“جون براون روسورم” John Brown Russwurm (1799-1851م)، أوّل خريج أمريكي من أصل إفريقي في “كلية بودوين” Bowdoin College، وثالث أمريكي من أصل إفريقي يتخرج من كلية أمريكية.
“روسورم” الذي يكاد يكون مفقودًا تمامًا من سجلات الحركة الإفريقيَّة؛ على الرغم من دوره الرائد كمُعلِّم، وناشط لإلغاء العبودية، ومحرِّر صحفيّ، ومسؤول حكوميّ، ومهاجِر ومستعمِر؛ فهو أحد مؤسِّسي مجلة “الحرية” Freedom، وهي أوَّل صحيفة أميركيَّة يمتلكها ويديرها ويحرّرها الأمريكيون من أصل إفريقيّ. وبعد هجرته إلى إفريقيا، كان أول حاكم أسود لمستعمرة ماريلاند في ليبيريا.
أولاً: النشأة والسِّمات والخبرات الشخصية:
وُلِدَ “جون براون روسورم” عبدًا؛ في الأول من أكتوبر عام 1799م، في “بورت أنطونيا” Port Antonia بجامايكا، وهو الابن غير الشرعيّ لتاجر أمريكيّ ينتمي إلى عائلة ثريَّة بولاية “فيرجينيا”، أُمّه كانت من العبيد الملوّنين، ولأن قوانين العبيد في جامايكا كانت تنصّ على أن وضع الطفل هو نفسه وضع والدته؛ مما اضطر “روسورم” الأب إلى إرساله إلى “كيبيك” Quebec بكندا في عام 1807م عندما كان يبلغ من العمر سبع سنوات تقريبًا.
وفي “كيبيك” بين عامي 1807م و1811م بدت تجارب “روسورم” أفضل من ذي قبل، فعلى الرغم من أن “كيبيك” لم تكن جنَّة للسود، إلَّا أنَّ المجتمع في “كندا” كان أكثر تقبُّلاً لأصحاب البشرة السوداء، وخاصةً وأن “روسورم” كان من أصحاب البشرة الفاتحة، وهو ما كان يتوافق مع وجهة النظر العنصرية التي كانت سائدة بأن “أيّ شخص أقرب إلى البيض في الروح والمظهر فهو مفضَّل عن غيره”، ويبدو أن تجربة “روسورم” في كندا قد أضافت الكثير لأفكاره ومساعيه.
انتقل “روسورم الأب” إلى ولاية “ماين” Maine، ومِنْ ثَمَّ تزوج “سوزان بلانشارد” Susan Blanchard. وعندما جاء الشاب “روسورم” للعيش مع عائلة والده، قبلته زوجة أبيه كأحد أفراد الأسرة، وطلبت من والده الاعتراف به ومنحه اسم العائلة. مكث “روسورم” مع العائلة لمدة أربع سنوات بعد وفاة والده عام 1815م، والتحق عام 1819م بـ”أكاديمية هيبرون” Hebron Academy؛ وهي مدرسة تقوم بإعداد الطلاب قبل الالتحاق بالكلية، فقد كان “روسورم” يأمل في دراسة الطب أو اللاهوت.
والتحق “روسورم” بكلية “بودوين” Bowdoin College في “برونزويك ” Brunswick بولاية “ماين” في 30 سبتمبر 1824م، وخلال فترة الجامعة تم انتخابه من بعض زملائه لعضوية “الجمعية الأثينية” Athenaean Society، وهي واحدة من بين مجموعتين أدبيتين متنافستين في الحرم الجامعي، وفي يوم تخرُّجه وجَّه كلمة لزملائه حسب التقاليد المتَّبعة في الكلية، فتحدَّث عن نضال الشعوب المضطهَدة والتي تطالب بالحرية، واستشهد على هذا النضال بالثورة في “هايتي”، وكانت مساهمته بعنوان “حالة وآفاق هايتي” The Conditions and Prospects of Hayti.
تخرج “روسورم” من الكلية بدرجة البكالوريوس في الآداب مع حوالي ثلاثين طالبًا آخر في 6 سبتمبر 1826م، ومِن ثَمَّ قام المسؤولون العموميون في بوسطن بتعينه مديرًا لمدرسة “قاعة بريموس” Primus Hall في “بوسطن” التي كانت مخصَّصة لتعليم الأطفال السود، كما قامت كلية “بودوين” بمنحه درجة الماجستير قبل مغادرته أمريكا إلى ليبيريا عام 1829م.
في عام 1827م انضم “روسورم” إلى مجموعة من الرجال السود الأحرار في مدينة نيويورك بهدف تأسيس صحيفة “الحرية” Freedom، كأول صحيفة في الولايات المتحدة يملكها ويديرها الأمريكيون من أصل إفريقي. عمل “روسورم” محرِّرًا مشاركًا بها حتى سبتمبر من ذلك العام، وعندما استقال زميله “كورنيش” Cornish واصل “روسورم” التحرير منفردًا، لكنَّ الكثير من القراء لاحظوا أن الصحيفة أصبحت أكثر ترددًا وتراجعًا في نبرتها وآرائها، فقد أصبحت تصدر بدون افتتاحيات “كورنيش” الذي كان أكثر تشددًا، فبدأت مبيعات الصحيفة في التراجع، خاصةً بعد أن أعرب “روسورم” عن دعمه لـ”جمعية الاستعمار الأمريكية” American Colonization Society، وهي منظمة تدعو الأمريكيين من أصل إفريقي للاستعمار في إفريقيا، وهو ما كان يرفضه غالبية قُراء الصحيفة، فتوقف نشر الصحيفة في عام 1829م.
هاجر “روسورم” بعد ذلك من ولاية “نيويورك” إلى مستعمرة “ماريلاند” في ليبيريا، والتي كانت تتبع لـ”جمعية الاستعمار الأمريكية”؛ حيث شغل منصب وكيلاً ومشرفًا تربويًّا للمستعمرات (1830-1834م)، ورئيس تحرير صحيفة “ليبيريا هيرالد” The Liberia Herald (1830-1835م)، لكنه استقال احتجاجًا على محاولات “جمعية الاستعمار الأمريكية للسيطرة” على الصحيفة. ثم انضم فيما بعد إلى “جمعية ماريلاند” بالمستعمرة المجاورة، والتي كانت تدرك أهمية القيادة السوداء للمستعمرة، فاختارته ليكون أول حاكم أسود لها في عام 1836م، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته.
ثانيًا: السياق التاريخي والسياسي في القرن التاسع عشر
كانت الثورة الأمريكية نقطة تحوُّل في حياة السود الأحرار داخل أمريكا؛ فقد أصبح مواطنو المستعمرات الثلاثة عشر يردّدون خطابات وشعارات الثورة بأنَّ “كل البشر قد خُلِقُوا متساوين”، وبعد الثورة اضطرت حكومات بعض الولايات منفردة إلى النظر في قضية العبودية، فقد كان من التناقض أن يطالبوا بالحرية والعدالة بينما لا يزالون يحتجزون الرجال والنساء؟، وبدأت المشاعر المناهضة للعبودية في الظهور في ولايات الشمال والوسط، وحتى في بعض الولايات بأعالي الجنوب مثل “فرجينيا” و”ماريلاند”، بينما استغرق الأمر بعض الوقت حتى يتم تنفيذ خطط التحرُّر، سواء كانت بشكل معلَن ومباشر أو بشيء من التدرُّج، كما في ولايات مثل “ماساتشوستس” و”كونيكتيكت” و”بنسلفانيا” و”نيوهامبشاير”.
وفي حين كانت المشاعر المناهضة للعبودية موجودة بالفعل، لم يكن لدى حكومات الولايات أيّ نية لمنح العبيد المحررين حقوقًا متساوية، فقد كانوا يمثلون جزءًا أساسيًّا من اقتصاد هذه الولايات. ومع استمرار تزايد أعداد السود المعتقين، وعدم وجود رغبة من جانب الغالبية بدمجهم في المجتمع، سرعان ما دعت الحاجة إلى وجود حلّ لتخليص البلاد من السود الأحرار. كان أحد الحلول المقترحة لهذه الإشكالية؛ هو إرسال العبيد الأحرار والمعتقلين إلى إفريقيا، فكان لـ”جون براون روسورم” دور بارز في مناهضة الفكرة في البداية، ثم تبنّيه للهجرة والاستعمار فيما بعد، وتعكس حياته وإرثه الجدل الدائر حول فكرة الاستعمار في إفريقيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
ثالثًا: إسهامات “روسورم” الفكرية
يكاد يكون “روسورم” مفقودًا تمامًا من سجلات الحركة الإفريقية، ففي وقت مبكر من شبابه أصبح مفتونًا بهايتي والثورة الهايتية، كتب وتحدَّث وفكَّر بجدية، بل وخطَّط للاستقرار في “الجمهورية السوداء” بعد التخرُّج من الكلية، وظلّ اهتمامه بهايتي قائمًا معه، حتى بعد هجرته إلى ليبيريا، وحتى نهاية أيامه. اسمه معروف بشكل أفضل في الولايات المتحدة، ولكن ليس كثيرًا؛ فصورته مشوَّهة في كثيرٍ من الدراسات التاريخية، وإنجازاته الحقيقية غير معترَف بها، ولم تحظَ بالتقدير الكافي.
كان صراع “روسورم” الفكري متمثلاً في الذهاب إلى إفريقيا أو البقاء والنضال في الولايات المتحدة، وكان ذلك النضال قويًّا وحيويًّا، قاد طريقه إلى الحلّ واتخاذ القرار بعد دراسة ووعي، ومن خلال جريدته يروي الكثير عن الأوقات التي عاش فيها، والخيارات المحدودة التي كانت متاحة له ولأولئك الأفارقة في الشتات، والذين كانوا يتوقون إلى حياة كاملة وكريمة بوصفهم بشرًا غير مُثْقَلِين بأهوال العبودية والعنصرية وتفوق البيض.
وعلى الرغم من ثراء وتنوُّع كتابات “روسورم” إلى حدٍّ كبير، بالإضافة إلى الحماسة والقدرة على التحليل القويّ الذي كان يتمتع به، إلا أنَّ كتابات “روسورم” لم يتمّ مناقشتها من قبل؛ وذلك قد يكون بسبب الإهمال أو عدم المعرفة بقيمة أفكاره الجوهرية والتاريخية.
فكتابات “روسورم” تقدّم مدخلاً فريدًا إلى تفكير أحد المثقفين الأفرو-أمريكيين الموهوبين، ويظهر ذلك من خلال كفاحه من أجل حلّ مشاكل الحياة السوداء في الفترة من بدايات النزعة القومية إلى فترة ما قبل الحرب الأهلية الأمريكية. كان “روسورم” أيضًا أحد أبرز شهود العصر وأكثرهم قيمة؛ فلقد قدَّم وجهة نظر فريدة لا مثيل لها حول الجمهورية الأمريكية، والشتات الإفريقي، والدراما الأوسع لعصره. ولقد كان مراقبًا ومعلّقًا على حالة الأمريكيين من أصلٍ إفريقيّ، بالإضافة إلى كونه مقاتلاً وشجاعًا؛ فقد وقف ضد ادعاءات تفوُّق البيض، وسعى من أجل تحرير السود والنهوض بهم، فكان -بحقٍّ- صوتًا مميزًا وواضحًا، لذا فهو يستحق اهتمامًا واحترامًا وتقديرًا بشكلٍ خاصّ.
1-القومية السوداء
حين تم اختيار “روسورم” كمتحدِّث عند تخرُّجه من كلية “بودوين” في 6 سبتمبر 1826م، اختار عنوانًا لكلمته “حالة وآفاق هايتي” The Condition and Prospects of Haiti، والذي كان خيارًا مثيرًا للجدل؛ نظرًا للحظر الاقتصادي الذي فرضته الحكومة الأمريكية على تلك الجزيرة، لكنَّ “روسورم” خلال فترة وجوده داخل أمريكا كان يُعرِّف نفسه كباقي السود بأنه “إفريقي”، وهو ما انعكس في الأسماء التي أُعطيت لمؤسسات السود داخل أمريكا، مثل “الكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية” African Methodist Episcopal Church (التي تم إنشاؤها عام 1787م)، و”مدرسة نيويوروك للأفارقة الأحرار” African Free School of New York (أُنشئت عام 1787م)، و”كنيسة ريتشموند المعمدانية الإفريقية” African Baptist Church of Richmond (أُنشئت عام 1841م). وبعد تأسيس ليبيريا أطلق الزعماء السود على أنفسهم تعريف “ملونون” بدلاً من “إفريقيين”؛ حيث كانوا يخشون تعريف أنفسهم بأنهم أفارقة مما يُدعم الحجج العنصرية التي تدعو إلى ترحيلهم.
وفي غضون شهرين ونصف من تخرُّجه، انتقل “روسورم” إلى مدينة “نيويورك”؛ حيث أسَّس “جريدة الحرية” Freedom’s journal في 16 مارس 1827م، كأول جريدة يحرّرها رجال سود داخل أمريكا، والتي كانت تهدُف إلى مخاطبة الأمريكيين من أصلٍ إفريقيّ، وشاركه في التحرير والتأسيس قسيس أسود يدعى “صمويل كورنيش” (1795-1858م) Samuel Eli Cornish.
كانت الجريدة مكرَّسَة في الأساس للطعن على الظلم العنصريّ والمطالبة بإلغاء الرقّ؛ فقد تضمَّن العدد الأول من الجريدة افتتاحية عبَّرت عن تَوْقٍ عميق الجذور للاحترام من حيث الحماسة والبلاغة: “لدينا رغبة شديدة في الدفاع عن قضيتنا بأنفسنا، فلقد تحدَّث آخرون نيابةً عنا لزمنٍ طويلٍ”، وتعتبر هاتان الجملتان من بين أكثر المقاطع المقتبسة في الخطاب الأفرو-أمريكي في القرن التاسع عشر.
كانت الجريدة تعرض بشكلٍ روتينيّ قصصًا تاريخية ومعاصرة عن إفريقيا وأفارقة الشتات، فقد تناول العدد الأول أجزاءً من مذكرات الزعيم الأسود الحر “بول كوفي” (1759-1817م) Paul Cuffe. وخاطب “روسورم” القُراء في هذا العدد بأن الجريدة ستكون بمثابة “إضافة معرفيَّة يمكن الاستفادة منها في شتَّى المجالات التي تتعلق بإفريقيا”، متطلعًا بأن تكون “تلك القارة الشاسعة معروفة بشكلٍ أكبر للسود في الشتات”، وأخبر بأنه “على ثقة بأن العديد من الحقائق سوف يتم توضيحها، والتي تُثبت بما لا يدع مجال للشك بأن سكان إفريقيا ليسوا جُهلاء، ولا أغبياء كما كان يُفترض عمومًا”، وأوضح أن “إقامته في “جامايكا” في العقد الأول من القرن التاسع عشر، جعلته على اتصال أكبر بالأفارقة الوافدين حديثًا من القارة”، وهو ما جعله يستخلص “وجهة نظر أكثر دقة عن إفريقيا وعن أسلافه”.
من خلال جريدته “الحرية” ساهم “روسورم” في ولادة شعور جديد لدى السود بالترابط التاريخي والروحي بمصر القديمة، وهو عنصر من عناصر الوعي الأسود الذي استمر حتى أواخر القرن العشرين كركيزة للفكر التقليدي، والمعروف باسم “المركزية الإفريقية” Afrocentricity. فبالنسبة له “كانت مصر القديمة هي أصل الحضارة الغربية”، وهو “الإرث الذي ورثه الأمريكيون من أوروبا”، وبعد زيارته لمعرض “المومياوات المصرية”، كتب في عام 1827م أحد أكثر تحليلاته التاريخية شمولاً في الجريدة تحت عنوان “حول قابلية التغيير في الشؤون الإنسانية” On the Mutability of Human Affairs، والتي يعكس عنوانها تبنّيه لوجهة نظر “التعاقب الدوري في تفسير التاريخ”، وتمَاهَى في التذكير بممالك إفريقيا، وأنه كإفريقي “من نسل كوش”، وهو الاسم التوراتي لدولة السود في القرن الإفريقي، “لم يستطع حبس دموعه عندما أخذه خياله نحو مجد أسلافه، وتساءل: كيف لهذه الأمة العظيمة أن تسقط تحت نير العبودية؟”.
ومحاولاً ترسيخ ادعائه بوجود صلة بين مصر القديمة وأحفاد إفريقيا من السود أمثاله، استشهد “روسورم” بكلام “هيرودوت” Herodotus “أبو التاريخ”، والذي كان يصف المصريين القدماء بأنهم “ذوو بشرة سوداء وشعر مجعّد”، وعقب “روسورم” بأنه “في حين كانت البشرية بشكل عام غير راغبة في الاعتراف بهذا الارتباط”، لكنَّه “من المُسَلَّم به على نطاقٍ واسعٍ أنَّ جميع الدول مدينة للمصريين من أجل إدخال العلوم والفنون”. ومضى في استعراض “صعود وسقوط إثيوبيا، وبلاد فارس، ومقدونيا، وروما الإمبراطورية، وتركيا، وإسبانيا، فضلاً عن صعود روسيا مؤخرًا نسبيًّا، التي كانت قبل زمن “بطرس الأكبر” أو “بيتر العظيم” Peter the Great بالكاد تعتبر قوة حضارية”، وكان هدفه من هذا الاستعراض هو التدليل على “أن التاريخ يسير في دورات متتالية ومتشابهة، وأن هذه الثروة المتغيرة لهذه المجتمعات هي بمثابة تحذير للحكام المعاصرين”.
وتبع ذلك العديد من المقالات حول مكانة الأفارقة في التاريخ القديم، بما في ذلك مقال في 14 نوفمبر 1828م، تحت عنوان “اليد الأكثر قدرة”؛ قام بنشر مقتطفات من كتاب ” الكليات الفكرية والأخلاقية وأدب الزنوج” An Enquiry Concerning the Intellectual and Moral Faculties and Literature of Negroes لكاتبه “هنري جريجوار” (1750-1831م) Henri Gregoire، تضمَّن المقتطف سِيَرًا ذاتيةً لرجال روّاد من أصل إفريقي، بما في ذلك “هانيبال” Hannibal، وهو ملازم في جيش “بيتر الأكبر”، و”أنطوني ويليام آمو” Antony William Amo، الذي تمَّ إحضاره من ساحل الذهب (غانا حاليًا) عندما كان شابًّا إلى “فيتنبرج” Wittenberg بألمانيا؛ حيث أكمل أطروحة لاهوتية في عام 1774م.
وبعد أسبوعين، قدَّم مقالاً آخر بعنوان “ملاحظة حول تاريخ العرق الزنجي” Observation on the History of the Negro Race، قدَّم فيه وجهة النظر حول الادعاء بأنَّ “الإثيوبيين السود، المعروفين أيضًا باسم الكوشيين، قد شكَّلوا أول حكومة وأول شرطة في التاريخ القديم، ثم قاموا بنقل هذا التطوُّر إلى مصر التي كان يسكنها السود أيضًا”، وبالتبعية فإنَّ “المصريين قاموا بدورهم بنقل الفنون والعلوم إلى بابل، واليونان، وروما، وأوروبا في نهاية المطاف”؛ حسب وجهة نظره.
وكتب “روسورم” أيضًا سلسلة من ثلاثة أجزاء بعنوان “أصناف من العرق البشري” Varieties of the Human Race على مدى عدة أشهر في عام 1828م، وفي هذه السلسلة عارَض وجهة النظر التي كانت مقبولة على نطاق واسع؛ بأنَّ “الأعراق المختلفة تطوَّرت بشكلٍ منفصل في كل قارة ولم تكن تتقاسم أيّ سلف مشترك”.
وابتداءً من 7 يناير 1829م، واستمرارًا إلى 14 يناير، نشر مقتطفات من كتابات للسياسي الهايتي الملون “بومبي فالنتين” (1781-1820م) Pompee Valentin تحت عنوان “إفريقيا”، أفاد بأنَّ “إفريقيا القديمة كانت قد أحرزتْ تقدُّمًا في الفنون والعلوم والمعرفة في الوقت الذي كان الأوروبيون لا يزالون يعبدون الأوثان، ومنغمسين في أعماق هاوية الجهل، ومتّبعين لعادات بربرية وخرافية”، ثم أضاف بأن “الجميع يعلم بأن الإغريق الذين اشتهروا بتلميع صفاتهم الأخلاقية، وذوقهم الرفيع، كانوا في حالة من الجهل، والهمجية، والفظاعة، ويعيشون مثل الوحوش، ويتغذون على الأعشاب والجوز، حتى تحضَّرُوا على يد المصريون”.
وبعد خمسة أسابيع، اقتبس مقال بعنوان “إفريقيا”، أُعيد طبعه في “المستودع الإفريقي” African Repository؛ وهو الجريدة الإخبارية لجمعية الاستعمار الأمريكية، استشهد فيه بروايات من “الكتاب المقدس” ومقولات لهيردوت من أجل مواجهة “الانطباع المشوش حول إفريقيا، واتهامها بأنها وَكْر الفساد والقسوة”، ودعم وجهة نظره بأنَّ إفريقيا هي” أصل الحضارة ومَهْدها، فضلاً عن ريادتها في الفنون والعلوم”. وسعى من خلال تلك المقالات في الجريدة إلى محاربة تأكيدات الدونية، معتمدًا في ذلك على كتابات المثقفين السود، وجمع وحشد الأدلة العلمية للتدليل على الماضي العظيم للقارة.
2-العودة إلى إفريقيا Back to Africa
كان “روسورم” من خلال جريدته يهدف إلى تعزيز الشعور بالقومية السوداء، لذا قامت الجريدة بتبنّي نشر وجهات النظر المختلفة للجدل القويّ الذي كان مستعرًا بين الأمريكيين من أصل إفريقي، حول هجرة السود والاستعمار (توطين الزنوج خارج أمريكا). ودعت الجريدة إلى مناقشة مفتوحة حول مزايا الهجرة والاستعمار في 8 يونيو 1827م، مما أظهر تنافرًا في الحجج التي تم عرضها تباعًا في الأعداد المتلاحقة للجريدة، وهو ما مكَّن قراءها من توضيح مواقفهم، وفي بعض الحالات تغييرها. وهو ما وصفه المؤرخ الصحفي المعاصر “ديفيد بول نورد” David Paul Nord بأن الجريدة “بذلك قد ساعدت في تمهيد الطريق لازدهار لاحق لحركة إلغاء الرق وصحافتها”، وأنها “نمت لتتصل بطريقة أو بأخرى، بكل جانب من جوانب الفكر الإصلاحي والعمل الذي نشط بحلول خمسينيات القرن التاسع عشر”.
عمَّقت هذه المناقشات بين المؤيدين والمعارضين للهجرة والاستعمار في جريدة “الحرية”، إلى انتقال “روسورم” من مطالبته بإلغاء العبودية واستيعاب السود إلى مطالبته بالهجرة والاستعمار، وتحوّل موقفه بوصفه أشد منتقدي جمعية الاستعمار الأمريكية في السابق، إلى تبنّي أفكار الجمعية، ودعا إلى هجرة الزنوج وتوطينهم في إفريقيا.
كان انخراط “روسورم” في قضية هجرة السود، يتماشى مع اندفاع طويل الأمد في المجتمع الإفريقي الأمريكي، بالإضافة إلى مسارٍ سلكه في جريدته للبحث والدراسة عن هوية الملونين ومستقبلهم داخل أمريكا؛ فقد استفاد في وقتٍ مبكرٍ من “كالفن ستوكبريدج” Calvin Stockbridge، الذي عمل وصيًّا عليه بعد وفاة والده في عام 1815م، والذي ظل داعمًا لروسورم في جريدته.
كان “ستوكبريدج على غير المعتاد لرجل أبيض في عصره، أن يكون من أوائل المؤيدين لـ “بول كوفي” Paul Cuffe، وهو أسود حرّ ينتمي إلى “الكويكرز” Quakers، والذي قاد في عام 1811م حركة الهجرة السوداء إلى “فريتاون” بسيراليون.
فبعد وفاة “كوفي” في عام 1817م، تحولت جهود الهجرة التي يقودها السود من التركيز على إفريقيا إلى “هايتي”، وبينما كان “روسورم” في بوسطن، نصحه بعض الذين يعرفونه جيدًا، بما في ذلك زوجة أبيه، وربما الوصي عليه “ستوكبريدج”، في ذلك الوقت بالذهاب إلى ليبيريا، لكنَّه رفض بشدة القيام بذلك، كما أنَّ كلية “بودوين” التي تخرَّج منها “روسورم” قد تخرج منها “جيمس هول” James Hall، الذي عمل كرئيس لجمعية ماريلاند للاستعمار، وحاكم لمستعمرة ماريلاند في إفريقيا. والذي قد أوصى لاحقًا بأن يحل “روسورم” خلفًا له بوصفه حاكمًا للمستعمرة، وهو ما يعني وجود اتصال منتظم ومستمر طوال حياتهم، بالإضافة إلى صداقتهم الوثيقة خلال الفترة الجامعية.
ومن أشهر رحلاته القليلة التي ذكرها “روسورم” في الجريدة: رحلته التي قام بها إلى “بالتيمور” و”واشنطن” في 15 أغسطس 1828م، ويبدو أن هذه الرحلة قد تسبَّبت في التخفيف من معارضته لـجمعية الاستعمار الأمريكية، فقد قام أثناء رحلته بزيارة مجلس النواب هناك، وكانت المحطة المفاجئة في جولته هي مكتب الجمعية الأمريكية للاستعمار؛ حيث شاهد فيه واستعرض “العديد من المقالات الرائعة لأفارقة من ليبيريا والبلاد المجاورة”، مشيدًا بها وواصفًا لها بأنها “كانت جديرة بالبحث والتنقيب”.
ربما بتأثير هذه الزيارة إلى مكتب الجمعية الأمريكية للاستعمار، تحوَّلت سياسة الجريدة إلى تبنّي الاستعمار في أوائل عام 1829م، فاستبدلت “المقالات الجدلية” بين المؤيدين والمعارضين للاستعمار بتقارير إخبارية عن رحلات المهاجرين، وأعقب ذلك سلسلة من الإعلانات عن رحلات المغادرة المقبلة للمهاجرين إلى ليبيريا.
وقد تطور الأمر في 26 يناير 1829م؛ حيث قام “روسورم” بإرسال خطاب إلى سكرتير الجمعية يخبره بأن “نظرته للاستعمار قد تغيّرت كليًّا”، وأنه “الآن على استعداد للهجرة إلى ليبيريا”، وأنه “مستعدّ لقبول أيّ منصب تعتبره الجمعية مؤهلاً لأدائه”. وأضاف أنه “إذا تم اعتباره بأنه غير مؤهّل لأيّ منصب قائم”، فهو على استعدادٍ تام “لتأهيل” نفسه “تحت رعاية الجمعية”.
وفيما يتعلق بتبنّيه وجهة النظر المؤيدة للاستعمار؛ فقد أكد أنه “لم يكن متسرّعًا في قراراه: لقد فكرنا كثيرًا في هذا الموضوع المثير للاهتمام”، مضيفًا: “لقد قرأنا كل مقال في متناول أيدينا، سواء كان مؤيدًا لخطط الجمعية أو ضدها”. وتوقعًا للتداعيات التي يُحتمل أن تنجم عن آرائه الجديدة التي لا تحظى بشعبية على الإطلاق، لكنَّه كان يرى أنها آراء واعية تتشكل من عدم وجود دوافع بغيضة؛ بل على العكس كان أساسها هو خير إخواننا؛ ولذا انتقل إلى ما اعتبره السبب الرئيسي لاعتناقه أفكار الجمعية حول الهجرة، وهو “رغبته في الحريات المدنية التي كان يفتقدها في أمريكا”، ووصف أيّ حديث عن “التمتع بالمواطنة في هذا البلد”، بأنه “مضيعة للوقت، ولا يُعدّ كونه كلامًا فارغًا من أي مضامين”، بل إنه “حثّ كلّ مَن يلهثون خلف الحقوق والحريات داخل أمريكا، بأن يحوّلوا أعينهم إلى مكان آخر.”
وفي 21 فبراير اعترف “روسورم” في افتتاحية العدد بأن جمعية الاستعمار الامريكية قد “واجهت معارضة شديدة من جانبنا في السابق، لكنَّ الضباب الذي أظلم رؤيتنا تمامًا قد تبدَّد، وها نحن الآن أمام مجتمعنا في صفّ المدافعين عن الجمعية”، ومن وجهة نظره؛ فإن “المعارضة الشعبية المستمرة لجمعية الاستعمار الامريكية قد نشأت جزئيًّا من حقيقة أن الجهلة يخشون حتى أن يثقوا بأنفسهم تحت حماية الجمعية”. وكرَّر بأن “الحريات المدنية كانت هي هدفه الرئيسي لقراره الهجرة إلى ليبيريا”، وأعرب عن امتنانه لكل ما قاوم وناضل من أجل إلغاء العبودية، وذكَّر هؤلاء الرفقاء الذين “تجرأوا بما يكفي” على التشكيك في دوافعه، بأن لا أحد قام “ببذل نصف الجهد” الذي بذله هو في معارضة الجمعية وخططها، لكنَّ “عجزه عن إزالة التحيُّزات العنصرية، جعله يتحوَّل إلى تبنّي أفكار الجمعية”، وجادَل “بأن ليبيريا قدَّمت شرطًا مسبقًا ضروريًّا نحو التحرُّر المنشود، من خلال توفير ملاذٍ آمنٍ لإسقاط كلّ قيدٍ يحول بيننا وبين الحرية”.
وباختياره ليبيريا، كان “روسورم” يستبعد المواقع الأقرب والأقل خطورة؛ فعلى سبيل المثال كان قد حافظ على اهتمامه بالهجرة إلى “هايتي” في 30 مايو 1828م، عندما دعا في إعلان نشره في الجريدة من أجل هجرة “ثلاثين رجلاً للخروج إلى هايتي كمزارعين”، لكنَّه بحلول 14 فبراير 1829م، تحوَّل عن موقفه هذا مشيرًا إلى أن “الحقيقة المعروفة للجميع، بأن شعبنا لديه اعتراضات قويَّة على الهجرة إلى هايتي، وذلك راجع إلى التقارير التي كانت تقدّم إحصاءات عن عودة الكثير بعد وقت قليل”.
وكان رأيه حول “جاميكا” أيضًا بأنها “موقع منطقيّ للهجرة، ولكن ربما لم يكن لها جاذبية كبيرة في ظل غياب الحماية”، فقد كان الشخص الملوَّن الذي تلقَّى تعليمًا في الخارج “مُعرَّضًا دائمًا للإهمال” عند عودته.
بعد ثمانية عشر شهرًا من النقاش في الجريدة حول ملاءمة تأسيس مستعمرة من السود الأحرار في إفريقيا، أغلق “روسورم” الجريدة في عام 1829م، وهاجر إلى ليبيريا، وهي مستعمرة كانت مخصَّصة للعائدين من الأمريكيين من أصل إفريقي، أسَّستها الجمعية الأمريكية للاستعمار قبل سبع سنوات.
3-تمدُّن إفريقيا وتحضُّرها
وصل “روسورم” إلى “مونروفيا” في 12 نوفمبر 1829م، مثله مثل إدوارد بلايدن Edward Blyden، وألكسندر كروميل Alexander Crummell، والعديد من القادة السود الذين عادوا إلى إفريقيا، رأى “روسورم” وصوله “أكبر بكثير من مجرد هجرة فردية”؛ كانت بالنسبة له بمثابة “تحقيقًا لنبوءة”، وجزءًا من تطوُّر “يقود نحو خلاص إفريقيا”. ولكنْ صاحبتْ هذه الغبطة بالوصول غطرسة العالم الجديد المتمثلة في “حضارة” إفريقيا وتمدنها، والتي ابتُلِيَ بها تقريبًا كلّ المثقفين السود في القرن التاسع عشر، الذين سعوا للعودة إلى القارة، من أجل بناء وطن جديد يقوم على أُسُس ومبادئ مسيحية.
عبَّر “روسورم” بأنه “ليس نادمًا ولا آسفًا، على تركه لأرض العبودية خلفه”، وأعرب عن سعادته “بأن وطئت قدماه أرض أسلافه”، معتقدًا أن ذلك كان “مرسومًا مِن قِبَل الله الحاكم الأعلى”، وأن “أحفاد إفريقيا الموجودين الآن في أمريكا يجب عليهم أن يعودوا إليها”، وأن “يقوموا بدورهم في العمل التبشيري العظيم ونشر الحضارة، وبأن “إثيوبيا ستمد يديها إلى الله”.
وكان يرى أن “المستعمرين الأمريكيين من أصل إفريقي قد استطاعوا أن يغيّروا في ليبيريا، مثلهم مثل الهايتيين في فترة ما بعد الثورة؛ بسبب الحياة الجديدة التي أحدثوها في إفريقيا”، وعبَّر عن ذلك: “بأنه من دواعي سرورنا أن نرى الرجال الذين كانوا في السابق يتأوهون تحت الاضطهاد، يسيرون في كرامة الطبيعة البشرية، ويشعرون ويتصرفون كرجال لديهم مهمة عظيمة”.
طالب “روسورم” بإنشاء المزيد من الأكاديميات والمدارس في المستعمرات، وعبَّر عن ذلك بقوله: “إن أطفالنا يموتون بسبب نقص التعليم”، كما أنه قد شغل منصب المشرف العام على المدارس في المستعمرات، وشغل في نفس الوقت منصب المفوّض العامّ للمستعمرات، وهو أحد المناصب المهمة القليلة في إدارة المستعمرة التي كانت مفتوحة للانتخاب مِن قِبَل المستعمرين. كما لو أن هذه المناصب لم تكن كافية، ولذا قام “روسورم” بإعادة إطلاق وتحرير جريدة “ليبيريا هيرالد” Liberia Herald بشكلٍ فعَّال، ومع شعار “الحرية هي هدية السماء الرائعة”، أكَّد في العدد الأول، تمامًا مثلما أكَّد في مجلة “الحرية” Freedom على الدور التقدمي لـلتعليم، وتعهَّد بأن يكون من أوائل الساعين لنشره. وكانت الجريدة في ذلك الوقت تخدم جنبًا إلى جنب إدارته للمدارس في المستعمرات.
مثله مثل القوميين السود السابقين له واللاحقين؛ دافع “روسورم” عن تطوير وتحسين الذات من خلال التعليم، وبكلمات مماثلة تقريبًا لتلك التي استخدمها “جارفي” Marcus Garvey بعده بقرن من الزمان، كتب “روسورم” أثناء إقامته في ليبيريا؛ أنَّه “من بين جميع الوظائف التي يمكن للشخص العاقل أن يكرّس لها ساعات فراغه، هي نشر العلوم؛ فهي الأجدر بالتكريم، والأكثر ربحية وديمومة”. وأعلن بفخر؛ عن إدخال التعليم العام المجاني إلى المستعمرة، ودعا مرارًا وتكرارًا إلى إنشاء مدارس للأفارقة (الأفارقة الأصليين) الذين تم أَسْرهم في مستوطنتهم المعروفة باسم “جورجيا الجديدة”.
كان روسورم يدرك الأهمية الأوسع نطاقًا للتعليم من أجل تنمية المستعمرة، وأن يكون لإفريقيا مكانة بين قارات العالم. كان الأمر بالنسبة له أكثر إلحاحًا، فكان يطالب بالتعليم ويضغط من أجله بشدة، وتوسَّل قائلاً: “إذا كان أصدقاؤنا في الوطن يرغبون في رؤية التجربة واختبارها بشكلٍ عادلٍ، فإن مستعمرة عمادها وقوامها رجال مثلنا، سوف تحقّق تقدمًا في المعرفة والحضارة، وتنتج مدارس ومعلمين أكفاء”، وتابع “بأن الإفريقي وقع عليه الظلم على مدى عصور بسبب حرمانه من التعليم، لكنَّ الإفريقي المتحضّر الذي عاد إلى إفريقيا حديثًا، والذي جاء من رحم المعاناة من العالم الجديد، لن يسمح الآن بنظرة الإزدراء والاحتقار التي كان يراها في أمريكا، فمن الآن وصاعدًا ستكون إفريقيا هي أرض الميعاد التي تواعدها الله بالعناية والرعاية”.
رابعًا: دلالات فكر “روسورم”:
من خلال دراسة وفحص أفكار “جون براون روسورم”؛ يتضح أنه كان يستند إلى القيم والمعايير المؤسسية التي استرشدت بها مساعيه الاجتماعية والفكرية ليس فقط في أمريكا، ولكن أيضًا في ليبيريا وماريلاند من عام 1829م إلى 1851م، وهي نفسها القِيَم والمعايير التي كانت تتبنَّاها الجمعية الأمريكية للاستعمار، والتي عملت جنبًا إلى جنب مع “روسورم” بشكلٍ تعاونيّ لتعزيز هذه القِيَم في المستوطنتين.
تضمَّنت هذه المبادئ المؤسسية عناصر من المثل العليا الأمريكية المتطورة في أوائل القرن التاسع عشر، والتي قام “روسورم” بدراستها في أكاديمية “هيبرون” وكلية “بودين”، حين درس الكلاسيكيات واللاهوت والدين والعلوم الطبيعية؛ بهدف تأهيله ليكون “أسودَ متحضرًا”، وهو المعيار الذي اقترحه الآباء المؤسِّسون الأمريكيون ليكون شرطًا أساسيًّا من أجل الحصول على مكانة مميزة وكاملة في الدولة الجديدة، وعلى الرغم من أنه استوفى الشرط المسبق أعلاه، لكنَّه لم يصبح عضوًا كاملاً في الطبقة المعنية، نتيجة للعنصرية المؤسسية التي ميَّزت أيضًا “الاستقامة المذكورة” تبعًا للون.
هذه القِيَم ذاتها هي التي حرمت “روسورم” من القبول في “كلية الطب” بولاية “ماين”، برغم تفوُّقه وشهادة أساتذته البيض لإنجازاته الأكاديمية الممتازة، فقد كانت هذه المهنة مخصَّصة للأمريكيين البيض، وفي ظل هذه الخلفية، أصبح “روسورم” مدركًا لظلمته السوداء، وهو شعور جعله يتَّخذ قرارًا بالانضمام إلى المجتمع الأسود في مدينة “نيويورك” في أواخر عام 1826م.
ودعا من خلال جريدته لنبذ العنصرية، وتحرير السود المستعبَدين، وبطريقةٍ ما عبَّر عن القومية السوداء، وحاول استدعاء ماضي إفريقيا المجيد، وتضامن مع ثورة هايتي كمثال آخر على فكرة الوحدة بين السود، لكنَّه سرعان ما تخلَّى عن النضال من أجل الحقوق المدنية للسود، وقام بدعم الجمعية الأمريكية للاستعمار، وبالتبعية تبنَّى دعوتها ومبادئها بنشر الحضارة “المسيحية”، وهي منظَّمة يَنظر إليها العديد من السود ليس فقط على أنها عنصرية، ولكن أيضًا كحركة كان أحد أهم أهدافها هو إدامة العبودية وترسيخها في أمريكا.
فقد أدَّى تغيير “روسورم” لموقفه بجانب تبريراته إلى تعزيز استياء السود تجاهه، وعزَّز تصرُّفه هذا وجهة النظر السائدة بين البيض بأن السود ليسوا مواطنين أمريكيين، ولن يكونوا كذلك يومًا ما. ومع ذلك فإنَّ عزلة “روسورم” المتزايدة في المجتمع الأسود داخل أمريكا هي نفسها التي عزَّزت التزامه بخطة استعمار الجمعية في غرب إفريقيا، وفي ظل هذه الخلفية قرَّر روسورم التأكيد ليس فقط على المهمة الحضارية للجمعية في إفريقيا، لكنَّه طَالَب السود بالذهاب إلى إفريقيا ليكونوا في وضعٍ يسمح لهم بتحديد مصيرهم.
وختامًا:
فإنَّ إرث “روسورم” ثريٌّ ومتنوِّعٌ، ويضع اسمه بين الرُّوَّاد من السود الذين ناضلوا في العصر الحديث، وهو لا ينتمي فقط إلى القومية والجامعة الإفريقية، لكنَّه أسَّس ومهَّد الطريق لمن جاء بعده، وبرهن بشكل عمليّ على قوميته وانتمائه للهوية الإفريقية؛ من خلال عودته إلى أرض أسلافه، داعيًا أحفاد إفريقيا إلى العودة كذلك.
وبرغم جهوده وتضحياته وطموحه، والأهم من ذلك كله، إنجازاته واسعة النطاق في الولايات المتحدة وقارة إفريقيا، فقد تم خداعه كغيره بالصورة السلبيَّة التي أُعْطِيَتْ له عن الأفارقة الأصليين، الذين طالَبَهم بأن يتحوَّلوا للمسيحية، وأن يخضعوا كذلك لدعوات التمدُّن والتحضُّر.
__________________________
أهم المراجع المُستخدَمَة في البحث:
Barker, Brian J. “Traitor or pioneer: John Brown Russwurm and the African colonization movement.” (2015).
Beyan, Amos. African American Settlements in West Africa: John Brown Russwurm and the American Civilizing Efforts. Springer, 2005.
Brewer, William M. “John B. Russwurm.” The Journal of Negro History 13.4 (1928): 413-422.
Burrowes, Carl Patrick. “A Child of the Atlantic: The Maine Years of John Brown Russwurm.” Maine History 47.2 (2013): 162-189.
Burrowes, Carl Patrick. “Caught in the Crosswinds of the Atlantic: John Brown Russwurm (1799–1851), Freedom’s Journal, and African Colonization.” Journalism History 37.3 (2011): 130-141.
Campbell, Alexander. “Black Citizenship, Black Sovereignty: The Haitian Emigration Movement.” (2010).
Dain, Bruce R. A hideous monster of the mind : American race theory, 1787-1859. La Editorial, UPR, 2002.
Everill, Bronwen. Abolition and empire in Sierra Leone and Liberia. Palgrave Macmillan, 2013.
James, Winston. The Struggles of John Brown Russwurm: The Life and Writings of a Pan-Africanist Pioneer, 1799-1851. NYU Press, 2010.
Lewis, Adam. “” A Traitor to His Brethren”?: John Brown Russwurm and the Liberia Herald.” American Periodicals: A Journal of History & Criticism 25.2 (2015): 112-123.
Parris, Guichard. “John B. Russwurm.” Negro History Bulletin 5.2 (1941): 38.
Reutlinger, Owen. “You Say You Want A Revolution: Slavery in Haiti and the United States in the Early 1800s.” (2019).
Vansickle, Eugene S. “A transnational vision for African colonization: John HB Latrobe and the future of Maryland in Liberia.” Journal of Transatlantic Studies 1.2 (2003): 214-232.
Young, Sandra Sandiford. A Different Journey: John Brown Russwurm, 1799–1851. Diss. Boston College, 2004.
VanSickle, Eugene S. The Missionary Presence and Influences in Maryland in Liberia, 1834-1842. Diss. West Virginia University, 2000.
Murray, Robert P. “Whiteness in Africa: Americo-Liberians and the Transformative Geographies of Race.” (2013).