“ماريا ستيوارت” Maria W. Stewart (1803-1879م) هي أول امرأة أمريكية شاركت في حركة إلغاء العبوديَّة، وهي بالفعل أول امرأة تتحدَّث علانيةً أمام جمهور من أعراق مختلفة. ألقت خطابها التاريخي في “دار الاجتماعات الإفريقية” African Meeting House في “بيكون هيل” Beacon Hill بولاية “بوسطن” Boston، وقام بنشره “ويليام لويد جاريسون” William Lloyd Garrison في عام 1831م في صحيفته “الحرية” Liberator. وتبعه ثلاثة خطابات إضافية لها، نُشِرَتْ جميعها لاحقًا في جريدة “الحرية”، وكتبت كذلك مجموعة من التأملات.
بدأت ستيوارت حياتها المهنيَّة من خلال التحدُّث أمام الجمهور كاستجابة لتجربة تحويل عميقة؛ كانت تؤمن بأن تحذيراتها ودفاعاتها العلنية عن حرية الأفارقة المستعبَدين وكرامة النساء بمثابة استجابة لنداءٍ إلهيّ. ثم تقاعدت عمدًا عن العمل العام؛ نظرًا لإحساسها بالإحباط على ما يبدو؛ وذلك بسبب العقبات التي واجهتها كأمريكية من أصل إفريقيّ، وبوصفها امرأة متحدّثة متجاوزة للتقاليد الأمريكية. ومع ذلك استمرت مسيرتها المهنية في العمل حتى وفاتها في عام 1879م.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:
وُلدت “ماريا ميللر” Maria Miller لأبوين أمريكيين من أصل إفريقي في “هارتفورد” Hartford بولاية “كونيتيكت” Connecticut في عام 1803م، وتُرِكَتْ يتيمة عندما كانت في سنّ الخامسة، ومِنْ ثَمَّ انتقلت إلى عائلة رجل دين بروتستانتي بموجب عَقْد لتعمل لديه كخادمة، وبقيت هناك حتى سن الخامسة عشرة، ومِنْ ثَمَّ بدأت بإعالة نفسها من خلال عملها بالخدمة المنزلية.
حصلت “ستيوارت” على تعليمها الرسمي من خلال “مدارس السبت” Sabbath schools، والتي استمرت بها حتى سنّ العشرين، وذلك حسب ما ذكرته في كتيبها “الدين والمبادئ النقية للأخلاق” Religion and the Pure Principles of Morality المنشور في عام 1831م. فقد كانت “مدارس السبت” تقدّم التعليم الأساسي؛ كتعلم القراءة والكتابة؛ لكي يتمكن الطلاب من قراءة الكتاب المقدس.
وتعتقد المؤرخة “شيرلي ويلسون لوجان” Shirley Wilson Logan، أن “ستيوارت” ربما توافرت لها الإمكانيات التي ساعدتها على الوصول إلى بعض الكتب والاطلاع عليها، بما في ذلك الكتب الخاصة بالوعظ أو الخطابة بشكل عامّ؛ نظرًا لطبيعة البيت الذي نشأت فيه؛ وهو بيت رجل دين مسيحي. كما أنها أعربت في عملها المنشور في عام 1831م عن رغبتها الشديدة للتعلم، لكنّها أشارت أيضًا إلى مدى صعوبة الحصول على التعليم بسبب الإرهاق الشديد من طبيعة عملها اليدوي.
وتزوجت “ماريا ستيوارت” من “جيمس ستيوارت” James W. Stewart في “بوسطن” Boston عام 1826م، عندما كان عمرها ثلاثة وعشرين عامًا، وقتها كان “جيمس” يبلغ من العمر سبعة وأربعين عامًا. وبناءً على طلبه ورغبتها، واكتسبت اسمه الأوسط وكذلك لقبه، وأصبحت تُدْعَى “ماريا دبليو ستيوارت”.
تُوفّي راعيها القس “توماس بول”، وكذلك زوجها “جيمس” في عام 1829م، وتُرِكَتْ وحيدة بلا أطفال مع ميراث كبير، ومع ذلك جرَّدها منه مجموعة من رجال الأعمال البيض بعد عامين من التقاضي. فتسبَّبت هذه الخسائر، وخاصة وفاة زوجها، في أزمة دينية لستيوارت، خرجت منها مقتنعة بأن الله قصدها لأن تكرّس نفسها من أجل خدمة شعبها من السود.
وقد اتجهت “ستيوارت” للكتابة، وساعدها في نشر أول أعمالها؛ “ويليام لويد جاريسون” William Lloyd Garrison، وهو ناشط أمريكي من أصول أوروبية في مجال إلغاء العبودية. كان “جاريسون” في نفس عمر ستيوارت، وكان زميلًا لـ”ديفيد ووكر” David Walker ومن أشد معجبيه، وكان يمتلك أشهر صحيفة في البلاد؛ وهي صحيفة “الحرية”The Liberator . “جاريسون” قام بتشجيع “ستيوارت” من خلال نشر مقتطفات من مقالها في الصحيفة، ولاحقًا قام بنشر النص بأكمله بشكل منفصل في كتيب.
قامت “ستيوارت” بعد ذلك بنشر عدة مقالات بجريدة “الحرية”، وإلقاء الخطب التي تدعو إلى إلغاء العبودية، والمطالبة بحقوق المرأة السوداء، وحقوق السود بشكل عام داخل الولايات الأمريكية، مخاطبة جمهورًا مختلطًا من الرجال والنساء. وربما كانت أول امرأة أمريكية ملوّنة تقوم بهذا العمل، وهو ما يفسّر الضجة التي يمكن أن يسبّبها مثل هذا العمل غير التقليدي، وملاحظة نجاح هذه التجربة من خلال ظهور سيدات أمريكيات من الطبقة العليا” على غرار “سارة جريمكي” Sarah Grimke و”أنجلينا جريمكي” Angelina Grimke يتحدثن ضد العبودية في “ماساتشوستس” بعد بضع سنوات فقط من خطابات “ستيوارت”.
كما أوضحت المؤرخة “شيرلي يي” Shirley A. Yee؛ أن “فخر المجتمع بإنجازات النساء الأمريكيات من أصول إفريقية كان فيما بعد قوة ضاغطة لهذا الرفض الاجتماعي، لكن “ستيوارت” بصفتها امرأة رائدة في التحدث أمام الجمهور؛ لم تكن تمتلك أيّ نوع من أنواع الدعم المجتمعي”.
وانتقلت “ستيوارت” في أوائل عام 1834م إلى مدينة “نيويورك”، بهدف حصولها على تعليم أفضل، وهناك سعت لأن تعمل بالتدريس، وعندما اقتربت الحرب الأهلية من المدينة في عام 1861م، فرَّت إلى “واشنطن” العاصمة، وعملت بحقل التدريس، ثم أصبحت رئيسة مستشفى “فريدمان”؛ وهو المنصب الذي شغلته في السابق الناشطة الأمريكية من أصول إفريقية الشهيرة “سوجورنر تروث” (1797-1883م) Sojourner Truth. فقد كانت هذه المؤسسة تشبه بشكل كبير مخيمات اللاجئين، والتي تم إنشاؤها خصيصًا من أجل العبيد الهاربين والمحرَّرين، فقد كانت بهدف توفير الطعام والملبس والتعليم الأساسي والتعليم الديني للسود مقابل العمل اليدوي.
لم تتزوج ستيوارت مرة أخرى بعد وفاة زوجها، وعانت من الفقر لبقية حياتها، بعد أن عاشت لفترة وجيزة حياة الطبقة الوسطى مع زوجها. ومع ذلك ظلت نَشِطَة في “نيويورك” من أجل حقوق الأمريكيين من أصل إفريقي وكذلك حقوق المرأة. وقامت بالانضمام إلى المنظمات النسائية، وحضرت في عام 1837م “اتفاقية مناهضة الرق للمرأة الأمريكية” Women’s Anti-Slavery Convention.
وفي عام 1850م نظَّمت حملة لجمع التبرعات لصحيفة “نجمة الشمال” The North Star، وهي صحيفة تطالب بإلغاء العبودية، وكان يملكها الناشط الأمريكي من أصول إفريقية “فريدريك دوجلاس” Frederick Douglass. وفي نهاية حياتها تحوّلت اهتمامات “ستيوارت” إلى الجوانب الاجتماعية في حياة المرأة الأمريكية، إلى أن تراجَع دورها السياسي والخطابي حتى تُوفيت في مستشفى فريدمان Freedman’s Hospital في ديسمبر 1879م.
ثانيًا: السياق الفكري والسياسي المعاصر لـ”ماريا ستيوارت”
نافست الصحافة السوداء الكنيسة في مركزيتها للثقافة السياسية الأمريكية الإفريقية في القرن التاسع عشر؛ فحسب “مارتن دان” Martin Dann كانت الصحافة السوداء “واحدة من أقوى الساحات التي يمكن من خلالها خوض معركة التعريف بالهوية، فقد كانت المصدر الوحيد للمعلومات حول قمع السود والعنصرية داخل أمريكا”.
كما كانت الجمعيات الأدبية السوداء السبب الأكبر في ظهور الصحافة السوداء، وحسب ادعاء “إليزابيث ماكهنري” Elizabeth McHenry؛ “ليس من قبيل المصادفة أن ظهور الصحافة الأمريكية الإفريقية كان بالتوازي مع تطوُّر الجمعيات الأدبية والثقافية في مجتمعات السود في الولايات الشمالية قبل الحرب”.
وتمضي “ماكهنري” في التوثيق بأن “الجمعيات الأدبية التي كانت سائدة في شمال شرق أمريكا مهَّدت الطريق لانطلاق النشاط السياسي الأسود في أوائل القرن التاسع عشر، وكانت البداية الحقيقية “للسعي وراء بناء الشخصية الأدبية للسود”، كاستراتيجية سياسية مميزة للأمريكيين من أصل إفريقي.
وحسب “ميشيل جارفيلد” Michelle Garfield، فقد “شهدت ثلاثينيات القرن التاسع عشر ظهورًا ملحوظًا للجمعيات الأدبية بين الأمريكيين الأفارقة، والتي باتت تتشكل بشكل متكرر لدرجة أنها أصبحت ظاهرة يمكن وصفها بأنها تُشكّل حركة”. وما بين عام 1830م وحتى عام 1850م، فاق عدد الجمعيات الأدبية للنساء الأمريكيات من أصول إفريقية عدد الرجال، مما يعني أن النشاط السياسي والاستراتيجيات التي أتاحتها الجمعيات الأدبية قد تم حشدها مِن قِبَل النساء السود على وجه الخصوص.
وبالتبعية كذلك؛ فإن النساء الأمريكيات من أصول إفريقية كانت شخصيات حاسمة في إنشاء ودعم الصحافة السوداء الوليدة التي كانت أداة مهمة في تطوير سياساتهم النسوية. كما تم تطوير “الشخصية الأدبية” التي روّجت لها الصحافة السوداء والجمعيات الأدبية على نطاق واسع، لتشمل فيما بعد ليس فقط القراءة ولكن أيضًا الاستماع إلى النصوص التي كانت تُقْرَأ بصوتٍ عالٍ؛ بحيث لا يحتاج أعضاء الجمعيات الأدبية إلى القراءة والكتابة. ففي الواقع كان العرض الشفوي للنصوص محوريًّا لبرنامج أيّ مجتمع أدبيّ؛ حيث تم الربط بين القُوَى الخطابية والكتابات الأدبية خلال القرن التاسع عشر، وهو ما ساعد في تطوير السياسة السوداء بشكل عام، والنسوية السوداء بشكل خاص.
اقتربت “ستيوارت” من “ويليام لويد جاريسون” William Lloyd Garrison، وهو أمريكي من أصول أوروبية وناشط في مجال إلغاء الرقّ؛ فقام بنشر مقالها “الدين والمبادئ الصرفة للأخلاق” Religion and the Pure Principles of Morolity. في ذلك المقال قامت بِحَثِّ شعبها من السود على تحسين أنفسهم أخلاقيًّا وتعليميًّا، وعلى مقاومة اضطهاد البيض بجدٍّ ونشاطٍ.
ثالثًا: إسهامات “ماريا ستيوارت” الفكرية
برزت “ماريا ميلر ستيوارت” على الساحة السياسية بعد أكثر من مائة عام من وفاة “مارجريت فيل” (1614-1702) Margaret Fell؛ والتي كانت رسالتها تشبه رسالة “ستيوارت”، فقد كانت تعتقد بأن الله قد أرشدها للخدمة العامة. وعلى الرغم من كونها لم تكن تتمتع بأيّ مزايا اجتماعية على خلاف “مارجري كيمبي” (1373-1438) Margery Kempe و”مارجريت فيل” Margaret Fell، لكنها كانت تسعى لاستغلال الفرص التي أُتيحت لها لكي تَحْظَى بموقع متميّز وفعَّال؛ فلم تكن هناك ثمة فرص متوفرة في الشمال خلال الفترة التي سبقت الحرب الأهلية لتنظيم أيّ منتدى عام لامرأة حرة أمريكية من أصل إفريقي، فقد كانت دعوتها تتركز بشكل رئيسي حول الإصلاح الشخصي والسياسي.
وعلى الرغم من أن نشاطها العام لم يستغرق وقتًا طويلًا، لكنَّه كان يتركز بشكل رئيسي داخل مجتمع الأمريكيين من أصل إفريقيّ تحديدًا في “بوسطن”، واستمر لمدة ثلاث سنوات؛ لكن إرثها الثقافي ودورها النضالي يُدلّلان على أن التأثير الذي أحدثته لا يقل –بأي حال من الأحول- عن تأثير “كيمبي” و”فيل”، فقد تركت “ستيوارت” وراءها أعمالاً تشهد على شغفها بالإصلاح الديني والأخلاقي والسياسي. وفي السنوات الأخيرة، أعاد الكُتّاب والباحثون اكتشاف تأثيرات “ستيوارت” من خلال أعمالها؛ على الرغم من وجود غموض كبير حول كيفية تصنيف هذه الأعمال.
فقد كانت “ستيوارت” في الواقع “واعظة” استخدمت خطابها لوعظ الأمريكيين من أصل إفريقي بهدف استفاقة شعبها. وبالرغم من أنها لم تتحدث من منبر الكنيسة، إلا أنها شعرت بأنها مدعوة للتبشير برسالة الإصلاح الأخلاقي والمجتمعي، وأنشأت منبرها الخاص من خلال الصحافة، وقاعة المحاضرات العامة، ومن خلال حياتها كمعلمة ومواطنة أمريكية سوداء.
ففي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت موجة جديدة، تسمى غالبًا “الصحوة الكبرى الثانية” Second Great Awakening، حيث أرادت عدة طوائف إشراك النساء من أجل نشر رسالة الإنجيل. وحسب افتراض “بريكوس” Catherine A. Brekus فإنه “فقد سُمح للنساء بالوعظ عمومًا، وعلى وجه الخصوص سمحت به بعض الطوائف التي تحدَّت الأيديولوجية الكالفينية السائدة، نظرًا لشعور بعض الجماعات بأن نهاية العالم باتت وشيكة، وأن هناك حاجة مُلِحَّة لنشر الرسالة المسيحية”. ويذكر “بريكوس” كذلك أن “هذه الطوائف كانت تعتبر التدين المسيحي بديلًا مقبولًا عن التعليم، وبأنه الالتزام هو المؤهل الرئيسي للواعظ؛ هذا الاعتقاد الذي جعل من النساء المسيحيات المُكرّسات مؤهلات للتبشير”.
وبتفكيك خطاب “ستيوارت” المناهض للعبودية، يتضح لنا أن ثمة خطاب توراتي “إرمياني” يكمن في تفاصيله. ويُعرّف خطاب “ستيوارت” على أنه “خطاب إرمياني” jeremiad، وهو خطاب رثاء يربط ما بين الدين والأخلاق والسياسة والاجتماع، سعت من خلاله إلى دعوة جمهورها من أجل القيام بدورهم في مواجهة العبودية والعنصرية الأمريكية.
ويمكن تلخيص أفكار “ماريا ستيوارت” فيما يلي:
1- الخطاب “الإرمياني” الأفرو-أمريكي African-American Jeremiadic Discourse
يُعَدّ “الخطاب الإرمياني” Jeremiadic Discourse شكلاً من أشكال التوبيخ اللاذع، والذي اكتسب اسمه من اسم نبي العهد القديم “إرميا” Jeremiah، فقد كان “سفر إرميا” يعبّر عن الخوف الذي انتاب النبيّ من خطيئة شعبه، ومِنْ ثَمَّ لجأ إلى الخُطَب التي تحمل تحذيرات من العقاب الذي قد يواجه شعبه إذا لم يتوبوا. فغالبًا ما كان المتشددون الأمريكيون والزعماء الدينيون الذين تَبَنَّوْا هذا الخطاب يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار.
ويزعم “ديفيد هوارد بيتني” David Howard-Pitney أن الأمريكيين الأوائل كانوا “يعتقدون أن الخطيئة هي التي استدعتهم للهروب من مؤسسة دينية واجتماعية أوروبية فاسدة –بعد أن يأسوا من إصلاحها- نحو مجتمع جديد ومقدس في البرية الأمريكية”.
ومع ذلك عندما كان القادة الدينيون قلقين من أن بعض أتباعهم لم يأخذوا هذا الالتزام على محمل الجدّ بما فيه الكفاية، اتخذت خطبهم طابع “الخطاب الإرمياني”، وهو مصطلح أصبح يعني الرثاء والشكوى وفقًا لقاموس “أكسفورد الإنجليزي”.
ويصف “ساكفان بيركوفيتش” Sacvan Bercovitch عناصر الخطاب “الإرمياني” الأمريكي الذي ظهر في القرن السابع عشر بأنه “يبدأ بسابقة من الكتاب المقدس تحدد المعايير المجتمعية؛ ثم سلسلة من الإدانات التي توضّح بالتفصيل الحالة الفعلية للمجتمع؛ وفي نفس الوقت يقدّم تلميحًا بالوعود والعهود التي تضمن النجاح؛ وأخيرًا يقدّم رؤية نبوية تكشف عن العاقبة المنتظرة والناتجة عن الفجوة بين الحقيقة والمُثل”.
وفي القرن التاسع عشر تبنّى الوُعّاظ الأمريكيون من أصل إفريقي “الخطاب الإرمياني” حسب ما ذكر “ويلسون إرميا موسى” Wilson Jeremiah Moses، والذي جاء في شكل “تحذيرات مستمرة من السود إلى البيض، فيما يتعلق بالعقوبة الإلهية كنتيجة حتمية لخطيئة العبودية؛ واستخدامهم للخطاب “الإرمياني” كشف بشكل واضح عن تصوّرهم لأنفسهم كشعب مختار”. واستنتج “ديفيد هوارد بيتني” David Howard-Pitney أن الخطاب “الإرمياني” الأمريكي “تطوّر في النهاية إلى شكل جديد بعد أن اكتسى بالقومية الإفريقية، مستخدمًا نقدًا حادًّا للمجتمع الأبيض، ومسترشدًا بنبؤات توراتية من العهد القديم”.
ويُعرَّف “الخطاب الإرمياني” على أنه “جملة الأطروحات التي تعكس المِحَن المستمرة لشعب مظلوم، وتبعث الأمل نحو مستقبل أكثر إشراقًا في أوقات المِحَن والأزمات”. ولقد ابتكرت كل جماعة أو أمة أو قومية واجهت أيدي الاضطهاد أو الإمبريالية أو الاستعمار –على أيّ صورة أو شكل– خطابها الخاص من أجل وصف المصاعب التي تواجها في سياقها، وكشف مآلات هذه المصاعب والمِحَن للجمهور بطريقة يتحقق معها التغيير الاجتماعي.
ويُعرف “بيركوفيتش” الخطاب “الإرمياني الأمريكي” بأنه “خطاب أدبي طويل وقديم، يتم تقديمه غالبًا في شكل طقوس، وظهر لأول مرة بولاية ماساتشوستس في عام 1630م. وفيه يندب مؤلفه بمرارة حالة المجتمع وأخلاقه بنبرة حادة من الاحتجاج المستمر، وبأسلوب بلاغي”. ويعتقد “بيركوفيتش” أنه بينما يتنبّأ “الخطاب الإرمياني” بالدمار، إلا أنه في نفس الوقت يحمل بين طياته “تفاؤلاً فيما يتعلق بالأحداث المستقبلية”، ويحتوي دائمًا على نبوءة تهدّد بسقوط وشيك للمجتمع، إذا لم يعترف هذا المجتمع بأسباب محنته.
كان الخطاب “الإرمياني” الأسود يأتي من منطلق تحذير أمريكا البيضاء من “الانحراف عن الوعد بأمريكا التي تتبنَّى المسيحية الحقيقية؛ فعندما تبنَّت النساء السوداوات البارزات هذا الخطاب “الإرمياني” في أمريكا في القرن التاسع عشر؛ كان النموذج الأبرز لهذا الخطاب هو خطاب “ستيوارت” المعارض، فقد هاجمت بشكل صارخ النسيج الأخلاقي والاجتماعي، وتأثيرات العبودية والعنصرية داخل أمريكا.
وكما هو معتاد في الخطاب “الإرمياني”، ظهر عنصر النبوة في خطاب “ستيوارت”، والذي كان بمثابة تحذير لجمهورها من الأمريكيين من العواقب التي تنتظرهم بسبب العبودية، وسعت من خلاله إلى إقناع الأمريكيين بعظمة السود، وطالبت شعبها من السود أن “يبذلوا مزيدًا من الجهد، فمهما يكن هذا الجهد ضئيلًا، لكنه في كل الأحوال سيكون مفيدًا. فبدونه لن تتحقق الغاية لهذا الجيل ولا الأجيال التي تأتي من بعده”.
وفي الخطاب “الإرمياني” عمومًا، كانت النبوة -في حقيقة الأمر- هامشية، لكنها كانت ذائعة الانتشار. فقد اعتبرت “ستيوارت” نفسها مكلَّفة بعمل نبويّ منذ أن انتقلت إلى العمل بالنشاط السياسي والاجتماعي، وكانت تؤمن بأن “عملها هو تكليف من الله”. وراحت تستخدم في كتاباتها الأدبيات التوراتية للتعبير عن قيمها، وكانت تعتقد أنه “حين قاومت سهام الشيطان النارية، خلَّصت نفسها فاستحقت شرف التبليغ عن رسالة الله”. وحين أمرها الله بالخروج والدعوة؛ “شعرت بأن هناك عملًا عظيمًا ينتظرها، وأن دافعها للقيام بهذا العمل هو ايمانها بالمسيح”.
وبأسلوبها المتشدّد حذّرت “ستيوارت” بخطابها النبوي أيضًا “رجال أمريكا العظماء والأقوياء”؛ فأخبرتهم أن يوم القيامة قد اقترب، وأن الأمريكيين البيض “ستكون أعظم أمنياتهم أن تسقط عليهم الصخور والجبال، وأن لو استطاعوا الاختباء من سخط الله الساقط من السماء عليهم”، أو كما جاء في سفر الرؤيا (6:16). فقد وضعت ستيوارت المهمة الرئيسية للإصلاح على عاتق أمريكا البيضاء، وحذرتها من عواقب وخيمة ستأتيها كنتيجة طبيعية للاضطهاد العنصري الذي تمارسه.
وحاولت “ستيوارت” من خلال خطابها “الإرمياني” إثارة الحاجة المُلِحَّة لـ”التطهير الروحي”؛ الذي تصورت أن الأمريكيين من أصل إفريقي يحتاجون إليه، ليكونوا جاهزين لطلب إنزال لحظة الحساب والعقاب ضد أمريكا الفاسدة، وبهذا تكون قد ربطت محنة السود بالمعتقدات والقيم العليا للكتاب المقدس. فقد سعت نبوءة “ستيوارت” المتسلسلة إلى وضع أساس ذي مغذى ينطلق منه السود نحو مستقبلهم، فقدمت لهم تفاؤلًا لا حدود له عن المستقبل.
وتحدثت “ستيوارت” عن صورتين متناقضين على ما يبدو عندما وصفت تصاريف الله مع البشر؛ فمن ناحية رسمت صورة لإله رحيم أمر ملائكته بحمل ورعاية الشعوب المظلومة والمقهورة؛ ومن ناحية أخرى حذّرت المذنبين –أصحاب العبيد من البيض- من إله غاضب وجبار؛ كان على وشك إرسال “الرعب والدمار” إلى العالم. ورغم وجود ثَمَّ تناقض بين هاتين الصورتين، إلا أنهما يعكسان العلاقة بين العاطفة والعنف اللذين تغلغلا في لاهوت ستيوارت، وشكَّلا مفهومها عن المجتمع المسيحي داخل أمريكا. فقد كانت تعتقد أن تعاطف الله مع المؤمنين المعذَّبين سيتحول إلى عقاب معذبيهم، وأن المسيحيين الأمريكيين من أصل إفريقي يجب أن يحذوا حذوه من خلال حماية بعضهم البعض بالقوة إذا لزم الأمر.
2- المطالبة بالتعليم، واحترام الذات، وإلغاء العبودية
حينما انضمت “ستيوارت” إلى المطالبين بإلغاء العبودية، قامت بتطوير خطاب الاحتجاج الاجتماعي “الإرمياني” ضد العبودية والتحيزات العنصرية بطرق مختلفة؛ حيث طالبت بتحسين فرص التعليم، وبحقوق المرأة، والحريات المدنية. فلم يكن في أمريكا حتى بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، خطاب “إرمياني” واحد لامرأة سوداء باستثناء “ستيوارت”، والتي قامت بحجز مقعدها في الصفوف الأمامية بين مَن ناضلوا مِن الرجال ضد العبودية. وهو ما يُعَدّ أمرًا استثنائيًّا في ذلك الوقت، فلم يكن للمرأة مكان في خِضَمّ الشؤون التي يهيمن عليها الرجال.
وتحمّلت “ستيوارت” انتقادات جماهيرها من الأعراق المختلطة؛ رجالًا ونساءً، ومع ذلك كان التحدي الأكبر الذي واجهته “ستيوارت”؛ يتمثل في كيفية الحفاظ على حقها في التحدث علنًا، وتناولها للقضايا العنصرية، وحقوق المرأة، والظلم الذي وقع على السود داخل أمريكا، والمطالبة بالمساواة مع البيض بالتوازي مع شعورها بالتضامن العِرْقِيّ مع شعبها من السود.
فدافعت “ستيوارت” عن حقّ السود في التعليم الجيد، بوصفه وسيلة يمكن للمضطهدين من خلاله تجاوز مظالم التمييز العنصري والجنسي، وطالبت السود بالسعي نحو “المعرفة وتحسين الذات”. وكشفت أن الغرض الوحيد من رفع صوتها المعارض هو أنها “اكتشفت أن الدين يحظى بسمعة متدنية بين بعض الأمريكيين من أصل إفريقي”، وأن التعليم وسيلة عملية ومهمة لمواجهة الجهل والتدني الأخلاقي. ودعت “ستيوارت” شعبها إلى تطوير مؤسسات تعليمية واقتصادية مَرِنَة ومكتفية ذاتيًا داخل أمريكا، بما في ذلك الأعمال التجارية والمدارس والكنائس.
وعندما طالبت السود في خطابها بالمقاومة، كانت “ستيوارت” تتحدى القوى التي أسكتت أصوات النساء الأمريكيات من أصل إفريقي، وممارسات الهيمنة التقليدية لأمريكا البيضاء؛ وبمقاومة أمراض العنصرية والتحيز. ونادت بأمريكا التي تكفل المساواة للجميع، وطالبت النساء السود بتحمل المسؤولية من أجل غرس الوعي الفكري في أذهان أطفالهن، وزرع بذور تقرير المصير في الأجيال السوداء المتتابعة، وطالبت الرجال كذلك بأن يتحملوا قدرًا كبيرًا من المسؤولية، لكنَّها -في الوقت نفسه- كانت تعتقد بأن العبء الأكبر للتوجيه الأخلاقي كان منوطًا بالنساء.
وطالبت أيضًا الرجل الأسود ببذل المزيد من الجهد للمطالبة بإلغاء العبودية، وإلى تقرير مصير السود، وبالارتقاء العرقي. وأعربت عن أسفها من انعدام الرؤية لدى الشباب تجاه قضيتهم، ورأت أن الحرمان من التعليم وفقدان النموذج وعدم تطوير الذات هي معوقات وقفت في طريق الشباب؛ كما أن الجيل الأكبر كان غافلاً ومضطهدًا ومتأثرًا كذلك بمعاناة التحيز، والجهل، والفقر.
3- الاندماج ورفض الهجرة والاستعمار
اختلفت “ستيوارت” بشدة مع المخططات الانفصالية مثل الهجرة والاستعمار، فكانت تنظر بازدراء للوسائل والأساليب التي استخدمتها “جمعية الاستعمار الأمريكية” American Colonization Society، حيث كان الأمريكيون من أصل إفريقي ينظرون إلى الاستعمار بوصفه يُمثّل تهديدًا لتطورهم وازدهارهم مثله مثل العبودية والتحيُّز، وأن أغراض الجمعية كانت تتقاطع مع مصالح البيض، وتتعارض مع مصالح ومقاصد السود.
ونظرًا لكونها رائدة في الخطاب الحماسي المناهض للاستعمار؛ ففي خطابها الأول في ولاية “بوسطن”؛ عارضت الاستعمار والهجرة بشدة، وحثَّت الأمريكيين الأفارقة على البقاء داخل أمريكا، وطالبتهم بالكفاح في مواجهة التحيّز العنصريّ، وشددت على ضرورة استغلالهم “لمواردهم الاقتصادية في إنشاء المدارس والمعاهد التعليمية؛ من أجل الأطفال والشباب السود المحرومين من التعليم”.
ولعبت ستيوارت دور “إرميا” مع شعبها عندما حثتهم على التمسك بالعقد الاجتماعي الأمريكي، وبوعوده المتمثلة في إعطاء السود مزيدًا من الحقوق والحريات، واستغرقت “ستيوارت” وقتًا لشرح وتفصيل الوحشية التي انتهجها البيض في تعاملهم مع الأمريكيين الأصليين وطردهم من وطنهم، وكيف جلبوا السود من إفريقيا لقمعهم واستعبادهم في أمريكا، وكيف يسعى البيض الآن لإعادة السود إلى إفريقيا. فقد كانت ترى الاستعمار هزيمة في مواجهة قوة التقدم الجماعي، وتوقعت أن تكون وحدة المجتمع مفيدة، لذلك كان الاستعمار في نظرها سلوكًا غير عادل.
وفي محاضرتها حول “الحقوق والحريات الإفريقية” African Rights and Liberty التي قامت بإلقائها في القاعة الماسونية في “بوسطن” في 27 فبراير 1833م، أعربت “ستيوارت” عن أسفها “لطرد البيض للمواطن الأمريكي الأصلي أولاً من وطنه، ثم ذهبوا لسرقة وخطف أسلافها السود من أوطانهم الهادئة، ومِنْ ثَمَّ أحضروهم إلى أمريكا، وجعلوا منهم ومن نسائهم وصغارهم عبيدًا لهم، وأرغموهم على العمل، وأبقوهم في الجهل، وربوهم على الرذيلة والانحطاط؛ والآن بعد أن قام السود بإثراء تراب أراضي البيض وملأوا خزائنهم، راحوا يدَّعُون بأن السود غير قادرين على أن يصبحوا مثل البيض، ولا يمكنهم الارتقاء أبدًا إلى مستوى الاحترام في هذا البلد، فأخذوا يقودونهم إلى أرض غريبة”.
وطالبت جمعية الاستعمار بتقديم الدليل على حُسْن نواياها تجاه السود؛ “فإذا كان المستعمرون هم الأصدقاء الحقيقيين لإفريقيا، فعليهم أن ينفقوا الأموال التي يجمعونها في إقامة كلية لتعليم أبنائها، فإن مسعى بهذا الحجم سوف يلقى استحسانَ السود، ويقنعهم بمصداقية الجمعية”. لكنَّها كانت ترى في الوقت نفسه؛ “أن قلوب البيض كانت صلبة جدًّا تجاه السود، حتى إنهم كانوا يفضلون غرق أموالهم في المحيط بدلاً من إدارتها لإسعاد السود”.
4- الإثيوبيانية Ethiopianism
وضعت “ستيوارت” الخطاب “الإثيوبياني” Ethiopianism بين ثنايا خطابها “الإرمياني”، فقد كانت الإثيوبيانية موجودة في إرث الأسلاف السابقين الذين استخدموها كاستراتيجية لنقل الأمريكيين الأفارقة إلى الوعي بشأن وحدتهم التاريخية والسياسية. ففي أوائل عهد الجمهورية الأمريكية، كان التعرُّف على التقاليد الإثيوبيانية مصدرًا مهمًّا وموضوعيًّا للنشطاء السود الذين تحدثوا ضد الاضطهاد.
وتضمن هذا المفهوم المعروف باسم “الإثيوبيانية”، تقديرًا من السود للحضارة الإفريقية القديمة، بالإضافة إلى دورها العميق في الكتاب المقدس وتاريخ العالم. وتجلت الإثيوبيانية في الخطاب “الإرمياني” للسود كوسيلة للتماهي مع الحضارة الإنسانية المشهورة، بوصفها من أقدم الحضارات البشرية.
وظهر اهتمام “ستيوارت” بالإثيوبيانية ضمن خطابها المتشدد؛ فوفقًا لـ”أمبادو” Lena Ampadu فقد استخدمت “ستيوارت” الإثيوبيانية لاستحضار الماضي المجيد لإفريقيا، فظهرت الآية التوراتية “يأتي العظماء من مصر، وإثيوبيا تمدّ يديها إلى الله” (مزمور 31:68)، في خطبها ومقالاتها المناهضة للعبودية.
وفي خطابٍ قامت بإلقائه داخل القاعة الماسونية الإفريقية the African Masonic Hall، أظهر التفسير التوراتي لستيوارت احترامًا لوعد الله للسود؛ فقد كانت رؤية “ستيوارت” الأسطورية عن إثيوبيا بمثابة سرد لتفرُّدها ومصيرها ومستقبلها. قامت بتمييز إثيوبيا لغرض نبيل؛ وهو تحقيق العدالة عالميًّا للسود، وكانت تأمل أن يتمكّن السود من التغلُّب على جميع العقبات إذا ظلوا متمسكين بفكرة الحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
كشفت ستيوارت أن “السود أبناء أكثر القارات علمًا وحضارة، ومع ذلك ظلوا مُهمَّشين داخل أمريكا، لذا فإن إثيوبيا يجب أن تمدّ يديها إلى الله مرة أخرى”. هذه المرة استخدمت ستيوارت كلمة إثيوبيا لترمز إلى جميع أحفاد إفريقيا؛ حيث ناشدت كل شخص من أصل إفريقي أن ينهض وينبذ الظلم الذي تعرض له. فأوضح تفسير “ستيوارت” لهذه العبارة واستخدامها لإحباطها من حرمان السود من التقدم في النظام الديمقراطي الأمريكي، وإنزعاجها من تشجيع التحيز العنصري بشكل عام.
وأعربت “ستيوارت” عن أسفها للحالة التي عانى منها السود، فقد “كانت متدنية لمئات السنين”. وقالت بأن هذه الحالة سوف تستمر، “ما لم يَعُدْ السود إلى صحيح التقوى والفضيلة الحقيقية”.
كما أظهرت إشارة “ستيوارت” المتكررة لعبارة “إثيوبيا ستمد يديها إلى الله” ارتباطًا ملحوظًا بجهود ما قبل الحرب من قبل السود تجاه الحرية الدينية والاجتماعية والسياسية في “نيو إنجلاند”. واستنادًا إلى تفسيرها للمركزية الافريقية Afrocentric للنص التوراتي، فإن خطاب ستيوارت وتصويرها لإثيوبيا والإثيوبيين يمثلان أيضًا اعتقادها بأن كرامة السود ومكانتهم ستمهّد الطريق لمستقبل السود في أمريكا.
رابعًا: دلالات فكر ” ماريا ستيوارت”
تاريخيًّا كان الخطاب “الإرمياني” هو الأبرز من بين أساليب عدة لجأ إليها الأمريكيون من أصل إفريقي ضد العبودية والتحيز العنصري داخل أمريكا، وهو الخطاب الذي ساعد في تحديد طبيعة الحراك الاجتماعي والسياسي في بدايات القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من كونه خطابًا متشددًا، فقد تم توصيفه على أنه خطابًا “بلاغيًّا” Rhetoric، تمت دراسته بهدف استكشاف واستجلاء معانيه المختلفة، لكنه مؤخرًا تمت دراسته بوصفه المصدر الرئيسي لأيديولوجيا “الارتقاء العرقي” uplift Racial التي برزت في بدايات القرن التاسع عشر.
لذا فقد ساهم الخطاب “الإرمياني” الذي نشأ من وعي الكُتَّاب والمفكرين الأمريكيين من أصل إفريقي في تمهيد الطريق لموجاتٍ من التحوّل الاجتماعي والثقافي واللاهوتي التي لا تزال محسوسة حتى اليوم؛ وبرغم أنها كانت مشفّرة الدلالة أحيانًا، وصريحة في أحيان أخرى من خلال استخدام فقرات كاملة من الكتاب المقدس، فقد تحوّلت فيما بعد إلى تأويلات توراتية تناسب الواقع الزمني للخطاب، وهو ما يتطلب أحيانًا فك تشفير هذه الخطابات للوقوف على مقاصدها ومعانيها.
وتمثل “ماريا ستيوارت” تحديًا بوصفها سابقة لظاهرة التمثيل العلني للحركة “النسوية السوداء” Black Feminism؛ فقد طالبت أمريكا البيضاء بإنهاء العبودية، ومَنْح الرجال والنساء السود جميع الحقوق بالمساواة مع البيض، وإعادة النظر في القوانين الأبوية المهيمنة والتي لديها قوة كبيرة وأثر داخل أمريكا.
ومن خلال دراسة أفكارها يمكن الكشف عن تناقضها الفكري وتفكيك أيديولوجياتها السياسية، والتعبير عن حقيقة وضع النساء الأمريكيات من أصل إفريقي داخل أمريكا في أوائل القرن التاسع عشر، وتحدّي النساء السود ليصبحن رائدات أعمال، والقيام بدور نشط في الحياة السياسية.
فقد كانت في خطاباتها تواجه جماهيرها بالقضايا السياسية المعاصرة والمتعلقة بالعرق والجنس خلال الفترة المضطربة التي أدت إلى الحرب الأهلية. لذا فإن مكانة “ستيوارت” الفريدة في التاريخ السياسي يمكن أن يبرزها وصف “ويليام أندرو” William Andrew؛ بأنها “أول امرأة سوداء تطالب بحقوق المرأة والمساواة وبإلغاء العبودية في أمريكا”.
وختامًا:
كانت خطابات “ستيوارت” تعكس ترابطًا فكريًّا بينها وبين القوميين السود ودعاة إلغاء العبودية من البيض، لكن “ستيوارت” قد اتخذت قالبًا برجماتيًّا؛ يدعو إلى أخلاقيات التمرُّد من أجل التحوُّل الجذري في الهياكل الاجتماعية القمعية القائمة، بطريقة تسمح بالتحرُّر الشامل للملونين في سياقات محددة. فقد كانت الرؤى النسوية التي قدّمتها “ماريا ستيوارت” تُضْفِي بُعدًا على فَهْم الأخلاقيات المتمردة التي تزيد من القدرة التحررية لهذه الفلسفة البرجماتية. وأوضحت “ستيوارت” أنه حتى داخل المجتمع المضطهد؛ لا يجب التغاضي عن حالة المرأة. والأهم من ذلك أنها قدمت حُجَّة مقنعة لضرورة جهود المرأة في النضال من أجل التحرر.
______________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Carter, Jacoby Adeshei. “The Insurrectionist Challenge to Pragmatism and Maria W. Stewart’s Feminist Insurrectionist Ethics.” Transactions of the Charles S. Peirce Society: A Quarterly Journal in American Philosophy 49.1 (2013): 54-73.
Cooper, Valerie C. Word, Like Fire: Maria Stewart, the Bible, and the Rights of African Americans. University of Virginia Press, 2011.
Henderson, Christina. “Sympathetic Violence: Maria Stewart’s Antebellum Vision of African American Resistance.” Multi-Ethnic Literature of the United States 38.4 (2013): 52-75.
Jorgensen-Earp, Cheryl R. “Maria W. Miller Stewart,‘Lecture Delivered at Franklin Hall’(21 September 1832),”.” Voices of Democracy 1 (2006): 15-42.
Marable, Manning. Let nobody turn us around: Voices of resistance, reform, and renewal: An African American anthology. Rowman & Littlefield, 2003.
Richardson, Marilyn, ed. Maria W. Stewart: America’s First Black Woman Political Writer: Essays and Speeches. Indiana University Press, 1987.
Roberson, Susan. “Maria Stewart and the rhetoric of mobility.” Journal of International Women’s Studies 4.3 (2003): 56-61.
Ryan, Barbara. “Maria W. Stewart.” African American Authors, 1745-1945: A Bio-Bibliographical Critical Sourcebook (2000): 375-378.
Watts, Rebecca B. “BLACK IDENTITY: RHETORIC, IDEOLOGY, AND NINETEENTH-CENTURY BLACK NATIONALISM.” The Southern Communication Journal 68.4 (2003).
Wright, Nazera Sadiq. “Maria W. Stewart’s “The First Stage of Life”: Black Girlhood in the Repository of Religion and Literature, and of Science and Art.” MELUS: Multi-Ethnic Literature of the United States 40.3 (2015): 150-175.
Zackodnik, Teresa C. ““Rich thought and polished pen”: Recirculation and Early African American Feminism.”