richard Allen.” Negro History Bulletin, vol. 5, no. 3, 1941, pp. 62–62.
Campbell, James T. Songs of Zion: The African Methodist Episcopal Church in the United States and South Africa. Oxford University Press, 1995.
Egerton, Douglas R. “Judging the Founders: Richard Allen and the Soul of America.” Reviews in American History 37.1 (2009): pp. 22-27.
Nash, Gary B. “New Light on Richard Allen: The early years of freedom.” The William and Mary Quarterly: A Magazine of Early American History and (1989): pp. 332-340.
Newman, Richard S. “” We Participate in Common”: Richard Allen’s Eulogy of Washington and the Challenge of Interracial Appeals.” The William and Mary Quarterly 64.1 (2007): pp. 117-128.
Newman, Richard S. Freedom’s prophet: Bishop Richard Allen, the AME Church, and the black founding fathers. NYU Press, 2008.
Owens, A. Formation of the African Methodist Episcopal Church in the Nineteenth Century: Rhetoric of Identification. Springer, 2014.
Pinn, Anthony. What Has the Black Church to Do with Public Life?. Springer, 2013.
Pollard, A., et al., eds. How Long this Road: Race, Religion, and the Legacy of C. Eric Lincoln. Springer, 2003.
Thiam, Thierno, and Gilbert Rochon. Sustainability, Emerging Technologies, and Pan-Africanism. Springer Nature, 2019.
Will, Thomas E. “Liberalism, Republicanism, and Philadelphia’s Black Elite in the Early Republic: The Social Thought of Absalom Jones and Richard Allen.” Pennsylvania History: A Journal of Mid-Atlantic Studies 69.4 (2002): pp. 558-576.